البحر المحيط لأبي حيان الأندلسي - أبو حيان  
{وَءَامِنُواْ بِمَآ أَنزَلۡتُ مُصَدِّقٗا لِّمَا مَعَكُمۡ وَلَا تَكُونُوٓاْ أَوَّلَ كَافِرِۭ بِهِۦۖ وَلَا تَشۡتَرُواْ بِـَٔايَٰتِي ثَمَنٗا قَلِيلٗا وَإِيَّـٰيَ فَٱتَّقُونِ} (41)

التصديق : اعتقاد حقيقة الشيء ومطابقته للمخبر به ، والتكذيب يقابله .

أول : عند سيبويه : أفعل ، وفاؤه وعينه واوان ، ولم يستعمل منه فعل لاستثقال اجتماع الواوين ، فهو مما فاؤه وعينه من جنس واحد ، لم يحفظ منه إلا : ددن ، وققس ، وببن ، وبابوس .

وقيل : إن بابوساً أعجمي ، وعند الكوفيين أفعل من وأل إذا لجأ ، فأصله أوأل ، ثم خفف بإبدال الهمزة واواً ، ثم بالإدغام ، وهذا تخفيف غير قياسي ، إذ تخفيف مثل هذا إنما هو بحذف الهمزة ونقل حركتها إلى الساكن قبلها .

وقال بعض الناس : هو أفعل من آل يؤل ، فأصله أأول ، ثم قلب فصار أوأل أعفل ، ثم خفف بإبدال الهمزة واواً ، ثم بالإدغام .

وهذان القولان ضعيفان ، ويستعمل أول استعمالين : أحدهما : أن يجري مجرى الأسماء ، فيكون مصروفاً ، وتليه العوامل نحو : أفكل ، وإن كان معناه معنى قديم ، وعلى هذا قول العرب : مما تركت له أولاً ولا آخراً ، أي ما تركت له قديماً ولا حديثاً .

والاستعمال الثاني : أن يجري مجرى أفعل التفضيل ، فيستعمل على ثلاثة أنحائه من كونه بمن ملفوظاً بها ، أو مقدرة ، وبالألف واللام ، وبالإضافة .

وقالت العرب : ابدأ بهذا أول ، فهذا مبني على الضم باتفاق ، والخلاف في علة بنائه ذلك لقطعه عن الإضافة ، والتقدير : أول الأشياء ، أم لشبه القطع عن الإضافة ، والتقدير : أول من كذا .

والأولى أن تكون العلة القطع عن الإضافة ، والخلاف إذا بني ، أهو ظرف أو اسم غير ظرف ؟ وهو خلاف مبني على أن الذي يبنى للقطع شرطه أن يكون ظرفاً ، أو لا يشترط ذلك فيه ، وكل هذا مستوفى في علم النحو .

الثمن : العوض المبذول في مقابلة العين المبيعة ، وقال :

إن كنت حاولت دنيا أو ظفرت بها***فما أصبت بترك الحج من ثمن

أي من عوض .

القليل : يقابله الكثير ، واتفقا في زنة اسم الفاعل ، واختلفا في زنة الفعل ، فماضي القليل فعل ، وماضي الكثير فعل ، وكان القياس أن يكون اسم الفاعل من قل على فاعل نحو : شذ يشذ ، فهو شاذ ، لكن حمل على مقابله .

ومثل قلّ فهو قليل ، صح فهو صحيح .

{ وآمنوا بما أنزلت } : ظاهره أنه أمر لبني إسرائيل ، لأن المأمورين قبل هم ، وهذا معطوف على ما قبله ، فظاهره اتحاد المأمور .

وقيل : أنزلت في كعب بن الأشرف وأصحابه ، علماء اليهود ورؤسائهم ، والظاهر الأول ، ويندرج فيه كعب ومن معه .

وما في قوله : { بما أنزلت } موصولة ، أي بالذي أنزلت ، والعائد محذوف تقديره : أنزلته ، وشروط جواز الحذف فيه موجودة ، والذي أنزل تعالى هو القرآن ، والذي معهم هو التوراة والإنجيل .

وقال قتادة : المراد { بما أنزلت } : من كتاب ورسول تجدونه مكتوباً عندهم في التوراة والإنجيل ، وأبعد من جعل ما مصدرية ، وأن التقدير : وآمنوا بإنزالي لما معكم من التوراة ، فتكون اللام في لما من تمام المصدر لا من تمام .

{ مصدّقاً } .

وعلى القول الأول يكون { لما معكم } من تمام { مصدقاً } ، واللام على كلا التقديرين في لما مقوية للتعدية ، كهي في قوله تعالى : { فعال لما يريد } وإعراب مصدقاً على قول من جعل ما مصدرية حال من ما في قوله : { لما معكم } .

ولا نقول : يبعد ذلك لدخول حرف الجر على ذي الحال ، لأن حرف الجر كما ذكرناه هو مقوّ للتعدية ، فهو كالحرف الزائد ، وصار نظير : زيد ضارب ، مجردة لهند ، التقدير : ضارب هنداً مجردة ، ثم تقدمت هذه الحال ، وهذا جائز عندنا ، ويبعد أن يكون حالاً من المصدر المقدر لوجهين : أحدهما : الفصل بين المصدر ومعموله الحال المصدر .

والوجه الثاني : أنه يبعد وصف الإنزال بالتصديق إلا أن يتجوّز به ، ويراد به المنزل ، وعلى هذا التقدير لا يكون لما معكم من تمامه ، لأنه إذا أريد به المنزل لا يكون متعدياً للمفعول .

والظاهر أن مصدقاً حال من الضمير العائد على الموصول المحذوف ، وهي حال مؤكدة ، والعامل فيها أنزلت .

وقيل : حال من ما في قوله : بما أنزلت ، وهي حال مؤكدة أيضاً .

{ ولا تكونوا أوّل كافر به } : أفعل التفضيل إذا أضيف إلى نكرة غير صفة ، فإنه يبقى مفرداً مذكراً ، والنكرة تطابق ما قبلها ، فإن كان مفرداً كان مفرداً ، وإن كان تثنية كان تثنية ، وإن كان جمعاً كان جمعاً ، فتقول : زيد أفضل رجل ، وهند أفضل امرأة ، والزيدان أفضل رجلين ، والزيدون أفضل رجال .

ولا تخلو تلك النكرة المضاف إليها أفعل التفضيل من أن تكون صفة أو غير صفة ، فإن كانت غير صفة فالمطابقة كما ذكرنا .

وأجاز أبو العباس : إخوتك أفضل رجل ، بالإفراد ، ومنع ذلك الجمهور .

وإن كانت صفة ، وقد تقدم أفعل التفضيل جمع جازت المطابقة وجاز الإفراد ، قال الشاعر : أنشده الفراء :

وإذا هم طعموا فألأم طاعم***وإذا هم جاعوا فشرّ جياع

فأفرد بقوله : طاعم ، وجمع بقوله : جياع .

وإذا أفردت النكرة الصفة ، وقبل أفعل التفضيل جمع ، فهو عند النحويين متأوّل ، قال الفراء : تقديره من طعم ، وقال غيره : يقدر وصفاً لمفرد يؤدي معنى جمع ، كأنه قال : فألأم طاعم ، وحذف الموصوف ، وقامت الصفة مقامه ، فيكون ما أضيف إليه في التقدير وفق ما تقدمه .

وقال بعض الناس : يكون التجوز في الجمع ، فإذا قيل مثلاً الزيدون أفضل عالم ، فالمعنى : كل واحد من الزيدين أفضل عالم .

وهذه النكرة أصلها عند سيبويه التعريف والجمع ، فاختصروا الألف واللام وبناء الجمع .

وعند الكوفيين أن أفعل التفضيل هو النكرة في المعنى ، فإذا قلت : أبوك أفضل عالم ، فتقديره : عندهم أبوك الأفضل العالم ، وأضيف أفضل إلى ما هو هو في المعنى .

وجميع أحكام أفعل التفضيل مستوفاة في كتب النحو .

وعلى ما قررناه تأولوا أول كافر بمن كفر ، أو أول حزب كفر ، أو لا يكن كل واحد منكم أول كافر .

والنهي عن أن تكونوا أول كافر به لا يدل ذلك على إباحة الكفر لهم ثانياً أو آخراً ، فمفهوم الصفة هنا غير مراد .

ولما أشكلت الأولية هنا زعم بعضهم أن أول صلة يعني زائدة ، والتقدير : ولا تكونوا كافرين به ، وهذا ضعيف جداً .

وزعم بعضهم أن ثم محذوفاً معطوفاً تقديره : ولا تكونوا أوّل كافر به ولا آخر كافر ، وجعل ذلك مما حذف فيه المعطوف لدلالة المعنى عليه ، وخص الأولية بالذكر لأنها أفحش ، لما فيها من الابتداء بها ، وهذا شبيه بقول الشاعر :

من أناس ليس في أخلاقهم***عاجل الفحش ولا سوء جزع

لا يريد أن فيهم فحشاً آجلاً ، بل أراد لافحش عندهم ، لا عاجلاً ، ولا آجلاً ، وتأوله بعضهم على حذف مضاف ، أي : ولا تكونوا مثل أول كافر به ، أي ولا تكونوا وأنتم تعرفونه مذكوراً في التوراة موصوفاً مثل من لم يعرفه وهو مشرك لا كتاب له ، وبعضهم على صفة محذوفة ، أي أول كافر به من أهل الكتاب ، إذ هم منظور إليهم في هذا مظنون بهم علم ، وبعضهم على حذف صلة يصح بها المعنى ، التقدير : ولا تكونوا أول كافر به مع المعرفة ، لأن كفر قريش كان مع الجهل ، وهذا القول شبيه بالذي قبله .

وبعضهم قدر صلة غير هذه ، أي ولا تكونوا أول كافر به عند سماعكم لذكره ، بل تثبتوا فيه وراجعوا عقولكم فيه .

وقيل : ذكر الأولية تعريض بأنه كان يجب أن يكونوا أول مؤمن به ، لمعرفتهم به وبصفته ، ولأنهم كانوا هم المبشرين بزمانه والمستفتحين على الذين كفروا به ، فلما بعث كان أمرهم على العكس ، قال تعالى : { فلما جاءهم ما عرفوا كفروا به }

وقال القشيري : لا تسنوا الكفر سنة ، فإن وزر المبتدئين فيما يسنون أعظم من وزر المقتدين فيما يتبعون .

والضمير في به عائد على الموصول في بما أنزلت ، وهو القرآن ، قاله ابن جريج ، أو على محمد صلى الله عليه وسلم ، ودل عليه المعنى ، لأن ذكر المنزل يدل على ذكر المنزل عليه ، قاله أبو العالية ، أو على النعمة على معنى الإحسان ، ولذلك ذكر الضمير ، قاله الزجاج ، أو على الموصول في لما معكم ، لأنهم إذا كفروا بما يصدقه ، فقد كفروا به ، والأرجح الأول ، لأنه أقرب ، وهو منطوق به مقصود للحديث عنه ، بخلاف الأقوال الثلاثة .

{ ولا تشتروا بآياتي ثمناً قليلاً } .

الاشتراء هنا مجاز يراد به الاستبدال ، كما قال :

كما اشترى المسلم إذ تنصرا***

وقال آخر :

فإني شريت الحلم بعدك بالجهل***

ولما كان المعنى على الاستبدال ، جاز أن تدخل الباء على الآيات ، وإن كان القياس أن تدخل على ما كان ثمناً ، لأن الثمن في البيع حقيقته أن يشترى به ، لكن لما دخل الكلام على معنى الاستبدال جاز ذلك ، لأن معنى الاستبدال يكون المنصوب فيه هو الحاصل ، وما دخلت عليه الباء هو الزائل ، بخلاف ما يظن بعض الناس أن قولك : بدلت أو أبدلت درهماً بدينار معناه : أخذت الدينار بدلاً عن الدرهم ، والمعنى ، والله أعلم : ولا تستبدلوا بآياتي العظيمة أشياء حقيرة خسيسة .

ولو أدخل الباء على الثمن دون الآيات لانعكس هذا المعنى ، إذ كان يصير المعنى : أنهم هم بذلوا ثمناً قليلاً وأخذوا الآيات .

قال المهدوي : ودخول الباء على الآيات كدخولها على الثمن ، وكذلك كلّ ما لا عين فيه ، وإذا كان في الكلام دنانير أو دراهم دخلت الباء على الثمن ، قاله الفراء .

انتهى كلام المهدوي ومعناه : أنه إذا لم يكن دنانير ولا دراهم في البيع صح أن يكون كل واحد من المبذول ثمناً ومثمناً ، لكن يختلف دخول الباء بالنسبة لمن نسب الشراء إلى نفسه من المتعاقدين جعل ما حصل هو المثمن ، فلا تدخل عليه الباء ، وجعل ما بذل هو الثمن فأدخل عليه الباء ، ونفس الآيات لا يشترى بها ، فاحتيج إلى حذف مضاف ، فقيل تقديره : بتعليم آياتي ، قاله أبو العالية ، وقيل : بتغيير آياتي ، قاله الحسن .

وقيل : بكتمان آياتي ، قاله السدي .

وقيل : لا يحتاج إلى حذف مضاف ، بل كنى بالآيات عن الأوامر والنواهي .

وعلى الأقوال الثلاثة التي قبل هذا القول تكون الآيات ، ما أنزل من الكتب ، أو القرآن ، أو ما أوضح من الحجج والبراهين ، أو الآيات المنزلة عليهم في التوراة والإنجيل المتضمنة الأمر بالإيمان برسول الله صلى الله عليه وسلم .

وعلى الأقاويل في ذلك المضاف المقدر ، والقول بعدها اختلفوا في المعنى بقوله : ثمناً قليلاً .

فمن قال : إن المضاف هو التعليم ، قال : الثمن القليل هو الأجرة على التعليم ، وكان ذلك ممنوعاً منه في شريعتم ، أو الراتب المرصد لهم على التعليم ، فنهوا عنه ، ومن قال : هو التغيير ، قال الثمن القليل هو الرّياسة التي كانت في قومهم خافوا فواتها لو صاروا أتباعاً لرسول الله صلى الله عليه وسلم .

ومن جعل الآيات كناية عن الأوامر والنواهي ، جعل الثمن القليل هو ما يحصل لهم من شهوات الدنيا التي اشتغلوا بها عن إيقاع ما أمرالله به واجتناب ما نهى عنه ، ووصف الثمن بالقليل ، لأن ما حصل عوضاً عن آيات الله كائناً ما كان لا يكون إلا قليلاً ، وإن بلغ ما بلغ ، كما قال تعالى : { قل متاع الدنيا قليل } فليس وصف الثمن بالقلة من الأوصاف التي تخصص النكرات ، بل من الأوصاف اللازمة للثمن المحصل بالآيات ، إذ لا يكون إلا قليلاً .

ويحتمل أن يكون ثم معطوف تقديره : ثمناً قليلاً ولا كثيراً ، فحذف لدلالة المعنى عليه .

وقد استدل بعض أهل العلم بقوله : { ولا تشتروا بآياتي ثمناً قليلاً } على منع جواز أخذ الأجرة على تعليم كتاب الله والعلم .

وقد روي في ذلك أحاديث لا تصح ، وقد صح أنهم قالوا : يا رسول الله ، إنا نأخذ على كتاب الله أجراً ، فقال : «إن خير ما أخذتم عليه أجراً كتاب الله » .

وقد تظافرت أقوال العلماء على جواز أخذ الأجرة على تعليم القرآن والعلم ، وإنما نقل عن الزهري وأبي حنيفة الكراهة ، لكون ذلك عبادة بدنية ، ولا دليل لذلك الذاهب في الآية ، وقد مرّ تفسيرها .

{ وإيّاي فاتقون } : الكلام عليه إعراباً ، كالكلام على قوله : { وإيّاي فارهبون } ، ويقرب معنى التقوى من معنى الرهبة .

قال صاحب المنتخب : والفرق أن الرهبة عبارة عن الخوف ، وأمّا الاتقاء فإنه يحتاج إليه عند الجرم بحصول ما يتقي منه ، فكأنه تعالى أمرهم بالرهبة لأجل أن جواز العقاب قائم ، ثم أمرهم بالتقوى لأن تعين العقاب قائم ، انتهى كلامه .

ومعنى جواز العقاب هناك وتعيينه هنا : أن ترك ذكر النعمة والإيفاء بالعهد ظاهره أنه من المعاصي التي تجوز العقاب ، إذ يجوز أن يقع العفو عن ذلك ، وترك الإيمان بما أنزل الله تعالى ، وشراء الثمن اليسير بآيات الله من المعاصي التي تحتم العقاب وتعينه ، إذ لا يجوز أن يقع العفو عن ذلك ، فقيل في ذلك : { فارهبون } ، وقيل في هذا : { فاتقون } ، أي اتخذوا وقاية من عذاب الله إن لم تمتثلوا ما أمرتكم به .

والأحسن أن لا يقيد ارهبون واتَّقون بشيء ، بل ذلك أمر بخوف الله واتقائه ، ولكن يدخل فيه ما سيق الأمر عقيبه دخولاً واضحاً ، فكان المعنى : ارهبون ، إن لم تذكروا نعمتي ولم توفوا بعهدي ، واتقون ، إن لم تؤمنوا بما أنزلت وإن اشترتيتم بآياتي ثمناً قليلاً .

/خ43