الدر المصون في علم الكتاب المكنون للسمين الحلبي - السمين الحلبي  
{وَءَامِنُواْ بِمَآ أَنزَلۡتُ مُصَدِّقٗا لِّمَا مَعَكُمۡ وَلَا تَكُونُوٓاْ أَوَّلَ كَافِرِۭ بِهِۦۖ وَلَا تَشۡتَرُواْ بِـَٔايَٰتِي ثَمَنٗا قَلِيلٗا وَإِيَّـٰيَ فَٱتَّقُونِ} (41)

قوله تعالى : { بِمَآ أَنزَلْتُ } . . " ما " يجوز أن تكونَ بمعنى الذي ، والعائدُ محذوفٌ ، أي : الذي أَنْزَلْتُه ، ويجوز أن تكونَ مصدريةً ، والمصدرُ واقعٌ موقعَ المفعولِ أي بالمنزَّلِ . و " مصدقاً " نصبٌ على الحالِ ، وصاحبُها العائدُ المحذوفُ . وقيل : صاحبُها " ما " والعاملُ فيها " آمنوا " وأجازَ بعضُهم أن تكونَ " ما " مصدريةً من غير جَعْلِه المصدرَ واقعاً موقعَ مفعولٍ به ، وجَعَل " لِما معكم " من تمامه ، أي : بإنزالي لِما معكم ، وجَعَل " مُصَدِّقاً " حالاً من " ما " المجرورةِ باللامِ قُدِّمَتْ عليها وإن كان صاحبُها مجروراً ، لأنَّ الصحيحَ جوازُ تقديمِ حالِ المجرورِ [ بحرفِ الجر ] عليه كقولِه :

فإنْ تَكُ أَذْوادٌ أُصِبْنَ ونِسْوَةٌ *** فَلَنْ يَذْهبوا فَرْغاً بقَتْلِ حِبالِ

" فَرْغا " حالٌ من " بقتل " ، وأيضاً فهذه اللامُ زائدةٌ فهي في حكم المُطَّرح ، و " مصدقاً " حالٌ مؤكدة ، لأنه لا تكونُ إلا كذلك . والظاهرُ أنَّ " ما " بمعنى الذي ، وأنَّ " مصدقاً " حالٌ مِنْ عائدِ الموصولِ ، وأنَّ اللامَ في " لِما " مقويةٌ لتعدية " مصَدِّقاً " ل " ما " الموصولةِ بالظرف .

قوله : { أَوَّلَ كَافِرٍ بِهِ } " أولَ " خبرُ " كان " قبلَه ، وفيه أربعة أقوال ، أحدُها وهو مذهبُ سيبويهِ أنه أَفْعَل ، وأنَّ فاءَه وعينَه واوٌ ، وتأنيثَه أُوْلى ، وأصلُها : وُوْلى ، فأُبْدِلَتِ الواوُ همزةً وجوباً ، وليست مثلَ " وُوْرِيَ " في عَدَمِ قَلْبها لسكونِ الواوِ بعدَها ، لأنَّ واوَ " أُولَى " تَحَرَّكت في الجمعِ في قولهم " أُوَل " ، فحُمِلَ المفردُ على الجمعِ في ذلك . ولم يَتَصَرَّفْ من " أوَّل " فِعْلٌ لاستثقاله . وقيل : هو مِنْ وَأَل إذا نجا ، ففاؤُه واوٌ وعينُه همزةٌ ، وأصلُه أَوْ أَل ، فَخُفِّفَت بأَنْ قُلِبَتِ الهمزةُ واواً ، وأُدْغِم فيها الواوُ فصار : أوَّل ، وهذا ليسَ بقياس تخفيفِه ، بل قياسُه أن تُلْقى حركةُ الهمزةِ على الواو الساكنة وتُحْذَفُ الهمزةُ ، ولكنهم شَبَّهوه بخَطِيَّة وبرِيَّة ، وهو ضعيفٌ ، والجمع : أَوائل وأَوالي أيضاً على القلب . وقيل : هو من آل يَؤُول إذا رَجَع ، وأصلُه : أَأْوَل بِهمزتين الأولى زائدةٌ والثانيةُ فاؤُه ، ثم قُلِب فأُخِّرَتِ الفاءُ بعد العين فصار : أوْأَل بوزن أَعْفَل ، ثم فُعِلَ به ما فُعِل في الوجهِ الذي قبلَه من القلب والإِدغامِ وهو أضعفُ منه . وقيل : هو وَوَّل بوزن فَوْعَلِ ، فأُبْدِلَتِ الواوُ الأولَى همزةً ، وهذا القولُ أَضْعَفُها ؛ لأنه كان ينبغي أن ينصرفَ ليس إلاَّ . والجمعُ : أوائل ، والأصلُ : وَواوِل ، فَقُلِبتِ الأولى همزةً لِما تقدَّم ، والثالثة أيضاً لوقوعِها بعد ألفِ الجمعِ .

واعلم أَنَّ " أَوَّل " أَفْعَلُ تفضيلٍ ، وأَفْعَلُ التفضيلِ إذا أُضيفَ إلى نكرةٍ كان مفرداً مذكراً مطلقاً .

ثم النكرةُ المضافُ إليها أَفْعل : إمَّا أن تكونَ جامدةً أو مشتقةً ، فإنْ كانَتْ جامدةً طابقَتْ ما قبلها نحو : الزيدان أفضلُ رجلَيْن ، الزيدون أفضلُ رجال ، الهنداتُ أفضلُ نسوةٍ . وأجاز المبردُ إفرادَها مطلقاً ورَدَّ عليه النَّحْويون . وإن كانَتْ مشتقةً فالجمهورُ أيضاً على وجوبِ المطابقةِ نحو : " الزيدُون أفضلُ ذاهبين وأكرمُ قادمين " ، وأجازَ بعضُهم المطابقةَ وعدَمَها ، أنشد الفراء :

وإذا هُمُ طَعِمُوا فَالأَمُ طاعِمٍ *** وإذا هُمُ جاعوا فَشَرُّ جِياعِ

فَأَفْرَدَ في الأولِ وطابَقَ في الثاني . ومنه عندَهم : { وَلاَ تَكُونُواْ أَوَّلَ كَافِرٍ بِهِ } .

إذا تقرَّر هذا فكان ينبغي على قولِ الجمهور أن يُجْمع " كافر " ، فأجابوا عن ذلك بأوجهٍ : أَجْوَدُها : أَنَّ أَفْعَل في الآية وفي البيتِ مضافٌ لاسمٍ مفردٍ مُفْهِمٍ للجمع حُذِفَ وبَقيتْ صفتُه قائمةً مَقامَه ، فجاءت النكرةُ المضافُ إليها أفْعَل مفردةٍ اعتباراً بذلك الموصوف المحذوف ، والتقديرُ : ولا تكونوا أولَ فريقٍ أو فوجٍ كافرٍ ، وكذا : فَالأَمُ فريقٍ طاعمٍ ، وقيل : لأنه في تأويل : أوَّلَ مَنْ كفر به ، وقيل : لأنه في معنى : لا يكُنْ كلُّ واحدٍ منكم أولَ كافرٍ ، كقولِك : كساناً حُلَّةً أي : كلَّ واحدٍ منا ، ولا مفهومَ لهذهِ الصفةِ هنا فلا يُراد : ولا تكونوا أولَ كافرٍ بل آخرَ كافر . ولمَّا اعتقدَ بعضُهم أنَّ لها مفهوماً احتاجَ إلى تأويل جَعْلِ " أول " زائداً ، قال : تقديرُه ولا تكونوا كافرين به ، وهذا ليس بشيء ، وقدَّره بعضُهم بأَنَّ ثمَّ معطوفاً محذوفاً تقديرُه : ولا تكونوا أولَ كافرٍ به ولا آخرَ كافرٍ ، ونصَّ على الأول لأنه أَفْحَشُ للابتداءِ به ، وهو نظيرُ قولِه :

مِنْ اُناسٍ ليسَ في أَخْلاقِهِمْ عاجلُ *** الفُحْشِ ولا سوءُ الجَزَعْ

لا يريد أن فيهم فُحْشاً آجِلاً ، بل يريد لا فُحْشَ عندهم لا عاجلاً ولا آجِلاً . والهاءُ في " به " تعودُ على " ما أَنْزَلْتُ " وهو الظاهرُ ، وقيل : على " ما معكم " وقيل : على الرسولِ عليه السلام لأنّ التنزيلَ يَسْتَدْعِي مُنَزَّلاً إليه ، وقيل : على النعمةِ ذهاباً بها إلى معنى الإِحسانِ .

قوله : { بِآيَاتِي ثَمَناً قَلِيلاً } متعلِّقٌ بالاشتراءِ قبلَه ، وضُمِّنَ الاشتراءُ معنى الاستبدالِ ، فلذلك دَخَلَتِ الباءُ على الآياتِ ، وكان القياسُ دخولَها على ما هو ثَمَنٌ لأنَّ الثمنَ في البيعِ حقيقتُه أن يَشْتَرَى به لا أَنْ يَشْتَري لكنْ لَمَّا دَخَلَ الكلامَ معنى الاستبدالِ جازَ ذلك ، لأنَّ معنى الاستبدالِ أن يكونَ المنصوبُ فيه حاصلاً والمجرورُ بالباءِ زائلاً . وقد ظَنَّ بعضُهم أنَّ " بَدَّلْتُ الدرهمَ بالدينار " وكذا " أَبْدَلْتُ " أيضاً أنَّ الدينارَ هو الحاصلُ والدرهمَ هو الزائلُ ، وهو وَهْمٌ ، ومِنْ مجيءِ اشترى بمعنى استبدل قوله :

كما اشْتَرَى المسلمُ إذا تَنَصَّرا

وقول الآخر :

فإنْ تَزْعُمِينِي كُنْتُ أَجْهَلُ فيكم *** فإنِّي شَرَيْتُ الحِلْمَ بعدكِ بالجَهْلِ

وقال المهدوي : " دخولُ الباءِ على الآياتِ كدخولِها على الثَّمن ، وكذلك كلُّ ما لا عَيْنَ فيه ، وإذا كان في الكلامِ دراهمُ أو دنانيرُ دخَلَتِ الباءُ على الثمنِ قاله الفراء " انتهى .

عني أنه إذا لم يكُنْ في الكلامِ درهمٌ ولا دينارٌ صَحَّ أن يكونَ كلُّ من العِوَضَيْن ثمناً ومثمَّناً ، لكن يَخْتَلِفُ [ ذلك ] بالنسبةِ إلى المتعاقِدَيْن ، فَمَنْ نَسَب الشراءَ إلى نفسِه أَدْخَلَ الباءَ على ما خَرَج منه وزال عنه ونَصَب ما حَصَل له ، فتقولُ : اشتريتُ هذا الثوبَ بهذا العبدِ ، وأمَّا إذا كان ثَمَّ دراهمُ أو دنانيرُ كان ثَمَناً ليس إلاَّ ، نحو : اشتريْتُ الثوبَ بالدرهمِ ، ولا تقول : اشتريتُ الدرهمَ بالثوبِ . وقدَّر بعضُهم [ مضافاً ] فقال : بتعليمِ آياتي لأنَّ الآياتِ نفسَها لا يُشْتَرى بِها ، ولا حاجةَ إلى ذلك ، لأنَّ معناه الاستبدال كما تقدَّم .

و " ثَمناً " مفعولٌ به ، و " قليلاً " صفتُه . و { وَإِيَّايَ فَاتَّقُونِ } كقوله

{ وَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ } [ البقرة : 40 ] . وقال هنا : [ فاتقون ، وهناك فارهبون لأنَّ تَرْكَ المأمورِ به هناك معصيةٌ وهي تَرْكُ ذِكْر النعمةِ والإِيفاءِ بالعَهْدِ ، وهنا ] تَرْكُ الإِيمانُ بالمُنَزَّلِ والاشتراءُ به ثمناً قليلاً كفرٌ فناسبَ ذِكْرَ الرَّهَب هناك لأنه أخفُّ يجوزُ العَفْوُ عنه لكونِه معصيةً ، وذَكَر التقوى هنا لأنه كُفْرٌ لا يجوز العفو عنه ، لأنَّ التقوى اتِّخاذُ الوقايةِ لِما هو كائنٌ لا بُدَّ منه .