فتح القدير الجامع بين فني الرواية والدراية من علم التفسير للشوكاني - الشوكاني  
{وَءَامِنُواْ بِمَآ أَنزَلۡتُ مُصَدِّقٗا لِّمَا مَعَكُمۡ وَلَا تَكُونُوٓاْ أَوَّلَ كَافِرِۭ بِهِۦۖ وَلَا تَشۡتَرُواْ بِـَٔايَٰتِي ثَمَنٗا قَلِيلٗا وَإِيَّـٰيَ فَٱتَّقُونِ} (41)

و{ مُصَدّقًا } حال من «ما » في قوله : { مَا أُنزِلَتْ } أو من ضميرها المقدّر بعد الفعل ، أي : أنزلته . وقوله : { أَوَّلَ كَافِرٍ بِهِ } إنما جاء به مفرداً ، ولم يقل كافرين حتى يطابق ما قبله لأنه وصف لموصوف محذوف مفرد اللفظ ، متعدد المعنى نحو فريق أو فوج . وقال الأخفش والفراء : إنه محمول على معنى الفعل ؛ لأن المعنى أوّل من كفر . وقد يكون من باب قولهم هو أظرف الفتيان ، وأجمله ، كما حكى ذلك سيبويه ، فيكون هذا المفرد قائماً مقام الجمع ، وإنما قال : { أوّل } مع أنه قد تقدّمهم إلى الكفر به كفار قريش ؛ لأن المراد أوّل كافر به من أهل الكتاب ؛ لأنهم العارفون بما يجب للأنبياء ، وما يلزم من التصديق ، والضمير في { به } عائد إلى النبي صلى الله عليه وسلم أي : لا تكونوا أوّل كافر بهذا النبي مع كونكم قد وجدتموه مكتوباً عندكم في التوراة ، والإنجيل ، مبشراً به في الكتب المنزلة عليكم . وقد حكى الرازي في تفسيره في هذا الموضع ما وقف عليه من البشارات برسول الله صلى الله عليه وسلم في الكتب السالفة ، وقيل : إنه عائد إلى القرآن المدلول عليه بقوله : { بِمَا أَنزَلْتُ } وقيل : عائد إلى التوراة المدلول عليها بقوله : { لمَا مَعَكُمْ } وقوله : { وَلاَ تَشْتَرُوا بآياتي } أي : بأوامري ونواهيّ { ثَمَناً قَلِيلاً } أي : عيشاً نزراً ، ورئاسة لا خطر لها . جعل ما اعتاضوه ثمناً ، وأوقع الاشتراء عليه ، وإن كان الثمن هو المشترى به ، لأن الاشتراء هنا مستعار للاستبدال ، أي لا تستبدلوا بآياتي ثمناً قليلاً ، وكثيراً ما يقع مثل هذا في كلامهم ، وقد قدّمنا الكلام عليه في تفسير قوله تعالى : { اشتروا الضلالة بالهدى } [ البقرة : 16 ] ، ومن إطلاق اسم الثمن على نيل عرض من أعراض الدنيا قول الشاعر :

إن كُنتَ حَاوْلتَ دُنْيَا أوْ ظَفِرتَ بِها *** فَمَا أصَبْت بترك الحج مِنْ ثَمن

وهذه الآية ، وإن كانت خطاباً لبني إسرائيل ونهياً لهم فهي متناولة لهذه الأمة بفحوى الخطاب أو بلحنه ، فمن أخذ من المسلمين رشوة على إبطال حق أمر الله به ، أو إثبات باطل نهى الله عنه ، أو امتنع من تعليم ما علمه الله ، وكتم البيان الذي أخذ الله عليه ميثاقه به ، فقد اشترى بآيات الله ثمناً قليلاً ، وقوله : { وإياى فاتقون } الكلام فيه كالكلام في قوله تعالى : { وإياى فارهبون } [ البقرة : 40 ] وقد تقدم قريباً .

/خ42