غرائب القرآن ورغائب الفرقان للحسن بن محمد النيسابوري - النيسابوري- الحسن بن محمد  
{وَءَامِنُواْ بِمَآ أَنزَلۡتُ مُصَدِّقٗا لِّمَا مَعَكُمۡ وَلَا تَكُونُوٓاْ أَوَّلَ كَافِرِۭ بِهِۦۖ وَلَا تَشۡتَرُواْ بِـَٔايَٰتِي ثَمَنٗا قَلِيلٗا وَإِيَّـٰيَ فَٱتَّقُونِ} (41)

40

قوله { وآمنوا } معطوف على { اذكروا } والمراد { بما أنزلت } القرآن و{ مصدقاً } حال مؤكدة من الراجع المحذوف وفيه تفسيران : أحدهما أن في القرآن أن موسى وعيسى حق ، والتوراة والإنجيل حق ، والتوراة أنزل على موسى ، والإنجيل على عيسى ، فكان الإيمان بالقرآن مؤكداً للإيمان بالتوراة والانجيل والثاني أنه حصلت البشارة بمحمد صلى الله عليه وسلم وبالقرآن في التوراة والإنجيل ، فكان الإيمان بمحمد والقرآن تصديقاً للتوراة والإنجيل ، والتكذيب بمحمد صلى الله عليه وسلم والقرآن تكذيباً لهما ، وفي هذا التفسير دلالة على نبوة محمد صلى الله عليه وسلم من جهة أن شهادة كتب الأنبياء لا تكون إلا حقاً ، ومن جهة أنه صلى الله عليه وسلم أخبر عن كتبهم ولم يكن له صلى الله عليه وسلم معرفة بذلك الأمر قبل الوحي { ولا تكونوا أول كافر به } صلى الله عليه وسلم أي أوّل من كفر به صلى الله عليه وسلم ، أو أوّل فريق أو فوج كافر به صلى الله عليه وسلم ، أو ولا يكن كل واحد منكم أوّل كافر به كقوله " كسانا حلة " أي كل واحد منا .

( وهنا سؤالان ) الأول : كيف جعلوا أوّل من كفر به صلى الله عليه وسلم وقد سبقهم إلى الكفر به صلى الله عليه وسلم مشركو العرب ؟ وفي الجواب وجوه : الأوّل : أنه تعريض وأنه كان يجب أن يكونوا أول من يؤمن به صلى الله عليه وسلم لمعرفتهم به صلى الله عليه وسلم وبصفته ، ولأنهم كانوا المبشرين بزمان محمد صلى الله عليه وسلم والمستفتحين به على الذين كفروا ، وكانوا يعدّون أتباعه أولى الناس كلهم .

فلما بعث كان أمرهم على العكس { فلما جاءهم ما عرفوا كفروا به } [ البقرة : 89 ] . والثاني : ولا تكونوا مثل أوّل كافر به يعني من أشرك من أهل مكة أي ولا تكونوا - وأنتم تعرفونه صلى الله عليه وسلم موصوفاً في التوراة - مثل من لم يعرفه صلى الله عليه وسلم لأنه لا كتاب له . الثالث : { ولا تكونوا أول كافر به } من أهل الكتاب ، لأن هؤلاء كانوا أول من كفر به وبالقرآن من بني إسرائيل . الرابع { ولا تكونوا أوّل كافر به } يعني بكتابكم . يقول ذلك لعلمائهم ، لأن تكذيبكم بمحمد صلى الله عليه وسلم يوجب تكذيبكم بكتابكم . الخامس : المراد بيان تغليظ كفرهم ، وذلك أن السابق إلى الكفر كفره غليظ " من سن سنة سيئة فعليه وزرها ووزر من عمل بها " والكافر عن دليل ومعرفة بما يوجب الإيمان كفره أغلظ ممن كفر ولا دليل له على الإيمان ، فاشتركا من هذا الوجه ، فصح إطلاق أحدهما على الآخر . السادس : ولا تكونوا أوّل من جحد مع المعرفة . السابع : أوّل فريق كفر من اليهود لأن النبي صلى الله عليه وسلم قدم المدينة وبها قريظة والنضير ، فكفروا ثم تتابعت سائر اليهود على ذلك الكفر . الثامن : ولا تكونوا أول الكافرين به صلى الله عليه وسلم عند سماعكم بذكره صلى الله عليه وسلم ، بل تثبتوا وراجعوا عقولكم فيه صلى الله عليه وسلم .

السؤال الثاني : كأنه يجوز لهم الكفر إذا لم يكونوا أوّل الجواب ليس في ذكر الشيء دلالة على أن ما عداه بخلافه . وأيضاً في قوله { وآمنوا } دلالة على أن كفرهم أولاً وآخراً محظور . وأيضاً قوله { ولا تشتروا بآياتي ثمناً قليلاً } لا يدل على إباحة ذلك بالثمن الكثير . وقوله { رفع السماوات بغير عمد ترونها } [ الرعد : 2 ] لا يدل على وجود عمد لا نراها فكذلك ههنا . قال المبرد : هذا الكلام خطاب لقوم خوطبوا به قبل غيرهم ، فقيل لهم : لا تكفروا بمحمد صلى الله عليه وسلم فإنه سيكون بعدكم كفار ، فلا تكونوا أنتم أول الكفار فإنه يكون عليكم وزر من كفر إلى يوم القيامة . والاشتراء استعارة للاستبدال كما قلنا في { اشتروا الضلالة بالهدى } [ البقرة : 16 ] أي لا تستبدلوا بآياتي ثمناً قليلاً ، وإلا فالثمن هو المشترى به ، والثمن القليل هو الرياسة التي كانت لهم في قومهم . خافوا عليها لفوات لو تبعوا دين الإسلام . وقيل : الثمن هو الرشا التي يأخذها علماؤهم على تحريف الكلم عن مواضعه وتسهيلهم لهم ما صعب عليهم من الشرائع { وإياي فاتقون } مثل { وإياي فارهبون } وقيل : الاتقاء إنما يكون عند الجزم بحصول ما يتقى عنه ، فكأنه أمرهم بالرهبة . على أن جواز العقاب قائم ، ثم أمرهم بالتقوى على أن يقين العقاب قائم .