السراج المنير في تفسير القرآن الكريم للشربيني - الشربيني  
{وَءَامِنُواْ بِمَآ أَنزَلۡتُ مُصَدِّقٗا لِّمَا مَعَكُمۡ وَلَا تَكُونُوٓاْ أَوَّلَ كَافِرِۭ بِهِۦۖ وَلَا تَشۡتَرُواْ بِـَٔايَٰتِي ثَمَنٗا قَلِيلٗا وَإِيَّـٰيَ فَٱتَّقُونِ} (41)

{ وآمنوا بما أنزلت } من القرآن ، وقوله تعالى : { مصدّقاً } حال مؤكدة مما أنزلت أو من ضميره المحذوف { لما معكم } من التوراة بموافقته له ولغيره من الكتب الإلهية في القصص ونعت النبيّ صلى الله عليه وسلم والمواعيد والدعاء إلى التوحيد والأمر بالعبادة والعدل بين الناس والنهي عن المعاصي والفواحش وفيما يخالفها من جزئيات الأحكام بسبب تفاوت الأعصار في المصالح من حيث أن كل واحد منها حق بالإضافة إلى زمانها مراعى فيها صلاح من خوطب بها حتى لو نزل المتقدّم في أيام المتأخر لنزل على وفقه ، ولذلك قال عليه الصلاة والسلام كما رواه الإمام أحمد وغيره : ( لو كان موسى حياً لما وسعه إلا اتباعي ) وفي ذلك تنبيه على أن اتباع تلك الكتب الإلهية لا ينافي الإيمان بالقرآن بل يوجبه ولذلك عرّض بقوله : { ولا تكونوا أوّل كافر به } أي : بالقرآن بل يجب أن تكونوا أوّل مؤمن به لأنكم أهل نظر في معجزاته والعلم بشأنه .

فإن قيل : كيف نهوا عن التقدّم في الكفر وقد سبقهم مشركو العرب ؟ أجيب : بأن المراد به التعريض بما يجب عليهم لمقتضى حالهم لا الدلالة على ما نطق الظاهر ، كقولك لمن أساء : أمّا أنا فلست بجاهل ، أو ولا تكونوا أوّل كافر من أهل الكتاب لأن خلفكم تبع لكم فإثمهم عليكم أو ممن كفر بما معه فإن من كفر بالقرآن فقد كفر بما يصدقه أو مثل من كفر من مشركي مكة .

تنبيه : أوّل كافر به وقع خبراً عن ضمير الجمع بتقدير أوّل فريق أو فوج أو بتأويل لا يكن كل واحد منكم أوّل كافر به كقولك : كسانا حلة أي : كل واحد منا { ولا تشتروا } تستبدلوا { بآياتي } التي في كتابكم من نعت محمد صلى الله عليه وسلم { ثمناً قليلاً } أي : عوضاً يسيراً من الدنيا أي : لا تكتموها خوف فوات ما تأخذونه من سفلتكم وذلك أنّ رؤساء اليهود وعلماءهم كانت لهم مآكل يصيبونها من سفلتهم وجهالهم يأخذون منهم كل سنة شيئاً معلوماً من زروعهم وضروعهم ونقودهم فخافوا أنهم إن بينوا صفة النبيّ صلى الله عليه وسلم وتابعوه أن يفوتهم تلك المآكل فغيروا نعته وكتموا اسمه فاختاروا الدنيا على الآخرة فنهوا عن ذلك فإنّ حظوظ الدنيا وإن جلت قليلة مسترذلة بالإضافة إلى ما يفوت من حظوظ الآخرة { وإياي فاتقون } خافون في ذلك دون غيري .