{ وإذ قال عيسى ابن مريم يا بني إسرائيل إني رسول الله إليكم مصدقاً لما بين يدي من التوراة ومبشراً برسول يأتي من بعدي اسمه أحمد } ، والألف فيه للمبالغة في الحمد ، وله وجهان : أحدهما : أنه مبالغة من الفاعل ، أي الأنبياء كلهم حمادون لله عز وجل ، وهو أكثر حمداً لله من غيره ، والثاني : أنه مبالغة من المفعول ، أي الأنبياء كلهم محمودون لما فيهم من الخصال الحميدة وهو أكثرهم مناقب وأجمع للفضائل والمحاسن التي يحمد بها ، { فلما جاءهم بالبينات قالوا هذا سحر مبين } .
ثم ذكر - سبحانه - جانبا مما قاله عيسى - عليه السلام - لبنى إسرائيل ، فقال - تعالى - : { وَإِذْ قَالَ عِيسَى . . . } .
أي : واذكر - أيضا - أيها الرسول الكريم - وذكِّر الناس ليعتبروا ويتعظوا ، وقت أن قال عيسى ابن مريم ، مخاطبا من أرسله الله إليهم بقوله : { يابني إِسْرَائِيلَ إِنِّي رَسُولُ الله إِلَيْكُم } لكى أخرجكم من ظلمات الكفر والشرك ، إلى نور الإيمان والتوحيد .
ولم يقل لهم يا قوم - كما قال لهم - موسى - عليه السلام - بل قال : { يابني إِسْرَائِيلَ } لأنه لا أب له فيهم ، وإن كانت أمه منهم ، والأنساب إنما تكون من جهة الآباء ، لا من جهة الأمهات .
وفى قوله : { إِنِّي رَسُولُ الله إِلَيْكُم } إخبار صريح منه لهم ، بأنه ليس إلها وليس ابن إله - كما زعموا وإنما هو عبد الله ورسوله .
وقوله { مُّصَدِّقاً لِّمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التوراة } جملة حالية لإثبات حقيقة رسالته ، وحضهم على تأييده وتصديقه والإيمان به .
أي : إنى رسول الله - تعالى - إليكم بالكتاب الذى أنزله الله علىَّ وهو الإنجيل ، حال كونى مصدقا للكتاب الذى أنزله الله - تعالى - على نبيه موسى - عليه السلام - وهذا الكتاب هو التوراة ، وما دام الأمر كذلك فمن حقى عليكم ، أن تؤمنوا به ، وأن تتبعونى ، لأنى لم آتكم بشىء يخالف التوراة ، بل هى مشتملة على ما يدل على صدقى ، فكيف تعرضون عن دعوتى .
وقوله : { مُّصَدِّقاً لِّمَا بَيْنَ يَدَيَّ } فيه نوع مجاز ، لأن ما بين يدى الإنسان هو ما أمامه ، فسمى ما مضى كذلك لغاية ظهوره واشتهاره . واللام فى " لما " لتقوية العامل ، نحوه قوله - تعالى - { فَعَّالٌ لِّمَا يُرِيدُ } وقوله - سبحاه - : { وَمُبَشِّراً بِرَسُولٍ يَأْتِي مِن بَعْدِي اسمه أَحْمَدُ } معطوف على ما قبله .
والتبشير : الإخبار بما يسر النفس ويبهجها ، بحيث يظهر أثر ذلك على بشرة الإنسان ، وكان إخباره بأن نبيا سيأتى من بعده اسمه تبشيرا ، لأنه سيأتيهم بما يسعدهم ، ويرفع الأغلال عنهم ، كما قال - تعالى - : { وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ والأغلال التي كَانَتْ عَلَيْهِمْ } ولفظ { أَحْمَدُ } اسم من أسماء نبينا - صلى الله عليه وسلم - وهو علم منقول من الصفة ، وهذه الصفة يصح أن تكون مبالغة من الفاعل . فيكون معناها : أنه - صلى الله عليه وسلم - أكثر حمدا لله - تعالى - من غيره .
ويصح أن تكون من المفعول ، فيكون معناها أنه يحمده الناس لأجل ما فيه من خصال الخير ، أكثر مما يحمدوه غيره .
قال الآلوسى : وهذا الاسم الجليل ، علم لنبينا محمد - صلى الله عليه وسلم - وصح من رواية مالك ، والبخارى ، ومسلم . . . عن جبير بن مطعم قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : " إن لى أسماء ؛ أنا محمد ، وأنا أحمد ، وأنا الحاشر الذى يحشر الناس على قدمى ، وأنا الماحى الذى يمحو الله بى الكفر ، وأنا العاقب " .
وبشارة عيسى - عليه السلام - بنبينا محمد - صلى الله عليه وسلم - ثابتة ثبوتا قطعيا بهذه الآية الكريمة ، وإذا كانت بعض الأناجيل قد خلت من هذه البشارة ، فبسبب ما اعتراها من تحريف وتبديل على أيدى علماء أهل الكتاب .
ومع ذلك فقد وجدت هذه البشارة فى بعض الأناجيل ، كإنجيل يوحنا ، فى الباب الرابع عشر ، قال الإمام الرازى : فى الإصحاح الرابع عشر من إنجيل يوحنا هكذا : وأنا أطلب لكم إلى أبى ، حتى يمنحكم ويعطيكم الفارقليط حتى يكون معكم إلى الأبد .
والفارقليط هو روح الحق واليقين .
ومنهم من يرى أن لفظ فارقليط معناه باليونانية : أحمد أو محمد .
ومن أصرح الأدلة على أن صفات الرسول - صلى الله عليه وسلم - موجودة فى التوراة والإنجيل ، قوله - تعالى - { الذين يَتَّبِعُونَ الرسول النبي الأمي الذي يَجِدُونَهُ مَكْتُوباً عِندَهُمْ فِي التوراة والإنجيل } وقوله - سبحانه - : { فَلَمَّا جَاءَهُم بالبينات قَالُواْ هذا سِحْرٌ مُّبِينٌ } بيان لموقف بنى إسرائيل الجحودى من أنبياء الله - تعالى - .
والضمير فى قوله : { جَاءَهُم } يرى بعضهم أنه يعود لعيسى ، ويرى آخرون أنه يعود لمحمد - صلى الله عليه وسلم - أى : فلما جاء عيسى - عليه السلام - أو محمد - صلى الله عليه وسلم - إلى بنى إسرئيل بالآيات البينات الدالة على صدقه ، قالوا على سبيل العناد والجحود : هذا سحر واضح فى بابه . لا يخفى على أى ناظر أو متأمل .
ومن المعروف أن بنى إسرائيل قد كذبوا عيسى - عليه السلام - وكفروابه ، ونسبوا إلى أمه الطاهرة ، ما هى بريئة منه ، ومنزهة عنه .
كما كذبوا محمدا - صلى الله عليه وسلم - وكفروا به ، وصدق الله إذ يقول : { فَلَمَّا جَآءَهُمْ مَّا عَرَفُواْ كَفَرُواْ بِهِ فَلَعْنَةُ الله عَلَى الكافرين } ووصفوا ما جاء به بأنه سحر مبين ، على سبيل المبالغة فكأنهم يقولون إن ما جاء به هو السحر بعينه ، مع أنهم يعرفون أن ما جاء به هو الحق كما يعرفون أبناءهم ، ولكن ما جلبوا عليه من جحود وعناد ، حال بينهم وبين النطق بكلمة الحق .
المعنى : «واذكر يا محمد إذ قال عيسى » ، وهذا مثل آخر ضربه الله تعالى لكفار قريش ، وحكي عن موسى أنه قال : { يا قوم } [ الصف : 5 ] وعن عيسى أنه قال : { يا بني إسرائيل } من حيث لم يكن له فيهم أب ، و { مصدقاً } ، حال مؤكدة ، { ومبشراً } عطف عليه ، وقوله تعالى : { يأتي من بعدي } ، وقوله : { اسمه أحمد } جملتان كل واحدة منهما في موضع خفض على الصفة لرسول ، و { أحمد } فعل سمي به ، ويحتمل أن يكون أفعل كأسود ، وهو في هذه الآية الكلمة لا الشخص ، وليست على حد قولك جاءنا أحمد لأنك ها هنا أوقعت الاسم على مسماه ، وفي الآية إنما أراد : اسمه هذه الكلمة ، وذكر أبو علي هذا الغرض ومنه ينفك إعراب قوله تعالى { يقال له إبراهيم }{[11076]} [ الأنبياء : 60 ] ، وقرأ ابن كثير ونافع وأبو عمرو وعاصم في رواية أبي بكر : «بعديَ » بفتح الياء ، وقوله تعالى : { فلما جاءهم بالبينات } ، الآية يحتمل أن يريد { عيسى } ، وتكون الآية وما بعدها تمثيلاً بأولئك لهؤلاء المعاصرين لمحمد صلى الله عليه وسلم ، ويحتمل أن يكون التمثيل قد فرغ عند قوله : { اسمه أحمد } ، ثم خرج إلى ذكر { أحمد } لما تطرق ذكره ، فقال مخاطبة للمؤمنين ، { فلما جاء } أحمد هؤلاء الكفار { قالوا هذا سحر مبين } ، و «البينات » هي الآيات والعلامات ، وقرأ جمهور الناس : «هذا ساحر » إشارة إلى ما جاء به ، وقرأ ابن مسعود وطلحة والأعمش وابن وثاب : «هذا سحر » إشارة إليه بنفسه ، وقوله تعالى : { ومن أظلم } تعجيب وتقرير أي لا أحد أظلم منه ، و «افتراء الكذب » هو قولهم : { هذا سحر } ، وما جرى مجرى هذا من الأقوال التي هي اختلاق وبغير دليل .