قوله تعالى : { فاستجبنا له فكشفنا ما به من ضر }
وذلك أنه قال له : اركض برجلك فركض برجله فنبعت عين ماء بارد فأمره أن يغتسل منها ففعل فذهب كل داء كان بظاهره ، ثم مشى أربعين خطوة فأمره أن يضرب برجله الأرض مرة أخرى ففعل فنبعت عين ماء بارد ، فأمره فشرب منها فذهب كل داء كان بباطنه كأصح ما يكون من الرجال وأجملهم . { وآتيناه أهله ومثلهم معهم } واختلفوا في ذلك ، فقال ابن مسعود و قتادة ، وابن عباس ، و الحسن ، وأكثر المفسرين : رد الله عز وجل إليه أهله وأولاده بأعيانهم أحياهم الله له وأعطاهم مثلهم معهم ، وهو ظاهر القرآن . قال الحسن : آتاه الله المثل من نسل ماله الذي رد الله إليه وأهله يدل عليه ما روي عن الضحاك عن ابن عباس أن الله عز وجل رد إلى المرأة شبابها فولدت له ستة وعشرين ذكراً . قال وهب كان له سبع بنات وثلاثة بنين . وقال ابن يسار : كان له سبع بنين وسبع بنات . وروي عن أنس يرفعه : أنه كان له أندران أندر للقمح وأندر للشعير ، فبعث الله عز وجل سحابتين فأفرغت إحداهما على أندر القمح الذهب وأفرغت الأخرى على أندر الشعير الورق حتى فاض . وروي أن الله تعالى بعث إليه ملكاً وقال له : إن ربك يقرئك السلام بصبرك فأخرج على أندرك ، فخرج إليه فأرسل الله عليه جراداً من ذهب فطارت واحدة فاتبعها وردها إلى أندره ، فقال له الملك : أما يكفيك ما في أندرك ؟ فقال هذه بركة من بركات ربي ولا أشبع من بركته .
أخبرنا حسان بن سعيد المنيعي ، أنا أبو طاهر محمد بن محمد بن محمش الزيادي ، أنا محمد بن الحسين القطان ، أنا أحمد بن يوسف السلمي ، أنا عبد الرزاق ، أنا معمر عن همام بن منبه ، قال : أنا أبو هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " بينا أيوب يغتسل عرياناً خر عليه جراد من ذهب فجعل أيوب يحثي في ثوبه ، فناداه ربه يا أيوب : ألم أكن أغنيتك عما ترى ؟ قال : بلى ، وعزتك ، ولكن لا غنى لي عن بركتك " . وقال قوم : آتى الله أيوب في الدنيا مثل أهله الذين هلكوا فأما الذين هلكوا فإنهم لم يردوا عليه في الدنيا . قال عكرمة : قيل لأيوب : إن أهلك لك في الآخرة فإن شئت عجلناهم لك في الدنيا وإن شئت كانوا لك في الآخرة ، وآتيناك مثلهم في الدنيا فقال : يكونون لي في الآخرة ، وأوتى مثلهم في الدنيا ، فعلى هذا يكون معنى الآية : وآتيناه أهله في الآخرة ومثلهم معهم في الدنيا وأراد بالأهل الأولاد { رحمة من عندنا } أي نعمة من عندنا ، { وذكرى للعابدين } أي : عظة وعبرة لهم .
وبعد أن دعا أيوب ربه - تعالى - بهذه الثقة ، وبهذا الأدب والإخلاص ، كانت الإجابة المتمثلة فى قوله - تعالى - : { فاستجبنا لَهُ } أى دعاءه وتضرعه { فَكَشَفْنَا مَا بِهِ مِن ضُرٍّ } أى : فأنزلنا ما نزل به من بلاء فى جسده ، وجعلناه سليما معافى . بأن أمرناه أن يضرب برجله الأرض ففعل ، فنبعت له عين فاغتسل منها ، فزال عن بدنه كل مرض أصابه بإذن الله - تعالى - .
قال - سبحانه - : { واذكر عَبْدَنَآ أَيُّوبَ إِذْ نادى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الشيطان بِنُصْبٍ وَعَذَابٍ اركض بِرِجْلِكَ هذا مُغْتَسَلٌ بَارِدٌ وَشَرَابٌ . . } وقال - تعالى - : { وَآتَيْنَاهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُمْ مَّعَهُمْ } أى : لم نخيب رجاء أيوب حين دعانا ، بل استجبنا له دعاءه ، بفضلنا وكرمنا ، فأزلنا عنه المرض الذى نزل به ، ولم نكتف بهذا - أيضا - بل عوضناه عمن فقده من أولاده ، ورزقناه مثلهم معهم .
قال الآلوسى ما ملخصه : " قوله : { وَآتَيْنَاهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُمْ مَّعَهُمْ } أخرج ابن مردويه وابن عساكر عن ابن عباس قال : سالت النبى - صلى الله عليه وسلم - عن قوله : { وَآتَيْنَاهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُمْ مَّعَهُمْ } فقال : " رد الله - تعالى - امرأته إليه ، وزاد فى شبابها ، حتى ولدت له ستا وعشرين ذكرا " .
فالمعنى على هذا : آتيناه فى الدنيا مثل أهله عددا مع زيادة مثل آخر .
وعن قتادة : إن الله أحيا له أولاده الذين هلكوا فى بلائه ، وأوتى مثلهم فى الدنيا .
ثم ختم - سبحانه - الآية الكريمة بقوله - تعالى - : { رَحْمَةً مِّنْ عِندِنَا وذكرى لِلْعَابِدِينَ } أى : أجبنا له دعاءه ، وفعلنا معه ما فعلناه من ألوان الخيرات ، من أجل رحمتنا به ، ومن أجل أن يكون ما فعلناه معه عبرة وعظة وذكر لغيره من العابدين حتى يقتدوا به فى صبره على البلاء ، وفى المداومة على شكرنا فى السراء والضراء .
وخص - سبحانه - العابدين بالذكرى ، لأنهم أكثر الناس بلاء وامتحانا . ففى الحديث الشريف : " أشد الناس بلاء الأنبياء ، ثم الصالحون ، ثم الأمثل فالأمثل " .
وفى حديث آخر : " يبتلى الرجل على قدر دينه ، فإن كان فى دينه صلابة زيد فى بلائه " .
وقد كان أيوب آية فى الصبر ، وبه يضرب المثل فى ذلك .
هذا ، وقصة أيوب - عليه السلام - ستأتى بصورة أكثر تفصيلا فى سورة " ص " ، وقد تركنا هنا أقوالا عن كيفية مرضه ، وعم مدة هذا المرض . . . نظرا لضعفها ، ومنافاتها لعصمة الأنبياء - عليهم الصلاة والسلام - من الأمراض المنفرة .
لكون ثناء أيوب تعريضاً بالدعاء فرع عليه قوله تعالى : { فاستجبنا له فكشفنا ما به من ضر } . والسين والتاء للمبالغة في الإجابة ، أي استجبنا دعوته العُرْضية بإثر كلامه وكشفنا ما به من ضرّ ، إشارة إلى سرعة كشف الضرّ عنه ، والتعقيب في كل شيء بحَسَبه ، وهو ما تقتضيه العادة في البُرء وحصوللِ الرزق وولادة الأولاد .
والكشف : مستعمل في الإزالة السريعة . شبهت إزالة الأمراض والأضرار المتمكنة التي يعتاد أنها لا تزول إلا بطول بإزالة الغطاء عن الشيء في السرعة .
والموصول في قوله تعالى : { ما به من ضر } مقصود منه الإبهام . ثم تفسيره ب ( مِن ) البيانية لقصد تهويل ذلك الضرّ لكثرة أنواعه بحيث يطول عدّها . ومثله قوله تعالى : { وما بكم من نعمة فمن الله } [ النحل : 53 ] إشارة إلى تكثيرها . ألا ترى إلى مقابلته ضدها بقوله تعالى : { ثم إذا مسكم الضر فإليه تجأرون } [ النحل : 53 ] ، لإفادة أنهم يهرعون إلى الله في أقل ضرّ وينسون شكره على عظيم النعم ، أي كشفنا ما حلّ به من ضرّ في جسده وماله فأعيدت صحته وثروته .
والإيتاء : الإعطاء ، أي أعطيناه أهله ، وأهل الرجل أهل بيته وقرابته . وفهم من تعريف الأهل بالإضافة أن الإيتاء إرجاع ما سلب منه من أهل ، يعني بموت أولاده وبناته ، وهو على تقدير مضاف بيّن من السياق ، أي مثل أهله بأن رُزق أولاداً بعدد ما فَقَد ، وزاده مثلهم فيكون قد رزق أربعة عشر ابناً وست بنات من زوجه التي كانت بلغت سنّ العقم .
وانتصب { رحمةً } على المفعول لأجله . ووصفت الرحمة بأنها من عند الله تنويهاً بشأنها بذكر العندية الدالة على القرب المراد به التفضيل . والمراد رحمة بأيوب إذ قال { وأنت أرحم الراحمين } .
والذكرى : التذكير بما هو مظنة أن ينسى أو يغفل عنه . وهو معطوف { على رحمة } فهو مفعول لأجله ، أي وتنبيهاً للعابدين بأن الله لا يترك عنايته بهم .