الهداية إلى بلوغ النهاية لمكي بن ابي طالب - مكي ابن أبي طالب  
{فَٱسۡتَجَبۡنَا لَهُۥ فَكَشَفۡنَا مَا بِهِۦ مِن ضُرّٖۖ وَءَاتَيۡنَٰهُ أَهۡلَهُۥ وَمِثۡلَهُم مَّعَهُمۡ رَحۡمَةٗ مِّنۡ عِندِنَا وَذِكۡرَىٰ لِلۡعَٰبِدِينَ} (84)

ثم قال : { رحمة من عندنا وذكرى للعابدين }[ 83 ] .

أي : ورحمناه رحمة ليتذكروا بذلك ويتعظوا .

وروى أنس بن مالك رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " مكث أيوب به بلاؤه ثمانية عشر سنة . فرفضه القريب والبعيد إلا رجلين من إخوانه كانا يغدوان ويروحان عليه ، فقال أحدهما لصاحبه ذات يوم : تعلم ، والله لقد أذنب أيوب ذنبا ما أذنبه أحد من العالمين ، له ثمان عشر سنة بهذا الضر ، لم يرحمه الله فيكشف ما به ، فأخبر الذي يقول أيوب بقول صاحبه بحضرتهما ، فقال أيوب : ما أدري ما تقولان ، غير أن الله يعلم إن كنت أمر بالرجلين يتنازعان فيذكران الله ويحلفان ، فأرجع إلى بيتي فأكفر عنهما كراهية أن يذكر الله إلا في حق{[46218]} .

وروي عن الليث أنه قال : كان الذي أصاب أيوب أنه دخل مع أهل قريته على ملكهم جبار من الجبابرة في بعض ما كان من ظلمة للناس ، فكلموه ، فأبلغوا في كلامهم ، فرفق أيوب في كلامه مخافة منه على زرعه ، فقال الله له : يا أيوب أتقيت عبدا من عبيدي من أجل زرعك ، فنزل به ما نزل ذكره ابن وهب .

وعن الليث{[46219]} أنه قال : بلغني أنه قيل لأيوب صلوات الله عليه : مالك لا تسأل الله العافية ؟ قال : إني لأستحي من الله أن أسأله العافية حتى يمر بي من البلاء ما مر بي من الرخاء .

وقيل : إن الذي كان حدث به داء يقال له الأكلة ، فكان جسمه يتآكل ويتساقط حتى شغل عن القيام بماله ، فذهب ماله وزال جميع ملكه ، وحتى أن قومه أخرجوه من جوارهم ، فصار في طريق من أطراف{[46220]} البلاد بحيث لا يجد فيه غذاء إلا ما يجده الفقراء الزمناء ، وهو صابر مع ذلك ، يحتسب ، عارف بعدل الله في ذلك أنه لم يختر له ، ولا فعل به إلا ما حسن نظره في باب الدين أو أنه فعل ذلك به ليعوضه من نعيم الجنة ما هو أنفع له وأصلح مما سلبه من ماله وصحة جسمه ، فكان إبليس اللعين يؤذيه بالوسوسة ، ويؤذي أهله ذلك ، ويوسوس إلى جيرانه في إخراجه عنهم ، وإبعاده منهم . فعند ذلك دعا الله في كشف ما به ، فاستجاب له لا إله إلا هو ، فكشف ضره ، ورزقه من المال والأهل أكثر مما كان قبل ذلك .

قوله : { وذكرى للعابدين } قيل : معناه : ليتعظ العابدون فيما يصيبهم من المحن بأيوب ، فيصبروا ويحتسبوا ذلك عند الله ، كما فعل أيوب . ولا يجوز لأحد أن يتأول في قوله تعالى : { أني مسني الشيطان بنصب وعذاب } فهو الذي أمرضه ، وألقى الضر في بدنه ، ولا يكون ذلك إلا من عند الله وبأمره وإرادته يفعل ما يشاء ، ويبتلى عباده بما يشاء ، ليكفر عنهم سيئاتهم ، وليثيبهم بما أصابهم . ففي كل قدر قدره الله على العبد المؤمن خير له ، إما في عاجل أمره أو آجله ، فعلى هذا يعبد الله من فهم عنه .

وقيل{[46221]} : إن الذي أصابه إبليس ، إنما هو ما وسوس إليه به وإلى أهله ، فكان ذلك الذي شكا به إلى الله .


[46218]:انظر: الدر المنثور 4/330 وتفسير القرطبي 11/325 وفتح القدير 3/423.
[46219]:ذكر القرطبي في تفسيره 3/424 دون نسبته لأحد، وذكره السيوطي في الدر المنثور 4/327 من طريق ابن عساكر عن الليث بن سعد.
[46220]:ز: أطرافه. والسياق يقتضي حذف الهاء.
[46221]:انظر: تفسير القرطبي 11/324.