41- واعلموا - أيها المسلمون - أن ما ظفرتم به من مال الكفار فحكمه : أن يقسم خمسة أخماس ، خُمس منها لله وللرسول ولقرابة النبي واليتامى : وهم أطفال المسلمين الذين مات آباؤهم وهم فقراء ، والمساكين ، وهم ذوو الحاجة من المسلمين ، وابن السبيل : وهو المنقطع في سفره المباح . والمخصص من خُمس الغنيمة لله وللرسول يرصد للمصالح العامة التي يقررها الرسول في حياته ، والإمام بعد وفاته ، وباقي الخُمس يصرف للمذكورين . أما الأخماس الأربعة الباقية من الغنيمة - وسكتت عنها الآية - فهي للمقاتلين ، فاعلموا ذلك ، واعملوا به إن كنتم آمنتم بالله حقاً ، وآمنتم بما أنزل على عبدنا محمد من آيات التثبيت والمدد ، يوم الفرقان الذي فرَّقنا فيه بين الكفر والإيمان ، وهو اليوم الذي التقى فيه جمعكم وجمع الكافرين ببدر ، والله عظيم القدرة على كل شيء ، وقد نصر المؤمنين مع قلتهم ، وخذل الكافرين مع كثرتهم .
قوله تعالى : { واعلموا أنما غنمتم من شيء فأن لله خمسه } الآية . الغنيمة والفيء اسمان لما يصيبه المسلمون من أموال الكفار ، فذهب جماعة إلى أنهما واحد ، وذهب قوم إلى أنهما يختلفان ، فالغنيمة : ما أصابه المسلمون منهم عنوة بقتال ، والفيء : ما كان عن صلح بغير قتال ، فذكر الله عز وجل في هذه الآية حكم الغنيمة فقال : { فأن لله خمسه وللرسول } . فذهب أكثر المفسرين والفقهاء إلى أن قوله : { لله } افتتاح كلام على سبيل التبرك ، وإضافة هذا المال إلى نفسه لشرفه ، وليس المراد منه أن سهماً من الغنيمة لله منفرداً ، فإن الدنيا والآخرة كلها لله عز وجل ، وهو قول الحسن ، وقتادة وعطاء ، وإبراهيم ، والشعبي ، قالوا : سهم الله وسهم الرسول واحد ، والغنيمة تقسم خمسة أخماس ، أربعة أخماسها لمن قاتل عليها ، والخمس لخمسة أصناف ، كم ذكر الله عز وجل .
قوله تعالى : { وللرسول ولذي القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل } . قال بعضهم : يقسم الخمس على ستة أسهم ، وهو قول أبي العالية ، سهم لله فيصرف إلى الكعبة . والأول أصح ، أن خمس الغنيمة يقسم على خمسة أسهم ، سهم كان لرسول الله صلى الله عليه وسلم في حياته ، واليوم هو لمصالح المسلمين وما فيه قوة الإسلام ، وهو قول الشافعي رحمه الله . وروى الأعمش عن إبراهيم قال : كان أبو بكر وعمر رضي الله عنهما يجعلان سهم النبي صلى الله عليه وسلم في الكراع والسلاح ، وقال قتادة : هو للخليفة بعده . وقال بعضهم : سهم رسول الله صلى الله عليه وسلم مردود في الخمس ، والخمس لأربعة أصناف . قوله : { ولذي القربى } أراد أن سهماً من الخمس لذوي القربى ، وهم أقارب النبي صلى الله عليه وسلم ، واختلفوا فيهم ، فقال قوم : جميع قريش . وقال قوم : هم الذين لا تحل لهم الصدقة ، وقال مجاهد وعلي بن الحسين : هم بنو هاشم ، وقال الشافعي : هم بنو هاشم ، وبنو المطلب ، وليس لبني عبد شمس ولا لبني نوفل منه شيء ، وإن كانوا إخوة ، والدليل عليه ما أخبرنا عبد الوهاب بن محمد الخطيب ، أنا عبد العزيز بن أحمد الخلال ، ثنا أبو العباس الأصم ، أنا الربيع ، أنبأنا الشافعي ، أنبأنا الثقة ، عن ابن شهاب ، عن ابن المسيب ، عن جبير بن مطعم ، عن أبيه قال : " قسم رسول الله صلى الله عليه وسلم سهم ذوي القربى بين بني هاشم وبني المطلب ، ولم يعط منه أحدا من بني عبد شمس ، ولا بني نوفل شيئا .
وأخبرنا عبد الوهاب بن محمد الخطيب ، أنا عبد العزيز بن أحمد الخلال ، ثنا أبو العباس الأصم ، أنا الربيع ، أنا الشافعي ، أنا مطرف بن مازن ، عن معمر بن راشد ، عن ابن شهاب ، أخبرني محمد بن جبير بن مطعم عن أبيه قال : ( لما قسم رسول الله صلى الله عليه وسلم سهم ذوي القربى بين بني هاشم وبني عبد المطلب أتيته أنا وعثمان بن عفان فقلنا : يا رسول الله ، هؤلاء إخواننا من بني هاشم لا ننكر فضلهم لمكانك الذي وضعك الله منهم ، أرأيت إخواننا من بني المطلب أعطيتهم وتركتنا أو منعتنا ، وإنما قرابتنا وقرابتهم واحدة ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : إنما بنو هاشم وبنو المطلب شيء واحد هكذا ، وشبك بين أصابعه ) .
واختلف أهل العلم في سهم ذوي القربى هل هو ثابت اليوم ؟ . فذهب أكثرهم إلى أنه ثابت ، وهو قول مالك ، والشافعي ، وذهب أصحاب الرأي إلى أنه غير ثابت ، وقالوا : سهم رسول الله صلى الله عليه وسلم وسهم ذوي القربى مردودان في الخمس ، وخمس الغنيمة لثلاثة أصناف : اليتامى ، والمساكين ، وابن السبيل . وقال بعضهم : يعطى للفقراء منهم دون الأغنياء ، والكتاب والسنة يدلان على ثبوته ، والخلفاء بعد الرسول صلى الله عليه وسلم كانوا يعطونه ، ولا يفضل فقير على غني ، لأن النبي صلى الله عليه وسلم والخلفاء بعده كانوا يعطون العباس بن عبد المطلب مع كثرة ماله ، فألحقه الشافعي بالميراث الذي يستحق باسم القرابة ، غير أنه يعطى القريب والبعيد ، وقال : يفضل الذكر على الأنثى فيعطى الرجل سهمين والأنثى سهماً واحداً . قوله : { واليتامى } وهو جمع اليتيم ، واليتيم الذي له سهم في الخمس هو الصغير المسلم ، الذي لا أب له ، إذا كان فقيراً ، و{ المساكين } هم أهل الفاقة والحاجة من المسلمين ، { وابن السبيل } هو المسافر البعيد عن ماله ، فهذا مصرف خمس الغنيمة ويقسم أربعة أخماس الغنيمة بين الغانمين الذين شهدوا الوقعة ، للفارس منهم ثلاثة أسهم ، وللراجل سهم واحد ، لما : أخبرنا أبو صالح أحمد بن عبد الملك المؤذن ، أنا عبد الله بن يوسف ، أنا أبو سعيد بن الأعرابي ، ثنا سعدان بن نصر ، ثنا أبو معاوية ، عن عبيد الله بن عمر عن نافع ، عن ابن عمر ، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أسهم لرجل ولفرسه ثلاثة أسهم : سهماً له ، وسهمين لفرسه .
وهذا قول أكثر أهل العلم ، وإليه ذهب الثوري ، والأوزاعي ، ومالك ، وابن المبارك ، والشافعي ، وأحمد ، وإسحاق . وقال أبو حنيفة رضي الله عنه : للفارس سهمان ، وللراجل سهم واحد ، ويرضخ للعبيد والنسوان والصبيان إذا حضروا القتال ، ويقسم العقار الذي استولى عليه المسلمون كالمنقول ، وعند أبي حنيفة : يتخير الإمام في العقار بين أن يقسمه بينهم ، وبين أن يجعله وقفاً على المصالح ، وظاهر الآية لا يفرق بين العقار و المنقول ، ومن قتل مشركاً في القتال يستحق سلبه من رأس الغنيمة ، لما روي عن أبي قتادة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال يوم حنين : ( من قتل قتيلاً له عليه بينة له سلبه ) . والسلب : كل ما يكون من المقتول من ملبوس وسلاح ، وفرسه الذي هو راكبه . ويجوز للإمام أن ينفل بعض الجيش من الغنيمة ، لزيادة عناء وبلاء يكون منهم في الحرب . يخصه به من بين سائر الجيش ، ويجعله أسوة الجماعة في سهمان الغنيمة .
أخبرنا عبد الواحد بن أحمد المليحي ، أنا أحمد بن عبد الله النعيمي ، أنا محمد بن يوسف ، ثنا محمد بن إسماعيل ، ثنا يحيى بن بكير ، ثنا الليث ، عن عقيل ، عن ابن شهاب ، عن سالم ، عن ابن عمر رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان ينفل بعض من يبعث من السرايا لأنفسهم خاصة ، سوى قسم عامة الجيش . وروي عن حبيب بن مسلمة الفهري ، قال : شهدت النبي صلى الله عليه وسلم نفل الربع في البدأة ، والثلث في الرجعة . واختلفوا في النفل من أين يعطى ؟ فقال قوم : من خمس الخمس ، منهم النبي صلى الله عليه وسلم ، وهو قول سعيد بن المسيب ، وبه قال الشافعي ، وهذا معنى قول النبي صلى الله عليه وسلم : ( مالي مما أفاء الله عليكم إلا الخمس والخمس مردود فيكم ) . وقال قوم : هو من الأربعة الأخماس بعد إفراز الخمس كسهام الغزاة ، وهو قول أحمد وإسحاق . وذهب بعضهم : إلى أن النفل من رأس الغنيمة قبل الخمس كالسلب للقاتل ، وأما الفيء ، وهو ما أصابه المسلمين من أموال الكفار بغير إيجاف خيل ، ولا ركاب ، بأن صالحهم على مال يؤدون ، ومال الجزية ، وما يؤخذ من أموالهم إذا دخلوا دار الإسلام للتجارة ، أو يموت واحد منهم في دار الإسلام ، ولا وارث له ، فهذا كله في فيء . ومال الفيء كان خالصاً لرسول الله صلى الله عليه وسلم في حياته ، قال عمر رضي الله عنه : إن الله قد خص رسول الله صلى الله عليه وسلم في هذا الفيء بشيء لم يعطه أحداً غيره ، ثم قرأ : { ما أفاء الله على رسوله منهم } إلى قوله : { قدير } وكانت هذه خالصة لرسول الله صلى الله عليه وسلم ، كان ينفق على أهله وعياله نفقة سنتهم من هذا المال ، ثم يأخذ ما بقي فيجعله مجعل مال الله عز وجل ، واختلف أهل العلم في مصرف الفيء بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقال قوم : هو للأئمة بعده . وللشافعي فيه قولان : أحدهما : للمقاتلة الذين أثبتت أساميهم في ديوان الجهاد ، لأنهم القائمون مقام النبي صلى الله عليه وسلم في إرهاب العدو . والقول الثاني : أنه لمصالح المسلمين ، ويبدأ بالمقاتلة فيعطون منه كفايتهم ، ثم بالأهم فالأهم من المصالح ، واختلف أهل العلم في تخميس الفيء ، فذهب الشافعي إلى أنه يخمس ، فخمسه لأهل الغنيمة ، على خمسة أسهم ، وأربعة أخماسه للمقاتلة وللمصالح . وذهب الأكثرون إلى أن الفيء لا يخمس ، بل مصرف جميعه واحد ، ولجميع المسلمين فيه حق .
أخبرنا أبو سعيد عبد الله بن أحمد الطاهري ، أنا جدي عبد الصمد بن عبد الرحمن البزار ، أنا محمد بن زكريا العذافري ، أنا إسحاق الدبري ، ثنا عبد الرزاق ، ثنا معمر ، عن الزهري ، عن مالك بن أوس بن الحدثان ، أنه سمع عمر بن الخطاب رضي الله عنه يقول : ( ما على وجه الأرض مسلم إلا له في هذا الفيء حق ، إلا ما ملكت أيمانكم ) .
وأخبرنا أبو سعيد الطاهر ، أنبأنا جدي عبد الصمد بن عبد الرحمن البزار ، أنبأنا محمد بن زكريا العذافري ، أنبأنا أبو إسحاق الدبري ، ثنا عبد الرزاق ، أنا معمر ، عن أيوب ، عن عكرمة بن خالد ، عن مالك بن أوس بن الحدثان قال : قرأ عمر بن الخطاب رضي الله عنه { إنما الصدقات للفقراء والمساكين } حتى بلغ { عليم حكيم } [ التوبة :60 ] فقال : هذه لهؤلاء ، ثم قرأ : { واعلموا أنما غنمتم من شيء فأن لله خمسه } حتى بلغ { وابن السبيل } ، ثم قال : هذه لهؤلاء ، ثم قرأ : { ما أفاء الله على رسوله من أهل القرى } حتى بلغ { للفقراء } والذين جاءوا من بعدهم ثم قال : هذه استوعبت المسلمين عامة ، فلئن عشت ، فليأتين الراعي وهو بسر وحمير فنصيبه منها ، لم يعرق فيها جبينه .
قوله تعالى : { إن كنتم آمنتم بالله } ، قيل : أراد اعلموا أنما غنمتم من شيء فأن لله خمسه وللرسول يأمر فيه بما يريد ، فاقبلوه إن كنتم آمنتم بالله .
قوله تعالى : { وما أنزلنا على عبدنا } ، أي : إن كنتم آمنتم بالله وبما أنزلنا على عبدنا ، يعني : قوله { يسألونك عن الأنفال }
قوله تعالى : { يوم الفرقان } ، يعني يوم بدر ، فرق الله بين الحق والباطل وهو { يوم التقى الجمعان } ، حزب الله وحزب الشيطان ، وكان يوم الجمعة لسبع عشرة مضت من رمضان .
قوله تعالى : { والله على كل شيء قدير } ، على نصركم مع قلتكم وكثرتهم .
وبعد هذا الحديث المتنوع عن مكر الكافرين وعن دعاويهم الكاذبة ، وعن وجوب مقاتلتهم إذا ما استمروا في طغيانهم وعدوانهم . . بعد كل ذلك بين - سبحانه - للمؤمنين كيفية قسمة الغنائم التي كثيرا ما تترب على قتال أعدائهم ، فقال - تعالى - : { واعلموا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ . . . } .
وقوله : { غَنِمْتُمْ } من الغنم بمعنى الفوز والربح يقال : غنم غنما وغنيمة إذا ظفر بالشئ قال القرطبى ما ملخصه : الغنيمة في اللغة ما يناله الرجل أو الجماعة بسعى ، ومن ذلك قول الشاعر :
وقد طوفت في الآفاق حتى . . . رضيت من الغنيمة بالإِياب
واعلم أن الاتفاق حاصل على أن المراد بقوله - تعالى - : { غَنِمْتُمْ مِّن شَيْءٍ } مال الكفار إذا ظفر به المسلمون على وجه الغلبة والقهر .
وسمى الشرع الواصل من الكافر إلينا من الأموال باسمين : غنيمة وفيئا . فالشئ الذي يناله المسلمون من عدوهم بالسعى وإيجاف الخيل والركاب يسمى غنيمة . ولزم هذا الاسم هذا المعنى حتى صار عرفا .
والفئ مأخوذ من فاء يفئ إذا رجع ، وهو كل ما دخل على المسلمين من غير حرب ولا إيجاف . كخراج الأرضين ، وزية الجماجم .
والمعنى : الاجمالى للآية الكريمة : { واعلموا } - أيها المسلمون - { أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِّن شَيْءٍ } أى : ما أخذتموه من الكفار قهراً { فَأَنَّ للَّهِ } الذي منه - سبحانه - النصر المتفرع عليه الغنيمة { خُمُسَهُ } أي خمس ما غنمتموه شكرا له على هذا النعمة { وَلِلرَّسُولِ } الذي هو سبب في هدايتكم { وَلِذِي القربى } أى : ولأصحاب القرابة من رسول الله - صلى الله عليه وسلم والمراد بهم على الراجح بن هاشم وبنو المطلب .
{ واليتامى } وهم أطفال المسلمين الذين مات آباؤهم قبل أن يبلغوا .
{ والمساكين } وهم أهل الفاقة والحاجة من المسلمين .
{ وابن السبيل } وهو المسافر الذي نفد ماله وهو في الطريق قبل أن يصل إلى بلده .
وقوله { واعلموا } معطوف على قوله قبل ذلك { وَقَاتِلُوهُمْ حتى لاَ تَكُونَ فِتْنَةٌ . . . } الخ و { مَا } في قوله : { أَنَّمَا غَنِمْتُمْ } موصولة والعائد محذوف .
وقوله : { مِّن شَيْءٍ } بيان الموصول محله النصب على أنه حال من العائد المقدر .
أى : أن ما غنمتموه من شئ سواء أكان هذا الشئ قليلا أم كثيرا { فَأَنَّ للَّهِ خُمُسَهُ } .
وقوله : { فَأَنَّ للَّهِ خُمُسَهُ } خبر مبتدأ محذوف والتقدير : فحكمه أن لله خمسة والجار والمجرور خبر { أَنَّ } مقدم ، وخمسة اسمها مؤخر . والتقدير : فأن خمسه كائن لله وللرسول ولذى القربى . . إلخ .
وأعيدت اللام في قوله { وَلِذِي القربى } دون غيرهم من الأصناف التالية لدفع توهم اشتراكهم في سهم النبى - صلى الله عليه وسلم - لمزيد اتصالهم به .
وقوله : { إِن كُنتُمْ آمَنْتُمْ بالله . . . } شرط جزاؤه محذوف .
أى : إن كنتم آمنتم بالله حق الإِيمان ، وآمنتم بما أنزلنا على عبدنا محمد - صلى الله عليه وسلم - { يَوْمَ الفرقان } أي يوم بدر { يَوْمَ التقى الجمعان } أى : جمع المؤمنين وجمع الكافرين . . إن كنتم آمنتم بكل ذلك ، فاعملوا بما علمتم ، وارضوا بهذه القسمة عن إذعان وتسليم وحسن قبول .
وما أنزله الله على نبيه - صلى الله عليه وسلم - يوم بدر .
يتناول ما نزل من آيات قرآنية ، كما يتناول نزول الملائكة لتثبيت المؤمنين ، وتبشيرهم بالنصر كما يتناول غير ذلك مما أيدهم الله به في بدر .
وسمى يوم بدر بيوم الفرقان ، لأنه اليوم الذي فرق الله فيه بين الحق والباطل وقوله { والله على كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ } تذييل قصد به بيان أن ما أصابه المؤمنون يوم بدر من غنيمة ونصر إنما هو بقدرة الله التي لا يعجزها شئ فعليهم أن يداموا على طاعته وشكره ليزيدهم من عطائه وفضله .
هذا ، وقد ذكر العلماء عند تفسيره لهذه الآية جملة من المسائل والأحكام من أهمها ما يأتى :
1- أن هذه الآية وضحت أن غنائم الحرب تخمس فيجعل الخمس الأول منها لله وللرسول ولذى القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل ، والأربعة الأخماس الباقية بينت السنة أنها تقسم على الجيش : للراجل سهم ، وللفارس ثلاثة أسهم أو سهمان .
قال ابن كثير : ويؤيد هذا ما رواه البيهقى بإسناد صحيح عن عبد الله بن شقيق عن رجل قال : أتيت النبى - صلى الله عليه وسلم - ، وهو بوادى القرى ، وهو معترض فرسا فقلت : يا رسول الله ، ما تقول في الغنيمة ، فقال : لله خمسها وأربعة أخماسها للجيش ، قلت : فما أحد أولى به من أحد ، قال : لا ، ولا السهم تستخرجه من جيبك ، ليس أنت أحق به من أخيك المسلم .
وقال بعض العلماء : أفادت الآية أن الواجب في المغنم تخميسه ، وصرف الخمس إلى من ذكره الله - تعالى - وقسمه الباقى بين الغانمين بالعدل ، للراجل سهم ، وللفارس ثلاثة أسهم ، سهم له وسهمان لفرسه . هكذا قسم النبى - صلى الله عليه وسلم الغنائم عام خيبر .
ومن الفقهاء من يقول : للفارس سهمان . والأول هو الذي دلت عليه السنة الصحيحة ، ولأن الفرس يحتاج إلى مؤمنة نفسه وسائسه ، ومنفعة الفارس بن أكثر من منفعة رجلين .
ويجب قسمتها بينهم بالعدل ، فلا يحابى أحدا ، لا لرياسته ولا لنسبه ولا لفضله وفى صحيح البخارى " أن سعد بن أبى وقاص رأى أن له فضلا على من دونه ، فقال النبى - صلى الله عليه وسلم - " هل تنصرون وترزقون إلا بضعفائكم "
ذهب جمهور العلماء إلى ان المقصود بإِيتاء لفظ الجلالة في قوله { فَأَنَّ للَّهِ خُمُسَهُ } : التبرك والتعظيم والحض على إخلاص النية عند القسمة وعلى الامتثال والطاعة له - سبحانه - .
وليس المقصود أن يقسم الخمس على ستة منها الله - تعالى - ، فإنه سبحانه - له الدنيا والآخرة ، وله ما في السماوات وما في الأرض وما بينهما .
وعليه يكون خمس الغنيمة مقسما على خمسة أقسام : للرسول ، ولذى القربى واليتامى ، والمساكين ، وابن السبيل .
ويرى أبو العالية والربيع والقاسم أن هذا الخمس يقسم إلى ستة أقسام ، عملا بظاهر الآية ، وأن سهم الله - تعالى - يصرف في وجوه الخير ، أو يؤخذ للكعبة .
وقد رجح ابن جرير رأى الجمهور فقال : وأولى الأقوال في ذلك بالصواب من قال : قوله { فَأَنَّ للَّهِ خُمُسَهُ } افتتاح كلام ، وذلك لاجتماع الحجة على أن الخمس غير جائز قسمه على ستة أسهم . ولو كان لله فيه سهم - كما قال ابو العالية - لوجب أن يكون خمس الغنيمة مقسوما على ستة أسهم . وإنما اختلف أهل العلم في قسمه على خمسة فما دونها .
فأما على أكثر من ذلك فلا نعلم قائلا غير الذي ذكرناه من الخبر عن أبى العالية . وفى إجماع من ذكرت - الدلالة الواضحة على ما اخترناه .
وسهم النبى - صلى الله عليه وسلم - جعله الله - تعالى - له في قوله { وَلِلرَّسُولِ } كان مفوضا إليه في حياته ، يتصرف فيه كما شاء ، ويضعه حيث يشاء .
روى الإِمام أحمد " أن أبا الدرداء قال لعبادة بن الصامت : يا عبادة ، ما كلمات رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في غزوة كذا وكذا في شأن الأخماس ؟ فقال عبادة : إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - صلى بهم في غزوهم إلى بعير من المقسم . فلما سلم قام رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فتناول وبرة فقال : إن هذه من غنائمكم ، وأنه ليس لى فيها إلا نصيبى معكم الخمس ، والخمس مردود عليكم ، فأدوا الخيط والمخيط وأكبر من ذلك وأصغر ، ولا تغلوا فإن الغلو نار وعار على أصحابه في الدنيا والآخرة ، وجاهدوا الناس في الله تبارك وتعالى القريب والبعيد ، ولا تبالوا في الله لومة لائم ، وأقيموا الحدود في الحضر والسفر ، وجاهدوا في سبيل الله ، فإن الجهاد باب من أبواب الجنة . ينجى الله به من الغم والهم " ، قال ابن كثير : هذا حديث حسن عظيم .
وروى أبو داود والنسائى " عن عمور بن عبسة ، أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - صلى بهم إلى بعير من الغنم ، فلما سلم أخذ وبرة من جنب البعير ثم قال : ولا يحل لى من غنائمكم مثل هذا إلا الخمس ، والخمس مردودة عليكم " .
هذا بالنسبة لسهمه - صلى الله عليه وسلم - في حياته ، أما بعد وفاته ، فمنهم من يرى : أن سهمه - صلى الله عليه وسلم - يكون لمن يلى الأمر من بعده . روى هذا عن أبى بكر وعلى قتادة وجماعة . .
ومنهم من يرى أن سهمه - صلى الله عليه وسلم - يصرف في مصالح المسلمين . روى ابن جرير عن الأعمش عن إبراهيم قال : كان أبو بكر وعمر يجعلان سهم النبى - صلى الله عليه وسلم - في الكراع والسلاح .
ومنهم من يرى صرفه لبقية الأصناف : ذوى القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل .
وقد رجح ابن جرير هذا الرأى فقال : والصواب من القول في ذلك عندنا : ان سهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مردود في الخمس ، والخمس مقسوم على أربعة اسهم على ما روى عن ابن عبسا : للقرابة سهم ، ولليتامى سهم ، وللمساكين سهم ، ولابن السبيل سهم ، لأن الله - تعالى - أوجب الخمس لأقوام موصوفين بصفات ، كما أوجب الأربعة الأخماس الآخرين . وقد اجمعوا أن حق أهل الأربعة الأخماس لن يستحقه غيرهم ، فكذلك حق أهل الخمس لن يستحقه غيرهم ، فغير جائز أن يخرج عنهم إلى غيرهم . .
4- المراد بذى القربى - كما سبق أن أشرنا - بنو هاشم وبنو المطلب على الراجح . وعليه فإن السهم المخصص لذى القربى لا يصرف إلى لهم .
قال القرطبى ما ملخصه : اختلف العلماء في ذوى القربى على ثلاثة أقوال :
أولها : أن المراد بهم بنو هاشم وبنو المطلب . " قاله الشافعى وأحمد وأبو ثور ومجاهد . . لأن النبى - صلى الله عليه وسلم - لما قسم سهم ذوى القربى بين بنى هاشم وبنى المطلق قال : " إنهم لم يفارقونى في جاهلية ولا إسلام وإنما بنو هاشم وبنو المطلب شئ واحد " وشبك بين أصابعه " أخرجه البخارى والنسائى .
ثالثها : أن المراد بهم بنو هاشم خاصة . قاله مجاهد وعلى بن الحسين . وهو قول مالك والثورى والأوزاعى وغيرهم .
وقال الآلوسى : وكيفية القسمة عند الأصحاب أنها كانت على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على خمسة أسهم سهم له - صلى الله عليه وسلم - للمذكورين من ذوى القربى ، وثلاثة أسهم للاصناف الثلاثة الباقية .
وأما بعد وفاته - صلى الله عليه وسلم - فسقط سهمه . . وكذا سقط سهم ذوى القربى ، وإنما يعطون بالفقر ، ويقدم فقراؤهم على فقراء غيرهم ، ولا حق لأغنيائهم ، لأن الخلفاء الأربعة قسموا الخمس كذلك وكفى بهم قدوة . .
ثم قال : ومذهب المالكية أن الخمس لا يلزم تخمسه ، وأنه مفوض إلى رأى الإِمام .
- أي انهم يرون أن خمس الغنيمة يجعل في بيت المال فينفق منه على ما ذكر وعلى غيرهم بحسب ما يراه الأمام من مصلحة المسلمين ، وكأنهم يرون أن هذه الأصناف إنما ذكرت على سبيل المثال ، وأنها من باب الخاص الذي قصد به العام ، بينما يرى غيرهم أن هذه الاصناف من باب الخاص الذي قصد به الخاص .
ثم قال : ومذهب الإِمامية أنه ينقسم إلى ستة أسهم كما ذهب أبو بالعالية ، إلا أنهم قالوا : إن سهم الله - تعالى - ، وسهم رسوله - صلى الله عليه وسلم - وسهم ذوى القربى الكل للإِمام القائم مقام الرسول - صلى الله عليه وسلم - أما الاسهم الثلاثة الباقية فهم لليتامى من آل محمد - صلى الله عليه وسلم - وسهم لمساكينهم ، وسهم لآبناء سبيلهم ، لا يشركهم في ذلك غيرهم .
رووا ذلك عن زين العابدين ، ومحمد بن على الباقر .
ثم قال : والظاهر أن الاسهم الثلاثة الأولى التي ذكروها اليوم تخبأ في السرداب ، إذ القام مقام الرسول - صلى الله عليه وسلم - قد غاب عندهم فتخبأ له حتى يرجع من غيبته . .
هذا ، ومن كل ما سبق نرى أن أكثر العلماء يرون أن خمس الغنيمة يقسم إلى خمسة أقسام ، ومنهم من يرى أنه يقسم الى ستة أقسام ، ومنهم من يرى أنه لا يلزم تقسيمه إلى خمسة أقسام أو الى ستة ، وإنما هو موكول إلى نظر الإِمام واجتهاده . . ومنهم من يرى غير ذلك ، ولكل فريق أدلة المبسوطة في كتب الفروع .
5- ذكرنا عند تفسيرنا لقوله - تعالى - في مطلع السورة { يَسْأَلُونَكَ عَنِ الأنفال . . . } أن المراد بالأنفال : الغنائم وعليه تكون الآية التي معنا وهى قوله { واعلموا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ } مفصلة لما أجملته الآية التي في مطلع السورة .
أى أن الآية التي في مطلع السورة بينت أن الأمر في قسمة الانفال مفوض إلى الله ورسوله ، ثم جاءت الآية التي معنا ففصلت كيفية قسمة الغنائم حتى لا يتطلع أحد إلى ما ليس من حقه .
وهذا أولى من قول بعضهم : إن الآية التي معنا نسخت الآية التي في مطلع السورة : لأن النسخ لا يصار إليه عند التعارض وهنا لا تعارض بين الآيتين .
6- الآية الكريمة أرشدت المؤمنين إلى أن من الواجب عليهم أن يخلصوا في طاعتهم لله - تعالى - ولرسوله - صلى الله عليه وسلم - وأن يجعلوا غياتهم من جهادهم إعلاء كلمة الله ، لكى يكونوا مؤمنين حقا .
ويشعر بهذا الإِرشاد تصديره - سبحانه - الآية بقوله : { واعلموا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِّن شَيْءٍ فَأَنَّ للَّهِ خُمُسَهُ } كما يشعر به قوله - تعالى - { إِن كُنتُمْ آمَنْتُمْ بالله وَمَآ أَنزَلْنَا على عَبْدِنَا يَوْمَ الفرقان . . } ، فإن كل ذلك فيه معنى الحض على إخلاص النية لله - تعالى - والامتثال لحكمه ، والمداومة على شكره ، حيث منحهم - سبحانه - هذه النعم بفضله وإحسانه .
وإلى هذا المعنى أشار صاحب الكشاف بقوله : فإن قلت : بم تعلق قوله { إِن كُنتُمْ آمَنْتُمْ بالله } : قلت بمحذوف يدل عليه قوله { واعلموا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ } والمعنى : إن كنتم آمنتم بالله فاعلموا أن الخمس من الغنيمة يجب التقرب به ، فاقطعوا عنه أطماعكم واقتنعوا بالأخماس الأربعة . ولس المراد بالعلم المجرد ، ولكنه العلم المضمن بالعمل ، والطاعة لأمر الله - تعالى - ، لأن العلم المجرد يستوى فيه المؤمن والكافر .
هذه بعض المسائل والأحكام التي استنبطناها من الآية الكريمة ، وهناك مسائل وأحكام اخرى تتعلق بها ذكرها بعض المفسرين فارجع إليه إن شئت .
{ واعلموا أنما غنمتم } أي الذي أخذتموه من الكفار قهرا . { من شيء } مما يقع عليه اسم الشيء حتى الخيط . { فأن لله خُمسه } مبتدأ خبره محذوف أي : فثابت أن لله خمسه . وقرئ فإن بالكسر والجمهور على أن ذكر الله للتعظيم كما في قوله : { والله ورسوله أحق أن يرضوه } . وأن المراد قسم الخمس على الخمسة المعطوفين { وللرسول ولذي القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل } فكأنه قال : فأن لله خمسه يصرف إلى هؤلاء الأخصين به . وحكمه بعد ، باق غير أن سهم الرسول صلوات الله وسلامه عليه يصرف إلى ما كان يصرفه إليه من مصالح المسلمين كما فعله الشيخان رضي الله تعالى عنهما . وقيل إلى الإمام . وقيل إلى الأصناف الأربعة . وقال أبو حنيفة رضي الله تعالى عنه :سقط سهمه وسهم ذوي القربى بوفاته وصار الكل مصروفا إلى الثلاثة الباقية . وعن مالك رضي الله تعالى عنه الأمر فيه مفوض إلى رأي الإمام يصرفه إلى ما يراه أهم ، وذهب أبو العالية إلى ظاهر الآية فقال :يقسم ستة أقسام ويصرف سهم الله إلى الكعبة لما روي ( أنه عليه الصلاة والسلام كان يأخذ قبضة منه فيجعلها للكعبة ثم يقسم ما بقي على خمسة ) . وقيل : سهم الله لبيت المال . وقيل هو مضموم إلى سهم الرسول صلى الله عليه وسلم . ذوو القربى : بنو هاشم ، وبنو المطلب . لما روي أنه عليه الصلاة والسلام قسم سهم ذوي القربى عليهما فقال له عثمان وجبير بن مطعم رضي الله عنهما : هؤلاء إخوتك بنو هاشم لا ننكر فضلهم لمكانك الذي جعلك الله منهم ، أرأيت إخواننا من بني المطلب أعطيتهم وحرمتنا وإنما نحن وهم بمنزلة واحدة ، فقال عليه الصلاة والسلام : " إنهم لم يفارقونا في جاهلية ولا إسلام . وشبك بين أصابعه " . وقيل بنو هاشم وحدهم . وقيل جميع قريش الغني والفقير فيه سواء . وقيل هو مخصوص بفقرائهم كسهم ابن السبيل . وقيل : الخمس كله لهم . والمراد باليتامى والمساكين وابن السبيل من كان منهم والعطف للتخصيص . والآية نزلت ببدر . وقيل الخمس كان في غزوة بني قينقاع بعد بدر بشهر وثلاثة أيام للنصف من شوال على رأس عشرين شهرا من الهجرة . { إن كنتم آمنتم بالله } متعلق بمحذوف دل عليه { واعلموا } أي : إن كنتم آمنتم بالله فعلموا أنه جعل الخمس لهؤلاء فسلموه إليهم واقتنعوا بالأخماس الأربعة الباقية ، فإن العلم العملي إذا أمر به لم يرد منه العلم المجرد لأنه مقصود بالعرض والمقصود بالذات هو العمل . { وما أنزلنا على عبدنا } محمد صلى الله عليه وسلم من الآيات والملائكة والنصر . وقرئ { عبدنا } بضمتين أي الرسول صلى الله عليه وسلم والمؤمنين . { يوم الفرقان } يوم بدر فإنه فرق فيه بين الحق والباطل . { يوم التقى الجمعان } المسلمون والكافرون . { والله على كل شيء قدير } فيقدر على نصر القليل على الكثير والإمداد بالملائكة .
انتقال لبيان ما أجمل من حكم الأنفال ، الذي افتتحته السورة ، ناسب الانتقال إليه ما جرى من الأمر بقتال المشركين إن عادوا إلى قتال المسلمين . والجملة معطوفة على جملة { وقاتلوهم حتى لا تكون فتنة } [ الأنفال : 39 ] .
وافتتاحه ب { اعلموا } للاهتمام بشأنه ، والتنبيهِ على رعاية العمل به ، كما تقدّم في قوله : { واعلموا أن الله يحول بين المرء وقلبه } [ الأنفال : 24 ] فإنّ المقصود بالعلم تقرّر الجزم بأنّ ذلك حكم الله ، والعمل بذلك المعلوم ، فيكون { اعلموا } كناية مراداً به صريحه ولازمه . والخطاب لجميع المسلمين وبالخصوص جيش بدر ، وليس هذا نسخاً لحكم الأنفال المذكور أوّل السورة ، بل هو بيان لإجمال قوله : { للَّه . . وللرسول } وقال أبو عبيد : إنّها ناسخة ، وأنّ الله شرع ابتداء أنّ قسمة المغانم لرسوله صلى الله عليه وسلم يريد أنها لاجتهاد الرسول بدون تعيين ، ثم شرع التخميس . وذكروا : أنّ رسول الله لم يخمّس مغانم بدر ، ثم خمّس مغانم أخرى بعد بدر ، أي بعد نزول آية سورة الأنفال ، وفي حديث علي : أنّ رسول الله أعطاه شارفاً من الخمس يوم بدر ، فاقتضت هذه الرواية أنّ مغانم بدر خمّست .
وقد اضطربت أقوال المفسّرين قديماً في المراد من المغنم في هذه الآية ، ولم تنضبط تقارير أصحاب التفاسير في طريقة الجمع بين كلامهم على تفاوت بينهم في ذلك ، ومنهم من خلطها مع آية سورة الحشر ، فجعل هذه ناسخة لآية الحشر والعكس ، أو أنّ إحدى الآيتين مخصّصة للأخرى : إمّا في السهام ، وإمّا في أنواع المغانم ، وتفصيل ذلك يطول . وتردّدوا في مسمّى الفيء فصارت ثلاثة أسماء مجالاً لاختلاف الأقوال : النفَل ، والغنيمة ، والفيء .
والوجه عندي في تفسير هذه الآية ، واتّصالها بقوله : { يسألونك عن الأنفال } [ الأنفال : 1 ] أنَّ المراد بقوله : { ما غنمتم } في هذه الآية : ما حصلتم من الغنائم من متاع الجيش ، وذلك ما سمّي بالأنفال ، في أوّل السورة ، فالنفل والغنيمة مترادفان ، وذلك مقتضى استعمال اللغة ، فعن ابن عبّاس ، ومجاهد ، والضحاك ، وقتادة ، وعكرمة ، وعطاء : الأنفال الغنائم . وعليه فوجه المخالفة بين اللفظين إذ قال تعالى هنا { غنمتم } وقال في أوّل السورة [ الأنفال : 1 ] : { يسألونك عن الأنفال } لاقتضاء الحال التعبيرَ هنا بفعلٍ ، وليس في العربية فعل من مادّة النفَل يفيد إسناد معناه إلى من حَصَل له ، ولذلك فآية { واعلموا أنما غنمتم } سيقت هنا بياناً لآية { يسألونك عن الأنفال فإنّهما وردتا في انتظام متّصل من الكلام . ونرى أنّ تخصيص اسم النفَل بما يعطيه أميرُ الجيش أحدَ المقاتلين زائداً على سهمه من الغنيمة سواء كان سلبَاً أو نحوه ممّا يسعه الخمس أو من أصل مال الغنيمة على الخلاف الآتي ، إنّما هو اصطلاح شاع بين أمراء الجيوش بعد نزول هذه الآية ، وقد وقع ذلك في كلام عبد الله بن عمر ، وأمّا ما روي عن ابن عبّاس : أنّ الأنفال ما يصل إلى المسلمين بغير قتال ، فجعلها بمعنى الفيء ، فمحمله على بيان الاصطلاح الذي اصطلحوا عليه من بعد .
وتعبيرات السلف في التفرقة بين الغنيمة والنفل غير مضبوطة ، وهذا ملاك الفصل في هذا المقام لتمييز أصناف الأموال المأخوذة في القتال ، فأما صور قسمتها فسيأتي بعضها في هذه الآية .
فاصطلحوا على أنّ الغنيمة ، ويُقال : لها المغنم ، ما يأخذه الغزاة من أمتعة المقاتلين غصباً ، بقتل أو بأسر ، أو يقتحمون ديارهم غازين ، أو مايتركه الأعداء في ديارهم ، إذا فرّوا عند هجوم الجيش عليهم بعد ابتداء القتال . فأمّا ما يظفر به الجيش في غير حالة الغزو من مال العدوّ ، وما يتركه العدوّ من المتاع إذا أخلوا بلادهم قبل هجوم جيش المسلمين ، فذلك الفيء وسيجيء في سورة الحشر .
وقد اختلف فقهاء الأمصار في مقتضى هذه الآية مع آية { يسألونك عن الأنفال } [ الأنفال : 1 ] إلخ . فقال مالك : ليس أموال العدوّ المقاتل حقّ لجيش المسلمين إلاّ الغنيمة والفيء . وأمّا النفَل فليس حقَّاً مستقلاً بالحكم ، ولكنّه ما يعطيه الإمام من الخمس لبعض المقاتلين زائداً على سهمه من الغنيمة ، على ما يرى من الاجتهاد ، ولا تعيين لمقدار النفل في الخمس ولا حدّ له ، ولا يكون فيما زاد على الخُمس . هذا قول مالك ورواية عن الشافعي . وهو الجاري على ما عمل به الخلفاء الثلاثة بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال أبو حنيفة ، والشافعي ، في أشهر الروايتين عنه ، وسعيد بن المسيّب : النفل من الخمس وهو خُمس الخمس .
وعن الأوزاعي ، ومكحول ، وجمهور الفقهاء : النفل ما يعطى من الغنيمة يخرج من ثلث الخمس .
و ( ما ) في قوله : { أنما } اسم موصول وهو اسم ( أنَّ ) وكتبت هذه في المصحف متّصلة ب ( أنّ ) لأنّ زمان كتابة المصحف كان قبل استقرار قواعد الرسم وضبط الفروق فيه بين ما يتشابه نطقه ويختلف معناه ، فالتفرقة في الرسم بين ( ما ) الكافّة وغيرها لم ينضبط زمن كتابة المصاحف الأولى ، وبقيت كتابة المصاحف على مثال المصحف الإمام مبالغة في احترام القرآن عن التغيير .
و { من شيء } بيان لعموم ( ما ) لئلا يتوهّم أنّ المقصود غنيمة معيّنة خاصّة . والفاء في قوله : { فأن لله خمسه } لما في الموصول من معنى الاشتراط ، وما في الخبر من معنى المجازاة بتأويل : إن غنمتم فحقّ لله خمسُهُ إلخ .
والمصدر المؤوّل بعد ( أنّ ) في قوله : { فأن لله خمسه } مبتدأ حذف خبره ، أو خبر حذف مبتدؤه ، وتقدير المحذوف بما يناسب المعنى الذي دلّت عليه لام الاستحقاق ، أي فحقّ لله خمسهُ . وإنّما صيغ على هذا النظم ، مع كون معنى اللام كافياً في الدلالة على الأحقّيّة ، كما قرىء في الشاذ { فللَّه خمسه } لما يفيده الإتيان بحرف ( أنّ ) من الإسناد مرتين تأكيداً ، ولأنّ في حذف أحد ركني الإسناد تكثيراً لوجوه الاحتمال في المقدّر ، من نحو تقدير : حقّ ، أو ثبات ، أو لازم ، أو واجب .
واللام للملك ، أو الاستحقاق ، وقد علم أنّ أربعة الأخماس للغزاة الصادق عليهم ضمير { غنمتم } فثبت به أنّ الغنيمة لهم عدا خمسها .
وقد جعل الله خمس الغنيمة حقّا لله وللرسول ومن عطف عليهما ، وكان أمر العرب في الجاهلية أنّ ربع الغنيمة يكون لقائد الجيش ، ويسمّى ذلك « المرباع » بكسر الميم .
وفي عرف الإسلام إذا جعل شيء حقَّاً لله ، من غير ما فيه عبادة له : أنّ ذلك يكون للذين يأمر الله بتسديد حاجتهم منه ، فلكلّ نوع من الأموال مستحقّون عيّنهم الشرع ، فالمعنى في قوله : { فأن لله خمسه } أنّ الابتداء باسم الله تعالى للإشارة إلى أنّ ذلك الخمس حقّ الله يصرفه حيث يشاء ، وقد شاء فوكل صرفه إلى رسوله صلى الله عليه وسلم ولمن يخلف رسوله من أئمّة المسلمين . وبهذا التأويل يكون الخمس مقسوماً على خمسة أسهم ، وهذا قول عامّة علماء الإسلام وشذّ أبو العالية رفيع الرياحي ولاء من التابعين ، فقال : إنّ الخمس يقسم على خمسة أسهم فيعزل منها سهم فيضرب الأمير بيده على ذلك السهم الذي عزله فما قبضت عليه يده من ذلك جعله للكعبة : أي على وجه يشبه القرعة ، ثم يقسم بقية ذلك السهم على خمسة : سهم للنبيء صلى الله عليه وسلم وسهم لذوي القربى ، وسهم لليتامى ، وسهم للمساكين ، وسهم لابن السبيل . ونسب أبو العالية ذلك إلى فعل النبي صلى الله عليه وسلم .
وأمّا الرسول عليه الصلاة والسلام فلحقه حالتان : حالة تصرّفه في مال الله بما ائتمنه الله على سائر مصالح الأمة ، وحالة انتفاعه بما يحبّ انتفاعه به من ذلك . فلذلك ثبت في الصحيح : أنّ النبي صلى الله عليه وسلم كان يأخذ من الخمس نفقته ونفقة عياله ، ويجعل الباقي مجعل مال الله . وفي الصحيح : أنّ النبي صلى الله عليه وسلم قال في الفيء " مالي ممّا أفاء الله عليكم إلاّ الخمس والخمس مردود عليكم " فيقاس عليه خمس الغنيمة ، وكذلك كان شأن رسول الله في انتفاعه بما جعله الله له من الحقّ في مال الله . وأوضح شيء في هذا الباب حديث عمر بن الخطاب في محاورته مع العباس وعلي ، حين تحاكما إليه ، رواه مالك في « الموطأ » ورجال « الصحيح » ، قال عمر : « إنّ الله كان قد خصّ رسوله في هذا الفيء بشيء لم يعطه غيره قال { ما أفاء الله على رسوله من أهل القرى فللَّه وللرسول ولذي القربى واليتامى والمساكين } [ الحشر : 7 ] فكانت هذه خالصة لرسول الله ، ووالله ما احتازها دونكم ولا استأثر بها عليكم قد أعطاكموها وبثّها فيكم حتّى بقي منها هذا المال . فكان رسول الله ينفق على أهله نفقة سنتهم من هذا المال ثم يأخذ ما بقي فيجعله مجعل مال الله » .
والغرض من جلب كلام عمر قوله : « ثم يأخذ ما بقي فيجعله مجعل مال الله » .
وأمّا ذو { القربى } ف ( أل ) في { القربى } عوض عن المضاف إليه كما في قوله تعالى في سورة [ البقرة : 177 ] { وآتى المال على حبه ذوي القربى } أي ذوي قرابة المؤتي المال . والمراد هنا هو ( الرسول ) المذكور قبله ، أي ولذوي قربى الرسول ، والمراد ب ( ذي ) الجنس ، أي : ذوي قربى الرسول ، أي : قرابته ، وذلك إكرام من الله لرسوله إذ جعل لأهل قرابته حقّاً في مال الله ، لأن الله حرّم عليهم أخذ الصدقات والزكاة . فلا جرم أنّه أغناهم من مال الله . ولذلك كان حقّهم في الخمس ثابتاً بوصف القرابة .
فذو القربى مراد به كلّ من اتّصف بقرابة الرسول عليه الصلاة والسلام فهو عام في الأشخاص ، ولكن لفظ { القربى } جنس فهو مجمل ، وأجملت رتبة القرابة إحالة على المعروف في قربى الرجل ، وتلك هي قربى نسب الآباء دون الأمّهات . ثم إنّ نسب الآباء بين العرب يعدّ مشتركاً إلى الحَدّ الذي تنشقّ منه الفصائل ، ومحملها الظاهر على عَصبة الرجل من أبناء جدّه الأدنى . وأبناء أدنى أجداد النبي صلى الله عليه وسلم هم بنو عبد المطلب بن هاشم ، وإن شئت فقل : هم بنو هاشم ، لأنّ هاشماً لم يبقَ له عقب في زمن النبي صلى الله عليه وسلم إلاّ مِن عبد المطلب ، فالأرجح أنّ قربى الرسول صلى الله عليه وسلم هم بنو هاشم ، وهذا قول مالك وجمهور أصحابه ، وهو إحدى روايتين عن أحمد بن حنبل ، وقاله ابن عبّاس ، وعلي بن الحسين ، وعبد الله بن الحسن ، ومجاهد ، والأوزاعي ، والثوري . وذهب الشافعي ، وأحمد في إحدى روايتين عنه ، التي جرى عليها أصحابه ، وإسحاق وأبو ثور : أنّ القربى هنا : هم بنو هاشم وبنو المطلب ، دون غيرهم من بني عبد مناف . ومال إليه من المالكية ابنُ العربي ، ومتمسّك هؤلاء ما رواه البخاري ، وأبو داود ، والنسائي ، عن جبير بن مُطعِم : أنّه قال : أتيت أنا وعثمان بن عفّان رسولَ الله نكلّمه فيما قسم من الخمس بين بني هاشم وبني المطلب فقلت يا رسول الله : قسمت لإخواننا بني المطلب ولم تعطنا شيئاً ، وقرابتُنا وقرابتهم واحدة فقال : « إنّما بنو هاشم وبنو المطلب شيء واحد » . وهو حديث صحيح لا نزاع فيه ، ولا في أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم أعطى بني هاشم وبني المطلب دون غيرهم . ولكن فِعل رسول الله صلى الله عليه وسلم فيه يحتمل العموم في الأموال المعطاة ويحتمل الخصوص لأمور : أحدها : أنّ للنبيء صلى الله عليه وسلم في حياته سهماً من الخمس فيحتمل أنّه أعطى بني المطلب عطاء من سهمه الخاصّ ، جزاء لهم على وفائهم له في الجاهلية ، وانتصارهم له ، وتلك منقبة شريفة أيّدوا بها دعوة الدين وهم مشركون ، فلم يضعها الله لهم ، وأمر رسوله بمواساتهم ، وذلك لا يكسبهم حقّاً مستمراً .
ثانيها : أنّ الحقوق الشرعية تستند للأوصاف المنضبطة ، فالقربى هي النسب ، ونسب رسول الله صلى الله عليه وسلم لهاشم ، وأمّا بنو المطلب فهم وبنو عبد شمس وبنو نوفل في رتبة واحدة من قرابة رسول الله صلى الله عليه وسلم لأنّ آباءَهم هم أبناء عبد مناف ، وأخوة لهاشم ، فالذين نصروا رسول الله صلى الله عليه وسلم وظاهروه في الجاهلية كانت لهم المزية ، وهم الذين أعطى رسولُ الله أعيانهم ولم يثبت أنّه أعطى من نشأ بعدهم من أبنائهم الذين لم يحضروا ذلك النصر ، فمن نشأ بعدهم في الإسلام يساوون أبناء نوفل وأبناء عبد شمس ، فلا يكون في عطائه ذلك دليل على تأويل ذي القربى في الآية ببني هاشم وبني المطلب .
أمّا قول أبي حنيفة فقال الجصاص في « أحكام القرآن » : قال أبو حنيفة في « الجامع الصغير » : يقسم الخمس على ثلاثة أسهم ( أي ولم يتعرّض لسهم ذوي القربى ) وروى بشر بن الوليد عن أبي يوسف عن أبي حنيفة قال : خمس الله والرسول واحدٌ ، وخمسٌ لذي القربى فلكلّ صنف سمّاه الله تعالى في هذه الآية خمُس الخمس قال : وإنّ الخلفاء الأربعة متّفقون على أنّ ذا القربى لا يستحقّ إلاّ بالفقر . قال : وقد اختلف في ذوي القربى من هم ؟ فقال أصحابنا : قرابة النبي صلى الله عليه وسلم الذين حَرّم عليهم الصدقة وهم ( آل علي والعباس وآل جعفر وآل عقيل وولد الحارث بن عبد المطلب ) وقال آخرون : بنو المطلب داخلون فيهم .
وقال أصبغ من المالكية : ذوو القربى هم عشيرة رسول الله صلى الله عليه وسلم الأقربون الذين أمره الله بإنذارهم في قوله : { وأنذر عشيرتك الأقربين } [ الشعراء : 214 ] وهم آل قُصي . وعنه أنّهم آل غالب بن فهر ، أي قريش ، ونسب هذا إلى بعض السلف وأخرَج أبو حنيفة من القربى بني أبي لهب قال : لأنّ النبي صلى الله عليه وسلم قال : " لا قرابة بيني وبين أبي لهب فإنّه آثر علينا الأفجرين " رواه الحنفية في كتاب الزكاة ، ولا يعرف لهذا الحديث سند ، وبعد فلا دلالة فيه ، لأنّ ذلك خاصّ بأبي لهب فلا يشمل أبناءه في الإسلام . ذكر ابن حجر في { الإصابة } أنّ محمد بن إسحاق ، وغيره . روى عن سعيد المقبري عن أبي هريرة قال : قدمت دُرة بنت أبي لهب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت : إنّ الناس يصيحون بي ويقولون : إنّي بنت حطَب النار ، فقام رسول الله ؛ وهو مغضَب شديدَ الغضب ، فقال : « ما بال أقوام يؤذونني في نسبي وذوي رحمي ألاَ ومن آذى نسبي وذوي رحمي فقد آذاني ومن آذاني فقد آذى الله » . فوصف درّة بأنّها من نسبه . والجمهور على أنّ ذوي القربى يستحقّون دون اشتراط الفقر ، لأنّ ظاهر الآية أنّ وصف قربى النبي صلى الله عليه وسلم هو سبب ثبوت الحقّ لهم في خمس المغنم دون تقييد بوصف فقرهم ، وهذا قول جمهور العلماء .
وقال أبو حنيفة : لا يعطَون إلاّ بوصف الفقر وروي عن عمر بن عبد العزيز . ففائدة تعيين خمس الخمس لهم أنّ لا يحاصهم فيه مَن عَداهم من الفقراء ، هذا هو المشهور عن أبي حنيفة ، وبعض الحنفية يحكي عن أبي يوسف موافقةَ الجمهور في عدم اشتراط الفقر فيهم .
وقد جعل الله الخمس لخمسةِ مصارف ولم يعيّن مقدار ما لكلّ مصرف منه ، ولا شكّ أنّ الله أراد ذلك ؛ ليكون صرفه لمصارفه هذه موكولاً إلى اجتهاد رسوله صلى الله عليه وسلم وخلفائه من بعده ، فيقسم بحسب الحاجات والمصالح ، فيأخذ كلّ مصرف منه ما يفي بحاجته على وجه لا ضرّ معه على أهل المصرف الآخر ، وهذا قول مالك في قسمة الخمس ، وهو أصح الأقوال ، إذ ليس في الآية تعرّض لمقدار القسمة ، ولم يَرد في السنة ما يصحّ التمسك به لذلك ، فوجب أن يناط بالحاجة ، وبتقديم الأحوج والأهمّ عند التضايق ، والأمر فيه موكول إلى اجتهاد الإمام ، وقد قال عمر : « فكان رسول الله ينفق على أهله نفقة سنتهم من هذا المال ثم يأخذ ما بقي فيجعله مجعل مال الله » .
وقال الشافعي : يقسم لكلّ مصرف الخمس من الخمس ، لأنها خمسة مصارف ، فجعلها متساوية ، لأنَّ التساوي هو الأصل في الشركة المجملة ولم يلتفت إلى دليل المصلحة المقتضية للترجيح وإذ قد جَعل ما لله ولرسوله خمساً واحداً تبعاً للجمهور فقد جعله بعد رسول الله لمصالح المسلمين .
وقال أبو حنيفة : ارتفع سهم رسول الله وسهم قرابته بوفاته ، وبقي الخمس لليتامى والمساكين وابن السبيل ، لأنّ رسول الله إنّما أخذ سهماً في المغنم لأنّه رسول الله ، لا لأنّه إمام ، فلذلك لا يخلفه فيه غيره .
وعند الجمهور أنّ سهم رسول الله صلى الله عليه وسلم يخلفه فيه الإمام ، يبدأ بنفقته ونفقة عياله بلا تقدير ، ويصرف الباقي في مصالح المسلمين .
{ واليتامى والمساكين وابن السبيل } تقدّم تفسير معانيها عند قوله تعالى : { وآتى المال على حبه ذوي القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل } [ البقرة : 177 ] وعند قوله تعالى : { واعبدوا الله ولا تشركوا به شيئاً وبالوالدين إحسانا إلى قوله وابن السبيل } [ النساء : 36 ] .
واليتامى وابن السبيل لا يعطون إلاّ إذا كانوا فقراء ففائدة تعيين خمس الخمس لكلّ صنف من هؤلاء أن لا يحاصهم فيه غيرهم من الفقراء والشأن ، في اليتامى في الغالب أن لا تكون لهم سعة في المكاسب فهم مظنّة الحاجّة ، ولكنّها دون الفقر فجُعل لهم حقّ في المغنم توفيراً عليهم في إقامة شؤونهم ، فهم من الحاجة المالية أحسن حالاً من المساكين ، وهم من حالة المقدرة أضعف حالاً منهم ، فلو كانوا أغنياء بأموال تركها لهم آباؤهم فلا يعطون من الخمس شيئاً .
والمساكينُ الفقراء الشديدو الفقرِ جعل الله لهم خمس الخمس كما جعل لهم حقّاً في الزكاة ، ولم يجعَل للفقراء حقّاً في الخمس كما لم يجعل لليتامى حقّاً في الزكاة .
وابنُ السبيل أيضاً في حاجة إلى الإعانة على البلاغ وتسديد شؤونه ، فهو مظنّة الحاجة ، فلو كان ابن السبيل ذا وفْر وغنىً لم يعط من الخمس ، ولذلك لم يشترط مالك وبعض الفقهاء في اليتامى وأبناءِ السبيل الفقر ، بل مُطلقَ الحاجة . واشترط أبو حنيفة الفقر في ذوي القربى واليتامى وأبناء السبيل ، وجعل ذكرِهم دون الاكتفاء بالمساكين ؛ لتقرير استحقاقهم .
وقوله : { إن كنتم آمنتم بالله } شرط يتعلق بما دلّ عليه قوله : { واعلموا أنما غنمتم } لأن الأمر بالعلم لما كان المقصود به العملَ بالمعلوم والأمتثالَ لمقتضاه كما تقدّم ، صحّ تعلّق الشرط به ، فيكون قوله : { واعلموا } دليلاً على الجواب أوْ هو الجوابَ مقدّماً على شرطه ، والتقدير : إنْ كنتم آمنتم بالله فاعلموا أنّ ما غنمتم إلخ . واعمَلوا بما علمتم فاقطعوا أطماعكم في ذلك الخمس واقتنعوا بالأخماس الأربعة ، لأنّ الذي يتوقّف على تحقّق الإيمان بالله وآياته هو العِلم بأنّه حكم الله مع العمل المترتّب على ذلك العلم . مطلق العلم بأنّ الرسول قال ذلك .
والشرط هنا محقق الوقوع إذ لا شك في أنّ المخاطبين مؤمنون بالله والمقصود منه تحقّق المشروط ، وهو مضمون جملة { واعلموا أن ما غنمتم من شيء } إلى آخرها . وجيء في الشرط بحرف ( إنْ ) التي شأن شرطها أن يكون مشكوكاً في وقوعه زيادة في حثّهم على الطاعة حيث يفرض حالهم في صورة المشكوك في حصول شرطه إلهاباً لهم ؛ ليبعثهم على إظهار تحقّق الشرط فيهم ، فالمعنى : أنكم آمنتم بالله والإيمانُ يرشد إلى اليقين بتمام العلم والقدرة له وآمنتم بما أنزل الله على عبده يومَ بدر حين فرق الله بين الحقّ والباطل فرأيتم ذلك رأي العين وارتقى إيمانكم من مرتبة حقّ اليقين إلى مرتبة عين اليقين فعلمتم أنّ الله أعلم بنفعكم من أنفسكم إذ يعدكم إحدى الطائفتين أنّها لكم وتودّون أنّ غير ذات الشوكة تكون لكم ، فكان ما دفعكم الله إليه أحفظ لمصلحتكم وأشدّ تثبيتاً لقوّة دينكم . فمَن رأوا ذلك وتحقّقوه فهم أحرياء بأن يعلموا أنّ ما شرع الله لهم من قسمة الغنائم هو المصلحة ، ولم يعبأوا بما يدخل عليهم من نقص في حظوظهم العاجلة ، علماً بأنّ وراء ذلك مصالحَ جمة آجلة في الدنيا والآخرة .
وقوله : { وما أنزلنا } عطف على اسم الجلالة ، والمعنى : وآمنتم بما أنزلنا على عبدنا يوم الفرقان ، وهذا تخلّص للتذكير بما حصل لهم من النصر يوم بدر ، والإيمانُ به يجوز أن يكون الاعتقاد الجازم بحصوله ، ويجوز أن يكون العلم به ، فيكون على الوجه الثاني من استعمال المشترك في معنييه ، أو من عموم المشترك .
وتخصيص { ما أنزلنا على عبدنا يوم الفرقان } بالذكر من بين جملة المعلومات الراجعة للاعتقاد ، لأن لذلك المُنْزَل مزيد تعلق بما أمروا به من العمل المعبر عنه بالأمر بالعلم في قوله تعالى : { واعلموا } .
والإنزالُ : هو إيصال شيء من علُوّ إلى سُفل ، وأطلق هنا على إبلاغ أمر من الله ، ومن النعم الإلهية إلى الرسول صلى الله عليه وسلم والمسلمين ، فيجوز أن يكون هذا المُنزل من قبيل الوحي ، أي والوحي الذي أنزلناه على عبدنا يوم بَدر ، لكنه الوحي المتضمّن شيئاً يؤمنون به مثل قوله : { وإذ يعدكم الله إحدى الطائفتين أنها لكم } [ الأنفال : 7 ] .
ويجوز أن يكون من قبيل خوارق العادات ، والألطاف العجيبة ، مثل إنزال الملائكة للنصر ، وإنزال المطر عند حاجة المسلمين إليه ، لتعبيد الطريق ، وتثبيتتِ الأقدام ، والاستقاء .
وإطلاق الإنزال على حصوله استعارة تشبيهاً له بالواصل إليهم من علوّ تشريفاً له كقوله تعالى : { فأنزل الله سكينته على رسوله وعلى المؤمنين } [ الفتح : 26 ] . والتطهر ولا مانع من إرادة الجميع لأنّ غرض ذلك واحد ، وكذلك ما هو من معناه ممّا نعلمه أو لما علمناه .
و { يوم الفرقان } هو يوم بدر ، وهو اليوم السابع عشر من رمضان سنة اثنتين سمّي يوم الفرقان ؛ لأنّ الفرقان الفرق بين الحقّ والباطل كما تقدّم آنفاً في قوله : { يا أيها الذين آمنوا إن تتقوا الله يجعل لكم فرقاناً } [ الأنفال : 29 ] وقد كان يوم بدر فارقاً بين الحقّ والباطل ؛ لأنّه أول يوم ظهر فيه نصر المسلمين الضعفاء على المشركين الأقوياء ، وهو نصر المحقّين الأذلّة على الأعزّة المبطلين ، وكفى بذلك فرقاناً وتمييزاً بين من هم على الحقّ ، ومن هم على الباطل .
فإضافة { يوم } إلى { الفرقان } إضافة تنويه به وتشريف ، وقوله : { يوم التقى الجمعان } بدل من { يوم الفرقان } فإضافة { يوم } إلى جملة : { التقى الجمعان } للتذكير بذلك الإلتقاء العجيب الذي كان فيه نصرهم على عدوّهم . والتعريف في { الجمعان } للعهد . وهما جمع المسلمين وجمع المشركين .
وقوله : { والله على كل شيء قدير } اعتراض بتذييل الآيات السابقة وهو متعلّق ببعض جملة الشرط في قوله : { وما أنزلنا على عبدنا يوم الفرقان يوم التقى الجمعان } فإنّ ذلك دليل على أنّه لا يتعاصى على قدرته شيء ، فإنّ ما أسداه إليكم يوم بدر لم يكن جارياً على متعارف الأسباب المعتادة ، فقدرة الله قلبت الأحوال وأنشأت الأشياءَ من غير مجاريها ولا يبعد أن يكون من سبب تسمية ذلك اليوم { يوم الفرقان } أنّه أضيف إلى الفرقان الذي هو لَقب القرآن ، فإنّ المشهور أنّ ابتداء نزول القرآن كان يوم سبعة عشر من رمضان ، فيكون من استعمال المشترك في معنييه .