59- يا أيها الذين صدَّقوا بما جاء به محمد أطيعوا الله ، وأطيعوا الرسول ، والذين يلون أمركم من المسلمين القائمين بالحق والعدل والمنفذين الشرع ، فإن تنازعتم في شيء فيما بينكم فاعرضوه على كتاب الله وعلى سنة رسوله لتعلموا حكمه ، فإنه أنزل عليكم كتابه وبينه رسوله ، وفيه الحكم فيما اختلفتم فيه ، وهذا مقتضى إيمانكم بالله واليوم الآخر ، وهو خير لكم ، لأنكم تهتدون به إلى العدل فيما اختلفتم فيه ، وهو أحسن عاقبة ، لأنه يمنع الخلاف المؤدِّى إلى التنازع والضلال .
قوله تعالى : { يا أيها الذين آمنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم } . اختلفوا في أولي الأمر ، قال ابن عباس وجابر رضي الله عنهم : هم الفقهاء والعلماء الذي يعلمون الناس معالم دينهم ، وهو قول الحسن ، والضحاك ، ومجاهد . ودليله قوله تعالى : { ولو ردوه إلى الرسول وإلى أولي الأمر منهم لعلمه الذين يستنبطونه منهم } [ النساء :83 ] . وقال أبو هريرة : هم الأمراء والولاة ، وقال علي بن أبي طالب رضي الله عنه : حق على الإمام أن يحكم بما أنزل الله ، ويؤدي الأمانة ، فإذا فعل ذلك فحق علي الرعية أن يسمعوا ، ويطيعوا .
أخبرنا أبو علي حسان بن سعد المنيعي ، أنا أبو طاهر محمد بن محمد بن محمش الزيادي ، أنا أبو بكر محمد بن الحسين القطان ، أنا أحمد بن يوسف السلمي ، أنا عبد الرزاق ، أنا معمر عن همام بن منبه ، أنا أبو هريرة رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( من أطاعني فقد أطاع الله ، ومن عصاني فقد عصى الله ، ومن يطع الأمير فقد أطاعني ، ومن يعص الأمير فقد عصاني ) .
أخبرنا عبد الواحد بن أحمد المليحي ، أنا أحمد بن عبد الله النعيمي ، أخبرنا محمد بن يوسف ، أنا محمد ابن إسماعيل ، أنا مسدد ، أنا يحيى بن سعيد ، عن عبيد الله ، حدثني نافع ، عن عبد الله رضي الله عنهم عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : ( السمع والطاعة على المرء المسلم فيما أحب وكره ، ما لم يؤمر بمعصية ، فإذا أمر بمعصية فلا سمع ولا طاعة ) .
أخبرنا أبو الحسن عبد الرحمن محمد الراودي ، أنا أبو الحسن أحمد بن محمد بن موسى بن الصلت ، أنا أبو إسحاق إبراهيم بن عبد الصمد الهاشمي ، أنا أبو مصعب عن مالك بن أنس عن يحيى بن سعيد ، أخبرني عبادة بن الوليد ابن عبادة أن أباه أخبره عن عبادة بن الصامت قال : ( بايعنا رسول الله صلى الله عليه وسلم على السمع والطاعة ، في العسر واليسر ، والمنشط والمكره ، وعلى أمرة علينا ، وعلى أن لا ننازع الأمر أهله ، وعلى أن نقول بالحق أينما كنا لا نخاف في الله لومة لائم . أخبرنا أبو عبد الله عبد الرحمن بن عبيد الله بن أحمد القفال ، أنا أبو منصور أحمد بن الفضل البروجردي ، أنا أبو بكر بن محمد بن همدان الصيرفي ، أنا محمد بن يوسف الكديمي ، قال : أخبرنا أبو داود الطيالسي ، عن شعبة عن أبي التياح عن أنس رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لأبي ذر : ( اسمع وأطع ولو لعبد حبشي كأن رأسه زبيبة ) .
أخبرنا أبو عثمان سعيد بن إسماعيل الضبي ، أنا أبو محمد بعد الجبار بن محمد الجراحي ، أنا أبو العباس ، أنا محمد بن أحمد المحبوبي ، أنا أبو عيسى الترمذي ، أنا موسى بن عبد الرحمن الكندي ، أنا زيد بن الحباب ، أنا معاوية ابن صالح ، حدثني سليم بن عامر قال : سمعت أبا أمامة رضي الله عنه يقول : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يخطب في حجة الوداع فقال : ( اتقوا الله ، وصلوا خمسكم ، وصوموا شهركم ، وأدوا زكاة أموالكم ، وأطيعوا ذا أمركم تدخلوا جنة ربكم ) .
أخبرنا عبد الواحد بن أحمد المليحي ، أنا أحمد بن عبد الله النعيمي ، أنا محمد بن يوسف ، أنا محمد بن إسماعيل ، أنا صدقة بن الفضل ، أنا حجاج ابن محمد ، عن يعلى بن مسلم عن سعيد بن جبير عن ابن عباس في قوله تعالى : ( أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم ) . قال : نزلت في عبيد الله ابن حذافة بن قيس بن عدي إذ بعثه النبي صلى الله عليه وسلم في سرية . وقال عكرمة : أراد بأولي الأمر ، أبا بكر ، وعمر رضي الله عنهما .
حدثنا أبو المظفر محمد بن أحمد التهمي ، أنا أبو محمد عبد الرحمن بن عثمان ابن القاسم ، أخبرنا خيثمة بن سليمان بن حيدرة الأطرابلسي ، أنا عمرو بن أبي غرزة بالكوفة ، أخبرنا ثابت بن موسى العابد ، عن سفيان بن عيينة ، عن عبد الملك بن عمير ، عن ربعي ، عن حذيفة رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( إني لا أدري ما بقائي فيكم فاقتدوا باللذين من بعدي أبي بكر وعمر رضي الله عنهما ) .
وقال عطاء : هم المهاجرون ، والأنصار ، والتابعون لهم بإحسان بدليل قوله تعالى : ( والسابقون الأولون من المهاجرين والأنصار ) الآية .
أخبرنا أبو بكر محمد بن عبد الله بن أبي توبة ، أنا أبو طاهر محمد بن أحمد ابن الحارث ، أنا محمد بن يعقوب الكسائي قال : أخبرنا عبد الله بن محمود ، أنا أبو إسحاق إبراهيم بن عبد الله الخلال ، أنا عبد الله بن المبارك ، عن إسماعيل المكي ، عن الحسن ، عن أنس بن مالك رضي الله عنهم قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( مثل أصحابي في أمتي كالملح في الطعام ، لا يصلح الطعام إلا بالملح ) .
قال الحسن : قد ذهب ملحناً فكيف نصلح .
قوله تعالى : { فإن تنازعتم } . أي : اختلفتم .
قوله تعالى : { في شيء } من أمر دينكم ، والتنازع اختلاف الآراء ، وأصله من النزاع فكأن المتنازعين يتجاذبان ويتمانعان .
قوله تعالى : { فردوه إلى الله والرسول } . أي : إلى كتاب الله وإلى رسوله مادام حيا ، وبعد وفاته إلى سنته ، والرد إلى الكتاب والسنة واجب إن وجد فيهما ، فإن لم يوجد فسبيله الاجتهاد ، وقيل : الرد إلى الله تعالى والرسول أن يقول لما لا يعلم : الله ورسوله أعلم .
قوله تعالى : { إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر ذلك } ، أي : الرد إلى الله والرسول .
وبعد أن أمر - سبحانه بأداء الأمانة وبالحكم بالعدل عقب ذلك بأمر المؤمنين بطاعته وطاعة رسوله وولاة أمورهم فقال - تعالى - : { يَا أَيُّهَا الذين آمَنُواْ أَطِيعُواْ الله وَأَطِيعُواْ الرسول وَأُوْلِي الأمر مِنْكُمْ } .
وطاعة الله وطاعة رسوله متلازمتان . قال - تعالى - : { مَّنْ يُطِعِ الرسول فَقَدْ أَطَاعَ الله } ومعنى طاعتهما : التزام أوامرهما ، واجتناب نواهيهما .
والمراد بأولى الأمر - على الراجح - الحكام . وطاعتهم إنما تكون فى غير معصية الله ، فإذا أمروا بأولى الأمر - على الراجح - الحكام . وطاعتهم إنما تكون فى غير معصية الله ، فإذا أمروا بما يتنافى مع تعاليم الدين فلا سمع لهم على الأمة ولا طاعة .
وإنما أمرنا الله - تعالى - بطاعتهم فى غير معصية ، لأنهم هم المنفذون لتعاليم الشريعة ، وهم الذين بيدهم مقاليد الأمة التى يقومون على رعاية مصالحها ، ولأن عدم طاعتهم يؤدى إلى اضطراب أحواله الأمة وفسادها .
قال صاحب الكشاف : والمراد ب { وَأُوْلِي الأمر مِنْكُمْ } : أمراء الحق ، لأن - أمراء الجور - الله ورسوله بريئان منهم ، فلا يعطفون على الله ورسوله بوجوب الطاعة لهم . وإنما يجمع بين الله ورسوله والأمراء الموافقين لهما فى إيثار العدل واختيار الحق والأمر بهما . والنهى عن أضدادهما كالخلفاء والراشدين ومن تبعهم بإحسان . وكان الخلفاء يقولون : أطيعونى ما عدلت فيكم . فان خالفت فلا طاعة لى عليكم ، وعن أبى حازم أن مسلمة بن عبد الملك قال له : ألستم أمرتم بطاعتنا فى قوله { وَأُوْلِي الأمر مِنْكُمْ } فقال له : أليس قد نزعت عنكم إذا خالفتم الحق بقوله : { فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى الله والرسول } .
وقيل هم العلماء الدينيون الذين يعلمون الناس ويأمرونهم بالمعروف وينهونهم عن المنكر .
وأعاد - سبحانه - الفعل { أَطِيعُواْ } مع الرسول فقال : { أَطِيعُواْ الله وَأَطِيعُواْ الرسول } ولم يعده مع أولى الأمر ، للإِشارة إلى استقلال الرسول صلى الله عليه وسلم بالطاعة حتى ولو كان ما يأمر به ليس منصوصا عليه فى القرآن ، لأنه لا ينطق عن الهوى ، وللإِيذان بأن طاعة الرسول صلى الله عليه وسلم أعلى من طاعة أولى الأمر .
وقوله { مِنْكُمْ } فى محل نصب على الحال من أولى الأمر أى : أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولى الأمر حالة كونهم كائنين منكم أى من دينكم وملتكم .
وفى ذلك إشارة إلى أنه لا طاعة لمن يتحكمون فى شئون المسلمين ممن ليسوا على ملتهم .
وقوله : { فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى الله والرسول إِن كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بالله واليوم الآخر } بيان لما يجب على المؤمنين أن يفعلوه إذا ما حدث بينهم اختلاف فى أمر من الأمور الدينية . والمراد بالتنازع هنا : الاختلاف والجدال مأخوذ من النزع بمعنى الجذب . فكأن كل واحد من المختلفين بجذب من غيره الحجة لدليله . . .
ومنه قول النبى صلى الله عليه وسلم " ما لى أنازع القرآن " أى ينازعنى غيرى ويجاذبنى فى القراءة . وذلك أن بعض المأمومين جهر خلفه فنازعه قراءة فشغله ، فنهاه عن الجهر بالقراءة فى الصلاة خلفه .
والمعنى : فان تنازعتم واختلفتم أيها المؤمنون أنتم وألوا الأمر منكم فى أمر من أمور الدين { فَرُدُّوهُ إِلَى الله والرسول } أى فردوا ذلك الحكم أو الأمر الذى اختلفتم فيه إلى كتاب الله وإلى رسوله صلى الله عليه وسلم بأن تسألوه عنه فى حياته ، وترجعوا إلى سنته بعد مماته .
قال القرطبى : قوله { فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ } أى تجادلتم واختلفتم فى شئ من أمور دينكم { فَرُدُّوهُ إِلَى الله والرسول } أى ردوا ذلك الحكم إلى كتاب الله أو إلى رسوله بالسؤال فى حياته ، أو بالنظر فى سنته بعد وفاته . وهذا قول مجاهد والأعمش وقتادة . وهو الصحيح .
ومن لم ير هذا اختل إيمانه ، لقوله - تعالى { إِن كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بالله واليوم الآخر } .
وفى قوله { فَرُدُّوهُ إِلَى الله والرسول } دليل على أن سنته صلى الله عليه وسلم يعمل بها ويمتثل ما فيها .
قال صلى الله عليه وسلم " ما نهيتكم عنه فاجتنبوه ، وما أمرتكم به فافعلوا منه ما استطعتم . فإنما أهلك من كان قبلكم كثرة مسائلهم واختلافهم على أنبيائهم " أخرجه مسلم .
وروى أبو داود عن أبى رافع عن النبى صلى الله عليه وسلم قال : " لا ألفين أحدكم متكئا على أريكته ، يأتيه الأمر من أمرى مما أمرت به أو نهيت عنه فيقول : لا ندرى ما وجدناه فى كتاب الله اتبعناه " .
وعن العرباض بن سارية أنه حضر رسول الله صلى الله عليه وسلم يخطب الناس وهو يقول :
" أيحسب أحدكم متكئا على أريكته قد يظن أن الله لم يحرم شيئا إلا ما فى هذا القرآن ألا وإنى والله قد أمرت ووعظت ونهيت عن اشياء إنها لمثل القرآن أو أكثر " .
وقوله { إِن كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بالله واليوم الآخر } شرط جوابه محذوف عند جمهور البصريين اكتفاء بدلالة المذكور عليه .
أى : إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر حق الإِيمان فارجعوا فيما تنازعتم فيه من أمور دينية إلى كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم .
والجملة الكريمة تحريض للمؤمنين على الامثال لتعاليم الإِسلام وآدابه ، لأن الإِيمان الحق يقتضى ذلك .
واسم الاشارة فى قوله : { ذلك خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً } يعود إلى الرد إلى الكتاب والسنة وقوله { تَأْوِيلاً } من آل هذا الأمر إلى كذا أى رجع إليه ، فيكون المعنى : ذلك الذى أمرتكم به من رد ما اختلفتم فيه إلى الكتاب والسنة خير لكم وأحمد مغبة ، وأجمل عاقبة .
ويجوز أن يكون قوله { تَأْوِيلاً } معنى التفسير والتوضيح فيكون المعنى :
ذلك أى الرد إلى الكتاب والسنة خير لكم وأحسن تأويلا وتفسيراً من تأويلكم أنتم إياه ، من غير رد إلى اصل من الكتاب والسنة . والأول أنسب لسياق الآية الكريمة .
قال ابن كثير : قوله { فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ } . الآية هذا أمر من الله - تعالى - بأن كل شئ تنازع فيه الناس من أصول الدين وفروعه ، أن يردوا التنازع فى ذلك إلى الكتاب والسنة كما قال - تعالى - : { وَمَا اختلفتم فِيهِ مِن شَيْءٍ فَحُكْمُهُ إِلَى الله } فما حكم به القرآن والسنة وشهد له بالصحة فهو الحق . ماذا بعد الحق إلا الضلال . ولهذا قال - تعالى - : { إِن كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بالله واليوم الآخر } . أى : ردوا الخصومات إلى كتاب الله وسنة رسوله فتحاكموا إليهما فيما شجر بينكم إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر . فدل على أن من لم يتحاكم فى محل النزاع إلى الكتاب والسنة ، ولا يرجع إليهما فى ذلك ، فليس مؤمنا بالله ولا باليوم الآخر .
وقال بعض العلماء : قد يؤخذ من الآية التى معنا أن أدلة الأحكام الشرعية أربعة . وهى : الكتاب والسنة والإِجماع والقياس . . لأن الأحكام إما منصوبة فى الكتاب أو السنة وذلك قوله : { أَطِيعُواْ الله وَأَطِيعُواْ الرسول } . وإما مجمع عليها من أولى الأمر بعد استنادهم إلى دليل علموه . وذلك قوله { وَأُوْلِي الأمر مِنْكُمْ } وإما غير منصوصة ولا مجمع عليها . وهذه سبيلها الاجتهاد والرد إلى الله والرسول وذلك هو القياس .
فما اثبته الفقهاء والأصوليون غير هذه الأربعة كالاستحسان الذى يراه الأحناف دليلا .
وإثبات الأحكام الشرعية تمشيا مع المصلاح المرسلة الذى يقول به المالكية ، والاستصحاب الذى يقول به الشافعية ، كل ذلك إن كان غير هذه الأربعة فمردود بظاهر هذه الآية ، وإن كان راجعا إليها فقد ثبت أن الأدلة أربعة .
{ يا أيها الذين آمنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم } يريد بهم أمراء المسلمين في عهد الرسول صلى الله عليه وسلم وبعده ، ويندرج فيهم الخلفاء والقضاة وأمراء السرية . أمر الناس بطاعتهم بعدما أمرهم بالعدل تنبيها على أن وجوب طاعتهم ما داموا على الحق . وقيل علماء الشرع لقوله تعالى : { ولو ردوه إلى الرسول وإلى أولي الأمر منهم لعلمه الذين يستنبطونه منهم } . { فإن تنازعتم } أنتم وأولو الأمر منكم . { في شيء } من أمور الدين ، وهو يؤيد الوجه الأول إذ ليس للمقلد أن ينازع المجتهد في حكمه بخلاف المرؤوس إلا أن يقال الخطاب لأولي الأمر على طريقة الالتفات . { فردوه } فراجعوا فيه . { إلى الله } إلى كتابه . { والرسول } بالسؤال عنه في زمانه ، والمراجعة إلى سنته بعده . واستدل به منكرو القياس وقالوا : إنه تعالى أوجب رد المختلف إلى الكتاب والسنة دون القياس . وأجيب بأن رد المختلف إلى المنصوص عليه إنما يكون بالتمثيل والبناء عليه وهو القياس ، ويؤيد ذلك الأمر به بعد الأمر بطاعة الله وطاعة رسوله فإنه يدل على أن الأحكام ثلاثة مثبت بالكتاب ومثبت بالسنة ومثبت بالرد إليهما على وجه القياس . { إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر } فإن الإيمان يوجب ذلك . { ذلك } أي الرد . { خير } لكم . { وأحسن تأويلا } عاقبة أو أحسن تأويلا من تأويلكم بلا رد .
وقوله عز وجل : { يا أيها الذين آمنوا أطيعوا الله } لما تقدم إلى الولاة في الآية المتقدمة ، تقدم في هذه إلى الرعية ، فأمر بطاعته عز وجل ، وهي امتثال أوامره ونواهيه ، وطاعة رسوله ، وطاعة الأمراء على قول الجمهور : أبي هريرة وابن عباس وابن زيد وغيرهم ، فالأمر على هذا التأويل إشارة إلى القرآن والشريعة ، أي : أولي هذا الأمر ، وعن عبد الله ومجاهد وجماعة : أولو الأمر : أهل القرآن والعلم{[4118]} ، فالأمر على هذا التأويل أشار إلى القرآن والشريعة ، أي : أولي هذا الأمر وهذا الشأن وحكى الطبري عن مجاهد أنه قال : الإشارة هنا ب { أولي الأمر } إلى أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم خاصة ، وحكي عن عكرمة أنها إشارة إلى أبي بكر وعمر خاصة ، وفي هذا التخصيص بعد ، وحكى بعض من قال : إنهم الأمراء أنها نزلت في أمراء رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وكان السبب أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعث سرية فيها عمار بن ياسر ، وأميرها خالد بن الوليد ، فقصدوا قوماً من العرب ، فأتاهم نذير فهربوا تحت الليل .
وجاء منهم رجل إلى عسكر خالد ، فدخل إلى عمار فقال : يا أبا اليقظان ، إن قومي قد فروا ، وإني قد أسلمت ، فإن كان ينفعني إسلامي بقيت ، وإلا فررت ، فقال له عمار : هو ينفعك ، فأقم ، فلما أصبحوا أغار خالد فلم يجد سوى الرجل المذكور فأخذه وأخذ ماله ، فجاء عمار فقال : خل عن الرجل فإنه قد أسلم وإنه في أمان مني ، فقال خالد : وأنت تجير ؟ فاستبّا وارتفعا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فأجاز أمان عمار ، ونهاه أن يجير الثانية على أمير ، واستبّا عند رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقال خالد : يا رسول الله أتترك هذا العبد الأجدع يسبني ؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم «يا خالد لا تسب عماراً ، فإنه من سب عماراً سبه الله ، ومن أبغض عماراً أبغضه الله ، ومن لعن عماراً لعنه الله ، » فغضب عمار ، فقام فذهب ، فتبعه خالد حتى اعتذر إليه فتراضيا ، فأنزل الله عز وجل قوله : { أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم }{[4119]} وطاعة الرسول هي اتباع سنته ، قاله عطاء وغيره ، وقال ابن زيد : معنى الآية { وأطعيوا الرسول } .
قال القاضي أبو محمد : يريد «وسنته » بعد موته ، المعنى : { فإن تنازعتم } فيما بينكم أو أنتم وأمراؤكم ، ومعنى التنازع أن كل واحد ينتزع حجة الآخر ويذهبها{[4120]} ، والرد إلى الله : هو النظر في كتابه العزيز ، والرد إلى الرسول : هو سؤاله في حياته والنظر في سنته بعد وفاته عليه السلام ، هذا قول مجاهد والأعمش وقتادة والسدي ، وهو الصحيح ، وقال قوم : معناه قولوا : الله ورسوله أعلم ، فهذا هو الرد{[4121]} ، وفي قوله : { إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر } بعض وعيد ، لأن فيه جزاء المسيء العاتي ، وخاطبهم ب { إن كنتم تؤمنون } وهم قد كانوا آمنوا ، على جهة التقرير ، ليتأكد الإلزام ، و { تأويلاً } معناه : مآلاً على قول جماعة ، وقال مجاهد : أحسن جزاء ، قال قتادة والسدي وابن زيد : المعنى أحسن عاقبة ، وقالت فرقة : المعنى أن الله ورسوله أحسن نظراً وتأولاً منكم إذا انفردتم بتأولكم .