قوله تعالى : { ولا تكونوا كالذين خرجوا من ديارهم بطراً } ، فخراً وأشراً .
قوله تعالى : { ورئاء الناس } ، قال الزجاج : البطر : الطغيان في النعمة وترك شكرها ، والرياء : إظهار الجميل ليرى وإبطان القبيح .
قوله تعالى : { ويصدون عن سبيل الله والله بما يعملون محيط } ، نزلت في المشركين حين أقبلوا إلى بدر ولهم بغي وفخر ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( اللهم هذه قريش قد أقبلت بخيلائها وفخرها ، تجادلك وتكذب رسولك ، الله فنصرك الذي وعدتني ، قالوا : لما رأى أبو سفيان أنه قد أحرز عيره أرسل إلى قريش : أنكم إنما خرجتم لتمنعوا عيركم فقد نجاها الله ، فارجعوا ، فقال أبو جهل : والله لا نرجع حتى نرد بدراً ، وكان بدر موسماً من مواسم العرب يجتمع لهم بها سوق كل عام ، فنقيم بها ثلاثاً ، فننحر الجزور ، ونطعم الطعام ، ونسقي الخمر ، وتعزف علينا القيان ، وتسمع بنا العرب فلا يزالون يهابوننا أبداً ، فوافوها ، فسقوا كؤوس المنايا مكان الخمر ، وناحت عليهم النوائح مكان القيان ، فنهى الله عباده المؤمنين أن يكونا مثلهم ، وأمرهم بإخلاص النية ، والحسبة في نصر دينه ، ومؤازرة نبيه صلى الله عليه وسلم .
وبعد هذه التوجيهات السامية التي رسمت للمؤمنين طريق النصر ، نهاهم - سبحانه - عن التشبه بالكافرين الذين صدهم الشيطان عن السبيل الحق ، فقال تعالى : { وَلاَ تَكُونُواْ كالذين . . . عَزِيزٌ حَكِيمٌ } .
قال الفخر الرازى عند تفسيره لقوله - تعالى - { وَلاَ تَكُونُواْ كالذين خَرَجُواْ } المراد قريش حين خرجوا من مكة لحفظ العير . خرجوا يالقيان والمغنيات والمعازف ، فلما وردوا الجحفة ، بعث خفاف الكناتى - وكان صديقا لأبى جهل - بهدايا إليه مع ابن له ، فلما أتاه قال : إن أبى ينعمك صباحا ويقول لك : إن شئت أن أمدك بالرجال أمددتك ، وإن شئت أن أزحف إليك بمن معى من قرايتى فعلت .
فقال أبو جهل : قل لأبيك جزاك الله والرحم خيرا . إن كنا نقاتل الله كما يزعم محمد فوالله ما لنا بالله طاقة . وإن كنا إنما نقاتل الناس . فوالله إن بنا على الناس لقوة . والله ما نرجع عن قتال محمد حتى نرد بدرا فنشرب فيها الخمور ، وتعزف فيها القيان ، فإن بدرا موسم من مواسم العرب ، وسوق من أسواقهم . وحتى تسمع العرب - بمخرجنا فتهابنا آخر الآبد - .
قال المفسرون : فوردوا بدرا ، وشربوا كؤوس المنايا مكان الخمر ، وناحت عليهم النوائح مكان القيان .
وقوله { بَطَراً } مصدر بطر - كفرح - ومعناه كما يقول الراغب : دهش يعترى الإِنسان من سوء احتمال النعمة ، وقلة القيام بحقها ، وصرفها إلى غير وجهها .
أى أن البطر ضرب من التكبر والغرور واتخاذ نعم الله - تعالى - وسيلة إلى ما لا يرضيه وه ومفعول لأجله ، أو حال ، أى : حال كوهم بطرين .
وقوله { وَرِئَآءَ } مصدر رأى ومعناه : القول أو الفعل الذي لا يقصد معه الإِخلاص ، وإنما يقصد به التظاهر وحب الثناء .
والمعنى : كونوا أيها المؤمنون - ثابتين عند لقاء الأعداء ، ومكثرين من ذكر الله وطاعته . وصابرين في كل المواطن . . واحذروا أن تتشبهوا بأولئك المشركين الذين خرجوا من مكة { بَطَراً وَرِئَآءَ الناس } أي خرجوا غرورا وفخرا وتظاهرا بالشجاعة والحمية . . حتى ينالوا الثناء منهم . .
وقوله : { وَيَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ الله } معطوف على { بَطَراً } والسبيل : الطريق الذي فيه سهولة . والمراد بسبيل الله : دينه . لأنه يوصل الناس إلى الخير والفلاح .
أى : خرجوا بطرين بما أوتوا من نعم ومرائين بها الناس ، وصادين إياهم عن دين الإِسلام الذي باتباعه يصلون إلى السعادة والنجاح .
وعبر عن بطرهم وريائهم بصيغة الاسم الدال على التمكن والثبوت ، وعن صدهم بصيغة الفعل الدال على التجدد والحدوث ، للإِشارة بأنهم كانوا مجبولين على البطر والمفاخرة والرياء ، وأن هذه الصفات دابهم وديدنهم ، أما الصد عن سبيل الله فلم يحصل منهم إلا بعد أن دعا الرسول - صلى الله عليه وسلم - الناس إلى الإِسلام .
وقوله : { والله بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ } تذييل قصد به التحذير من الاتصاف بهذه الصفات الذميمة ، لأنه - سبحانه - محيط بكل صغيرة وكبيرة وسيجازى الذين أساءوا بما عملوا ، ويجازى الذين أحسنوا بالحسنى .
{ ولا تكونوا كالذين خرجوا من ديارهم } يعني أهل مكة حين خرجوا منها لحماية العير . { بطرا } فخرا وأشرا . { ورئاء الناس } ليثنوا عليهم بالشجاعة والسماحة ، وذلك أنهم لما بلغوا الجحفة وافاهم رسول أبي سفيان أن ارجعوا فقد سلمت عيركم فقال أبو جهل : لا والله حتى نقدم بدرا ونشرب فيها الخمور وتعزف علينا القيان ونطعم بها من حضرنا من العرب ، فوافوها ولكن سقوا كأس المنايا وناحت عليهم النوائح ، فنهى المؤمنين أن يكونوا أمثالهم بطرين مرائين ، وأمرهم بأن يكونوا أهل تقوى وإخلاص من حيث إن النهي عن الشيء أمر بضده . { ويصدّون عن سبيل الله } معطوف على بطراً إن جعل مصدرا في موضع الحال وكذا إن جعل مفعولا له لكن على تأويل المصدر . { والله بما يعملون محيط } فيجازيكم عليه .
وقوله تعالى : { ولا تكونوا كالذين خرجوا من ديارهم } الآية ، آية تتضمن الطعن على المشار إليهم وهم كفار قريش ، وخرج ذلك على طريق النهي عن سلوك سبيلهم ، والإشارة هي إلى كفار قريش بإجماع ، و «البطر » الأشر وغمط النعمة والشغل بالمرح فيها عن شكرها ، و «الرياء » المباهاة والتصنع بما يراه غيرك ، وهو فعال من راءى يرائي سهلت همزته ، وروي أن أبا سفيان لما أحس أنه قد تجاوز بعيره الخوف من النبي صلى الله عليه وسلم ، وأصحابه بعث إلى قريش فقال : «إن الله قد سلم عيركم التي خرجتم إلى نصرتها فارجعوا سالمين قد بلغتم مرادكم » ، فأتى رأي الجماعة على ذلك ، فقال أبو جهل : والله لا نفعل حتى نأتي بدراً ، وكانت بدر سوقاً من أسواق العرب لها يوم موسم ، فننحر عليها الإبل ونشرب الخمر وتعزف علينا القيان ويسمع بنا العرب ويهابنا الناس .
قال القاضي أبو محمد : فهذا معنى قوله تعالى : { ورئاء الناس } ، ولهذا قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «اللهم إن قريشاً أقبلت بفخرها وخيلائها تحادّك وتكذب رسولك ، اللهم فاحنها الغداة »{[5398]} ، وقال محمد بن كعب القرظي : خرجت قريش بالقيان والدفوف ، وقوله { ويصدون عن سبيل الله } ، أي غيرهم .
قال القاضي أبو محمد : لأنهم أحرى بذلك من أن يقتصر صدهم على أنفسهم ، وقوله { والله بما يعملون محيط } آية تتضمن الوعيد والتهديد لمن بقي من الكفار ونفوذ القدر فيمن مضى بالقتل .