188- وقد حرَّم الله عليكم أكل مال غيركم دون وجه من الحق دائماً ، فلا يستحل أحدكم مال غيره إلا بوجه من الوجوه التي شرعها الله كالميراث والهبة والعقد الصحيح المبيح للملك{[13]} ، وقد ينازع أحدكم أخاه في المال وهو مبطل ، ويرفع أمره إلى الحاكم أو القاضي ليحكم له وينتزع من أخيه ماله بشهادة باطلة أو بينة كاذبة ، أو رشوة خبيثة ، فبئس ما يفعل وما يجرُّ على نفسه من سوء الجزاء .
قوله تعالى : { ولا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل } . قيل نزلت هذه الآية في امرئ القيس بن عابس الكندي ، ادعى عليه ربيعة بن عبدان الحضرمي عند رسول الله صلى الله عليه وسلم أرضاً ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم للحضرمي ، ألك بينة ؟ قال : لا قال : فلك يمينه ، فانطلق ليحلف فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : أما إن حلف على ماله ليأكله ظلماً ليلقين الله وهو عنه معرض ، فأنزل الله هذه الآية : ( ولا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل ) أي لا يأكل بعضكم مال بعض بالباطل ، أي من غير الوجه الذي أباحه الله ، وأصل الباطل الشيء الذاهب ، والأكل بالباطل أنواع : قد يكون بطريق الغصب والنهب ، وقد يكون بطريق اللهو ، كاللهو والقمار وأجرة المغني وغيرهما ، وقد يكون بطريق الرشوة والخيانة .
قوله تعالى : { وتدلوا بها إلى الحكام } . أي تلقوا أمور تلك الأموال بينكم وبين أربابها إلى الحكام ، وأصل الإدلاء : إرسال الدلو وإلقاؤه في البئر ، يقال : أدلى دلوه إذا أرسله ، ودلاه يدلوه ، إذا أخرجه قال ابن عباس : هذا في الرجل يكون عليه مال وليس عليه بينة ، فيجحد المال ويخاصم فيه إلى الحاكم ، وهو يعرف أن الحق عليه وأنه آثم بمنعه ، قال مجاهد في هذه الآية : لا تخاصم وأنت ظالم ، قال الكلبي : هو أن يقيم شهادة الزور وقوله : " وتدلوا " في محل الجزم بتكرير حرف النهي ، معناه : ولا تدلوا بها إلى الحكام ، وقيل معناه : ولا تأكلوا بالباطل وتنسبونه إلى الحكام ، قال قتادة : لا تدل بمال أخيك إلى الحاكم وأنت تعلم أنك ظالم ، فإن قضاءه لا يحل حراماً ، وكان شريح القاضي يقول : إني لأقضي لك وإني لأظنك ظالماً ولكن لا يسعني ! إلا أن أقضي بما يحضرني من البينة ، وإن قضائي لا يحل لك حراماً .
أخبرنا عبد الوهاب بن محمد الخطيب ، أخبرنا عبد العزيز بن أحمد الخلال ، أخبرنا أبو العباس الأصم ، أخبرنا الربيع أخبرنا الشافعي أخبرنا مالك بن أنس ، عن هشام بن عروة عن أبيه عن زينب بنت أبي سلمة عن أم سلمة زوج النبي صلى الله عليه وسلم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " إنما أنا بشر وإنكم تختصمون إلي ، ولعل بعضكم أن يكون ألحن بحجته من بعض فأقضي له على نحو ما أسمع منه ، فمن قضيت له بشيء من حق أخيه فلا يأخذنه ، فإنما أقطع له قطعة من النار " .
قوله تعالى : { لتأكلوا فريقاً } . طائفة .
قوله تعالى : { من أموال الناس بالإثم } . بالظلم ، وقال ابن عباس : باليمين الكاذبة يقطع بها مال أخيه .
وبعد أن أنهى القرآن حديثه عن الصيام ، وما يتعلق به من أحكام ، أردف ذلك بالنهي عن أكل الحرام ، لأنه يؤدي إلى عدم قبول العبادات من صيام واعتكاف ودعاء وغير ذلك فقال - تعالى - : { وَلاَ تأكلوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بالباطل وَتُدْلُواْ بِهَا إِلَى الحكام . . . }
الخطاب في الآية الكريمة موجه إلى المؤمنين كافة في كل زمان ومكان .
والمراد بالأكل مطلق الأخذ بغير وجه حق ، وعبر عنه بالأكل ، لأن الأكل أهم وسائل الحياة ، وفيه تصرف الأموال غالباً .
والباطل في اللغة : الزائل الذاهب ، يقال : بطل يبطل بطولا وبطلانا . أي ذهب ضياًعا وخسراً . وجمع الباطل أباطيل . ويقال : بطل الأجير يبطل بطالة إذا تعطل واتبع اللهو .
والمراد هنا : كل ما لم يبح الشرع أخذه من المال وإن طابت به النفس ، كالربا والميسر وثمن الخمر ، والرشوة ، وشهادة الزور ، والسرقة ، والغصب ، ونحو ذلك مما حرمه الله - تعالى - .
والباء للسببية ، والجار والمجرور متعلق بالفعل قبله ، وكذلك قوله : { بَيْنَكُمْ } .
والمعنى : لا يأخذ بعضكم مال بعض ، ويستولي عليه بغير حق ، متذرعا بالأسباب الباطلة ، والحيل الزائفة ، وما إلى ذلك من وجوه التعدي والظلم .
وفي قوله - تعالى - : { أَمْوَالَكُمْ } - مع أن أكل المال يتناول مال الإِنسان ومال غيره - في هذا القول إشعار بوحدة الأمة وتكافلها ، وتنبيه إلى أن احترام مال غيرك وحفظه هو عين الاحترام والحفظ لمالك أنت ، ففي هذه الإضافة البليغة تعليل للنهي ، وبيان لحكمة الحكم ، إذا استحلال الإِنسان لمال غيره يجرئ هذا الغير على استحلال مال ذلك الإِنسان المتعدي ، وإذا فشا هذا السلوك في أمة من الأمم أدى بها إلى الضعف والتعادي والتباغض .
فما أحكم هذا التعبير ، وما أجمل هذا التصوير .
وقوله : { وَتُدْلُواْ بِهَا إِلَى الحكام } معطوف على { وَلاَ تأكلوا } .
والإِدلاء في الأصل : إرسال الدلو في البئر للاستقاء . ثم جعل كل إلقاء قول أو فعل إدلاء ؛ ومنه أدلى فلان بحجته ، أي : أرسلها ليصل إلى مراده .
والمراد بالإِدلاء هنا : الدفع والإِلقاء بالأموال إلى الغير من أجل الوصول إلى أمر معين .
والحكام : جمع حاكم ، وهو الذي يتصدى للفصل بين الناس في خصوماتهم وقضاياهم .
والفرق : الطقعة المعزولة من جملة الشيء ، ومنه قيل للقطعة من الغنم تشذ عن معظمها فريق .
والإِثم : الفعل الذي يستحق صاحبه الذم والعقاب . وجمعه آثام .
والمعنى : لا يأخذ بعضكم أموال بعض - أيها المسلمون - ولا يستولي عليها بغير حق ، ولا تدلوا بها الى الحكام ، أي ولا تلقوا أمرها والتحاكم فيها إلى القضاة ، لا من أجل الوصول إلى الحق ، وإنما من أجل أن تأخذوا عن طريق التحاكم قطعة من أموال غيركم متلبسين بالإِثم الذي يؤدي إلى عقابكم ، حال كونكم تعلمون أنكم على باطل ، ولا شك أن إتيان الباطل مع العلم بأنه باطل أدعى إلى التوبيخ من إتيانه على جهالة به .
فعلى هذا الوجه يكون المراد بالإِدلاء بالأموال إلى الحكام طرحها أمامهم ليقضوا فيها ، وليتوسل بعض الخصوم عن طريق هذا القضاء إلى أكل الأموال بالباطل حين عجزوا عن أكلها بالمغالبة .
وهناك وجه آخر تحتمله الآية احتمالا قريباً ، وبه قال كثير من العلماء وهو أن المراد بالإِدلاء بالأموال إلى الحكام ، إلقاءؤها إليهم على سبيسل الرشوة ليصلوا من وراء ذلك إلى أن يحكموا لصالحهم بالباطل ، وعليه يكون المعنى .
لا يأخذ بضعكم أموال بعض أيها المسلمون ، ولا تلقوا ببعضها إلى حكام السوء على سبيل الرشوة ، لتتوصلوا بأحكامهم الجائرة إلى أكل فريق من أموال الناس بغير حق . ولا غربة في أن يعني القرآن في سياسته الرشيدة بالتحذير من جريمة الرشوة ، فإنها المعول الذي يهدم صرح العدل من أساسه وبها تفقد مجالس القضاء حرمتها وكرامتها ، وتصير تلك المجالس موطنا للظلم لا للعدل .
وخص القرآن الكريم هذه الصورة بالنهي - وهي صورة الإِدلاء بالأموال إلى الحكام - مع أنه قد ذكر ما يشملها بقوله : { وَلاَ تأكلوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بالباطل } لأنها على وجهي تفسيرها شديدة الشناعة ، جامعة لمنكرات كثيرة ، كالظلم ، والتباغض والرشوة ، والغصب وغير ذلك . والحق ، أن هذه الآية الكريمة أصل من الأصول التي يقوم عليها إصلاح المعاملات ، وقد أخذ العلماء منها حرمة أكل أموال الناس بالباطل ، وحرمة إرشاء الحكام ليقضي للراشي بمال غيره ، وقد لعن النبي صلى الله عليه وسلم الجميع في الحديث الذي أخرجه الترمذي عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " لعن الله الراشي والمرتشي والرائش " وهو الواسطة الذي يمشي بينهما .
كما أخذوا منها أن حكم الحاكم على ما يقتضيه الظاهر من أمر القضية لا يحل في الواقع حراماً ، ولا يحرم حلالاً ، والدليل على ذلك ما أخرجه الشيخان عن أم سلمة - رضي الله عنها - عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه سمع خصومة بباب حجرته ، فخرج إليهم فقال : " إنما أنا بشر وإنه ليأتيني الخصم . فلعل بعضكم أن يكون أبلغ من بعض ، فأحسب أنه قد صدق ، فأقضى له بذلك . فمن قضيت له بحق مسلم فإنما هي قطعة من النار فليأخذها أو ليتركها " .
قال الإِمام ابن كثير : فدلت هذه الآية الكريمة وهذا الحديث على أن حكم الحاكم لا يغير الشيء في نفس الأمر ، فلا يحل في نفس الأمر حراماً ولا يحرم حلالا ، وإنماهو ملزم في الظاهر فإن طبق في نفس الأمر فذاك وإلا فللحاكم أجره وعلى المحتال وزره . ولهذا قال - تعالى - في آخر الآية { وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ } . أي تعلمون بطلان ما تدعونه وترجونه في كلامكم . وبذلك تكون الآية الكريمة قد رسمت طريق الحق لمن يريد أن يسير فيه { لِّيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَن بَيِّنَةٍ ويحيى مَنْ حَيَّ عَن بَيِّنَةٍ وَإِنَّ الله لَسَمِيعٌ عَلِيمٌ } .
قال علي ابن أبي طلحة ، وعن ابن عباس : هذا في الرجل يكون عليه مال ، وليس عليه فيه بَيِّنة ، فيجحد المال ويخاصم إلى الحكام ، وهو يعرف أن الحق عليه ، وهو يعلم أنه آثم آكل حرامٍ .
وكذا روي عن مجاهد ، وسعيد بن جُبَير ، وعكرمة ، والحسن ، وقتَادة ، والسدّي ، ومقاتل بن حَيّان ، وعبد الرحمن بن زيد بن أسلم أنهم قالوا : لا تُخَاصمْ وأنت تعلمُ أنَّك ظالم . وقد ورد{[3367]} في الصحيحين عن أم سلمة : أنّ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم قال : " ألا إنما أنا بَشَر ، وإنما يأتيني الخصم فلعل بعضكم أن يكون ألحن بحجته من بعض فأقضي له ، فمن قضيت له بحق مسلم ، فإنما هي قطعة من نار ، فَلْيَحْملْهَا ، أو ليذَرْها " {[3368]} . فدلت هذه الآية الكريمة ، وهذا الحديث على أنّ حكم الحاكم لا يغير الشيء في نفس الأمر ، فلا يُحلّ في نفس الأمر حرامًا هو حرام ، ولا يحرم حلالا هو حلال ، وإنما هو يلزم{[3369]} في الظاهر ، فإن طابق في{[3370]} نفس الأمر فذاك ، وإلا فللحاكم أجرُه وعلى المحتال وزْره ؛ ولهذا قال تعالى : { وَلا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ وَتُدْلُوا بِهَا إِلَى الْحُكَّامِ لِتَأْكُلُوا فَرِيقًا } [ أي : طائفة ]{[3371]} { مِنْ أَمْوَالِ النَّاسِ بِالإثْمِ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ } أي : تعلمون بطلان ما تدعونه وتروجون في كلامكم .
قال قتادة : اعلم - يا ابن آدم - أن قضاء القاضي لا يُحِل لك حرامًا ، ولا يُحقُّ لك باطلا وإنما يقضي القاضي بنحو ما يرى {[3372]} ويشهد به الشهود ، والقاضي بَشَر يخطئ ويصيب ، واعلموا أنّ من قُضي له بباطل أنّ خصومته لم تَنْقَض حتى يجمع الله بينهما يوم القيامة ، فيقضي على المبطل للمحق بأجودَ مما قضي به للمبطل على المحق في الدنيا .
وقال أبو حنيفة : حكم الحاكم بطلاق الزوجة إذا شهد عنده شاهدا زور في نفس الأمر ، ولكنهما عدلان عنده يحلها للأزواج حتى للشاهدين ويحرمها على زوجها الذي حكم بطلاقها منه ، وقالوا : هذا كلعان المرأة ، إنه يبينها من زوجها ويحرمها عليه ، وإن كانت كاذبة في نفس الأمر ، ولو علم الحاكم بكذبها لحدها ولما حرمها وهذا أولى .
مسألة : قال القرطبي : أجمع أهل السنة على أن من أكل مالا حرامًا ولو ما يصدق عليه اسم المال أنه يفسق ، وقال بشر بن المعتمر في طائفة من المعتزلة : لا يفسق إلا بأكل مائتي درهم فما زاد ، ولا يفسق بما دون ذلك ، وقال الجبائي : يفسق بأكل درهم فما فوقه إلا بما دونه .
{ ولا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل } أي ولا يأكل بعضكم مال بعض بالوجه الذي لم يبحه الله تعالى . وبين نصب على الظرف ، أو الحال من الأموال . { وتدلوا بها إلى الحكام } عطف على المنهي ، أو نصب بإضمار أن ، والإدلاء الإلقاء ، أي ولا تلقوا حكومتها إلى الحكام . { لتأكلوا } بالتحاكم . { فريقا } طائفة . { من أموال الناس بالإثم } بما يوجب إثما ، كشهادة الزور واليمين الكاذبة ، أو ملتبسين بالإثم . { وأنتم تعلمون } أنكم مبطلون ، فإن ارتكاب المعصية مع العلم بها أقبح . روي أن عبدان الحضرمي ادعى على امرئ القيس الكندي قطعة من أرض ولم يكن له بينة ، فحكم رسول الله صلى الله عليه وسلم بأن يحلف امرؤ القيس ، فهم به فقرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم : { إن الذين يشترون بعهد الله وأيمانهم ثمنا قليلا } الآية . فارتدع عن اليمين ، وسلم الأرض إلى عبدان ، فنزلت . وفيه دليل على أن حكم القاضي لا ينفذ باطنا ، ويؤيده قوله عليه الصلاة والسلام : " إنما أنا بشر وأنتم تختصمون إلي . ولعل بعضكم يكون ألحن بحجته من بعض ، فأقضي له على نحو ما أسمع منه ، فمن قضيت له بشيء من حق أخيه فإنما أقضي له قطعة من نار " .
عطف جملة على جملة ، والمناسبة أن قوله : { تلك حدود الله فلا تقربوها } [ البقرة : 187 ] تحذير من الجُرأَة على مخالفة حكم الصيام بالإفطار غير المأذون فيه وهو ضرب من الأكل الحرام فعطف عليه أكل آخر محرم وهو أكل المال بالباطل ، والمشاكلة زادت المناسبةَ قوة ، وهذا من جملة عداد الأحكام المشروعة لإصلاح ما اختل من أحوالهم في الجاهلية ، ولذلك عطف على نظائره وهو مع ذلك أصل تشريع عظيم للأموال في الإسلام .
كان أكل المال بالباطل شنشنة معروفة لأهل الجاهلية بل كان أكثر أحوالهم المالية فإن اكتسابهم كان من الإغارة ومن الميسِر ، ومن غصب القوي مال الضعيف ، ومن أكل الأولياء أموال الأيتام واليتامى ، ومن الغرر والمقامرة ، ومن المراباة ونحو ذلك ، وكل ذلك من الباطل الذي ليس عن طيب نفس .
والأكل حقيقته إدخال الطعام إلى المعدة من الفم وهو هنا استعارة للأخذ بقصد الانتفاع دون إرجاع ؛ لأن ذلك الأخذ يشبه الأَكل من جميع جهاته ، ولذلك لا يطلق على إحراق مال الغير اسم الأكل ولا يطلق على القرض والوديعة اسم الأكل ، وليس الأكل هنا استعارة تمثيلية ؛ إذ لا مناسبة بين هيئة آخذ مال غيره لنفسه بقصد عدم إرجاعه وهيئة الأكل كما لا يخفى .
والأموال جمع مال ونُعرِّفه بأنه « ما بقدره يكون قدر إقامة نظام معاش أفراد الناس في تناول الضروريات والحاجيات والتحسينيَّات بحسب مبلغ حضارتهم حاصلاً بكدح » ، فلا يعد الهواء مالاً ، ولا ماء المطر والأودية والبحار مالاً ، ولا التراب مالاً ، ولا كهوف الجبال وظلال الأشجار مالاً ، ويعد الماء المحتفر بالآبار مالاً ، وتراب المقاطع مالاً ، والحشيش والحطب مالاً ، وما ينحته المرء لنفسه في جبلٍ مالاً .
والمالُ ثلاثة أنواع : النوع الأول ما تحصل تلك الإقامة بذاته دون توقف على شيء وهو الأطعمة كالحبوب ، والثمار ، والحيوان لأكله وللانتفاع بصوفه وشعره ولبنه وجلوده ولركوبه قال تعالى : { وجعل لكم من جلود الأنعام بيوتاً تستخفونها يوم ظعنكم ويوم إقامتكم ومن أصوافها وأوبارها وأشعارها أثاثاً ومتاعاً إلى حين } [ النحل : 80 ] وقال : { لتركبوا منها ومنها تأكلون } [ غافر : 79 ] وقد سمت العرب الإبل مالاً قال زهير :
* صَحِيحَاتِ مَالٍ طَالِعَاتٍ بمَخْرَم *
وقال عمر : " لولا المال الذي أحمل عليه في سبيل الله ما حَمَيْتُ عليهم من بلادهم شبراً " وهذا النوع هو أعلى أنواع الأموال وأثبتها ، لأن المنفعة حاصلة به من غير توقف على أحوال المتعاملين ولا على اصطلاحات المنظمين ، فصاحبه ينتفع به زمن السلم وزمن الحرب وفي وقت الثقة ووقت الخوف وعند رضا الناس عليه وعدمه وعند احتياج الناس وعدمه ، وفي الحديث « يقول ابن آدَمَ مَالِي مَالِي وإنما مالك ما أكلت فأَمريت أو أَعطيتَ فأغنيت » فالحصر هنا للكمال في الاعتبار من حيث النفع المادي والنفع العرضي .
النوع الثاني : ما تحصل تلك الإقامة به وبما يكمله مما يتوقف نفعه عليه كالأرض للزرع وللبناء عليها ، والنار للطبخ والإذابة ، والماء لسقي الأشجار ، وآلات الصناعات لصنع الأشياء من الحطب والصوف ونحو ذلك ، وهذا النوع دون النوع الثاني لتوقفه على أشياء ربما كانت في أيدي الناس فضنت بها وربما حالت دون نوالها موانع من حرب أو خوف أو وعورة طريق .
النوع الثالث : ما تحصل الإقامةُ بعوضه مما اصطلح البشر على جعله عوضاً لما يراد تحصيله من الأشياء ، وهذا هو المعبَّر عنه بالنَّقد أو بالعُمْلة ، وأكثر اصطلاح البشر في هذا النوع على معدني الذهب والفضة وما اصطلح عليه بعض البشر من التعامل بالنحاس والوَدَع والخرزات وما اصطلح عليه المتأخرون من التعامل بالحديد الأبيض وبالأوراق المالية وهي أوراق المصارف المالية المعروفة وهي حجج التزام من المصرف بدفع مقدار ما بالورقة الصادرة منه ، وهذا لا يتم اعتباره إلاّ في أزمنة السلم والأَمن وهو مع ذلك متقارب الأفراد ، والأوراق التي تروجها الحكومات بمقادير مالية يتعامل بها رعايا تلك الحكومات .
وقولي في التعريف : حاصلاً بكدح ، أردت به أن شأنه أن يكون حاصلاً بسعي فيه كلفة ولذلك عبرت عنه بالكدح وذلك للإشارة إلى أن المال يشترط فيه أن يكون مكتسباً والاكتساب له ثلاثة طرق :
الطريق الأول : طريق التناول من الأرض قال تعالى : { هو الذي خلق لكم ما في الأرض جميعاً } [ البقرة : 29 ] وقال : { هو الذي جعل لكم الأرض ذلولاً فامشوا في مناكبها وكلوا من رزقه } [ الملك : 15 ] وهذا كالحطب والحشيش والصيد البري والبحري وثمر شجر البادية والعسل ، وهذا قدْ يكون بلا مزاحمة وقد يكون بمزاحمة فيكون تحصيله بالسبق كسكنى الجبال والتقاط الكمأة .
الطريق الثاني : الاستنتاج وذلك بالولادة والزرع والغرس والحلب ، وبالصنعة كصنع الحديد والأواني واللباس والسلاح .
الطريق الثالث : التناول من يد الغير فيما لا حاجة له به إما بتعامل بأن يعطيَ المرء ما زاد على حاجته مما يحتاج إليه غيره ويأخذَ من الغير ما زاد على حاجته مما يحتاج إليه هو ، أو بإعطاء ما جعله الناس علامة على أن مالكه جدير بأن يأخذ به ما قُدِّر بمقداره كدينار ودرهم في شيء مقوَّم بهما ، وإما بقوة وغلبة كالقتال على الأراضي وعلى المياه .
والباطل اسم فاعل من بطل إذا ذهب ضياعاً وخسراً أي بدون وجه ، ولا شك أن الوجه هو ما يرضي صاحب المال أعني العِوض في البيوعات وحب المحمدة في التبرعات .
والضمائر في مثل : { ولا تأكلوا أموالكم } إلى آخر الآية عامة لجميع المسلمين ، وفعل : { ولا تأكلوا } وقع في حَيز النهي فهو عام ، فأفاد ذلك نهياً لِجميع المسلمين عن كُل أَكل وفي جميع الأَمْوال ، قلنا هنا جمعان جمع الآكلين وجمع الأموال المأكولة ، وإذا تقابل جمعان في كلام العرب احتمل أن يكون من مقابلة كل فردٍ من أفراد الجمع بكل فردٍ من أفراد الجمع الآخَر على التوزيع نحو ركب القوم دوابهم وقوله تعالى : { وخذوا حذركم } [ النساء : 102 ] { قوا أنفسكم } [ التحريم : 6 ] ، واحتمل أن يكون كذلك لكن على معنى أن كل فرد يقابل بفرد غيره لا بفرد نفسه نحو قوله : { ولا تلمزوا أنفسكم } [ الحجرات : 11 ] وقوله { فإذا دخلتم بيوتاً فسلموا على أنفسكم } [ النور : 61 ] ، واحتمل أن يكون من مقابلة كل فرد بجميع الأفراد نحو قوله : { وقِهم السيئات } [ غافر : 9 ] ، والتعويل في ذلك على القرائن .
وقد علم أن هذين الجمعين هنا من النوع الثاني أي لا يأكل بعضهم مال بعض آخر بالباطل ؛ بقرينة قوله : { بينكم } ؛ لأن بين تقتضي توسطاً خلال طرفين ، فعُلم أن الطرفين آكل ومأكول منه والمال بينهما ، فلزم أن يكون الآكل غيرَ المأكول وإلاّ لما كانت فائدة لقوله : { بينكم } .
ومعنى أكلها بالباطل أكلُها بدون وجه ، وهذا الأكل مراتب :
المرتبة الأولى : ما علمه جميع السامعين مما هو صريح في كونه باطلاً كالغصب والسرقة والحيلة .
المرتبة الثانية : ما ألحقه الشرع بالباطل فبيَّن أنه من الباطل وقد كان خفياً عنهم وهذا مثل الربا ؛ فإنهم قالوا : { إنَّما البيع مثل الربا } [ البقرة : 275 ] ، ومثل رشوة الحكام ، ومثل بيع الثمرة قبل بدو صلاحها ؛ ففي الحديث : " أرَأَيْتَ إن منع الله الثمرة بم يأخذ أحدكم مال أخيه " والأحاديث في ذلك كثيرة قال ابن العربي : هي خمسون حديثاً .
المرتبة الثالثة : ما استنبطه العلماء من ذلك ، فما يتحقق فيه وصف الباطل بالنظر وهذا مجال للاجتهاد في تحقيق معنى الباطل ، والعلماءُ فيه بين موسع ومضيق مثل ابن القاسم وأشهب مِن المالكية وتفصيله في الفقه .
وقد قيل : إن هذه الآية نزلت في قضية عبدان الحضرمي وامرىء القيس الكِنْدي اختصما لرسول الله صلى الله عليه وسلم في أرض فنزلت هذه الآية والقصة مذكورة في « صحيح مسلم » ولم يذكر فيها أن هذه الآية نزلت فيهما وإنما ذكر ذلك ابن أبي حاتم .
وقوله تعالى : { وتدلوا بها إلى الحكام } عطف على { تأكلوا } أي لا تدلوا بها إلى الحكام لتتوسلوا بذلك إلى أكل المال بالباطل . وخص هذه الصورة بالنهي بعد ذكر ما يشملها وهو أَكل الأموال بالباطل ؛ لأن هذه شديدة الشناعة جامعة لمحرمات كثيرة ، وللدلالة على أن معطي الرشوة آثم مع أنه لم يأكل مالاً بل آكلَ غيره ، وجُوز أن تكون الواو للمعية و { تدلوا } منصوباً بأن مضمرة بعدها في جواب النهي فيكون النهي عن مجموع الأمرين أي لا تأكلوها بينكم مُدلين بها إلى الحكام لتأكلوا وهو يفضي إلى أن المنهي عنه في هذه الآية هو الرشوة خاصة فيكون المراد الاعتناء بالنهي عن هذا النوع من أكل الأموال بالباطل .
والإدلاء في الأصل إرسال الدلو في البئر وهو هنا مجاز في التوسل والدفع .
فالمعنى على الاحتمال الأول ، لا تدفعوا أموالكم للحكام لتأكلوا بها فريقاً من أموال الناس بالإثم ؛ فالإدلاء بها هو دفعها لإرشاء الحكام ليقضوا للدافع بمال غيره فهي تحريم للرشوة وللقضاء بغير الحق ، ولأَكل المقضي له مالاً بالباطل بسبب القضاء بالباطل .
والمعنى على الاحتمال الثاني لا تأكلوا أموالكم بالباطل في حال انتشاب الخصومات بالأموال لدى الحكام لتتوسلوا بقضاء الحكام ، إلى أكل الأموال بالباطل حين لا تستطيعون أكلها بالغَلب ، وكأنَّ الذي دعاهم إلى فرض هذا الاحتمال هو مراعاة القصة التي ذكرت في سبب النزول ، ولا يخفى أن التقيد بتلك القصة لا وجه له في تفسير الآية ، لأنه لو صح سندها لكان حمل الآية على تحريم الرشوة لأجل أكل المال دليلاً على تحريم أكل المال بدون رشوة بدلالة تنقيح المناط .
وعلى ما اخترناه فالآية دلت على تحريم أكل الأموال بالباطل ، وعلى تحريم إرشاء الحكام لأكل الأموال بالباطل ، وعلى أن قضاء القاضي لاَ يغير صفة أكل المال بالباطل ، وعلى تحريم الجور في الحكم بالباطل ولو بدون إرشاء ، لأن تحريم الرشوة إنما كان لما فيه من تغيير الحق ، ولا جَرم أن هاته الأشياء من أهم ما تصدَّى الإسلام لتأسيسه تغييراً لما كانوا عليه في الجاهلية فإنهم كانوا يستحلون أموال الذين لم يستطيعوا منع أموالهم من الأكل فكانوا يأكلون أموال الضعفاء قال صَنَّان اليَشْكُري :
لَوْ كَانَ حَوْضَ حِمَارٍ ما شَرِبْتَ به *** إِلاَّ بإذن حِمارٍ آخِـــرَ الأَبَدِ
لكِنَّه حَوْضُ مَنْ أوْدَى بإخوتـــه *** ريبُ المَنُونِ فأمسى بَيْضَةَ البَلَدِ
وأما إرشاء الحكام فقد كان أهل الجاهلية يبذلون الرُّشا للحكام ، ولمَّا تنافر عامر بن الطفيل وعَلْقَمة بن علاثة إلى هرم بن قطبة الفزاري بذل كل واحد منهما مائة من الإبل إن حكم له بالتفضيل على الآخر فلم يقض لواحد منهما بل قضى بينهما بأنهما كركبتي البعير الأَدْرَم الفَحْل تستويان في الوقوع على الأرض فقال الأعشى في ذلك من أبيات :
حَكَّمتُموه فقضى بينَكُــم *** أَزْهَرُ مثلُ القَمر البَاهِرِ
لاَ يَقْبَل الرَّشْوَةَ في حُكمه *** ولاَ يُبالِي غَبن الخاسر
ويقال إن أول من ارتشى من حكام الجاهلية هو ضَمرة بن ضمرة النَهْشلي بمائة من الإبل دفعها إليه عباد بن أنف الكلب في منافرة بينه وبين معبد بن نضلة الفقعسي لينفِّره عليه ففعل ، ويقال إن أول من ارتشى في الإسلام يَرَفَأُ غلامُ عمر بن الخطاب رشاه المغيرة بن شعبة ليقدمه في الإذن بالدخول إلى عمر ؛ لأن يرفأ لما كان هو الواسطة في الإذن للناس وكان الحق في التقديم في الإذن للأسبق ، إذ لم يكن مضطراً غيرُه إلى التقديم كان تقديم غير الأسبق اعتداء على حق الأسبق فكان جوراً وكان بذل المال لأجل تحصيله إرشاءً ولا أحسب هذا إلاّ من أكاذيب أصحاب الأهواء للغض من عدالة بعض الصحابة فإنْ صح ولا إِخاله : فالمغيرة لم ير في ذلك بأساً ؛ لأن الضر اللاحق بالغير غير معتد به ، أو لعله رآه إحساناً ولم يقصد التقديم ففعله يرفأ إكراماً له لأجل نواله ، أمَّا يرفأ فلعله لم يهتد إلى دقيق هذا الحكم .
فالرشوة حرمها الله تعالى بنص هاته الآية ؛ لأنها إن كانت للقضاء بالجور فهي لأَكل مال بالباطل وليست هي أكل مال بالباطل فلذلك عطف على النهي الأول ؛ لأن الحاكم موكِّلٌ المال لا آكل ، وإن كانت للقضاء بالحق فهي أكل مال بالباطل ؛ لأن القضاء بالحق واجب ، ومثلها كل مال يأخذه الحاكم على القضاء من الخصوم إلاّ إذا لم يجعل له شيء من بيت المال ولم يكن له مال فقد أباحوا له أخذ شيء معيَّن على القضاء سواء فيه كلا الخصمين .
ودلالة هذه الآية على أن قضاء القاضي لا يؤثرُ في تغيير حرمة أكل المال من قوله : { وتدلوا بها إلى الحكام لتأكلوا فريقاً من أموال الناس بالإثم } فجعل المال الذي يأكله أحد بواسطة الحكم إثماً وهو صريح في أن القضاء لا يُحل حراماً ولا ينفذُ إلاّ ظاهراً ، وهذا مما لا شبهة فيه لولا خلاف وقع في المسألة ، فإن أبا حنيفة خالف جمهور الفقهاء فقال بأن قضاء القاضي يُحِل الحرام وينفذ باطناً وظاهراً إذا كان بحل أو حِرمة وادَّعاه المحكوم له بسبب معين أي كان القضاء بعقد أو فسخ وكان مستنداً لشهادة شهود وكان المقضي به مما يصح أن يبتدأ ، هذا الذي حكاه عنه غالب فقهاء مذهبه وبعضهم يخصه بالنكاح .
واحتج على ذلك بما روي أن رجلاً خطب امرأة هُو دونها فأبت إجابته فادعى عليها ، عند عليّ أنه تزوجها وأقام شاهدين زوراً فقضى عليٌّ بشهادتهما فقالت المرأة لما قضى عليها ، إن كان ولا بد فزوجني منه فقال لها عليٌّ شاهداك زوجاك ، وهذا الدليل بعد تسليم صحة سنده لا يزيد على كونه مذهب صحابي وهو لا يعارض الأحوال الشرعية ولا الأحاديث المروية نحو حديث « فمن قضيت له بحق أخيه فلا يأخُذْه فإنما أقتطع له قِطعة من نار » على أن تأويله ظاهر وهو أن علياً اتهمها بأنها تريد بإحداث العقد بعد الحكم إظهار الوهن في الحكم والإعلانَ بتكذيب المحكوم له ولعلها إذا طلب منها العقد أن تمتنع فيصبح الحكم معلقاً .
والظاهر أن مراد أبي حنيفة أن القضاء فيما يقع صحيحاً وفاسداً شرعاً من كل ما ليس فيه حق العبد أن قضاء القاضي بصحته يتنزل منزلة استكمال شروطه توسعة على الناس ، فلا يخفى ضعف هذا ولذلك لم يتابعه عليه أحد من أصحابه .
وقوله : { وأنتم تعلمون } حال مؤكدة لأن المدلي بالأموال للحكام ليأكل أموال الناس عالم لا محالة بصنعه ، فالمراد من هذه الحال تشنيع الأمر وتفظيعه إعلاناً بأن أكل المال بهذه الكيفية هو من الذين أكلوا أموال الناس عن عِلم وعمد فجرمه أشد .