وقوله { والذين آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصالحات } بيان لحسن الثواب الذى وعد الله به عباده المؤمنين فى مقابلة بيان العقاب الذى أعده للكافرين .
وتلك عادة القرآن فى تربية النفوس . إنه يسوق عاقبة الكافرين ثم يتبعها بحسن عاقبة المؤمنين أو العكس ، ليحمل العقلاء على الابتعاد عن طريق الكفر والعصيان ، وليغريهم بالسير فى طريق الطاعة والإِيمان .
أى : والذين آمنوا إيماناً حقاً ، وعملوا فى دنياهم الأعمال الطيبات الصالحات { سَنُدْخِلُهُمْ } يوم القيامة { جَنَّاتٍ تَجْرِي } من تحت شجرها وقصورها { الأنهار خَالِدِينَ فِيهَآ أَبَداً } أى : أكرمناهم إكراما عظيما بأن جعلناهم مقيمين فى الجنة لا يموتون ولا يخرجون منها { لَّهُمْ فِيهَآ أَزْوَاجٌ مُّطَهَّرَةٌ } أى لهم فيها نساء بريئات ومنزهات من جميع الأدناس الحسية والمعنوية .
وقوله : { وَنُدْخِلُهُمْ ظِلاًّ ظَلِيلاً } أى : ظلا وارفا جميلا لا يصيب صاحبه حر ولا سموم .
والظل : أثر لما يحجب الشمس وحرارتها . والظليل : صفة مشتقة من الظل للتأكيد على حد قولهم : ليل أليل أى ظلا بلغ الغاية فى جنسه .
ورحم الله صاحب الكشاف فقد قال : { ظَلِيلاً } صفة مشتقة من لفظ الظل لتأكيد معناه . كما يقال : ليل أليل . ويوم أيوم وما أشبه ذلك . وهو ما كان فيئا - أى طويلا ممتدا - لا حوب فيه - أى لا خرق ولا قطع فيه - ودائما لا تنسخه الشمس . وسجسجا - أى متوسطا - لا حر فيه ولا برد . وليس ذلك إلا ظل الجنة . رزقا الله بتوفيقه لما يزلف إليه التفيؤ تحت ذلك الظل .
وبعد هذا الحديث الجامع عن أحوال أهل الكتاب من اليهود ، وجه القرآن جملة من الأوامر الحكيمة إلى المؤمنين . فقال - تعالى - : { إِنَّ الله يَأْمُرُكُمْ . . . . تَأْوِيلاً }
وقوله : { وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَنُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا } هذا إخبار عن مآل السعداء في جنات عدن ، التي تجري فيها{[7765]} الأنهار في جميع فجاجها ومحالها وأرجائها حيث شاؤوا وأين أرادوا ، وهم خالدون فيها أبدا ، لا يحولون ولا يزولون ولا يبغون عنها حولا .
وقوله : { لَهُمْ فِيهَا أَزْوَاجٌ مُطَهَّرَةٌ } أي : من الحيض والنفاس والأذى . والأخلاق الرذيلة ، والصفات الناقصة ، كما قال ابن عباس : مطهرة من الأقذار والأذى . وكذا قال عطاء ، والحسن ، والضحاك ، والنخعي ، وأبو صالح ، وعطية ، والسدي .
وقال مجاهد : مطهرة من البول والحيض والنخام والبزاق والمني والولد .
وقال قتادة : مطهرة من الأذى والمآثم ولا حيض ولا كلف .
وقوله : { وَنُدْخِلُهُمْ ظِلا ظَلِيلا } أي : ظلا عميقا كثيرا غزيرا طيبا أنيقا .
قال ابن جرير : حدثنا ابن بشار ، حدثنا عبد الرحمن - وحدثنا ابن المثنى ، حدثنا{[7766]} ابن{[7767]} جعفر - قالا حدثنا شعبة قال : سمعت أبا الضحاك يحدث ، عن أبي هريرة ، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " إن في الجنة لشجرة يسير الراكب في ظلها مائة عام لا يقطعها ، شجرة الخلد " {[7768]} .
{ وَالّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصّالِحَاتِ سَنُدْخِلُهُمْ جَنّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَآ أَبَداً لّهُمْ فِيهَآ أَزْوَاجٌ مّطَهّرَةٌ وَنُدْخِلُهُمْ ظِلاّ ظَلِيلاً } . .
يعني بقوله جلّ ثناؤه : { وَالّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصّالِحاتِ } : والذين آمنوا بالله ورسوله محمد صلى الله عليه وسلم ، وصدّقوا بما أنزل الله على محمد مصدّقا لما معهم من يهود بني إسرائيل وسائر الأمم غيرهم . { وَعَمِلُوا الصّالِحَاتِ } يقول : وأدّوا ما أمرهم الله به من فرائضه ، واجتنبوا ما حرّم الله عليهم من معاصيه ، وذلك هو الصالح من أعمالهم . { سَنُدْخِلُهُمْ جَنّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِها الأنهارُ } يقول : سوف يدخلهم الله يوم القيامة جناتٍ ، يعني : بساتين { تَجْرِي مِنْ تَحْتِها الأَنْهَارُ } يقول : تجري من تحت تلك الجنات الأنهار . { خالِدِينَ فِيها أبَدا } يقول : باقين فيها أبدا بغير نهاية ولا انقطاع ، دائم ذلك لهم فيها أبدا . { لَهُمْ فِيها أزْوَاجٌ } يقول : لهم في تلك الجنات التي وصف صفتها { أزْوَاجٌ مُطَهّرَةٌ } يعني : بريئات من الأدناس والريب الحيض والغائط والبول والحبل والبصاق ، وسائر ما يكون في نساء أهل الدنيا .
وقد ذكرنا ما في ذلك من الأثار فيما مضى قبل ، وأغنى ذلك عن إعادتها . وأما قوله : { وَنُدْخِلُهُمْ ظِلاّ ظَلِيلاً } فإنه يقول : وندخلهم ظلاّ كنينا ، كما قال جلّ ثناؤه : { وَظِلّ مَمْدُودٍ } . وكما :
حدثنا ابن بشار ، قال : حدثنا عبد الرحمن ، وحدثنا ابن المثنى ، قال : حدثنا محمد بن جعفر ، قالا جميعا ، حدثنا شعبة ، قال : سمعت أبا الضحاك يحدّث عن أبي هريرة ، عن النبيّ صلى الله عليه وسلم ، قال : «إنّ فِي الجَنّةِ لَشَجَرَةً يَسِيرُ الرّاكِبُ فِي ظِلّها مائَةَ عامٍ لا يَقْطَعُها ، شَجَرَةُ الخُلْدِ » .
ولما ذكر الله وعيد الكفار ، عقب بوعد المؤمنين بالجنة على الإيمان والأعمال الصالحة ، وقرأ ابن وثاب والنخعي ، «سيدخلهم » بالياء وكذلك «يدخلهم » بعد ذلك{[4111]} . وقد تقدم القول في معنى { من تحتها } في سورة البقرة و { مطهرة } معناه : من الريب والأقذار التي هي معهودات في الدنيا و { ظليلاً } معناه : عند بعضهم يقي الحر والبرد ، ويصح أن يريد أنه ظل لا يستحيل ولا ينتقل ، كما يفعل ظل الدنيا ، فأكده بقوله { ظليلاً } لذلك ، ويصح أن يصفه بظليل لامتداده ، فقد قال عليه السلام : «إن في الجنة شجرة يسير الراكب الجواد المضمر في ظلها مائة سنة ما يقطعها »{[4112]} .
قوله : { والذين آمنوا وعملوا الصالحات } ذكر هنا للمقابلة وزيادة الغيظ للكافرين . واقتصر من نعيم الآخرة على لذّة الجنّات والأزواج الصالحات ، لأنّهما أحبّ اللذّات المتعارفة للسامعين ، فالزوجة الصالحة آنس شيء للإنسان ، والجنّات مَحّل النعيم وحُسن المنظر .
وقوله : { وندخلهم ظِلاّ ظليلا } هو من تمام محاسن الجنّات ، لأنّ الظلّ إنّما يكون مع الشمس ، وذلك جمال الجنّات ولذّة التنعّم برؤية النور مع انتفاء حرّه . ووصف بالظليل وصفاً مشتقّاً من اسم الموصوف للدلالة على بلوغه الغاية في جنسه ، فقد يأتون بمثل هذا الوصف بوزن فعيل : كما هنا ، وقولهم : داء دويُّ ، ويأتون به بوزن أفْعل : كقولهم : لَيْلٌ ألْيَل ويَوْم أيْوَم ، ويأتون بوزن فَاعل : كقولهم : شِعْر شاعر ، ونَصَب نَاصِب .
تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :
ثم أخبر بمستقر المؤمنين، فقال سبحانه: {والذين آمنوا وعملوا الصالحات سندخلهم جنات}، يعني البساتين، {تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها أبدا}، لا يموتون، {لهم فيها أزواج}، يعني النساء، {مطهرة}، يعني المطهرات من الحيض والغائط والبول والقذر كله، {وندخلهم ظلا}، يعني أكنان القصور، {ظليلا}، يعني لا خلل فيها...
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
{وَالّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصّالِحاتِ}: والذين آمنوا بالله ورسوله محمد صلى الله عليه وسلم، وصدّقوا بما أنزل الله على محمد مصدّقا لما معهم من يهود بني إسرائيل وسائر الأمم غيرهم. {وَعَمِلُوا الصّالِحَاتِ}: وأدّوا ما أمرهم الله به من فرائضه، واجتنبوا ما حرّم الله عليهم من معاصيه، وذلك هو الصالح من أعمالهم. {سَنُدْخِلُهُمْ جَنّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِها الأنهارُ}: سوف يدخلهم الله يوم القيامة جناتٍ، يعني: بساتين {تَجْرِي مِنْ تَحْتِها الأَنْهَارُ}: تجري من تحت تلك الجنات الأنهار. {خالِدِينَ فِيها أبَدا}: باقين فيها أبدا بغير نهاية ولا انقطاع، دائم ذلك لهم فيها أبدا.
{لَهُمْ فِيها أزْوَاجٌ}: لهم في تلك الجنات التي وصف صفتها {أزْوَاجٌ مُطَهّرَةٌ}: بريئات من الأدناس والريب الحيض والغائط والبول والحبل والبصاق، وسائر ما يكون في نساء أهل الدنيا.
{وَنُدْخِلُهُمْ ظِلاّ ظَلِيلاً}: وندخلهم ظلاّ كنينا، كما قال جلّ ثناؤه: {وَظِلّ مَمْدُودٍ}.
تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :
{وندخلهم ظلا ظليلا} لا تنسخه الشمس، ولا أذى فيه؛ لأن الشمس فيها منافع للناس وأذى، وكذلك القمر فيه أذى، وإن كان فيه منافع، والظلمة كذلك فيها منافع وأذى. وأما الظل نفسه فليس فيه أذى على كل حال. فإن كان فهو للزمان لا للظل بنفسه. فأخبر عز وجل أنه يدخله الظل الذي ليس فيه أذى الشمس ولا أذى الظلمة ولا أذى الزمان، ليس كظل الدنيا مشوبا بأذى غيره، والله أعلم. وذلك تأويل الظليل أن يظله عن جميع المؤذيات، والله أعلم...
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية 542 هـ :
لما ذكر الله وعيد الكفار، عقب بوعد المؤمنين بالجنة على الإيمان والأعمال الصالحة، وقرأ ابن وثاب والنخعي، «سيدخلهم» بالياء وكذلك «يدخلهم» بعد ذلك. وقد تقدم القول في معنى {من تحتها} في سورة البقرة و {مطهرة} معناه: من الريب والأقذار التي هي معهودات في الدنيا و {ظليلاً} معناه: عند بعضهم يقي الحر والبرد، ويصح أن يريد أنه ظل لا يستحيل ولا ينتقل، كما يفعل ظل الدنيا، فأكده بقوله {ظليلاً} لذلك، ويصح أن يصفه بظليل لامتداده، فقد قال عليه السلام: «إن في الجنة شجرة يسير الراكب الجواد المضمر في ظلها مائة سنة ما يقطعها»...
المسألة الأولى: هذه الآية دالة على أن الإيمان غير العمل، لأنه تعالى عطف العمل على الإيمان، والمعطوف مغاير للمعطوف عليه قال القاضي: متى ذكر لفظ الإيمان وحده دخل فيه العمل، ومتى ذكر معه العمل كان الإيمان هو التصديق، وهذا بعيد لأن الأصل عدم الاشتراك وعدم التغير، ولولا أن الأمر كذلك لخرج القرآن عن كونه مفيدا. فلعل هذه الألفاظ التي نسمعها في القرآن يكون لكل واحد منها معنى سوى ما نعلمه، ويكون مراد الله تعالى منه ذلك المعنى لا هذا الذي تبادرت أفهامنا إليه. هذا على القول بأن احتمال الاشتراك والأفراد على السوية، وأما على القول بأن احتمال البقاء على الأصل واحتمال التغيير متساويان فلا، لأن على هذا التقدير يحتمل أن يقال: هذه الألفاظ كانت في زمان الرسول صلى الله عليه وسلم موضوعة لمعنى آخر غير ما نفهمه الآن، ثم تغيرت إلى هذا الذي نفهمه الآن. فثبت أن على هذين التقديرين يخرج القرآن عن كونه حجة، وإذا ثبت أن الاشتراك والتغيير خلاف الأصل اندفع كلام القاضي.
المسألة الثانية: اعلم أنه تعالى ذكر في شرح ثواب المطيعين أمورا:
أحدها: أنه تعالى يدخلهم جنات تجري من تحتها الأنهار، وقال الزجاج: المراد تجري من تحتها مياه الأنهار.
واعلم أنه إن جعل النهر اسما لمكان الماء كان الأمر مثل ما قاله الزجاج، أما إن جعلناه في المتعارف اسما لذلك الماء فلا حاجة إلى هذا الإضمار.
وثانيها: أنه تعالى وصفها بالخلود والتأبيد، وفيه رد على جهم بن صفوان حيث يقول: إن نعيم الجنة وعذاب النار ينقطعان، وأيضا أنه تعالى ذكر مع الخلود التأبيد، ولو كان الخلود عبارة عن التأبيد لزم التكرار وهو غير جائز، فدل هذا أن الخلود ليس عبارة عن التأبيد، بل هو عبارة عن طول المكث من غير بيان أنه منقطع أو غير منقطع، وإذا ثبت هذا الأصل فعند هذا يبطل استدلال المعتزلة بقوله تعالى: {ومن يقتل مؤمنا متعمدا فجزاؤه جهنم خالدا فيها} على أن صاحب الكبيرة يبقى في النار على سبيل التأبيد، لأنا بينا بدلالة هذه الآية أن الخلود لطول المكث لا للتأييد.
وثالثها: قوله تعالى: {لهم فيها أزواج مطهرة} والمراد طهارتهن من الحيض والنفاس وجميع أقذار الدنيا، ونظيره قوله تعالى في سورة البقرة: {لهم فيها أزواج مطهرة وهم فيها خالدون} واللطائف اللائقة بهذا الموضع قد ذكرناها في تلك الآية...
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
لما ذكر الترهيب بعقاب الكافرين أتبعه الترغيب بثواب المؤمنين فقال: {والذين آمنوا} أي أقروا بالإيمان {وعملوا} بياناً لصدقهم فيه {الصالحات سندخلهم} أي بوعد لا خلف فيه، وربما أفهم التنفيس لهم بالسين دون سوف -كما في الكافرين- أنهم أقصر الأمم مدة، أو أنهم أقصرهم أعماراً إراحة لهم من دار الكدر إلى محل الصفاء، وأنهم يدخلون الجنة قبل جميع الفرق الناجية من أهل الموقف {جنات} أي بساتين، ووصفها بما يديم بهجتها ويعظم نضرتها وزهرتها فقال: {تجري من تحتها الأنهار} أي إن أرضها في غاية الريّ، كل موضع منها صالح لأن تجري منه نهر. ولما ذكر قيامها وما به دوامها، أتبعه ما تهواه النفوس من استمرار الإقامة بها فقال: {خالدين فيها أبداً} ولما وصف حسن الدار ذكر حسن الجار فقال: {لهم فيها أزواج} والمطرد في وصف جمع القلة لمن يفضل الألف والتاء، فعدل هنا عن ذلك إلى الوحدة لإفهام أنهن لشدة الموافقة في الطهر كذات واحد فقيل: {مطهرة} أي متكرر طهرها، لا توجد وقتاً ما على غير ذلك. ولما كانت الجنان في الدنيا لا تحسن إلا بتمكن الشمس منها، وكانت الشمس تنسخ الظل فتخرج إلى التحول إلى مكان آخر، وربما آذى حرها، أمّن من ذلك فيها بقوله: {وندخلهم} أي فيها {ظلاً} أي عظيماً، وأكده بقوله {ظليلاً *} أي متصلاً لا فرج فيه، منبسطاً لا ضيق معه دائماً لا تصيبه الشمس يوماً ما، ولا حر فيه ولا برد، بل هو في غاية الاعتدال...
تفسير المنار لرشيد رضا 1354 هـ :
جعل دخول الجنة جزاء من آمن وعمل صالحا إذ الإيمان بغير عمل صالح لا يكفي لتزكية النفس وإعدادها لهذا الجزاء، ولا يكاد يوجد الإيمان بغير العمل الصالح إلا أن يموت المرء عقب إيمانه فلا يتسع الوقت لظهور آثار الإيمان وثمراته منه، ويقول البصريون أن سوف أبلغ من السين في التنفيس وسعة الاستقبال في المضارع الذي تدخل عليه ويرى ابن هشام أنه لا فرق بينهما وكأنهم أخذوا ذلك من قاعدة دلالة زيادة المبنى على زيادة المعنى فلما كانت سوف أكثر حروفا كان معناها في الاستقبال أوسع ولا بد على هذا من نكتة للتعبير عن جزاء أهل النار بقوله: {سوف نصليهم} وعن جزاء أهل الجنة بقوله {سندخلهم} وكأنه من رحمته تعالى بالفريقين يعجل لأهل النعيم نعيمهم ولا يعجل لأهل العذاب عذابهم وفيه إشارة إلى امتداد وقت التوبة في الدنيا. والخلود طول المكث وأكده هنا بقوله "أبدا "أي دائما...
{وندخلهم ظلا ظليلا} قال الراغب الظل أعم من الفيء فإنه يقال ظل الليل وظل الجنة ويقال لكل موضع لم تصل إليه الشمس ظل ولا يقال الفيء إلا لما زالت عنه الشمس ويعبر بالظل عن العزة والمنعة وعن الرفاهة وأورد الشواهد على ذلك من الآيات ومن كلام الناس كقولهم أظلني فلان أي حرسني وجعلني في ظله أي عزه ومناعته، ثم قال وظل ظليل أي فائض، وندخلهم ظلا ظليلا كناية عن غضارة العيش، وقال غيره إن شدة الحر في بلاد العرب هي السبب في استعمالهم لفظ الظل بمعنى النعيم، والظليل صفة اشتقت من لفظ الظل يؤكد بها معناه كما يقال ليل أليل أي ظل وارف فينان لا يصيب صاحبه حر ولا سموم، ودائم لا تنسخه الشمس وأقول لعل ذلك إشارة إلى النعيم الجسماني كما عهد في القرآن ويؤكد ذلك إسناده إليه سبحانه وتعالى جده وجل ثناؤه...
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
وفي مقابل هذا السعير المتأجج. وفي مقابل الجلود الناضجة المشوية المعذبة.. كلما نضجت بدلت. ليعود الاحتراق من جديد. ويعود الألم من جديد. في مقابل هذا المشهد المكروب الملهوف.. نجد (الذين آمنوا وعملوا الصالحات) في جنات ندية: (تجري من تحتها الأنهار): ونجد في المشهد ثباتا وخلودا مطمئنا أكيدا: خالدين فيها أبدًا ونجد في الجنات والخلد الدائم أزواجا مطهرة: لهم فيها أزواج مطهرة.. ونجد روح الظلال الندية؛ يرف على مشهد النعيم: (وندخلهم ظلا ظليلا).. تقابل كامل في الجزاء. وفي المشاهد. وفي الصور. وفي الإيقاع.. على طريقة القرآن في "مشاهد القيامة "ذات الإيحاء القوي النافذ العميق...
زهرة التفاسير - محمد أبو زهرة 1394 هـ :
وفي مقابل العذاب الذي نزل بالكافرين كان ثواب للمؤمنين. وإذا كان الكفر هو السبب في العقاب، فإن الإيمان والعمل الصالح هو سبب الثواب، وقد عبر سبحانه وتعالى بالموصول للإشارة على أن العلة التي أثبتت الثواب الذي يتفضل الله تعالى به على عباده المؤمنين، هو الإيمان والعمل الصالح، ولا شك أن الإيمان هو الأساس في الجزاء، والعمل الصالح ثمرته، ولا إيمان من غير عمل صالح إلا أن يكون غير مثمر لأعظم ثمراته. ولقد قرر سبحانه وتعالى في وعده أنه سيدخل هؤلاء المؤمنين العملين جنات تكمل فيها أسباب النعيم، فالأنهار تجري من تحت أشجارها، وهي ليست نعيما وقتيا، بل هي نعيم خالد، وقد أكد الخلود بالتأييد، فكأن الخلود ثابت مؤكدا لا شبهة فيه، وذلك فضل الله يؤتيه من يشاء، والله ذو الفضل العظيم. ويلاحظ هنا أنه في التعبير عن المستقبل عبر بقوله (سندخلهم) أتى بالسين دون سوف، وكلاهما يفيد تأكيد القول في المستقبل، واختيار السين هنا يؤيد سيبويه فيما قاله من أن سوف قد تكون للتهديد، ويظهر على هذا أن السين عكسها...
وأن كل من يتصور من نعيم الدنيا يوجد مثله على صورة أعظم وأكمل، ومن أكمل متع الحياة الدنيا الحياة الزوجية: {لهم فيها أزواج مطهرة} من أعظم نعم الدنيا الزواج، فهم ظل المرأة، ومأوى الرجل، ومستقر حياته، ومطمأنها ونعيمها، وفيه مكاشفة النفس، وفيه الازدواج الروحي والمادي، وفيه المعاونة الإنسانية على أعلى صورها، وإن نعيم الجنة أكمل من نعيم الدنيا، فيه ما فيها من نعيم، ولكن على صورة أعلى وأكمل، والفرق بينهما كبير شاسع، يجتمعان في الاسم ويختلفان في الحقيقة. ولذلك كان في الجنة أزواج، فللنساء أزواج وللرجال أزواج مثلهم، وأزواج الجنة مطهرون من الرجس المادي والرجس المعنوي، فلا حيض، ولا نفاس، ولا أخلاق ذميمة؛ لأنه لا يدخل الجنة وفيه خلق ناقص، من أخلاق أهل الدنيا. وقد تكلم الناس في نوع العلاقة بين الزوجين في الجنة، ولكن القرآن لم يفصل ذلك الجزء، فنتركه على ما تركه الله تعالى...
وبعد أن تكلم الحق عن الغايات التي تنتظر الصنفين من خلقه: الصنف الذي يتأبى على منهج الله، والصنف الذي يتطامن لمنهج الله: الصنف الأول أعد له الله النار التي تشوي جلوده ويبدله غيرها ليذوق العذاب، والصنف المؤمن الذي أعد الله له الجنة ذات المواصفات المذكورة. وبعدما يجعل الغاية واضحة في ذهننا من الكلام عن النار والكلام عن الجنة يلفتنا إلى حكم جديد؛ لأن النفس تكون كارهة للنار ومحبة للجنة، وعندما يأتي حكم جديد تتعلق النفس به وتنفذه؛ لأنها قريبة العهد، بالترهيب من النار والترغيب في الجنة، فيجعل الحق هذا الأمر مرة تذييلا لما تقدم، ومرة أخرى يجعله تمهيدا لما يأتي؛ كي تستقبل الأحكام الجديدة في ذهنك وتتضح لك الغاية التي تنتظر من التزم، والغاية التي تنتظر من انحرف. وعندما يأتي الحكم والغاية متضحة في الذهن ومهيأة للإنسان فالتكليف يوضع في بؤرة الشعور؛ لأن هناك حاجات كثيرة تعلمها النفس البشرية، ورحمة الله بالخلق أن هذا الرأس الذي فيه حافظة، وفيه ذاكرة، وفيه مخيلة، لا يقدر أن يستوعب كل المعلومات في بؤرة الشعور مرة واحدة، ولا يمكن أن يجيء لك معنى جديد إلا إذا تزحزح المعنى الذي كنت مشغولا به في ذهنك قليلا عن بؤرة الشعور وذهب إلى حاشية الشعور، فإن بقي المعنى في مكانه فلن يأتي لك خاطر جديد...