اللباب في علوم الكتاب لابن عادل - ابن عادل  
{وَٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ وَعَمِلُواْ ٱلصَّـٰلِحَٰتِ سَنُدۡخِلُهُمۡ جَنَّـٰتٖ تَجۡرِي مِن تَحۡتِهَا ٱلۡأَنۡهَٰرُ خَٰلِدِينَ فِيهَآ أَبَدٗاۖ لَّهُمۡ فِيهَآ أَزۡوَٰجٞ مُّطَهَّرَةٞۖ وَنُدۡخِلُهُمۡ ظِلّٗا ظَلِيلًا} (57)

قوله تعالى : { وَالَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ سَنُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا [ أَبَداً لَّهُمْ فِيهَا ]{[8339]} أَزْوَاجٌ مُّطَهَّرَةٌ وَنُدْخِلُهُمْ ظِلاًّ ظَلِيلاً } .

اعلمْ أنَّ الوعْدَ والوعِيدَ مُتلازِمَانِ في الذِّكْرِ غَالِباً ، فإنَّ عَادَة القرآنِ إذا ذَكَرَ الوعِيدَ أنْ يذكر مَعَهُ الوَعْدَ .

قوله : { وَالَّذِينَ آمَنُواْ } فيه ثلاثةُ أوجهٍ :

أظهرُهَا : أنه مبتدأٌ ، وخبرُهُ { سَنُدْخِلُهُمْ } .

والثاني : أنَّه في مَحلِّ نَصْبٍ ؛ عَطْفاً على اسْمِ " إنَّ " وهُوَ { الَّذِينَ كَفَرُواْ } ، والخَبَرُ أيْضاً : { سَنُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ } ويصيرُ هذا نَظِير قولِكَ : إنَّ زَيْدَاً قَائِمٌ وعمراً قَاعِدٌ ، فعطفتَ المنصُوبَ على المنصُوبِ ، والمرفوعَ على المرفوعِ .

والثالثُ : أنْ يكونَ في محلِّ رَفْع{[8340]} ؛ عطفاً على مَوْضِعِ اسْم " إنَّ " ؛ لأن مَحَلَّهُ الرفعُ ، قالهُ أبُو البَقَاءِ ؛ وفيه نَظَرٌ ، مِنْ حَيْثُ الصناعةِ اللَّفْظِيَّةِ ، حَيْثُ يُقالُ : { وَالَّذِينَ آمَنُواْ } في مَوْضِعِ نَصْبٍ ؛ عطفاً على { الَّذِينَ كَفَرُواْ } ، وأتى بجملةِ الوعيدِ مُؤكِّدةً ب " إن " ؛ تنبيهاً على شِدَّةِ ذلك ، وبجملةِ الوَعْدِ حَاليَّةً مِنْه ؛ لتحققها وأنه لا إنْكَارَ لذلك ، وأتَى فيها بحرفِ التَّنْفِيسِ القَريبِ المدَّة{[8341]} تنبيهاً على قُرْبِ الوَعْدِ .

فصل في أن الإيمان غير العمل

دلت هذه الآيةُ ، على أنَّ الإيمانَ غيرُ العَمَلِ ؛ لأنه تعالى عَطَفَ العملَ على الإيمانِ ، والمعطوفُ مُغَايِرٌ لِلْمَعطُوفِ عليه .

قال القَاضِي{[8342]} : مَتَى ذُكِرَ لفظُ الإيمانِ وَحْدَه ، دخل فيه العَمَلُ ، ومَتى ذُكِرَ مَعَهُ العَمَلُ ، كان الإيمانُ هو التَّصْديقَ ، وهذا بعيدٌ ، لأنَّ الأصْلَ عَدَمُ الاشتراك ، وعدمُ التغييرِ{[8343]} ولوْلاَ أنَّ الأمْرَ كذلك ، لخرج القرآنُ عن كونِهِ مُفيداً ، فلَعَلَّ هذه الألفاظَ التي تَسْمَعُها في القرآنِ ، يَكُون لِكُلِّ وَاحدٍ منها مَعْنَى سِوَى ما نَعْلَمُ ، ويكونُ مرادُ اللَّه [ تعالى ]{[8344]} ذلِكَ المعْنَى .

قوله : " سندخلهم " قَرَأ النَّخعِيُّ{[8345]} : سَيْدخلُهم ، وكذلك : " ويدخلهم ظلاً " بِيَاءِ الغَيْبَةِ ؛ رَدَّا على قوله : { إن الله كان عزيزاً } ، والجمهورُ بالنون رَدَّاً على قوله : " سوف نصليهم " ، وتقدَّم الكلامُ على قوله : { جنات تجري من تحتها الأنهار } .

وقوله : { خَالِدِينَ } يجوزُ فيه ثلاثةُ أوجهٍ :

أحدُهَا : أنه حالٌ من الضمير المنصُوبِ في { سَنُدْخِلُهُمْ } .

والثَّاني : وأجازَهُ أبُو البَقَاءِ{[8346]} : أنْ يكونَ حالاً من { جَنَّاتٍ }{[8347]} .

[ قال : لأن فيها ضَميراً لكُلِّ واحدٍ منهما ، يَعْنِي : أنه يجوزُ أنْ يكونُ حالاً من ]{[8348]} مفعول { سَنُدْخِلُهُمْ } كما تقدَّمَ ، أوْ " من جنات " ؛ لأنَّ في الحَالِ ضميريْنِ :

أحدُهُمَا : المستَتِرُ في { خَالِدِينَ } العائِدُ على { وَالَّذِينَ آمَنُواْ } .

والآخر : مَجْرُورٌ ب " في " العائِدِ على { جَنَّاتٍ } فصح أنْ يُجْعَلَ حالاً مِنْ كُلٍّ واحدٍ ؛ لوجودِ الرَّابِطِ ، وهو الضميرُ ، وهذا الذي قالُ فيه نظرٌ مِنْ وَجْهَيْنِ :

أحدُهُمَا : أنه يَصِيرُ المعنى : أنَّ الجناتِ خالداتٍ في أنفُسِهَا ؛ لأنَّ الضَّميرَ في فيها عائدٌ عليْهَا . فكأنه قِيلَ : جناتٍ خَالِدَاتٍ في الجنَّاتِ أنفُسِهَا .

والثَّاني : أنَّ هذا الجمعَ شَرْطُهُ العَقْلُ ، ولد أُرِيد ذلك ، لقيل : خَالِدَاتٍ .

والثالثُ : أنْ يَكُونَ صِفَةً ل { جَنَّاتٍ } أيضاً . قال أبُو البَقَاءِ : على رَأي الكُوفيِّينَ يعْنِي أنَّهُ جَرَت الصِّفَةُ على غَيْرِ مِنْ هِيَ لَهُ في المعنى ، ولم يَبْرُزِ الضَّمِيرُ ، وهذا مَذْهَبُ الكوفيِّينَ ، وهو أنَّهُ إذَا جَرَتْ عَلَى غَيْرِ مَنْ هي له ، وأمِنَ اللِّبْسُ ، لم يَجبْ بُرُوزُ الضميرِ كهذه الآيةِ .

ومَذْهَبُ البَصْرِيِّينَ : وُجُوبُ{[8349]} بروزِهِ مُطْلَقَاً ، فكان يَنْبَغِي أنْ يُقَالَ عَلَى مَذْهَبِهِمْ : { خالدين هم فيها } ، ولمّا لَمْ يَقُلْ كذلك ، دَلَّ على فَسَادِ القَوْلِ ، وقد تَقَدَّمَ تَحْقِيقُ ذلك .

[ فإن قُلْتَ : ]{[8350]} فَلْتَكُنِ المسْألَةُ الأولَى كذلِكَ ، أعني : أنَّكَ إذا جعلت { خَالِدِينَ } حالاً من { جَنَّاتٍ } ، فيكون حَالاً مِنْهَا لفظاً ، وهي لغيرها مَعْنَى ، ولم يَبْرُزْ الضَّميرُ على رَأي الكُوفيِّينَ ، ويَصِحُّ قول أبي البَقَاءِ .

فالجواب : أنَّ هذا ، لو قيلَ به لَكَانَ جيِّداً ، ولكن لا يَدْفَعُ الرَّدَّ عن أبِي البَقَاءِ ، فإنَّهُ خَصَّصَ مَذْهبَ الكُوفيينَ بوجه الصِّفَةِ ، دون الحالِ .

فصل

ذكر الخُلُودِ والتَّأبِيد : فيه ردٌّ على جَهْم{[8351]} بْنِ صفْوَانَ ، حيث يقُولُ : إنَّ نَعِيمَ الجَنَّةِ وعَذَابَ الآخِرَةِ{[8352]} يَنْقَطِعَانِ ، وأيضاً فَذِكْرُهُ الخُلُودَ مع التَّأبيد ؛ يَدُلُّ على أنَّ الخُلُودَ غَيْر التَّأبْيد وإلا لزم التكرارُ ، وهو غير جَائِزٍ ؛ فدَلَّ على أنَّ الخُلُودَ لَيْسَ عِبَارَة عن التَّأبيدِ ، بلِ هو عبارَةٌ عن طُولِ المكْثِ مِنْ غيرِ بيان أنَّهُ منقطع ، أو غَيْر مُنْقَطِع ، وإذا ثَبَتَ هذا بطلَ اسْتِدْلاَلُ المُعْتزِلَةِ بقوله تعالى : { وَمَن يَقْتُلْ مُؤْمِناً مُّتَعَمِّداً فَجَزَآؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِداً فِيهَا } [ النساء : 93 ] على أنَّ صاحب الكَبيِرَةِ يبقى في النَّارِ أبَداً ، لأنَّ هذه الآية دَلَّتْ على أنَّ الخُلُودَ طولُ المُكْثِ لا التَّأبيدِ .

قوله : { لَّهُمْ فِيهَا أَزْوَاجٌ [ مُّطَهَّرَةٌ } ] {[8353]} مبتدأ وخبر ، وَمَحَلُّ هذه الجُمْلَةِ ، إمَّا النَّصْب أو الرَّفْعُ .

فالنَّصْبُ إمَّا على الحَالِ مِنْ { جَنَّاتٍ } ، أو مِنَ الضَّميرِ في { سَنُدْخِلُهُمْ } وإما على كَوْنِهَا صِفَةً ل { جَنَّاتٍ } بعد صِفَةٍ .

والرَّفْعُ على أنَّهُ خَبَرٌ بَعْدَ خَبَرٍ .

فصل

المُرَادُ : طَهَارتُهُنَّ من الحَيْضِ والنّفاسِ ، وجميع أقْذَارِ الدُّنْيَا ، كما تَقَدَّمَ في سُورَةِ البَقَرَةِ .

وقوله { وندخلهم ظلاَّ ظليلاً } .

قال الوَاحِدِيُّ{[8354]} : الظَّلِيلُ ليس يُنبِئُ{[8355]} عن الفِعْلِ ، حتى يُقالَ : إنَّهُ بمعنى : فاعِلٍ ، أو مَفْعُولٍ ، بل هو مُبَالَغةٌ في نَعْتِ الظِّلِّ ، مثل قولهم : " لَيْلٌ ألْيَلٌ " .

قال المُفَسْرُونَ : الظَّلِيلُ : الكَثيفُ الَّذِي لا تَنْسَخُهُ الشَّمْسُ ، ولا يؤذيهم بَرْدٌ ، ولا حَرٌّ .

قال ابْنُ الخَطِيبِ{[8356]} : واعْلَمْ أنَّ بلاد العَرَبِ كانت في غَايَةِ الحَرَارَةِ ، وكانَ الظِّلُّ عندهم مِنْ أعْظَمِ أسْبَابِ الرَّاحَة ، ولها المَعْنَى ؛ جَعَلُوه{[8357]} كِنَايَةً عن الرَّاحَةِ .

قال عليه الصَّلاة والسلامُ : " السُّلْطَانُ ظِلُّ الله فِي الأرْضِ " {[8358]} .

وإذَا كان الظّل عِبَارَةً عن الرَّاحَة ؛ كَانَ كِنَايَةً عن المُبَالَغَةِ العَظِيمَةِ في الراحة ، وبهذا يَنْدَفِعُ سُؤالُ مَنْ يَقُولُ : إذا لم يَكُنْ في الجَنَّةِ شَمْسٌ تُؤْذِي بحرِّهَا ، فما فائِدَةُ وَصْفِهَا بالظِّلِّ الظَّلِيلِ ؟

وأيضاً نرى{[8359]} في الدُّنْيَا أنَّ المَوَاضِعَ الَّتِي يَدُومُ الظِّلُّ فيها ، ولا يَصِلُ نُورُ الشَّمْسِ إليْهَا ، يكُونُ هَوَاؤهَا فَاسِداً مُؤْذِياً فما معنى وَصْفِ الجَنَّةِ بذلك ، فعلى هذا الوَجْهِ الَّذِي لَخَّصْنَاهُ تَنْدَفَعُ هذه الشُّبُهَاتِ .


[8339]:سقط في أ.
[8340]:في ب: نصب.
[8341]:سقط في ب.
[8342]:ينظر: تفسير الرازي 10/110.
[8343]:في ب: التعيين.
[8344]:سقط في ب.
[8345]:وقرأ بها ابن وثاب. ينظر: المحرر الوجيز 2/69، والبحر المحيط 3/287، والدر المصون 2/378.
[8346]:ينظر: الإملاء 1/184.
[8347]:في ب: مفعول سندخلهم.
[8348]:سقط في ب.
[8349]:في ب: يجب.
[8350]:سقط في أ.
[8351]:في ب: جهيم.
[8352]:في ب: النار.
[8353]:سقط في أ.
[8354]:ينظر: تفسير الرازي 10/110.
[8355]:في ب: بمعنى من.
[8356]:ينظر: تفسير الرازي 10/110.
[8357]:في ب: جعلوا.
[8358]:أخرجه البزار (1590 ـ كشف) والقضاعي في "مسند الشهاب" (304) من حديث عبد الله بن عمر. وأورده الهيثمي في "مجمع الزوائد" (5/196) وقال: رواه البزار وفيه سعيد بن سنان أبو مهدي وهو متروك. والحديث له لفظ آخر وهو: الإمام ظل الله في الأرض. أخرجه أحمد (5/42) وابن أبي عاصم (1017، 1018، 1024) عن أبي بكرة رضي الله عنه مرفوعا.
[8359]:في ب: يرى.