الدر المصون في علم الكتاب المكنون للسمين الحلبي - السمين الحلبي  
{وَٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ وَعَمِلُواْ ٱلصَّـٰلِحَٰتِ سَنُدۡخِلُهُمۡ جَنَّـٰتٖ تَجۡرِي مِن تَحۡتِهَا ٱلۡأَنۡهَٰرُ خَٰلِدِينَ فِيهَآ أَبَدٗاۖ لَّهُمۡ فِيهَآ أَزۡوَٰجٞ مُّطَهَّرَةٞۖ وَنُدۡخِلُهُمۡ ظِلّٗا ظَلِيلًا} (57)

قوله تعالى : { وَالَّذِينَ آمَنُواْ } : فيه ثلاثة أوجه ، أظهرها : أنه مبتدأ ، وخبره " سَنُدْخِلُهم " والثاني : أنه في محل نصب عطفاً على اسم " إن " وهو " الذين كفروا " ، والخبر أيضاً " سندخلهم جناتٍ " ويصيرُ هذا نظيرَ قولك : " إنَّ زيداً قائمٌ وعمراً قاعدٌ " فعطفت المنصوب على المنصوب والمرفوع على المرفوع . : والثالث : أن يكون في محلِّ رفعٍ عطفاً على موضع اسم " إنَّ " لأنَّ محلَّه الرفع ، ذكر ذلك أبو البقاء وفيه نظرٌ من حيث الشناعةُ اللفظية حيث يقال : " والذين آمنوا " في موضع نصب عطفاً على " الذين كفروا " ، وأتى بجملة الوعيد مؤكدةً ب " إنَّ " تنبيهاً على شدة ذلك ، وبجملةِ الوعدِ خاليةً منه لتحقُّقها وأنه لا إنكار لذلك ، وأَتَى فيها بحرفِ التنفيس القريبِ المدةِ تنبيهاً على قرب الوعد .

و { تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ } في محلِّ نصبٍ صفةً ل " جنات " وقرأ بالنخعي " سَيُدْخِلُهم " وكذلك " ويُدْخِلُهم ظِلاًّ " بياء الغَيْبة ، رَدَّاً على قوله : { إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَزِيزاً } والجمهورُ بالنون رَدًّاً على قوله { سَوْفَ نُصْلِيهِمْ } و " خالدين " يجوزُ فيه ثلاثة أوجه ، أحدهما : أنه حالٌ من الضميرِ المنصوبِ في " سَنُدْخِلُهم " ، والثاني : أجازه أبو البقاء أن يكونَ حالاً من " جنات " قال : " لأنَّ فيها ضميراً لكل واحدٍ منهما ، يعني أنه يجوزُ أن يكونَ حالاً من مفعول " سندخلهم " كما تقدم ، أو من " جنات " لأن في الحال ضميرين أحدُهما : المستتر في " خالدين " العائدُ على الذين آمنوا ، والآخر : المجرور ب " في " العائد على " جنات " فصحَّ أن يُجعل حالاً من كل واحد لوجود الرابط وهو الضمير . وهذا الذي قالَه فيه نظرٌ لا يَخْفى من وجهين ، أحدهما : أنه يصيرُ المعنى : أنَّ الجناتِ خالداتٌ في أنفسِها ، لأنَّ الضميرَ في " فيها " عائدٌ عليها ، فكأنه قيل : جناتٌ خالداتٌ في الجناتِ أنفسِها . والثاني : ان هذا الجمعَ شرطُه العقلُ ، ولو أُريد ذلك لقيل : خالدات . والثالث . أن يكون صفةً ل " جنات " أيضاً . قال أبو البقاء " على رأي الكوفيين " ، يعين أنه جَرَتِ الصفةُ على غير مَنْ هي له في المعنى ، ولم يَبْرُز الضمير ، وهذا مذهبُ الكوفيين ، وهو أنه إذا جَرَتْ على غير مَنْ هي له وأُمِنَ اللَّبْسَُ لم يَجِبْ بروزُ الضميرِ كهذه الآية . ومذهبُ البصريين وحوبُ بروزِه مطلقاً ، فكان ينبغي أَنْ يُقالَ على مذهبهم " خالدين هم فيها " ولَمَّا لم يَقُلْ كذلك دَلَّ على فسادِ هذا القولِ ، وقد تقدَّم لك تحقيقُ ذلك .

فإنْ قلت : فلْتكُنْ المسألةُ الأولى كذلك ، أعني أنك إذا جعلت " خالدين " حالاً من " جنات " فيكونُ حالاً منها لفظاً وهي لغيرِها ، معنى ، ولم يَبْرُز الضميرُ عل رأي الكوفيين ، ويَصِحُّ قولُ أبي البقاء فالجواب أن هذا لو قيل به لكان جيداً ، ولكن لا يَدْفَعُ الردَّ عن أبي البقاء ، فإنه خصص مذهبَ الكوفيين بوجه الصفة دون الحال . وقوله { لَّهُمْ فِيهَآ أَزْوَاجٌ } مبتدأ وخبر ، ومحلُّ هذه الجملة : إمَّا النصبُ أو الرفع ، فالنصبُ : إمَّا على الحال من " جنات " أو من الضمير في " سندخلهم " ، وإمَّا على كونها صفةً ل " جنات " بعد صفة . والرفعُ على أنه خبر بعد خبر .