مفاتيح الغيب للرازي - الفخر الرازي  
{وَٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ وَعَمِلُواْ ٱلصَّـٰلِحَٰتِ سَنُدۡخِلُهُمۡ جَنَّـٰتٖ تَجۡرِي مِن تَحۡتِهَا ٱلۡأَنۡهَٰرُ خَٰلِدِينَ فِيهَآ أَبَدٗاۖ لَّهُمۡ فِيهَآ أَزۡوَٰجٞ مُّطَهَّرَةٞۖ وَنُدۡخِلُهُمۡ ظِلّٗا ظَلِيلًا} (57)

قوله تعالى : { والذين آمنوا وعملوا الصالحات سندخلهم جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها أبدا لهم فيها أزواج مطهرة وندخلهم ظلا ظليلا } .

اعلم أنه قد جرت عادة الله تعالى في هذا الكتاب الكريم بأن الوعد والوعيد يتلازمان في الذكر على سبيل الأغلب ، وفي الآية مسألتان :

المسألة الأولى : هذه الآية دالة على أن الإيمان غير العمل ، لأنه تعالى عطف العمل على الإيمان ، والمعطوف مغاير للمعطوف عليه .

قال القاضي : متى ذكر لفظ الإيمان وحده دخل فيه العمل ، ومتى ذكر معه العمل كان الإيمان هو التصديق ، وهذا بعيد لأن الأصل عدم الاشتراك وعدم التغير ، ولولا أن الأمر كذلك لخرج القرآن عن كونه مفيدا . فلعل هذه الألفاظ التي نسمعها في القرآن يكون لكل واحد منها معنى سوى ما نعلمه ، ويكون مراد الله تعالى منه ذلك المعنى لا هذا الذي تبادرت أفهامنا إليه . هذا على القول بأن احتمال الاشتراك والأفراد على السوية ، وأما على القول بأن احتمال البقاء على الأصل واحتمال التغيير متساويان فلا ، لأن على هذا التقدير يحتمل أن يقال : هذه الألفاظ كانت في زمان الرسول صلى الله عليه وسلم موضوعة لمعنى آخر غير ما نفهمه الآن ، ثم تغيرت إلى هذا الذي نفهمه الآن . فثبت أن على هذين التقديرين يخرج القرآن عن كونه حجة ، وإذا ثبت أن الاشتراك والتغيير خلاف الأصل اندفع كلام القاضي .

المسألة الثانية : اعلم أنه تعالى ذكر في شرح ثواب المطيعين أمورا : أحدها : أنه تعالى يدخلهم جنات تجري من تحتها الأنهار ، وقال الزجاج : المراد تجري من تحتها مياه الأنهار ، واعلم أنه إن جعل النهر اسما لمكان الماء كان الأمر مثل ما قاله الزجاج ، أما إن جعلناه في المتعارف اسما لذلك الماء فلا حاجة إلى هذا الإضمار ، وثانيها : أنه تعالى وصفها بالخلود والتأبيد ، وفيه رد على جهم بن صفوان حيث يقول : إن نعيم الجنة وعذاب النار ينقطعان ، وأيضا أنه تعالى ذكر مع الخلود التأبيد ، ولو كان الخلود عبارة عن التأبيد لزم التكرار وهو غير جائز ، فدل هذا أن الخلود ليس عبارة عن التأبيد ، بل هو عبارة عن طول المكث من غير بيان أنه منقطع أو غير منقطع ، وإذا ثبت هذا الأصل فعند هذا يبطل استدلال المعتزلة بقوله تعالى : { ومن يقتل مؤمنا متعمدا فجزاؤه جهنم خالدا فيها } على أن صاحب الكبيرة يبقى في النار على سبيل التأبيد ، لأنا بينا بدلالة هذه الآية أن الخلود لطول المكث لا للتأييد ، وثالثها : قوله تعالى : { لهم فيها أزواج مطهرة } والمراد طهارتهن من الحيض والنفاس وجميع أقذار الدنيا ، ونظيره قوله تعالى في سورة البقرة : { لهم فيها أزواج مطهرة وهم فيها خالدون } واللطائف اللائقة بهذا الموضع قد ذكرناها في تلك الآية . ورابعها : قوله : { وندخلهم ظلا ظليلا } قال الواحدي : الظليل ليس ينبئ عن الفعل حتى يقال : إنه بمعنى فاعل أو مفعول ، بل هو مبالغة في نعت الظل ، مثل قولهم : ليل أليل .

واعلم أن بلاد العرب كانت في غاية الحرارة ، فكان الظل عندهم أعظم أسباب الراحة ، ولهذا المعنى جعلوه كناية عن الراحة . قال عليه الصلاة السلام : «السلطان ظل الله في الأرض » فإذا كان الظل عبارة عن الراحة كان الظليل كناية عن المبالغة العظيمة في الراحة ، هذا ما يميل إليه خاطري ، وبهذا الطريق يندفع سؤال من يقول : إذا لم يكن في الجنة شمس تؤذي بحرها فما فائدة وصفها بالظل الظليل . وأيضا نرى في الدنيا أن المواضع التي يدوم الظل فيها ولا يصل نور الشمس إليها يكون هواؤها عفنا فاسدا مؤذيا فما معنى وصف هواء الجنة بذلك لأن على هذا الوجه الذي لخصناه تندفع هذه الشبهات .