قوله تعالى : { أئنكم لتأتون الرجال وتقطعون السبيل } وذلك أنهم كانوا يفعلون الفاحشة بمن يمر بهم من المسافرين ، فترك الناس الممر بهم . وقيل : تقطعون سبيل النسل بإيثار الرجال على النساء ، { وتأتون في ناديكم المنكر } النادي ، والندى ، والمنتدى : مجلس القوم ومتحدثهم .
أخبرنا أبو سعيد الشريحي ، أنبأنا أبو إسحاق الثعلبي ، أنبأنا أبو العباس بن سهل بن محمد المروزي ، أنبأنا جدي لأمي أبو الحسن المحمودي ، أنبأنا محمد بن إسحاق بن خزيمة ، أنبأنا بشر بن معاذ حدثهم : أنبأنا يزيد بن زريع ، أنبأنا حاتم بن أبي صغيرة ، عن سماك بن حرب ، عن أبي صالح مولى أم هانئ بنت أبي طالب عن أم هانئ قالت : " سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن قوله : { وتأتون في ناديكم المنكر } قلت : ما المنكر الذي كانوا يأتون ؟ قال : كانوا يحذفون أهل الطرق ويسخرون بهم " ويروى أنهم كانوا يجلسون في مجالسهم ، وعند كل رجل منهم قصعة فيه حصا ، فإذا مر بهم عابر سبيل حذفوه فأيهم أصابه كان أولى به . وقيل : إنه كان يأخذ ما معه وينكحه ويغرمه ثلاثة دراهم ، ولهم قاض بذلك . وقال القاسم بن محمد : كانوا يتضارطون في مجالسهم . وقال مجاهد : كان يجامع بعضهم بعضاً في مجالسهم . وعن عبد الله بن سلام قال : كان يبزق بعضهم على بعض . وعن مكحول قال : كان من أخلاق قوم لوط مضغ العلك وتطريف الأصابع بالحناء ، وحل الإزار ، والصفير ، والحذف ، واللوطية ، { فما كان جواب قومه } لما أنكر عليهم لوط ما يأتونه من القبائح ، { إلا أن قالوا } له استهزاءً : { ائتنا بعذاب الله إن كنت من الصادقين } أن العذاب نازل بنا ، فعند ذلك .
وقوله - سبحانه - : { أَئِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرجال وَتَقْطَعُونَ السبيل وَتَأْتُونَ فِي نَادِيكُمُ المنكر . . } بيان لتلك الفاحشة التى كانوا يقترفونها ، والاستفهام للتأنيب والتقريع .
والسبيل : الطريق . والنادى : اسم جنس للمكان الذى يجتمع فيه الناس لأمر من الأمور ، أى : أئنكم لتأتون الرجال شهوة من دون النساء ، وتقطعون الطريق على المارة ، بأن تنتهبوا أموالهم ، أو بأن تكرهوهم إكراها على ارتكاب الفاحش معهم ، أو بأن تعتدوا عليهم بأى صورة من الصور ، وفضلا عن كل ذلك فإنكم ترتكبون المنكرات فى مجالسكم الخاصة ، وفى نواديكم التى تتلاقون فيها .
فأنت ترى أن نبيهم - عليه السلام - قد وصفهم بأوصاف ، كل صفة أقبح من سابقتهان والباعث لهم على ارتكاب تلك المنكرات ، هو انتكاس فطرتهم ، وفساد نفوسهم ، وشذوذ شهواتهم .
فماذا كان جوابهم على نبيهم - عليه السلام - ؟ لقد كان جوابهم فى غاية التبجح والسفاهة ، وقد حكاه القرآن فى قوله : { فَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ إِلاَّ أَن قَالُواْ ائتنا بِعَذَابِ الله إِن كُنتَ مِنَ الصادقين } .
أى : فما كان جواب قوم لوط عليه ، إلا أن قالوا له على سبيل الاستخفاف بوعظه وزجره : ائتنا يا لوط بعذاب الله الذى تتوعدنا به ، إن كنت صادقا فى دعواك انك رسول ، وفى دعواك أن عذابا سينزل علينا ، بسبب أفعالنا هذه التى ألفناها وأحببناها .
وهكذا نرى أن هؤلاء المجرمين ، قد قابلوا نصح نبيهم تارة بالاستخاف والاستهزاء كما هنا ، وتارة بالتهديد والوعيد ، كما فى قوله - تعالى - : { أخرجوا آلَ لُوطٍ مِّن قَرْيَتِكُمْ إِنَّهمْ أُنَاسٌ يَتَطَهَّرُونَ }
يقول تعالى مخبرا عن نبيه لوط عليه السلام ، إنه أنكر على قومه سُوء صنيعهم ، وما كانوا يفعلونه من قبيح الأعمال ، في إتيانهم الذكران من العالمين ، ولم يسبقهم إلى هذه الفعلة أحد من بني آدم قبلهم . وكانوا مع هذا يكفرون بالله ، ويكذّبون رسوله ويخالفونه ويقطعون السبيل ، أي : يقفون في طريق الناس يقتلونهم ويأخذون أموالهم ، { وَتَأْتُونَ فِي نَادِيكُمُ الْمُنْكَرَ } أي : يفعلون ما لا يليق من الأقوال والأفعال في مجالسهم التي يجتمعون فيها ، لا ينكر بعضهم على بعض شيئًا من ذلك ، فمن قائل : كانوا يأتون بعضهم بعضا في الملأ قاله مجاهد . ومن قائل : كانوا يتضارطون ويتضاحكون ؛ قالته عائشة ، رضي الله عنها ، والقاسم . ومن قائل : كانوا يناطحون بين الكباش ، ويناقرون بين الديوك ، وكل ذلك كان يصدر عنهم ، وكانوا شرًا من ذلك .
وقال الإمام أحمد : حدثنا حماد بن أسامة ، أخبرني حاتم بن أبي صغيرة ، حدثنا سِمَاك بن حرب ، عن أبي صالح - مولى أم هانئ - عن أم هانئ{[22568]} قالت : سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم ، عن قوله عز وجل : { وَتَأْتُونَ فِي نَادِيكُمُ الْمُنْكَرَ } ، قال : " يحذفون أهل الطريق ، ويسخرون منهم ، وذلك المنكر الذي كانوا يأتونه " .
ورواه الترمذي ، وابن جرير ، وابن أبي حاتم من حديث أبي أسامة حماد بن أسامة عن أبي يونس القُشَيري ، حاتم بن أبي صَغِيرة{[22569]} به{[22570]} . ثم قال الترمذي : هذا حديث حسن لا نعرفه إلا من حديث حاتم بن أبي صغيرة{[22571]} عن سِمَاك .
وقال{[22572]} ابن أبي حاتم : حدثنا الحسن بن عرفة ، حدثنا محمد بن كثير ، عن عمرو بن قيس ، عن الحكم{[22573]} ، عن مجاهد : { وَتَأْتُونَ فِي نَادِيكُمُ الْمُنْكَرَ } قال : الصفير ، ولعب الحمام{[22574]} والجُلاهق ، والسؤال في المجلس ، وحل أزرار القباء .
وقوله : { فَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ إِلا أَنْ قَالُوا ائْتِنَا بِعَذَابِ اللَّهِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ } ، وهذا من كفرهم واستهزائهم وعنادهم ؛ ولهذا استنصر عليهم نبي الله فقال : { رَبِّ انْصُرْنِي عَلَى الْقَوْمِ الْمُفْسِدِينَ } {[22575]} .
القول في تأويل قوله تعالى : { أَئِنّكُمْ لَتَأْتُونَ الرّجَالَ وَتَقْطَعُونَ السّبِيلَ وَتَأْتُونَ فِي نَادِيكُمُ الْمُنْكَرَ فَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ إِلاّ أَن قَالُواْ ائْتِنَا بِعَذَابِ اللّهِ إِن كُنتَ مِنَ الصّادِقِينَ } .
يقول تعالى ذكره مخبرا عن قيل لوط لقومه أئِنّكُمْ أيها القوم لَتأْتُونَ الرّجالَ في أدبارهم وَتَقْطَعُونَ السّبِيلَ يقول : وتقطعون المسافرين عليكم بفعلكم الخبيث ، وذلك أنهم فيما ذُكر عَنْهم كانوا يفعلون ذلك بمن مرّ عليهم من المسافرين ، من ورد بلادهم من الغرباء . ذكر من قال ذلك :
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قوله وَتَقْطَعُونَ السّبِيلَ قال : السبيل : الطريق . المسافر إذا مرّ بهم ، وهو ابن السبيل قَطَعوا به ، وعملوا به ذلك العمل الخبيث .
وقوله : وَتأتُونَ فِي نادِيكُمُ المُنْكَرَ اختلف أهل التأويل في المنكر الذي عناه الله ، الذي كان هؤلاء القوم يأتونه في ناديهم ، فقال بعضهم : كان ذلك أنهم كانوا يتضارطُون في مجالسهم . ذكر من قال ذلك :
حدثني عبد الرحمن بن الأسود ، قال : حدثنا محمد بن ربيعة ، قال : حدثنا رَوْح بن عُطيفة الثقفيّ ، عن عمرو بن صعب ، عن عروة بن الزبير ، عن عائشة ، في قوله وتَأْتُونَ فِي نادِيكُمُ المُنْكَرَ قال : الضراط .
وقال آخرون : بل كان ذلك أنهم كانوا يخذفون من مر بهم . ذكر من قال ذلك :
حدثنا أبو كُرَيب وابن وكيع قالا : حدثنا أبو أسامة ، عن حاتم بن أبي صغيرة ، عن سماك بن حرب ، عن أبي صالح ، عن أمّ هانىء ، قالت : سألت النبيّ صلى الله عليه وسلم عن قوله وتَأْتُونَ فِي نادِيكُمُ المُنْكَرَ قالَ : «كانُوا يَخْذِفُونَ أهْلَ الطّرِيقِ وَيَسْخَرُونَ مِنْهُمْ » فهو المنكر الذي كانوا يأتون .
حدثنا الربيع ، قال : حدثنا أسد ، قال : حدثنا أبو أُسامة ، بإسناده عن النبيّ صلى الله عليه وسلم ، مثله .
حدثنا أحمد بن عبدة الضبي ، قال : حدثنا سليم بن أخضر ، قال : حدثنا أبو يونس القُشَيري ، عن سِماك بن حرب ، عن أبي صالح مولى أمّ هانىء ، أن أمّ هانىء سُئلت عن هذه الاَية وتَأْتُونَ فِي نادِيكُمُ المُنْكَرَ فقالت : سألت عنها رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقال : «كانُوا يَخْذِفُونَ أهْلَ الطّرِيقِ ، وَيَسْخَرُونَ مِنْهُمْ » .
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا يحيى بن واضح ، قال : حدثنا عمر بن أبي زائدة ، قال : سمعت عكرِمة يقول في قوله وتَأْتُونَ فِي نادِيكُمُ المُنْكَرَ قال : كانوا يُؤْذون أهل الطريق يخذفون من مَرّ بهم .
حدثنا ابن وكيع ، قال : ثني أبي ، عن عمر بن أبي زائدة ، قال : سمعت عكرِمة قال : الخذف .
حدثنا موسى ، قال : أخبرنا عمرو ، قال : حدثنا أسباط ، عن السديّ وتَأْتُونَ فِي نادِيكُمُ المُنْكَرَ قال : كان كلّ من مرّ بهم خذفوه فهو المنكر .
حدثنا الربيع ، قال : حدثنا أسد ، قال : حدثنا سعيد بن زيد ، قال : حدثنا حاتم بن أبي صغيرة ، قال : حدثنا سِماك بن حرب ، عن باذام ، عن أبي صالح مولى أمّ هانىء ، عن أمّ هانىء ، قالت : سألت رسول الله صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ عن هذه الاَية وتَأْتُونَ فِي نادِيكُمُ المُنْكَرَ قال : «كانُوا يَجْلِسُونَ بالطّرِيقِ ، فَيَخْذِفُونَ أبْناءَ السّبِيلِ ، وَيَسْخَرُونَ مِنْهُمْ » .
وقال بعضهم : بل كان ذلك إتيانهم الفاحشة في مجالسهم . ذكر من قال ذلك :
حدثنا ابن وكيع ، قال : حدثنا جرير ، عن منصور ، عن مجاهد ، قال : كان يأتي بعضهم بعضا في مجالسهم ، يعني قوله وتَأْتُونَ فِي نادِيكُمُ المُنْكَرَ .
حدثنا سليمان بن عبد الجبار ، قال : حدثنا ثابت بن محمد الليثيّ ، قال : حدثنا فضيل بن عياض ، عن منصور بن المعتمر ، عن مجاهد ، في قوله وتَأْتُونَ فِي نادِيكُمُ المُنْكَرَ قال : كان يجامع بعضهم بعضا في المجالس .
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا حكام ، عن عمرو ، عن منصور ، عن مجاهد وتَأْتُونَ فِي نادِيكُمُ المُنْكَرَ قال : كان يأتي بعضهم بعضا في المجالس .
حدثنا ابن وكيع ، قال : ثني أبي ، عن سفيان ، عن منصور ، عن مجاهد ، قال : كانوا يجامعون الرجال في مجالسهم .
حدثني محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، قال : حدثنا عيسى وحدثني الحارث ، قال : حدثنا الحسن ، قال : حدثنا ورقاء جميعا ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد وتَأْتُونَ فِي نادِيكُمُ المُنْكَرَ قال : المجالس ، والمنكَر : إتيانهم الرجال .
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قَتادة ، قوله وتَأْتُونَ فِي نادِيكُمُ المُنْكَرَ قال : كانوا يأتون الفاحشة في ناديهم .
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قوله وتَأْتُونَ فِي نادِيكُمُ المُنْكَرَ قال : ناديهم : المجالس ، والمنكر : عملهم الخبيث الذي كانوا يعملونه ، كانوا يعترضون بالراكب فيأخذونه ويركبونه . وقرأ أتأْتُونَ الفاحِشَةَ وأنْتُمْ تُبْصِرُونَ ، وقرأ ما سَبَقَكُمْ بِها مِنْ أحَدٍ مِنَ العالَمِينَ .
حدثني عليّ ، قال : حدثنا أبو صالح ، قال : ثني معاوية ، عن عليّ ، عن ابن عباس ، قوله وتَأتُونَ فِي نادِيكُمُ المُنْكَرَ يقول : في مجالسكم .
وأولى الأقوال في ذلك بالصواب قول من قال : معناه : وتحذفون في مجالسكم المارّة بكم ، وتسخَرون منهم لما ذكرنا من الرواية بذلك عن رسول الله صلى الله عليه وسلم .
وقوله : فَمَا كانَ جَوَابَ قَوْمِهِ إلاّ أنْ قالُوا ائْتِنا بعَذَابِ اللّهِ إنْ كُنْتَ مِنَ الصّادِقِينَ يقول تعالى ذكره : فلم يكن جواب قوم لُوط إذ نهاهم عما يكرهه الله من إتيان الفواحش التي حرمها الله إلا قَيلهم : ائتنا بعذاب الله الذي تعدنا ، إن كنت من الصادقين فيما تقول ، والمنجزين لما تعد .
تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :
{أئنكم لتأتون الرجال وتقطعون السبيل}، يعني: المسافر، وذلك أنهم إذا جلسوا في ناديهم، يعني في مجالسهم رموا ابن السبيل بالحجارة والخذف، فيقطعون سبيل المسافر، فذلك قوله عز وجل: {وتأتون في ناديكم المنكر} يعني في مجالسكم المنكر، يعني الحذف بالحجارة.
{فما كان جواب قومه}، أي قوم لوط، عليه السلام، حين نهاهم عن الفاحشة والمنكر، {إلا أن قالوا} للوط، عليه السلام، {ائتنا بعذاب الله إن كنت من الصادقين} يعني بأن العذاب نازل بهم في الدنيا.
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
يقول تعالى ذكره مخبرا عن قيل لوط لقومه "أئِنّكُمْ "أيها القوم "لَتأْتُونَ الرّجالَ" في أدبارهم "وَتَقْطَعُونَ السّبِيلَ" يقول: وتقطعون المسافرين عليكم بفعلكم الخبيث، وذلك أنهم -فيما ذُكر عَنْهم- كانوا يفعلون ذلك بمن مرّ عليهم من المسافرين، من ورد بلادهم من الغرباء...
وقوله: "وَتأتُونَ فِي نادِيكُمُ المُنْكَرَ" اختلف أهل التأويل في المنكر الذي عناه الله، الذي كان هؤلاء القوم يأتونه في ناديهم؛
فقال بعضهم: كان ذلك أنهم كانوا يتضارطُون في مجالسهم... وقال آخرون: بل كان ذلك أنهم كانوا يخذفون من مر بهم...
حدثنا أبو كُرَيب وابن وكيع قالا: حدثنا أبو أسامة، عن حاتم بن أبي صغيرة، عن سماك بن حرب، عن أبي صالح، عن أمّ هانئ، قالت: سألت النبيّ صلى الله عليه وسلم عن قوله "وتَأْتُونَ فِي نادِيكُمُ المُنْكَرَ" قالَ: «كانُوا يَخْذِفُونَ أهْلَ الطّرِيقِ وَيَسْخَرُونَ مِنْهُمْ» فهو المنكر الذي كانوا يأتون...
وقال بعضهم: بل كان ذلك إتيانهم الفاحشة في مجالسهم...
وأولى الأقوال في ذلك بالصواب قول من قال: معناه: وتحذفون في مجالسكم المارّة بكم، وتسخَرون منهم لما ذكرنا من الرواية بذلك عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وقوله: "فَمَا كانَ جَوَابَ قَوْمِهِ إلاّ أنْ قالُوا ائْتِنا بعَذَابِ اللّهِ إنْ كُنْتَ مِنَ الصّادِقِينَ" يقول تعالى ذكره: فلم يكن جواب قوم لُوط إذ نهاهم عما يكرهه الله من إتيان الفواحش التي حرمها الله إلا قَيلهم: ائتنا بعذاب الله الذي تعدنا، إن كنت من الصادقين فيما تقول، والمنجزين لما تعد.
تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :
يخبر عن سوء صنيعهم في كل حال وكل وقت؛ يقول: إنكم تعملون الفواحش والمناكير في كل: في الطريق والمجلس وفي المنزل...
{فما كان جواب قومه إلا أن قالوا ائتنا بعذاب الله} وقوله في موضع آخر {إلا أن قالوا أخرجوهم من قريتكم} [الأعراف: 82] وقوله في موضع آخر {لتكونن من المخرجين} [الشعراء: 167] هذه الآيات في الظاهر بعضها مخالف لبعض لأنه يقول في بعضها: {فما كان جواب قومه إلا أن قالوا ائتنا بعذاب الله} وفي بعضها {فما كان جواب قومه إلا أن قالوا أخرجوا آل لوط من قريتكم} [النمل: 56] فهو يخرج على وجوه: أحدها: أن يكون قوله {إلا أن قالوا أخرجوهم} وقوله: {أخرجوا آل لوط} إنما ذلك في ما بينهم: يقول بعضهم لبعض: أخرجوهم، وقوله: {ائتنا بعذاب الله} إنما قالوا ذلك للوط. فإذا كان كذلك فليس في الظاهر فيه خلاف. والثاني: أن يكون قوله {فما كان جواب قومه} في مشهد وفي وقت إلا كذا، وقد كان منهم أجوبة أخرى سواه في غير ذلك المشهد وفي غير ذلك الوقت. الثالث: أن يكون قوله: {فما كان} آخر جواب قومه وحاصله {إلا أن قالوا ائتنا بعذاب الله إن كنت من الصادقين} بنزول العذاب علينا، إنما قالوا ذلك له استهزاء وتكذيبا...
الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :
... وقطع السبيل: عمل قطاع الطريق، من قتل الأنفس وأخذ الأموال. وقيل: اعتراضهم السابلة بالفاحشة. وعن الحسن: قطع النسل بإتيان ما ليس بحرث. و {المنكر}...
وقيل: المجاهرة في ناديهم بذلك العمل، وكل معصية فإظهارها أقبح من سترها، ولذلك جاء: من خرق جلباب الحياء فلا غيبة له.
زاد المسير في علم التفسير لابن الجوزي 597 هـ :
هذه الآية تدل على أنه لا ينبغي للمجتمعين أن يتعاشروا إلا على ما يقرب من الله عز وجل، ولا ينبغي أن يجتمعوا على الهزء واللعب.
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
ثم كرر الإنكار تأكيداً لتجاوز قبحها الذي ينكرونه فقال: {أئنكم لتأتون الرجال} إتيان الشهوة، وعطف عليها ما ضموه إليها من المناكر، بياناً لاستحقاق الذم من وجوه، فأوجب حالهم ظن أنهم وصلوا من الخبث إلى حد لا مطمع في الرجوع عنه مع ملازمته لدعائهم من غير ملل ولا ضجر، فقال {وتقطعون السبيل} أي بأذى الجلابين والمارة.
ولما خص هذين الفسادين، عم دالاً على المجاهرة فقال: {وتأتون في ناديكم} أي المكان الذي تجلسون فيه للتحدث بحيث يسمع بعضكم نداء بعض من مجلس المؤانسة، وهو ناد ما دام القوم فيه، فإذا قاموا عنه لم يسم بذلك {المنكر} أي هذا الجنس، وهو ما تنكره الشرائع والمروءات والعقول، ولا تتحاشون عن شيء منه في المجتمع الذي يتحاشى فيه الإنسان من فعل خلاف الأولى، من غير أن يستحي بعضكم من بعض؛ ودل على عنادهم بقوله مسبباً عن هذه النصائح بالنهي عن تلك الفضائح: {فما كان جواب قومه} أي الذين فيهم قوة ونجدة بحيث يخشى شرهم، ويتقي أذاهم وضرهم، لما أنكر عليهم ما أنكر {إلا أن قالوا} عناداً وجهلاً واستهزاء: {ائتنا بعذاب الله} وعبروا بالاسم الأعظم زيادة في الجرأة. ولما كان الإنكار ملزوماً للوعيد بأمر ضار قالوا: {إن كنت} أي كوناً متمكناً {من الصادقين} أي في وعيدك وإرسالك، إلهاباً وتهييجاً.
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
يأتون الرجال. وهي فاحشة شاذة قذرة تدل على انحراف الفطرة وفسادها من أعماقها. فالفطرة قد تفسد بتجاوز حد الاعتدال والطهارة مع المرأة، فتكون هذه الجريمة فاحشة، ولكنها داخلة في نطاق الفطرة ومنطقها. فأما ذلك الشذوذ الآخر فهو انخلاع من فطرة الأحياء جميعا. وفساد في التركيب النفسي والتركيب العضوي سواء. فقد جعل الله لذة المباشرة الجنسية بين الزوجين متناسقة مع خط الحياة الأكبر، وامتداده بالنسل الذي ينشأ عن هذه المباشرة. وجهز كيان كل من الزوجين بالإستعداد للالتذاذ بهذه المباشرة، نفسيا وعضويا، وفقا لذلك التناسق، فأما المباشرة الشاذة فلا هدف لها، ولم يجهز الله الفطرة بالتذاذها تبعا لانعدام الهدف منها. فإذا وجد فيها أحد لذة فمعنى هذا أنه انسلخ نهائيا من خط الفطرة، وعاد مسخا لا يرتبط بخط الحياة!...
ويقطعون السبيل، فينهبون المال، ويروعون المارة، ويعتدون على الرجال بالفاحشة كرها. وهي خطوة أبعد في الفاحشة الأولى، إلى جانب السلب والنهب والإفساد في الأرض.. ويأتون في ناديهم المنكر. يأتونه جهارا وفي شكل جماعي متفق عليه، لا يخجل بعضهم من بعض. وهي درجة أبعد في الفحش، وفساد الفطرة، والتبجح بالرذيلة إلى حد لا يرجى معه صلاح! والقصة هنا مختصرة، وظاهر أن لوطا أمرهم في أول الأمر ونهاهم بالحسنى؛ وأنهم أصروا على ما هم فيه، فخوفهم عذاب الله، وجبههم بشناعة جرائمهم الكبرى:
(فما كان جواب قومه إلا أن قالوا: ائتنا بعذاب الله إن كنت من الصادقين).
فهو التبجح في وجه الإنذار، والتحدي المصحوب بالتكذيب، والشرود الذي لا تنتظر منه أوبة.
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
... {ما سبقكم بها من أحد من العالمين} تشديد في الإنكار عليهم في أنهم الذين سنوا هذه الفاحشة السيئة للناس وكانت لا تخطر لأحد ببال، وإن كثيراً من المفاسد تكون الناس في غفلة عن ارتكابها لعدم الاعتياد بها حتى إذا أقدم أحد على فعلها وشوهد ذلك منه تنبهت الأذهان إليها وتعلقت الشهوات بها.