فتح القدير الجامع بين فني الرواية والدراية من علم التفسير للشوكاني - الشوكاني  
{أَئِنَّكُمۡ لَتَأۡتُونَ ٱلرِّجَالَ وَتَقۡطَعُونَ ٱلسَّبِيلَ وَتَأۡتُونَ فِي نَادِيكُمُ ٱلۡمُنكَرَۖ فَمَا كَانَ جَوَابَ قَوۡمِهِۦٓ إِلَّآ أَن قَالُواْ ٱئۡتِنَا بِعَذَابِ ٱللَّهِ إِن كُنتَ مِنَ ٱلصَّـٰدِقِينَ} (29)

{ إِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الفاحشة } قرأ أبو عمرو وحمزة والكسائي وأبو بكر : «أئنكم » بالاستفهام . وقرأ الباقون بلا استفهام . والفاحشة : الخصلة المتناهية في القبح ، وجملة : { مَا سَبَقَكُمْ بِهَا مِنْ أَحَدٍ مّن العالمين } مقرّرة لكمال قبح هذه الخصلة ، وأنهم منفردون بذلك لم يسبقهم إلى عملها أحد من الناس على اختلاف أجناسهم . ثم بيّن سبحانه هذه الفاحشة فقال : { أَئِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرجال } أي تلوطون بهم { وَتَقْطَعُونَ السبيل } قيل : إنهم كانوا يفعلون الفاحشة بمن يمرّ بهم من المسافرين ، فلما فعلوا ذلك ترك الناس المرور بهم ، فقطعوا السبيل بهذا السبب . قال الفراء : كانوا يعترضون الناس في الطرق بعملهم الخبيث . وقيل : كانوا يقطعون الطريق على المارّة بقتلهم ونهبهم . والظاهر أنهم كانوا يفعلون ما يكون سبباً لقطع الطريق من غير تقييد بسبب خاص ، وقيل : إن معنى قطع الطريق : قطع النسل بالعدول عن النساء إلى الرجال { وَتَأْتُونَ فِي نَادِيكُمُ المنكر } النادي والنديّ والمنتدى : مجلس القوم ومتحدّثهم .

واختلف في المنكر الذي كانوا يأتونه فيه : فقيل : كانوا يحذفون الناس بالحصباء ، ويستخفون بالغريب . وقيل : كانوا يتضارطون في مجالسهم ، وقيل : كانوا يأتون الرجال في مجالسهم وبعضهم يرى بعضاً ، وقيل : كانوا يلعبون بالحمام . وقيل : كانوا يخضبون أصابعهم بالحناء . وقيل : كانوا يناقرون بين الديكة ، ويناطحون بين الكباش . وقيل : يلعبون بالنرد والشطرنج ويلبسون المصبغات ، ولا مانع من أنهم كانوا يفعلون جميع هذه المنكرات . قال الزجاج : وفي هذه إعلام أنه لا ينبغي أن يتعاشر الناس على المنكر وألا يجتمعوا على الهزؤ ، والمناهي .

ولما أنكر لوط عليهم ما كانوا يفعلونه أجابوا بما حكى الله عنهم بقوله : { فَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ إِلاَّ أَن قَالُواْ ائتنا بِعَذَابِ الله إِن كُنتَ مِنَ الصادقين } أي فما أجابوا بشيء إلاّ بهذا القول رجوعاً منهم إلى التكذيب واللجاج والعناد ، وقد تقدّم الكلام على هذه الآية ، وقد تقدّم في سورة النمل : { فَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ إِلاَّ أَن قَالُواْ أَخْرِجُواْ ءَالَ لُوطٍ مّن قَرْيَتِكُمْ } [ النمل : 56 ] وتقدّم في سورة الأعراف : { وَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ إِلاَّ أَن قَالُواْ أَخْرِجُوهُم مّن قَرْيَتِكُمْ } [ الأعراف : 82 ] وقد جمع بين هذه الثلاثة المواضع بأن لوطاً كان ثابتاً على الإرشاد ، ومكرّرًا للنهي لهم والوعيد عليهم ، فقالوا له أوّلاً : { ائتنا بعذاب الله } كما في هذه الآية ، فلما كثر منه ذلك ، ولم يسكت عنهم قالوا : { أخرجوهم } كما في الأعراف والنمل . وقيل : إنهم قالوا أوّلاً : { أخرجوهم من قريتكم } ثم قالوا ثانياً : { ائتنا بعذاب الله } .

/خ40