اللباب في علوم الكتاب لابن عادل - ابن عادل  
{أَئِنَّكُمۡ لَتَأۡتُونَ ٱلرِّجَالَ وَتَقۡطَعُونَ ٱلسَّبِيلَ وَتَأۡتُونَ فِي نَادِيكُمُ ٱلۡمُنكَرَۖ فَمَا كَانَ جَوَابَ قَوۡمِهِۦٓ إِلَّآ أَن قَالُواْ ٱئۡتِنَا بِعَذَابِ ٱللَّهِ إِن كُنتَ مِنَ ٱلصَّـٰدِقِينَ} (29)

قوله : { أَئِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرجال وَتَقْطَعُونَ السبيل } ، قيل : كانوا يفعلون{[41351]} الفاحشة بمن يمرّ بهم من المسافرين فترك الناس الممرّ بهم ، وقيل : يقطعون سبيل النسل بإتيان الرجال{[41352]} ، كقوله : { أتَأْتُونَ الرجال شَهْوَةً مِن دُونِ النساء }{[41353]} ، { وَتَأْتُونَ فِي نَادِيكُمُ المنكر } قال أبو العباس المَقَّرِيّ{[41354]} . ورد لفظ النادي في القرآن بإزاء معنيين :

الأول : النادي مجلس القوم المحدد{[41355]} فيه لهذه الآية .

والثاني : بمعنى الناصر ، كقوله تعالى : { فَلْيَدْعُ نَادِيَهُ } [ العلق : 17 ] ، أي ناصره يعني أبا جهل .

واعلم أن النادي ( والنَّديّ ){[41356]} والمُنْتَدَى مجلس القوم ومُتَحَدَّثُهُمْ ، روى أبو صالح{[41357]} مولى أُمِّ هانئ بنت{[41358]} أبي طالب «قالت : سألت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن قوله : { وتأتون في ناديكم المنكر } قلت : ما المنكر الذي كانوا يأتون ؟ قال : كانوا يخذُفُونَ أهلَ الطرق ، ويسخرون منهم{[41359]} .

وروي أنهم كانوا يجلسون في مجالسهم وعند كل رجل منهم قصعة فيها حصًى ، فإذا مرّ بهم عابر{[41360]} سبيل حذفُوه فأيهم أصابه كان أولى به . وقيل : إنه كان يأخذ ما معه وينكحه ويغرمه ثلاثةَ دراهم ، ولهم قاضي بذلك ، وقال القاسم بن محمد{[41361]} : كانوا يتضارطون في مجالسهم{[41362]} .

وقال مجاهد : كان يجامع بعضهم بعضاً في مجالسهم{[41363]} .

وعن عبد الله بن سلام : يَبْزُقُ بعضُهم على بَعْض{[41364]} . وعن مكحول{[41365]} قال : من أخلاق قوم لوط مضغ العِلْكِ{[41366]} ، وتطريق الأصابع بالحِنَّاء ، وحل الإزار ، والصَّفيرُ ، والخَذْفُ{[41367]} ، واللُّوطِيَّةُ .

( قوله ){[41368]} : { فَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ } ، لما أنكر عليهم «لوط » ما يأتون به من القبائح إلا أَنْ قَالُوا له استهزاء { ائتنا بِعَذَابِ الله إِن كُنتَ مِنَ الصادقين } أن العذاب نازل بنا فعند ذلك قال لوط : { رَبِّ انصرني عَلَى القوم المفسدين } بتحقيق قولي في العذاب .

فإن قيلَ : قال قوم «إبراهيم » اقتلوه أو حرّقوه ، وقال قوم لوط { ائتنا بعذاب الله } وما هددوه ( مع ){[41369]} أن «إبْرَاهِيمَ » كان أعظم من «لوط » فإن لوطاً كان من قومه .

فالجوابُ : أن إبراهيم كان يقدح في دينهم ويشتم آلهتهم ويعدد صفات نقصهم بقوله : «لا تُبْصِرُ ، ولا تَسْمَع ولا تَنْفَعُ ، ولا تُغْنِي » والقدح في الدين صعب ، فجعلوا جزاءه القتل والتحريق{[41370]} ، ولوط كان ينكر عليهم فعلهم ، وينبههم إلى ارتكاب التحريم وهم ما كانوا يقولون إن هذا واجب من الدين فلم يصعب عليهم مثل ما صعب على قوم إبراهيم كلام إبراهيم وقالوا{[41371]} : إنك تقول : إن هذا حرام والله يعذب عليه ونحن نقول : لا نعذب{[41372]} فإن كنت صادقاً فأتِنَا بالعذَابِ .

فإن قيل : إن الله{[41373]} قال في موضع آخر : { فَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ إِلاَّ أَن قالوا أخرجوا آلَ لُوطٍ مِن قَرْيَتِكُمْ }{[41374]} .

وقال هنا : { فما كان جواب قومه إلا أن قالوا ائتنا } فكيف الجمع ؟ .

فالجوابُ : أن لوطاً كان ثابتاً{[41375]} على الإرشاد مكرراً على النهي والوعيد فقالوا ( أولاً ){[41376]} ائتنا ( ثم ){[41377]} لما كثر منه ولم يسكت عنهم قالوا : «أخرجوا » .


[41351]:حكاه ابن شجرة، انظر: القرطبي 13/341.
[41352]:قاله وهب بن منبه، وانظر: المرجع السابق.
[41353]:[الأعراف: 81]، و[النمل: 55]، وتصحيحها "إنكم لتأتون" و"أئنكم لتأتون".
[41354]:أبو العباس المقري: أحمد بن عبد الله بن عيسى بن موسى الهاشمي أبو العباس المقري، قرأ على محمد بن أبي عمر الدوري، وعليه محمد بن محمد بن فيروز. انظر: غاية النهاية 1/74.
[41355]:في ب: المتحدث فيه وهو الصواب.
[41356]:ساقط من ب.
[41357]:أبو صالح: هو باذام، ويقال: باذان، وكان لا يحسن أن يقرأ القرآن، كان الشعبي يراه فيقعده ويقول له: تفسر القرآن ولا تحسن أن تقرأه نظراً. انظر: المعارف لابن قتيبة 479.
[41358]:اختلف في اسمها فمن قائل إنها فاضة، ومن قائل إنها هند لها ستة وأربعون حديثاً، اتفق البخاري ومسلم على حديث وعنها ابن ابنها جعدة، ومولاها أبو مرة، وكرير، أسلمت يوم الفتح. انظر: خلاصة الكمال 500.
[41359]:انظر: تفسير ابن كثير 3/411 و 412. وقد أخرج هذا الحديث أبو داود الطّيالسي في مسنده. وانظر: تفسير القرطبي 13/342.
[41360]:ذكر الثعلبي هذه الرواية نقلاً عن رسول الله- صلى الله عليه وسلم- انظر: القرطبي 13/342.
[41361]:القاسم بن محمد بن أبي بكر الصديق التّيميّ أبو محمد المدني، أحد الفقهاء السبعة، وأحد الأعلام كان ثقة عالماً كبيراً، مات سنة 106 هـ. انظر: خلاصة الكمال 313.
[41362]:انظر: القرطبي 13/342.
[41363]:المرجع السابق.
[41364]:انظر: القرطبي 13/342. وعبد الله بن سلام بن الحرث الإسرائيلي اليوسفي أبو يوسف أسلم وشهد فتح بيت المقدس، حدث عنه أبو هريرة، وأنس، مات سنة 43 بالمدينة. انظر: خلاصة الكمال 200.
[41365]:مكحول الدِّمشقيّ عن كثير من الصحابة مرسلاً. عن واثلة، وأنس، وعنه أيوب بن موسى، وزيد بن واقد والأوزاعي، كان عالماً كبيراً، مات سنة 113 هـ. انظر: خلاصة الكمال 387.
[41366]:قال ابن منظور في اللسان "والعلك ضرب من صمغ الشجر كاللُّبان، يمضغ فلا ينماع، والجمع علوكٌ، وأعلاك". ثم قال: "والعلك والعلاك: شجر ينبت بالحجاز" وانظر: اللسان دار المعارف 3077 "علك".
[41367]:الخذف: هو الرمي بالحصا أو نواة تؤخذ بين السَّبَّابتين، انظر: اللسان دار المعارف 1178 "خذف" وانظر: رأي مكحول هذا في القرطبي 13/342.
[41368]:ساقط من أ.
[41369]:ساقط من ب.
[41370]:في ب: بالتحريق.
[41371]:في ب: فقالوا.
[41372]:في ب: يعذب عليه.
[41373]:في ب: "إن الله تعالى".
[41374]:النمل: 56.
[41375]:في ب: تاماً.
[41376]:ساقط من ب وفيها "فقال ائتنا".
[41377]:ساقط من ب.