183- وكما شرع الله لكم القصاص والوصية لصلاح مجتمعكم ، والحفاظ على أسركم ، شرع الله كذلك فريضة الصيام تهذيباً لنفوسكم ، وتقويماً لشهواتكم ، وتفضيلا لكم على الحيوان الأعجم الذي ينقاد لغرائزه وشهواته ، وكان فرض الصيام{[12]} عليكم مثل ما فرض على من سبقكم من الأمم ، فلا يشق عليكم أمره . لأنه فرض على الناس جميعاً ، وكان وجوب الصيام والقيام به ، لتتربى فيكم روح التقوى ، ويقوى وجدانكم ، وتتهذب نفوسكم .
قوله تعالى : { يا أيها الذين آمنوا كتب عليكم الصيام } . أي فرض وأوجب ، والصوم والصيام في اللغة الإمساك يقال : صام النهار إذا اعتدل وقام قائم الظهيرة ، لأن الشمس إذا بلغت كبد السماء ، وقفت وأمسكت عن السير سويعة . ومنه قال تعالى : ( فقولي إني نذرت للرحمن صوماً ) أي صمتاً لأنه إمساك عن الكلام ، وفي الشريعة الصوم : هو الإمساك عن الأكل والشرب والجماع مع النية في وقت مخصوص .
قوله تعالى : { كما كتب على الذين من قبلكم } . من الأنبياء والأمم ، واختلفوا في هذا التشبيه فقال سعيد ابن جبير : كان صوم من قبلنا من العتمة إلى الليلة القابلة كما كان في ابتداء الإسلام . وقال جماعة من أهل العلم : أراد أن صيام رمضان كان واجباً على النصارى كما فرض علينا ، فربما كان يقع في الحر الشديد والبرد الشديد ، وكان يشق عليهم في أسفارهم ويضرهم في معايشهم ، فاجتمع رأي علماؤهم ورؤسائهم على أن يجعلوا صيامهم في فصل من السنة بين الشتاء والصيف ، فجعلوه في الربيع وزادوا فيه عشرة أيام كفارة لما صنعوا فصار أربعين ، ثم إن ملكا اشتكى فمه فجعل لله عليه إن هو برأ من وجعه أن يزيد في صومهم أسبوعاً فبرأ فزاد فيه أسبوعاً ، ثم مات ذلك الملك ووليهم ملك آخر فقال : أتموه خمسين يوماً .
وقال مجاهد : أصابهم موتان ، فقالوا زيدوا في صيامكم فزادوا فيه عشراً قبل وعشراً بعد ، قال الشعبي : لو صمت السنة كلها لأفطرت اليوم الذي يشك فيه ، فيقال من شعبان ويقال من رمضان ، وذلك أن النصارى فرض عليهم شهر رمضان فصاموا قبله يوما وبعده يوما ، ثم لم يزل الآخر يستن بالقرن الذي قبله حتى صاروا إلى خمسين يوماً ، فذلك قوله تعالى : ( كما كتب على الذين من قبلكم ) .
قوله تعالى : { لعلكم تتقون } . يعني بالصوم ، لأن الصوم وصلة إلى التقوى لما فيه من قهر النفس وكسر الشهوات ، وقوله : ( لعلكم تتقون ) تحذرون عن الشهوات من الأكل والشرب والجماع .
قوله تعالى : { أياماً معدودات } . قيل : كان في ابتداء الإسلام صوم ثلاثة أيام من كل شهر واجباً ، وصوم يوم عاشوراء فصاموا كذلك من الربيع إلى شهر رمضان سبعة عشر شهراً ، ثم نسخ بصوم رمضان .
قال ابن عباس : أول ما نسخ بعد الهجرة أمر القبلة والصوم ، ويقال : نزل صوم شهر رمضان قبل بدر بشهر وأيام .
قال محمد بن إسحاق كانت غزوة بدر يوم الجمعة لسبع عشر ليلة خلت من شهر رمضان على رأس ثمانية عشر شهراً من الهجرة .
حدثنا أبو الحسن الشيرازي ، أخبرنا زاهر بن أحمد ، أخبرنا أبو إسحق الهاشمي ، أخبرنا أبو مصعب ، عن مالك ، عن هشام بن عروة ، عن أبيه عن عائشة أم المؤمنين أنها قالت : كان يوم عاشوراء يوماً تصومه قريش في الجاهلية ، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصومه في الجاهلية فلما قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة صامه وأمر الناس بصيامه ، فلما فرض رمضان كان هو الفريضة وترك يوم عاشوراء ، فمن شاء صامه ، ومن شاء تركه .
وبعد أن تحدثت السورة الكريمة عن القصاص وعن الوصية أتبعتهما بالحديث عن عبادة عظيمة من العبادات التي جعلها الله - تعالى - ركناً من أركان الإِسلام وهي صوم رمضان ، فقال - سبحانه - :
{ ياأيها الذين آمَنُواْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصيام . . . }
الصيام مصدر صام كالقيام مصدر قام ، وهو في اللغة : الإِمساك وترك التنقل من حال إلى حال ، فيقال للصمت صوم لأنه إمساك عن الكلام ، ومنه قوله - تعالى - مخبراً عن مريم : { إِنِّي نَذَرْتُ للرحمن صَوْماً } أي : سكوتاً عن الكلام . وصوم الريح ركودها وإمساكها عن الهبوب . وتقول العرب : صام النهار وصامت الشمس عند قيام الظهيرة لأنها كالممسكة عن الحركة .
أما الصيام في عرف الشرع فهو - كما يقول الآلوسي - إمساك عن أشياء مخصوصة ، على وجه مخصوص ، في زمان مخصوص ، ممن هو على صفات مخصوصة .
وقد فرض الله - تعالى - على المسلمين صيام شهر رمضان في شهر شعبان من السنة الثانية للهجرة ، وعده النبي صلى الله عليه وسلم أحد أركان الإِسلام الخمسة ، فقد روى البخاري - بسنده - عن ابن عمر - رضي الله عنهما - قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : " بني الإِسلام على خمس : شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة ، وحج البيت ، وصوم رمضان " .
وأل في الصيام للعهد الذهني ، فقد كان العرب يعرفون الصوم ، فقد جاء في الصحيحين عن عائشة قالت : " كان يوم عاشوراء يوماً تصومه قريش والجاهلية " .
والتشبيه في قوله - تعالى - : { كَمَا كُتِبَ عَلَى الذين مِن قَبْلِكُمْ } راجع إلى أصل إيجاب الصوم وفريضته . أي : أن عبادة الصوم كانت مكتوبة ومفروضة على الأمم السابقة ، ولكن بكيفية لا يعلمها إلا الله ، إذ لم يرد نص صحيح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم يبين لنا فيه كيف كان صيام الأمم السابقة على الأمة الإسلامية .
وقيل إن التشبيه راجع إلى وقت الصوم وقدره ، فقد روى عن مجاهد أنه قال : كتب الله - عز وجل - صوم شهر رمضان على كل أمة .
ولفظ " كما " في قوله - تعالى - : { كَمَا كُتِبَ عَلَى الذين مِن قَبْلِكُمْ } في موضع نصب على المصدر ، أي : فرض عليكم الصيام فرضاً كالذي فرض على الذين من قبلكم .
ومن فوائد هذا التشبيه ، الاهتمام بهذه العبادة والتنويه بشأنها إذ شرعها - سبحانه - لأتباع النبي صلى الله عليه وسلم ولأتباع الرسل الذين سبقوه في الدعوة إلى توحيد الله ، وهذا مما يقتضي وفرة ثوابها ، وداوم صلاحها .
كذلك من فوائده تسهيل هذه العبادة على المسلمين ؛ لأن الشيء الشاق تخف مشقته على الإِنسان عند ما يعلم أن غيره قد أداه من قبله .
والفائدة الثالثة من هذا التشبيه إثارة العزائم والهمم للنهوض بهذه العبادة ، حتى لا يكونوا مقصرين في أدائها ، بل يجب عليهم أن يؤدوها بقوة تفوق من سبقهم لأن الأمة الإِسلامية قد وصفها سبحانه بأنها خير أمة أخرجت للناس ، وهذه الخيرية تقتضي منهم النشاط فيما كلفهم الله بأدائه من عبادات .
وقوله : { لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ } جملة تعليلة جيء بها لبيان حكمة مشروعية الصيام . فكأنه - سبحانه - يقول لعباده المؤمنين : فرضنا عليكم الصيام كما فرضناه على الذين من قبلكم ، لعلكم بأدائكم لهذه الفريضة تنالون درجة التقوى والخشية من الله ، وبذلك تكونون ممن رضي الله عنهم ورضوا عنه . ولا شك أن هذه الفريضة ترتفع بصاحبها إلى أعلى عليين متى أداها بآدابها وشروطها ، ويكفى أن الرسول صلى الله عليه وسلم قد قال في شأن الصوم : " الصوم جنة " أي : وقاية . إذ في الصوم وقاية من الوقوع في المعاصي ، ووقاية من عذاب الآخرة ، ووقاية من العلل والأمراض الناشئة عن الإِفراط في تناول بعض الأطعمة والأشربة .
ولقد كان من الطبيعي أن يفرض الصوم على الأمة التي يفرض عليه الجهاد في سبيل الله ، لتقرير منهجه في الأرض ، وللقوامة به على البشرية ، وللشهادة على الناس . فالصوم هو مجال تقرير الإرادة العازمة الجازمة ، ومجال اتصال الإنسان بربه اتصال طاعة وانقياد ؛ كما أنه مجال الاستعلاء على ضرورات الجسد كلها ، واحتمال ضغطها وثقلها ، إيثارا لما عند الله من الرضى والمتاع .
وهذه كلها عناصر لازمة في إعداد النفوس لاحتمال مشقات الطريق المفروش بالعقبات والأشواك ؛ والذي تتناثر على جوانبه الرغاب والشهوات ؛ والذي تهتف بالسالكيه آلاف المغريات !
وذلك كله إلى جانب ما يتكشف على مدار الزمان من آثار نافعة للصوم في وظائف الأبدان . ومع أنني لا أميل إلى تعليق الفرائض والتوجيهات الإلهية في العبادات - بصفة خاصة - بما يظهر للعين من فوائد حسية ، إذ الحكمة الأصيلة فيها هي إعداد هذا الكائن البشري لدوره على الأرض ، وتهيئته للكمال المقدر له في حياة الآخرة . . مع هذا فإنني لا أحب أن أنفي ما تكشف عنه الملاحظة أو يكشف عنه العلم من فوائد لهذه الفرائض والتوجيهات ؛ وذلك ارتكانا إلى الملحوظ والمفهوم من مراعاة التدبير الإلهي لكيان هذا الإنسان جملة في كل ما يفرض عليه وما يوجه إليه . ولكن في غير تعليق لحكمة التكليف الإلهي بهذا الذي يكشف عنه العلم البشري . فمجال هذا العلم محدود لا يتسع ولا يرتقي إلى استيعاب حكمة الله في كل ما يروض به هذا الكائن البشري . أو كل ما يروض به هذا الكون بطبيعة الحال :
( يا أيها الذين آمنوا كتب عليكم الصيام كما كتب على الذين من قبلكم ، لعلكم تتقون ، أياما معدودات ، فمن كان منكم مريضا أو على سفر فعدة من أيام أخر ؛ وعلى الذين يطيقونه فدية طعام مسكين ؛ فمن تطوع خيرا فهو خير له ؛ وأن تصوموا خير لكم إن كنتم تعلمون . شهر رمضان الذي أنزل فيه القرآن هدى للناس وبينات من الهدى والفرقان . فمن شهد منكم الشهر فليصمه ، ومن كان مريضا أو على سفر فعدة من أيام أخر . يريد الله بكم اليسر ولا يريد بكم العسر ، ولتكملوا العدة ولتكبروا الله على ما هداكم ولعلكم تشكرون ) . .
إن الله - سبحانه - يعلم أن التكليف أمر تحتاج النفس البشرية فيه إلى عون ودفع واستجاشة لتنهض به وتستجيب له ؛ مهما يكن فيه من حكمة ونفع ، حتى تقتنع به وتراض عليه .
ومن ثم يبدأ التكليف بذلك النداء الحبيب إلى المؤمنين ، المذكر لهم بحقيقتهم الأصيلة ؛ ثم يقرر لهم - بعد ندائهم ذلك النداء - أن الصوم فريضة قديمة على المؤمنين بالله في كل دين ، وأن الغاية الأولى هي إعداد قلوبهم للتقوى والشفافية والحساسية والخشية من الله :
( يا أيها الذين آمنوا كتب عليكم الصيام كما كتب على الذين من قبلكم لعلكم تتقون )
وهكذا تبرز الغاية الكبيرة من الصوم . . إنها التقوى . . فالتقوى هي التي تستيقظ في القلوب وهي تؤدي هذه الفريضة ، طاعة لله ، وإيثارا لرضاه . والتقوى هي التي تحرس هذه القلوب من إفساد الصوم بالمعصية ، ولو تلك التي تهجس في البال ، والمخاطبون بهذا القرآن يعلمون مقام التقوى عند الله ، ووزنها في ميزانه . فهي غاية تتطلع إليها أرواحهم . وهذا الصوم أداة من أدواتها ، وطريق موصل إليها . ومن ثم يرفعها السياق أمام عيونهم هدفا وضيئا يتجهون إليه عن طريق الصيام . . ( لعلكم تتقون ) . .
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ ( 183 )
و { كتب } : معناه فرض . والصيام في اللغة الإمساك وترك التنقل من حالٍ إلى حال ، ومنه قول النابغة : [ البسيط ]
خَيْلٌ صِيَامٌ وَخَيْلٌ غَيْرُ صَائِمَةٍ . . . تَحْتَ العَجَاجٍ وَخَيْلٌ تَعْلِكُ اللُّجُمَا
أي خيل ثابتة ممسكة( {[1655]} ) ، ومنه قول الله تعالى : { إني نذرت للرحمن صوماً }( {[1656]} ) [ مريم : 26 ] أي إمساكاً عن الكلام ، ومنه قول امرىء القيس : [ الطويل ]
كأَنَّ الثُّريَّا عُلِّقَتْ في مَصَامها( {[1657]} ) . . . أي في موضع ثبوتها وامتساكها ، ومنه قوله( {[1658]} ) : [ الطويل ]
فَدَعْ ذَا وَسَلِّ الْهَمِّ عَنْكَ بِجَسْرَةٍ . . . ذَمُولٍ إِذَا صَامَ النَّهَارُ وَهَجَّرَا
أي وقفت الشمس عن الانتقال وثبتت ، والصيام في الشرع إمساك عن الطعام( {[1659]} ) والشراب مقترنة به قرائن من مراعاة أوقات وغير ذلك ، فهو من مجمل القرآن في قول الحذاق ، والكاف من قوله { كما } في موضع نصب على النعت ، تقديره كتباً كما ، أو صوماً كما( {[1660]} ) ، أو على الحال كأن الكلام : كتب علكيم الصيام مشبهاً ما كتب على الذين من قبلكم .
وقال بعض النحاة : الكاف في موضع رفع على النعت للصيام ، إذ ليس تعريفه بمحض لمكان الإجمال الذي فيه مما فسرته الشريعة ، فلذلك جاز نعته ب { كما } إذ لا تنعت بها إلا النكرات ، فهو بمنزلة كتب عليكم صيام ، وقد ضعف هذا القول( {[1661]} ) .
واختلف المتأولون في موضع التشبيه( {[1662]} ) ، فقال الشعبي وغيره : المعنى كتب عليكم رمضان كما كتب على النصارى ، قال : «فإنه كتب عليهم رمضان فبدلوه لأنهم احتاطوا له بزيادة يوم في أوله ويوم في آخره ، قرناً بعد قرن حتى بلغوه خمسين يوماً ، فصعب عليهم في الحر فنقلوه إلى الفصل الشمسي » .
قال النقاش : «وفي ذلك حديث عن دغفل بن حنظلة والحسن البصري والسدي »( {[1663]} ) ، وقيل : بل مرض ملك من ملوكهم فنذر إن برىء أن يزيد فيه عشرة أيام ، ثم آخر سبعة ، ثم آخر ثلاثة ، ورأوا أن الزايادة فيه حسنة بإزاء الخطأ في نقله( {[1664]} ) .
وقال السدي والربيع : التشبيه هو أن من الإفطار إلى مثله لا يأكل ولا يشرب ولا يطأ ، فإذا حان الإفطار فلا يفعل هذه الأشياء من نام ، وكذلك كان في النصارى أولاً ، وكان في أول الإسلام ، ثم نسخه الله بسبب عمر وقيس بن صرمة بما يأتي من الآيات في ذلك( {[1665]} ) .
وقال عطاء : «التشبيه كتب عليكم الصيام ثلاثة أيام من كل شهر - قال القاضي أبو محمد عبد الحق رضي الله عنه : وفي بعض الطرق : ويوم عاشوراء - كما كتب على الذين من قبلكم ثلاثة أيام من كل شهر ويوم عاشوراء ، ثم نسخ هذا في هذه الأمة بشهر رمضان » .
وقالت فرقة : التشبيه كتب عليكم كصيام بالإطلاق ، أي قد تقدم في شرع غيركم ، ف { الذين } عام في النصارى وغيرهم ، و { لعلكم } ترجّ في حقهم ، و { تتقون } قال السدي : معناه تتقون الأكل والشرب والوطء بعد النوم على قول من تأول ذلك( {[1666]} ) ، وقيل : تتقون على العموم ، لأن الصيام كما قال عليه السلام : «جنة » ووجاء( {[1667]} ) وسبب تقوى ، لأنه يميت الشهوات .