ثم ذكرهم - سبحانه - بأهوال يوم القيامة ، لعلهم يتعظون أو يرتدعون فقال : { فَكَيْفَ تَتَّقُونَ إِن كَفَرْتُمْ يَوْماً يَجْعَلُ الولدان شِيباً . السَّمَآءُ مُنفَطِرٌ بِهِ كَانَ وَعْدُهُ مَفْعُولاً } .
والاستفهام فى قوله : { فَكَيْفَ } مستعمل فى التوبيخ والتعجيز ، و { تَتَّقُونَ } بمعنى تصونون أنفسكم من العذاب ، ومعنى { إِن كَفَرْتُمْ } إن بقيتم على كفركم وأصررتم عليه . وقوله { يَوْماً } : منصوب على أنه مفعول به لقوله : { تَتَّقُونَ }
وقوله : { السَّمَآءُ مُنفَطِرٌ بِهِ } صفة ثانية لهذا اليوم .
والمراد بالولدان : الأطفار الصغار ، وبه بمعنى فيه . .
والمقصود بهاتين الآيتين - أيضا - تأكيد التهديد للمشركين ، حتى يقلعوا عن شركهم وكفرهم . . أى : إذا كان الأمر كما ذكرنا لكم من سوء عاقبة المكذبين ، فكيف تصونون أنفسكم - إذا ما بقيتم على كفركم - من عذاب يوم هائل شديد ، هذا اليوم من صفاته أنه يحول الشعر الشديد السواد للولدان ، إلى شعر شديد البياض .
وهذا اليوم من صفاته - أيضا - أنه لشدة هوله ، أن السماء - مع عظمها وصلابتها - تصير شيئا منفطرا - أى : متشققا { به } أى : فيه ، والضمير يعود إلى اليوم . .
وصدر - سبحانه - الحديث عن يوم القيامة ، بلفظ الاستفهام " كيف " للإِشعار بشدة هوله . وأنه يعجز الواصفون عن وصفه .
ووصف - سبحانه - هذا اليوم بأنه يشيب فيه الولدان ، ثم وصفه بأن السماء مع عظمها تتشقق فيه ، للارتقاء فى الوصف من العظيم إلى الأعظم ، إذ أن تحول شعر الأطفال من السواد
إلى البياض - مع شدته وعظمه - أشد منه وأعظم ، انشقاق السماء فى هذا اليوم .
قال صاحب الكشاف : وقوله { يَجْعَلُ الولدان شِيباً } مثل فى الشدة ، يقال فى اليوم الشديد ، يوم يشيب نواصى الأطفال والأصل فيه أن الهموم والأحزان ، إذا تفاقمت على الإِنسان ، أسرع فيه الشيب ، كما قال أبو الطيب :
والهَمُّ يَخْتَرِم الجسيمَ نحافةً . . . ويُشِيبُ ناصيةَ الصبى ويُهْرِم
ويجوز أن يوصف اليوم بالطول ، وأن الأطفال يبلغون فيه أوان الشيخوخة والشيب . وقوله : { السَّمَآءُ مُنفَطِرٌ بِهِ } وصف لليوم بالشدة - أيضا - وأن السماء على عظمها وإحكامها تنفطر فيه فما ظنك بغيرها من الخلائق . .
ووصف - سبحانه - السماء بقوله : { مُنفَطِرٌ } بصيغة التذكير ، حيث لم يقل منفطرة ، لأن هذه الصيغة ، صيغة نسب . أى : ذات انفطار ، كما فى قولهم : امرأة مرضع وحائض ، أى : ذات إرضاع وذات حيض . أو على تأويل أن السماء بمعنى السقف ، كما فى قوله - تعالى - : { وَجَعَلْنَا السمآء سَقْفاً مَّحْفُوظاً } أو على أن السماء اسم جنس واحده سماوة ، فيجوم وصفه بالتذكير والتأنيث .
وقوله : { كَانَ وَعْدُهُ مَفْعُولاً } الضمير فيه يعود إلى الخالق - عز وجل - والوعد مصدر مضاف لفاعله . أى : كان وعد ربك نافذا ومفعولا ، لأنه - سبحانه - لا يخلف موعوده .
ويجوز أن تكون هذه الجملة صفة ثالثة لليوم ، والضمير فى وعده يعود إليه ، ويكون من إضافة المصدر لمفعوله . أى : كان الوعد بوقوع يوم القيامة نافذا ومفعولا .
فذلك أخذ الآخرة وهذا أخذ الدنيا ؛ فكيف تنجون بأنفسكم وتقوها هذا الهول الرعيب ?
( فكيف تتقون - إن كفرتم - يوما يجعل الولدان شيبا السماء منفطر به ? ) . .
وإن صورة الهول هنا لتنشق لها السماء ، ومن قبل رجفت لها الأرض والجبال . وإنها لتشيب الولدان . وإنه لهول ترتسم صوره في الطبيعة الصامتة ، وفي الإنسانية الحية . . في مشاهد ينقلها السياق القرآني إلى حس المخاطبين كأنها واقعة . . ثم يؤكدها تأكيدا . ( كان وعده مفعولا ) . . واقعا لا خلف فيه . وهو ما شاء فعل وما أراد كان !
وقوله تعالى : { السماء منفطر به } قيل هذا على النسب أي ذات انفطار كامرأة حائض وطالق ، وقيل السماء تذكر وتؤنث ، وينشد في التذكير : [ الوافر ]
فلو رفع السماء إليه قوماً . . . لحقنا بالسماء مع السحاب{[11400]}
وقيل من حيث لم يكن تأنيثها حقيقياً ، جاز أن تسقط علامة التأنيث لها ، وقيل لم يرد اللفظ قصد السماء بعينها وإنما أراد ما علا من مخلوقات الله كأنه قصد السقف فذكر على هذا المعنى ، قاله منذر بن سعيد وأبو عبيدة معمر والكسائي : و { الانفطار } التصدع والانشقاق على غير نظام ، بقصد ، والضمير في { به } قال المنذر وغيره : هو عائد على اليوم ، وقال مجاهد : هو عائد على الله تعالى ، وهذا نظير قوله { يوم تشقق السماء بالغمام }{[11401]} [ الفرقان : 25 ] الذي هو ظل يأتي الله فيها . والمعنى يأتي أمره وقدرته ، وكذلك هنا { منفطر به } أي بأمره وسلطانه ، والضمير في قوله { وعده } ظاهر أنه لله تعالى . ويحتمل أن يكون لليوم لأنه يضاف إليه من حيث هو منه .
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
"السّماءُ مُنْفَطِرٌ بِهِ": السماء مثقلة بذلك اليوم متصدّعة متشققة...
"السّماءُ مُنْفَطِرٌ بِهِ": ممتلئة به.
" كانَ وَعْدُهُ مَفْعُولاً": كان ما وعد الله من أمر أن يفعله مفعولاً، لأنه لا يخلف وعده،... فاحذروا ذلك اليوم أيها الناس، فإنه كائن لا محالة.
تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :
{السماء منفطر به} أي بما يجعل الولدان شيبا، وهو هول ذلك اليوم وشدة فزعه، أو منفطر بالغمام، وقيل: منفطر بالله أي بقضائه وحكمه.
{كان وعده مفعولا} أي الذي وقع به الوعد مفعول، لا أن يكون الوعد هو المفعول.
الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :
{السَّمَآءُ مُنفَطِرٌ بِهِ} وصف لليوم بالشدّة أيضاً، وأنّ السماء على عظمها وإحكامها تنفطر فيه، فما ظنك بغيرها من الخلائق. يعني: أنها تنفطر بشدة ذلك اليوم وَهَوْله كما ينفطر الشيء بما يفطر به.
ويجوز أن يراد السماء مثقلة به إثقالاً يؤدّي إلى انفطارها لعظمه عليها وخشيتها من وقوعه، كقوله: {ثَقُلَتْ فِي السموات والأرض} [الأعراف: 187].
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
وجملة {السماء منفطر به} صفة ثانية.
والبَاء بمعنى (في) وهو ارتقاء في وصف اليوم بحدوث الأهوال فيه فإن انفطار السماء أشد هولاً ورعباً مما كني عنه بجملة {يجعل الولدان شيباً}. أي السماء عَلى عظمها وسمكها تنفطر لذلك اليوم فما ظنكم بأنفسكم وأمثالكم من الخلائق فيه.
والانفطار: التشقق الذي يحدث في السماء لنزول الملائكة وصعودهم كما تقدم في قوله تعالى: {تعرج الملائكة والروح إليه} في سورة المعارج (4).وذكر انفطار السماء في ذلك اليوم زيادة في تهويل أحواله لأن ذلك يزيد المهددين رعباً وإن لم يكن انفطار السماء من آثار أعمالهم ولا لَه أثر في زيادة نكالهم، ويجوز أن يكون الإِخبار بانفطار السماء على طريقة التشبيه البليغ.