المنتخب في تفسير القرآن الكريم للمجلس الأعلى للشؤون الإسلامية - المنتخب [إخفاء]  
{وَإِذَآ أَرَدۡنَآ أَن نُّهۡلِكَ قَرۡيَةً أَمَرۡنَا مُتۡرَفِيهَا فَفَسَقُواْ فِيهَا فَحَقَّ عَلَيۡهَا ٱلۡقَوۡلُ فَدَمَّرۡنَٰهَا تَدۡمِيرٗا} (16)

16- وإذا قدَّرنا في اللوح المحفوظ إهلاك أهل قرية حسب اقتضاء حكمتنا سلَّطنا المترفين فيها فأفسدوا فيها ، وخرجوا عن جادة الحق ، وأتبعهم غيرهم من غير أن يتبينوا ، وبذلك يحق عليها كلها العقاب ، فندمرها تدميراً شديداً .

 
معالم التنزيل في تفسير القرآن الكريم للبغوي - البغوي [إخفاء]  
{وَإِذَآ أَرَدۡنَآ أَن نُّهۡلِكَ قَرۡيَةً أَمَرۡنَا مُتۡرَفِيهَا فَفَسَقُواْ فِيهَا فَحَقَّ عَلَيۡهَا ٱلۡقَوۡلُ فَدَمَّرۡنَٰهَا تَدۡمِيرٗا} (16)

قوله تعالى : { وإذا أردنا أن نهلك قريةً أمرنا مترفيها } ، قرأ مجاهد : أمرنا بالتشديد أي : سلطنا شرارها فعصوا ، وقرأ الحسن وقتادة و يعقوب أمرنا بالمد ، أي : أكثرنا . وقرأ الباقون مقصوراً مخففاً ، أي : أمرناهم بالطاعة فعصوا ، ويحتمل أن يكون معناه جعلناهم أمراء ، ويحتمل أن تكون بمعنى أكثرنا ، يقال : أمرهم الله أي كثرهم الله . وفي الحديث : خير المال مهرة مأمورة أي كثيرة النسل . ويقال : منه أمر القوم يأمرون أمراً إذا كثروا ، وليس من الأمر بمعنى الفعل ، فإن الله لا يأمر بالفحشاء . واختار أبو عبيدة قراءة العامة وقال : لأن المعاني الثلاثة تجتمع فيها يعني الأمر والإمارة والكثرة . { مترفيها } منعميها وأغنياءها { ففسقوا فيها فحق عليها القول } ، وجب عليها العذاب ، { فدمرناها تدميراً } ، أي :خربناها وأهلكنا من فيها .

أخبرنا عبد الواحد المليحي ، أنبأنا أحمد بن عبد الله النعيمي ، حدثنا محمد بن يوسف ، حدثنا محمد بن إسماعيل ، حدثنا يحيى بن بكر ، حدثنا الليث عن عقيل ، عن ابن شهاب ، عن عروة بن الزبير أن زينب بنت أبي سلمة حدثته عن أم حبيبة بنت أبي سفيان ، عن زينب بنت جحش أن النبي صلى الله عليه وسلم دخل عليها فزعاً وهو يقول : " لا إله إلا الله ، ويل للعرب من شر قد اقترب ، فتح اليوم من ردم يأجوج ومأجوج مثل هذه وحلق بأصبعه الإبهام والتي تليها قالت زينب فقلت : يا رسول الله أنهلك وفينا الصالحون ؟ قال : نعم إذا كثر الخبث " .

 
التفسير الوسيط للقرآن الكريم لسيد طنطاوي - سيد طنطاوي [إخفاء]  
{وَإِذَآ أَرَدۡنَآ أَن نُّهۡلِكَ قَرۡيَةً أَمَرۡنَا مُتۡرَفِيهَا فَفَسَقُواْ فِيهَا فَحَقَّ عَلَيۡهَا ٱلۡقَوۡلُ فَدَمَّرۡنَٰهَا تَدۡمِيرٗا} (16)

قال أبو حيان - رحمه الله - : لما ذكر - تعالى - فى الآية السابقة ، أنه لا يعذب أحدا حتى يبعث إليه رسولا ، بين بعد ذلك علة إهلاكهم ، وهى مخالفة أمر الرسول صلى الله عليه وسلم ، والتمادى على الفساد - فقال ، سبحانه - : { وَإِذَآ أَرَدْنَآ أَن نُّهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُواْ فِيهَا . . } .

وقوله - سبحانه - : { أمرنا } من الأمر الذى هو ضد النهى ، والمأمور به هو الإِيمان والعمل الصالح ، والشكر لله رب العالمين ، وحذف لظهوره والعلم به .

وقوله { مترفيها } جمع مترف ، وهو المتنعم الذى لا يمنع من تنعمه ، بل يترك يفعل ما يشاء . يقال : ترف فلان - كفرح - أى : تنعم ، وفلان أترفته النعمة ، أى : أطغته وأبطرته لأنه لم يستعملها فى وجوهها المشروعة .

والمراد بهم ، أصحاب الجاه والغنى والسلطان ، الذين أحاطت بهم النعم من كل جانب ، ولكنهم استعملوها فى الفسوق والعصيان ، لا فى الخير والإِحسان .

والمعنى : وإذا قرب وقت إرادتنا إهلاك أهل قرية ، أمرنا مترفيها ، وأهل الغنى والسلطان فيها بالإِيمان والعمل الصالح ، والمداومة على طاعتنا وشكرنا ، فلم يستجيبوا لأمرنا ، بل فسقوا فيها ، وعاثوا فى الأرض فسادا .

وهذا الأمر إنما هو على لسان الرسول المبعوث إلى أهل تلك القرية ، وعلى ألسنة المصلحين المتبعين لهذا الرسول والآمرين بالمعروف والناهين عن المنكر .

وقال - سبحانه - : { وَإِذَآ أَرَدْنَآ أَن نُّهْلِكَ قَرْيَةً . . . } مع أن الهلاك لأهلها ، للإِشارة إلى أن هذا الهلاك لن يصيب أهلها فقط ، بل سيصيبهم ويصيب معهم مساكنهم وأموالهم وكل ما احتوته تلك القرية ، بحيث تصير هى وسكانها أثرا بعد عين .

وخص مترفيها بالذكر مع أن الأمر بالطاعة للجميع ، لأن هؤلاء المترفين هم الأئمة والقادة ، فإذا ما استجابوا للأمر استجاب غيرهم تبعا لهم فى معظم الأحيان ، ولأنهم فى أعم الأحوال هم الأسرع إلى ارتكاب ما نهى الله عنه ، وإلى الانغماس فى المتع والشهوات .

والحكمة من هذا الأمر ، هو الإِعذار والإِنذار ، والتخويف والوعيد .

كما قال - تعالى - : { رُّسُلاً مُّبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ لِئَلاَّ يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى الله حُجَّةٌ بَعْدَ الرسل . . } وهذا التفسير للآية الكريمة ، سار عليه جمهور المفسرين .

ولصاحب الكشاف رأى يخالف ذلك ، فهو يرى أن الأمر فى الآية الكريمة مجاز عن إمدادهم بالنعم الكثيرة التى أبطرتهم .

قال - رحمه الله - : قوله - تعالى - : { وإذا أردنا } وإذا دنا وقت إهلاك قوم ، ولم يبق من زمان إمهالهم إلا قليل أمرناهم { ففسقوا } أى : أمرناهم بالفسق ففعلوا .

والأمر مجاز لأن حقيقة أمرهم بالفسق أن يقول لهم : افسقوا ، وهذا لا يكون ، فبقى أن يكون مجازا ، ووجه المجاز أنه صب عليهم النعمة صبا ، فجعلوها ذريعة إلى المعاصى واتباع الشهوات ، فكأنهم مأمورون بذلك لتسبب إيلاء النعمة فيه ، وإنما خولهم إياها ليشكروا ويعملوا فيها الخير ، ويتمكنوا من الإِحسان والبر ، كما خلقهم أصحاء أقوياء ، وأقدرهم على الخير والشر ، وطلب منهم إيثار الطاعة ، على المعصية ، فآثروا الفسوق ، فلما فسقوا حق عليهم القول وهو كلمة العذاب فدمرهم .

. .

ومن المفسرين من يرى أن قوله - تعالى - : { أمرنا } بمعنى كثّرنا - بتشديد الثاء - وقرئ { أمّرنا } بتشديد الميم ، أى : كثرنا مترفيها وجعلناهم أمراء مسلطين . .

ولكن هذه القراءة . وقراءة { آمرنا } بمعنى " كثرنا " أيضا ، ليستا من القراءات السبعة أو العشرة ، وإنما هما من القراءات الشاذة .

قال الإِمام ابن جرير : وأولى القراءات فى ذلك عندى بالصواب ، قراءة من قرأ { أمرنا } بقصر الألف وتخفيف الميم - لإِجماع الحجة من القراء بتصويبها دون غيرها وإذا كان ذلك هو الأولى بالصواب بالقراءة ، فأولى التأويلات به من تأوله : أمرنا أهلها بالطاعة فعصوا وفسقوا فيها . فحق عليهم القول ، لأن الأغلب من معنى { أمرنا } الأمر الذى هو خلاف النهى دون غيره .

وتوجيه معانى كلام الله - جل ثناؤه - إلى الأشهر الأعرف من معانيه ، أولى ما وجد إليه سبيل من غيره . . .

ويبدو لنا أن الرأى الأول الذى سار عليه جمهور المفسرين ، وعلى رأسهم الإِمام ابن جرير ، أولى بالقبول ، لأسباب منها :

ان القرآن الكريم يؤيده فى كثير من آياته ، ومن ذلك قوله - تعالى - : { وَإِذَا فَعَلُواْ فَاحِشَةً قَالُواْ وَجَدْنَا عَلَيْهَآ آبَاءَنَا والله أَمَرَنَا بِهَا قُلْ إِنَّ الله لاَ يَأْمُرُ بالفحشآء . . } فقوله - تعالى - : { قُلْ إِنَّ الله لاَ يَأْمُرُ بالفحشآء } دليل واضح على أن قوله - سبحانه - : { أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُواْ فِيهَا . . } معناه : أمرناهم بالطاعة ففسقوا ، وليس معناه أمرناهم بالفسق ففسقوا لأنه - سبحانه - لا يأمر لا بالفسق ولا بالفحشاء .

ومنها : أن الأسلوب العربى السليم يؤيده لأنك إذا قلت : أمرته فعصانى كان المعنى المتبارد والظاهر من هذه الجملة ، أمرته بالطاعة فعصانى ، وليس معناه . أمرته بالعصيان فعصانى .

ومنها : أن حمل الكلام على الحقيقة - كما سار جمهور المفسرين - أولى من حمله على المجاز - كما ذهب صاحب الكشاف - .

وقوله - سبحانه - : { فَحَقَّ عَلَيْهَا القول فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِيراً } بيان لما نزل بهذه القرية وأهلها من عذاب محاها من الوجود ، إذ التدمير هو الإِهلاك مع طمس الأثر ، وهدم البناء .

أى : أمرنا مترفيها بطاعتنا وشكرنا ، فعصوا أمرنا وفسقوا فيها ، فثبت وتحقق عليها عذابنا ، فأهلكناها إهلاكا استأصل شأفتها ، وأزال آثارها .

وأكد - سبحانه - فعل التدمير بمصدره ، للمبالغة فى إبراز شدة الهلاك الواقع على تلك القرية الظالم أهلها .

قال الآلوسى ما ملخصه : والآية تدل على إهلاك أهل القرية على أتم وجه ، وإهلاك جميعهم ، لصدور الفسق منهم جميعا ، فإن غير المترف يتبع المترف عادة .

. .

وقيل : هلاك الجميع لا يتوقف على التبعية فقد قال - تعالى - : { واتقوا فِتْنَةً لاَّ تُصِيبَنَّ الذين ظَلَمُواْ مِنكُمْ خَآصَّةً . . . } " وقد صح عن أم المؤمنين زينب بنت جحش أنها قالت : قلت ، يا رسول الله ، أنهلك وفينا الصالحون ؟ قال : نعم ، إذا كثر الخبث " .

 
في ظلال القرآن لسيد قطب - سيد قطب [إخفاء]  
{وَإِذَآ أَرَدۡنَآ أَن نُّهۡلِكَ قَرۡيَةً أَمَرۡنَا مُتۡرَفِيهَا فَفَسَقُواْ فِيهَا فَحَقَّ عَلَيۡهَا ٱلۡقَوۡلُ فَدَمَّرۡنَٰهَا تَدۡمِيرٗا} (16)

كذلك تمضي سنة الله في إهلاك القرى وأخذ أهلها في الدنيا ، مرتبطة بذلك الناموس الكوني الذي يصرف الليل والنهار :

( وإذا أردنا أن نهلك قرية أمرنا مترفيها ففسقوا فيها فحق عليها القول فدمرناها تدميرا ) .

والمترفون في كل أمة هم طبقة الكبراء الناعمين الذين يجدون المال ويجدون الخدم ويجدون الراحة ، فينعمون بالدعة وبالراحة وبالسيادة ، حتى تترهل نفوسهم وتأسن ، وترتع في الفسق والمجانة ، وتستهتر بالقيم والمقدسات والكرامات ، وتلغ في الأعراض والحرمات ، وهم إذا لم يجدوا من يضرب على أيديهم عاثوا في الأرض فسادا ، ونشروا الفاحشة في الأمة وأشاعوها ، وأرخصوا القيم العليا التي لا تعيش الشعوب إلا بها ولها . ومن ثم تتحلل الأمة وتسترخي ، وتفقد حيويتها وعناصر قوتها وأسباب بقائها ، فتهلك وتطوى صفحتها .

والآية تقرر سنة الله هذه . فإذا قدر الله لقرية أنها هالكة لأنها أخذت بأسباب الهلاك ، فكثر فيها المترفون ،

فلم تدافعهم ولم تضرب على أيديهم ، سلط الله هؤلاء المترفين ففسقوا فيها ، فعم فيها الفسق ، فتحللت وترهلت ، فحقت عليها سنة الله ، وأصابها الدمار والهلاك . وهي المسؤولة عما يحل بها لأنها لم تضرب على أيدي المترفين ، ولم تصلح من نظامها الذي يسمح بوجود المترفين . فوجود المترفين ذاته هو السبب الذي من أجله سلطهم الله عليها ففسقوا ، ولو أخذت عليهم الطريق فلم تسمح لهم بالظهور فيها ما استحقت الهلاك ، وما سلط الله عليها من يفسق فيها ويفسد فيقودها إلى الهلاك .

إن إرادة الله قد جعلت للحياة البشرية نواميس لا تتخلف ، وسننا لا تتبدل ، وحين توجد الأسباب تتبعها النتائج فنفذ إرادة الله وتحق كلمته . والله لا يأمر بالفسق ، لأن الله لا يأمر بالفحشاء . لكن وجود المترفين في ذاته ، دليل على أن الأمة قد تخلخل بناؤها ، وسارت في طريق الانحلال ، وأن قدر الله سيصيبها جزاء وفاقا . وهي التي تعرضت لسنة الله بسماحها للمترفين بالوجود والحياة .

فالإرادة هنا ليست إرادة للتوجيه القهري الذي ينشيء السبب ، ولكنها ترتب النتيجة على السبب . الأمر الذي لا مفر منه لأن السنة جرت به . والأمر ليس أمرا توجيهيا إلى الفسق ، ولكنه إنشاء النتيجة الطبيعية المترتبة على وجود المترفين وهي الفسق .

وهنا تبرز تبعة الجماعة في ترك النظم الفاسدة تنشيء آثارها التي لا مفر منها . وعدم الضرب على أيدي المترفين فيها كي لا يفسقوا فيها فيحق عليها القول فيدمرها تدميرا .

 
أنوار التنزيل وأسرار التأويل للبيضاوي - البيضاوي [إخفاء]  
{وَإِذَآ أَرَدۡنَآ أَن نُّهۡلِكَ قَرۡيَةً أَمَرۡنَا مُتۡرَفِيهَا فَفَسَقُواْ فِيهَا فَحَقَّ عَلَيۡهَا ٱلۡقَوۡلُ فَدَمَّرۡنَٰهَا تَدۡمِيرٗا} (16)

{ وإذا أردنا أن نُهلك قرية } وإذا تعلقت إرادتنا بإهلاك قوم لإنفاذ قضائنا السابق ، أو دنا وقته المقدر كقولهم : إذا أراد المريض أن يموت ازداد مرضه شدة . { أمرنا مُترفيها } متنعميها بالطاعة على لسان رسول بعثناه إليهم ، ويدل على ذلك ما قبله وما بعده ، فإن الفسق هو الخروج عن الطاعة والتمرد في العصيان ، فيدل على الطاعة من طريق المقابلة ، وقيل أمرناهم بالفسق لقوله : { ففسقوا فيها } كقولك أمرته فقرأ ، فإنه لا يفهم منه إلا الأمر بالقراءة على أن الأمر مجاز من الحمل عليه ، أو التسبب له بأن صب عليهم من النعم ما أبطرهم وأفضى بهم إلى الفسوق ، ويحتمل أن لا يكون له مفعول منوي كقولهم : أمرته فعصاني . وقيل معناه كثرنا يقال : أمرت الشيء وآمرته فأمر إذا كثرته ، وفي الحديث " خير المال سكة مأبورة ، ومهرة مأمورة " ، أي كثيرة النتاج . وهو أيضا مجاز من معنى الطلب ، ويؤيده قراءة يعقوب " آمرنا " ورواية { أمرنا } عن أبي عمرو ، ويحتمل أن يكون منقولا من أمر بالضم أمارة أي جعلناهم أمراء ، وتخصيص المترفين لأن غيرهم يتبعهم ولأنهم أسرع إلى الحماقة وأقدر على الفجور . { فحقّ عليها القول } يعني كلمة العذاب السابقة بحلوله ، أو بظهور معاصيهم أو بانهماكهم في المعاصي . { فدمّرناها تدميرا } أهلكناها بإهلاك أهلها وتخريب ديارهم .

 
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية - ابن عطية [إخفاء]  
{وَإِذَآ أَرَدۡنَآ أَن نُّهۡلِكَ قَرۡيَةً أَمَرۡنَا مُتۡرَفِيهَا فَفَسَقُواْ فِيهَا فَحَقَّ عَلَيۡهَا ٱلۡقَوۡلُ فَدَمَّرۡنَٰهَا تَدۡمِيرٗا} (16)

وقوله { وإذا أردنا أن نهلك قرية } الآية ، في مصحف أبي «بعثنا أكابر مجرميها » ، و «القرية » ، المدينة المجتمعة مأخوذ من قريت الماء في الحوض إذا جمعته وليست من قرأ الذي هو مهموز ، وإن كان فيها جمعاً معنى الجمع ، وقرأ الجمهور «أمَرنا » على صيغة الماضي من أمر ضد نهي ، وقرأ نافع ، وابن كثير في بعض ما روي عنهما ، «آمرنا » بمد الهمزة بمعنى كثرنا ، ورويت عن الحسن ، وهي قراءة علي بن أبي طالب وابن عباس بخلاف عنه وعن الأعرج ، وقرأ بها ابن إسحاق ، تقول العرب : أمر القوم إذا كثروا ، وآمرهم الله بتعدي الهمزة وقرأ أبو عمرو بخلاف : «أمّرنا » بتشديد الميم ، وهي قراءة أبي عثمان النهدي وأبي العالية وابن عباس ، ورويت عن علي بن أبي طالب ، وقال الطبري ، : القراءة الأولى معناها أمرناهم بالطاعة فعصوا وفسقوا فيها وهو قول ابن عباس وابن جبير ، والثانية معناها كثرناهم ، والثالثة هي من الإمارة أي ملكناهم على الناس ، قال القاضي أبو محمد : قال أبو علي الفارسي : الجيد في «آمرنا » أن تكون بمعنى كثرنا فتعدي الفعل بلفظه غير متعد كما تقول رجع ورجعته وشتر عينه وشترتها{[7500]} فتقول آمر القوم وآمرهم الله أي كثرهم{[7501]} ، قال «وآمرنا » مبالغة في «أمرنا » بالهمزة ، و «أمّرنا » مبالغة فيه بالتضعيف ، ولا وجه لكون «أمّرنا » من الإمارة لأن رياستهم لا تكون إلا واحداً بعد واحد والإهلاك إنما يكون في مدة واحد منهم .

قال القاضي أبو محمد : وينفصل عن هذا الذي قاله أبو علي بأن الأمر وإن كان يعم المترف وغيره فخص المترف بالذكر إذ فسقه هو المؤثر في فساد القرية وهم عظم الضلالة ، وسواهم تبع لهم وأما «أمّرنا » من الإمارة فمتوجه على وجهين ، أحدهما أن لا يريد إمارة الملك بل كونهم يأمرون ويؤتمر لهم ، فإن العرب تقول لمن يأمر الإنسان وإن لم يكن ملكاً هو أميره ، ومنه قول الأعشى : [ المتقارب ]

إذا كان هادي الفتى في البلاد . . . صدر القناة أطاع الأميرا{[7502]}

ومنه قول معاوية لعمر رضي الله عنه حين أمره بالاستقادة من لطمة عمرو بن العاص ، إن علي أميراً لا أقطع أمراً دونه ، أراد معاوية رضي الله عنه أباه وأراد الأعشى أنه إذا شاخ الإنسان وعمي واهتدى بالعصا أطاع كل من يأمره ، ومنه قول الآخر : [ الكامل ]

والناس يلحون الأمير إذ هم . . . خطئوا الصواب ولا يلام المرشد{[7503]}

وأيضاً فلو أراد إمارة الملك في الآية لحسن المعنى ، لأن الأمة إذا ملك الله عليها مترفاً ففسق ثم ولي مثله بعده ، ثم كذلك عظم الفساد وتوالى الكفر واستحقوا العذاب فنزل بهم على الرجل الأخير من ملوكهم{[7504]} ، وقرأ الحسن ويحيى بن عمر «أمِرنا » بكسر الميم وحكاها النحاس عن ابن عباس ، ولا أتحقق وجهاً لهذه القراءة إلا إن كان أمر القوم يتعدى بلفظه ، فإن العرب تقول آمر بنو فلان إذا كثروا ، ومنه قول لبيد :

إن يغبُطوا يهبطوا وإن أمروا . . . يوماً يصيروا للقل والنفد{[7505]}

ومنه : لقد أمر أمر ابن أبي كبشة{[7506]} ، ورد القراء هذه القراءة ، وقد حكي أمر متعدياً عن أبي زيد الأنصاري ، و «المترف » الغني من المال المتنعم ، والترفه النعمة ، وفي مصحف أبي بن كعب : «قرية بعثنا أكابر مجرميها فمكروا فيها » ، وقوله { فحق عليها القول } أي وعيد الله لها الذي قاله رسولهم ، والتدمير الإهلاك ، مع طمس الآثار وهدم البناء ، ومنه قول الفرزدق : [ المتقارب ]

وكان لهمْ ككبرِ ثمود لمّا . . . رغا دهراً فدمرهم دمارا{[7507]}


[7500]:شترت عينه: انشقت، وشترتها: شققتها وجعلتها شتراء.
[7501]:استدل أبو عبدة على صحة هذه اللغة بما جاء في الحديث الشريف: (خير المال مهرة مأمورة أو سكة مأبورة )، أي: خير المال مهرة كثيرة النسل، وسكة - أي طريقة مصطفة من النخل – مأبورة، أي ملقحة. وقد أنكر بعض العلماء هذا، وقالوا: إنما قيل: (مأمورة)، على الإتباع، لمجيء (مأبورة) بعدها، كما جاء: (ارجعن مأزورات غير مأجورات)، فقد همزت (مأزورات) لأن (مأجورات) جاءت بعدها مهموزة.
[7502]:البيت من قصيدة للأعشى يمدح هوذة بن علي الحنفي، وفي مطلعها يقول: غشيت لليلى بليل خدورا وطالبت ونذرت النذورا والهادي: المرشد، والقناة هنا: العصى التي يحملها الأعمى ليتجسس بها الطريق، يقول: إذا كبر الفتى وأصابه العمى، واعتمد على عصاه في سيره فإنه يطيع كل من يأمره أو ينصحه بأمر في سيره، فقد جعل النصيحة هنا أمرا، وجعل المرشد الناصح أميرا، لأنه يأمر فيطاع.
[7503]:يلحون: يلومون ويشتمون أو ينازعون ويخاصمون، وفي الحديث: (نهيت عن ملاحاة الرجال)، أي: نهيت عن مخاصمتهم ومنازعتهم، وخطيء الرجل يخطأ خطأ على فعلة: أذنب. يقول: إن الناس يلومون الناصح الذي يرشدهم عندما يخطئون، وهذا عيب كبير فيهم فإن من العقل ألا يلام الناصح المرشد، فقد سمي الناصح أميرا.
[7504]:في صحيح الترمذي: (إن الناس إذا رأوا الظالم ولم يأخذوا على يديه أوشك أن يعمهم الله بعقاب من عنده)، وروى البخاري عن ابن عمر رضي الله عنهما، قال: رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إذا أنزل الله بقوم عذابا أصاب العذاب من كان فيهم ثم بعثوا على أعمالهم)، فالعذاب يعم، وهو للفاسقين نقمة، وللمؤمنين طهرة.
[7505]:قال لبيد هذا البيت من قصيدة يرثي بها أربد بن قيس بن جزء، وكان أخا للبيد من الأم، وفد على رسول الله صلى الله عليه وسلم مع عامر بن الطفيل، وجابر بن سلمى، وعرض عليهم الرسول صلى الله عليه وسلم الإسلام فلم يسلموا، وتوفي عامر بالطاعون، وأصابت أربد صاعقة فأحرقته. ويروى البيت: "يصيروا للهلك والنكد"، ويروى: "يوما فهم للفناء والنفد"، والغبطة: تمني مثل ما للإنسان من النعمة من غير أن يراد زوالها عنه. ويهبطوا: يموتوا، وأمروا: كثروا، والقل: القلة، والنفد : الفناء. والشاهد أن أمروا بمعنى: كثروا.
[7506]:كان المشركون يقولون للنبي صلى الله عليه وسلم "ابن أبي كبشة"، شبهوه بأبي كبشة، وهو رجل من خزاعة خالف قريشا في عبادة الأوثان، أو هي كنية وهب بن عبد مناف جده صلى الله عليه وسلم لأمه، لأنه كان ينزع إليه في الشبه، وقيل: هي كنية زوج حليمة السعدية مرضعة النبي صلى الله عليه وسلم. والذي قال ذلك هو أبو سفيان بن حرب، قال: "لقد أمر أمْرُ ابن أبي كبشة وارتفع شأنه".
[7507]:البيت من قصيدة قالها يرد على جرير فيناقضه، وقبله يقول- وهو مطلع القصيدة: - جر المخزيات على كليب جرير ثم ما منع الدمارا والبكر: الفتي من الإبل، ويريد به هنا الفصيل الذي خرج لثمود بعد أن عقروا أمه الناقة التي جعلها الله هي وابنها آية لثمود، وجعل الماء قسمة بينهم وبين الناقة، فلما عقروها خرج عليهم الفصيل فرغا، وكانت النتيجة هي دمارهم عن آخرهم، يشبه جريرا في قومه كليب بهذا الفصيل في ثمود.