المنتخب في تفسير القرآن الكريم للمجلس الأعلى للشؤون الإسلامية - المنتخب [إخفاء]  
{لَا يُكَلِّفُ ٱللَّهُ نَفۡسًا إِلَّا وُسۡعَهَاۚ لَهَا مَا كَسَبَتۡ وَعَلَيۡهَا مَا ٱكۡتَسَبَتۡۗ رَبَّنَا لَا تُؤَاخِذۡنَآ إِن نَّسِينَآ أَوۡ أَخۡطَأۡنَاۚ رَبَّنَا وَلَا تَحۡمِلۡ عَلَيۡنَآ إِصۡرٗا كَمَا حَمَلۡتَهُۥ عَلَى ٱلَّذِينَ مِن قَبۡلِنَاۚ رَبَّنَا وَلَا تُحَمِّلۡنَا مَا لَا طَاقَةَ لَنَا بِهِۦۖ وَٱعۡفُ عَنَّا وَٱغۡفِرۡ لَنَا وَٱرۡحَمۡنَآۚ أَنتَ مَوۡلَىٰنَا فَٱنصُرۡنَا عَلَى ٱلۡقَوۡمِ ٱلۡكَٰفِرِينَ} (286)

286- إن الله لا يكلف عباده إلا ما يستطيعون تأديته والقيام به ، ولذلك كان كل مكلف مجزياً بعمله : إن خيراً فخير وإن شراً فشر ، فاضرعوا إلى الله - أيها المؤمنون - داعين : ربنا لا تعاقبنا إن وقعنا في النسيان لما كلفتنا إياه ، أو تعرضنا لأسباب يقع عندها الخطأ ، ربنا ولا تُشدِّد علينا في التشريع كما شددت على اليهود بسبب تعنتهم وظلمهم ، ولا تكلفنا ما لا طاقة لنا به من التكاليف ، واعف عنا بكرمك ، واغفر لنا بفضلك ، وارحمنا برحمتك الواسعة . إنك مولانا ، فانصرنا يا رب - من أجل إعلاء كلمتك ونشر دينك - على القوم الجاحدين .

 
معالم التنزيل في تفسير القرآن الكريم للبغوي - البغوي [إخفاء]  
{لَا يُكَلِّفُ ٱللَّهُ نَفۡسًا إِلَّا وُسۡعَهَاۚ لَهَا مَا كَسَبَتۡ وَعَلَيۡهَا مَا ٱكۡتَسَبَتۡۗ رَبَّنَا لَا تُؤَاخِذۡنَآ إِن نَّسِينَآ أَوۡ أَخۡطَأۡنَاۚ رَبَّنَا وَلَا تَحۡمِلۡ عَلَيۡنَآ إِصۡرٗا كَمَا حَمَلۡتَهُۥ عَلَى ٱلَّذِينَ مِن قَبۡلِنَاۚ رَبَّنَا وَلَا تُحَمِّلۡنَا مَا لَا طَاقَةَ لَنَا بِهِۦۖ وَٱعۡفُ عَنَّا وَٱغۡفِرۡ لَنَا وَٱرۡحَمۡنَآۚ أَنتَ مَوۡلَىٰنَا فَٱنصُرۡنَا عَلَى ٱلۡقَوۡمِ ٱلۡكَٰفِرِينَ} (286)

وسئل سفيان بن عيينة عن قوله عز وجل { لا يكلف الله نفساً إلا وسعها } . قال : إلا يسرها ولم يكلفها فوق طاقتها ، وهذا قول حسن لأن الوسع ما دون الطاقة .

قوله تعالى : { لها ما كسبت } . أي للنفس ما عملت من الخير ، لها أجره وثوابه .

قوله تعالى : { وعليها ما اكتسبت } . من الشر وعليها وزره .

قوله تعالى : { ربنا لا تؤاخذنا } . أي لا تعاقبنا .

قوله تعالى : { إن نسينا } . جعله بعضهم من النسيان الذي هو السهو ، قال الكلبي : كانت بنو إسرائيل إذا نسوا شيئاً مما أمروا به ، أو أخطأوا عجلت لهم العقوبة ، فحرم عليهم من شيء من مطعم أو مشرب على حسب ذلك الذنب ، فأمر الله المؤمنين أن يسألوه ترك مؤاخذتهم بذلك ، وقيل هو من النسيان الذي هو الترك كقوله تعالى : ( نسوا الله فنسيهم ) .

قوله تعالى : { أو أخطأنا } . قيل معناه القصد والعمد ، يقال : أخطأ فلان إذا تعمد ، قال الله تعالى ( إن قتلهم كان خطأً كبيراً ) قال عطاء : { إن نسينا أو أخطأنا } يعني : أن جهلنا أو تعمدنا ، وجعله الأكثرون من الخطأ الذي هو الجهل والسهو ، لأن ما كان عمداً من الذنب فغير معفو عنه بل هو في مشيئة الله ، والخطأ معفو عنه ، قال النبي صلى الله عليه وسلم : " رفع عن أمتي الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه " .

قوله تعالى : { ربنا ولا تحمل علينا إصراً } . أي عهداً ثقيلاً وميثاقا لا نستطيع القيام به فتعذبنا بنقضه وتركه .

قوله تعالى : { كما حملته على الذين من قبلنا } . يعني اليهود ، فلم يقوموا به فعذبتهم ، هذا قول مجاهد وعطاء وقتادة والسدي والكلبي وجماعة يدل عليه قوله تعالى ( وأخذتم على ذلكم إصري ) أي عهدي ، وقيل معناه : لا تشدد ولا تغلظ الأمر علينا كما شددت على من قبلنا من اليهود ، وذلك أن الله فرض عليهم خمسين صلاة وأمرهم بأداء ربع أموالهم في الزكاة ، ومن أصاب ثوبه نجاسة قطعها ، ومن أصاب ذنباً أصبح وذنبه مكتوب على بابه ، ونحوها من الأثقال والأغلال ، وهذا يعني قول عثمان وعطاء ومالك بن أنس وأبي عبيدة وجماعة يدل عليه قوله تعالى : " ويضع عنهم إصرهم والأغلال التي كانت عليهم " وقيل : الإصر ذنب لا توبة له ، معناه أعصمنا من مثله ، والأصل في العقل والإحكام .

قوله تعالى : { ربنا ولا تحملنا ما لا طاقة لنا به } . أي لا تكلفنا من الأعمال مالا نطيقه ، وقيل هو حديث النفس والوسوسة . حكي عن مكحول أنه قال : هو الغلمة ، قيل : الغلمة : شدة الشهوة ، وعن إبراهيم قال : هو الحب ، وعن محمد بن عبد الوهاب قال : العشق ، وقال ابن جريج : هو مسخ القردة والخنازير وقيل هو شماتة الأعداء ، وقيل : هو الفرقة والقطيعة نعوذ بالله منها .

قوله تعالى : { واعف عنا } . أي تجاوز وامح عنا ذنوبنا .

قوله تعالى : { واغفر لنا } . استر علينا ذنوبنا ولا تفضحنا .

قوله تعالى : { وارحمنا } . فإننا لا ننال العمل إلا بطاعتك ، ولا نترك معصيتك إلا برحمتك .

قوله تعالى : { أنت مولانا } . ناصرنا وحافظنا وولينا .

قوله تعالى : { فانصرنا على القوم الكافرين } . روى سعيد بن جبير عن ابن عباس رضي الله عنهما في قوله عز وجل ( غفرانك ربنا ) قال الله تعالى قد غفرت لكم وفي قوله ( لا تؤاخذنا إن نسينا أو أخطأنا ) قال : لا أوأخذكم ( ربنا ولا تحمل علينا إصراً ) قال : لا أحمل عليكم إصراً { ولا تحملنا ما لا طاقة لنا به } قال : لا أحملكم { واعف عنا } إلى آخره قال قد عفوت عنكم ، وغفرت لكم ، ورحمتكم ونصرتكم على القوم الكافرين . وكان معاذ بن جبل إذا ختم سورة البقرة قال : آمين .

/خ286

 
التفسير الوسيط للقرآن الكريم لسيد طنطاوي - سيد طنطاوي [إخفاء]  
{لَا يُكَلِّفُ ٱللَّهُ نَفۡسًا إِلَّا وُسۡعَهَاۚ لَهَا مَا كَسَبَتۡ وَعَلَيۡهَا مَا ٱكۡتَسَبَتۡۗ رَبَّنَا لَا تُؤَاخِذۡنَآ إِن نَّسِينَآ أَوۡ أَخۡطَأۡنَاۚ رَبَّنَا وَلَا تَحۡمِلۡ عَلَيۡنَآ إِصۡرٗا كَمَا حَمَلۡتَهُۥ عَلَى ٱلَّذِينَ مِن قَبۡلِنَاۚ رَبَّنَا وَلَا تُحَمِّلۡنَا مَا لَا طَاقَةَ لَنَا بِهِۦۖ وَٱعۡفُ عَنَّا وَٱغۡفِرۡ لَنَا وَٱرۡحَمۡنَآۚ أَنتَ مَوۡلَىٰنَا فَٱنصُرۡنَا عَلَى ٱلۡقَوۡمِ ٱلۡكَٰفِرِينَ} (286)

ثم بين - سبحانه - بعض مظاهر رحمته بعباده فقال : { لاَ يُكَلِّفُ الله نَفْساً إِلاَّ وُسْعَهَا } والوسع - كما يقول الزمخشري - : ما يسع الإِنسان ، ولا يضيق عليه ، ولا يحرج فيه ، أي لا يكلفها إلا ما يتسع فيه طوقه ، ويتيسر عليه دون مدى الطاقة والمجهود . وهذا إخبار عن عدله . ورحمته كقوله - تعالى - : { يُرِيدُ الله بِكُمُ اليسر وَلاَ يُرِيدُ بِكُمُ العسر } لأنه كان في إمكان الإِنسان وطاقته أن يصلي أكثر من الخمس ، ويصوم أكثر من الشهر ، ويجمع أكثر من حجة .

فالجملة الكريمة تحكي لنا بعض مظاهر فضل الله علينا ورحمته بنا ، حيث كلفنا بما تسعه قدرتنا ، وتستطيعه نفوسنا ، وقد حكى القرآن هذا المعنى في آيات كثيرة ، منها قوله - تعالى - : { وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدين مِنْ حَرَجٍ } وقوله - تعالى - : { يُرِيدُ الله أَن يُخَفِّفَ عَنْكُمْ وَخُلِقَ الإنسانُ ضَعِيفاً } وإذا كانت بعض التكاليف التي كلفنا الله بها في مشقة ، فإن هذه المشقة محتملة وفي وسع الإِنسان وقدرته وطاقته ، وسثيبنا الله - تعالى - عليها ثوابا جزيلا ، فهو القائل : { إِنَّمَا يُوَفَّى الصابرون أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ } ثم بين - سبحانه - أن كل نفس ستجازى بما عملت فقال : { لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكتسبت } أي لها وحدها ثواب ما كسبت من حسنات بسبب أعمالها الصالحة ، وعليها وحدها عقاب ما اكتسبت من سيئات بسبب أعمالها القبيحة .

قال صاحب الكشاف : فإن قلت : لم خص الخير بالكسب ، والشر بالاكتساب ؟ قلت . في الاكتساب اعتمال ، فلما ان الشر مما تشتهيه النفس وهي منجذبة إليه وأمارة به ، كانت في تحصيلة أعمل وأجد ، فجعلت لذلك مكتسبة فيه ، ولما لم تكن كذلك في باب الخير وصفت بما لا دلالة فيه على الاعتمال .

وقال الأستاذ الإِمام محمد عبده : " لا شك أن الميل إلى الخير مما أودع في نفس الإِنسان والإِنسان يفعل الخير بطبعه وتكون فيه لذته . ولا يحتاج إلى تكلف في فعل الخير ، لأنه يعلم أن كل أحد يرتاح إليه ويراه بعين الرضا وأما الشر فإنه يعرض للنفس بأسباب ليست من طبيعتها ولا من مقتضى فطرتها ومهما كان الإِنسان شريراً فإنه لا يخفى عليه أن الشر ممقوت عند الناس وصاحبه مهين عندهم . . وهكذا شأن الإِنسان عند اقتراف كل شر يشعر في نفسه بقبحه ، ويجد من أعمال سريرته هاتفا يقول له : لا تفعل ، ويحاسبه بعد الفعل ويوبخه إلا في النادر . . " .

وبعد بيان سنة الله - تعالى - في التكليف وفي الجزاء عليه ، ختم - سبحانه - السورة الكريمة بتلك الدعوات الجامعات للسعادة حتى يكثر المؤمنون من التضرع بها فقال - تعالى - : { رَبَّنَا لاَ تُؤَاخِذْنَا إِن نَّسِينَآ أَوْ أَخْطَأْنَا } أي : ربنا يا واسع العفو والمغفرة لا تؤاخذنا أي لا تعاقبنا { نَّسِينَآ } أمرك ونهيك { أَوْ أَخْطَأْنَا } ففعلنا خلاف الصواب جهلا منا بوجهه الشرعي .

فأنت ترى أن هؤلاء الذين اتقوا ربهم ، فصفت نفوسهم ، وطهرت قلوبهم ، وخشعت جوارحهم ، يتضرعون إلى الله أن يغفر لهم ما فرط منهم نسياناً أو خطأ ، وذلك لأن المؤمن عندما يصل إلى هذه الدرجة من التقوى والصفاء يشعر بأن الله - تعالى - يحاسبه على ما لا حساب عليه ، ويشعر بأن حسناته - مهما كثرت - فهي قليلة بجانب هفواته وسيئاته ، فهو لشدة خشيته من الله يرجح جانب المؤاخذة على جانب العفو فيكثر من الضراعة والدعاء .

وقد أشار صاحب الكشاف إلى هذا المعنى بقوله : فإن قلت : النسيان والخطأ متجاوز عنهما فما معنى الدعاء بترك المؤاخذة بهما ؟ قلت : . . . لأنهم كانوا متقين الله حق تقاته ، فما كانت تفرط منهم فرطة إلا على وجه النسيان والخطأ . فكأن وصفهم بالدعاء بذلك إيذاناً ببراءة ساحتهم عما يؤاخذون به . كأنه قيل : إن كان النسيان والخطأ مما يؤاخذ به ، فما فيهم سبب مؤاخذة إلا الخطأ والنسيان . ويجوز أن يدعو الإِنسان بما علم أنه حاصل له قبل الدعاء من فضل الله لاستدامته والاعتداد بالنعمة فيه .

هذا هو الدعاء الأول الذي حكاه القرآن عن المؤمنين الصادقين .

أما الدعاء الثاني فهو قوله - سبحانه - : { رَبَّنَا وَلاَ تَحْمِلْ عَلَيْنَآ إِصْراً كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الذين مِن قَبْلِنَا } .

والإِصر في اللغة : الثقل والشدة . مأخوذ من أصر بمعنى حبس ، فكأنه يحبس صاحبه في مكانه فيمنعه من الحركة .

والمعنى : أن أولئك يضرعون إلى الله - تعالى - ألا يلقى تكاليف وأعباء شديدة ، يثقل عليهم حملها ويعجزون عن أدائها ، كما كان الحال بالنسبة للذين سبقوهم ؛ فقد كلف الله - تعالى - بني إسرائيل بتكاليف شاقة ثقيلة بسبب تعنتهم وفسوقهم عن أمره ، ومن ذلك تكليفهم بقتل أنفسهم إذا أرادوا أن يتوبوا توبة صادقة ، وتحريم بعض الطيبات عليهم بسبب ظلمهم قال - تعالى- : { فَبِظُلْمٍ مِّنَ الذين هَادُواْ حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ طَيِّبَاتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ . . . } قال الرازي : والمؤمنون إنما طلبوا هذا التخفيف لأن التشديد مظنة التقصير . والتقصير موجب للعقوبة ، ولا طاقة لهم بعذاب الله - تعالى - فلا جرم التمسوا السهولة في التكاليف .

أما الدعاء الثالث فهو قوله - تعالى - : { وَلاَ تُحَمِّلْنَا مَا لاَ طَاقَةَ لَنَا بِهِ } .

الطاقة - كما يقول الراغب - : اسم لمقدار ما يمكن للإِنسان أن يفعله بمشقة ، وذلك تشبيه بالطوق المحيط ، فقوله - تعالى - : { وَلاَ تُحَمِّلْنَا مَا لاَ طَاقَةَ لَنَا بِهِ } أي ما يصعب علينا مزاولته ، وليس معناه لا تحملنا ما لا قدرة لنا به .

فالطاقة على هذا تكون فيما فعله بأقصى القدرة والقوة .

أي : ونسألك يا ربنا ألا تحلمنا ما هو فوق طاقتنا وقدرتنا من المصائب والعقوبات وغير ذلك من الأمور التي لا نستطيعها .

وهذا الدعاء هو تدرج مترتب على الدعاء السابق ، فهم هنا يلتمسون منه - سبحانه - ألا ينزل بهم ما هو فوق قدرتهم وطاقتهم من بلايا ومحن ، بعد أن التمسوا منه ألا يكلفهم بتكاليف شاقة ثقيلة كما كلف الذين من قبلهم .

ثم حكى القرآن دعاءهم الرابع والخامس والسادس فقال : { واعف عَنَّا واغفر لَنَا وارحمنآ } أي نسألك يا ربنا أن تعفو عنا بأن تمحو عنا ما ألممنا به من ذنوب وتتجاوز عنها ، وأن تغفر لنا سيئاتنا بأن تسترها ولا تفضحنا بإظهارها فأنت وحدك الغفار الستار . وأن ترحمنا برحمتك السابغة التي شملت كل شيء ، فإننا مع تقصيرنا في طاعتك نأمل ألا تحرمنا من رحمتك فأنت تراهم قد تضرعوا إلى ربهم أن يعفو عنهم بأن يسقط عنهم العقاب وأن يغفر لهم بأن يستر عليهم ذنوبهم فلا يفضحهم بها ، وأن يشملهم بعطفه ورحمته .

وهي دعوات تدل على رقة إحساسهم ، ونقاء نفوسهم ، وشدة خشيتهم من ربهم ، وشعورهم نحوه بالتقصير مهما قدموا من أعمال صالحة .

ثم ختموا دعاءهم بقوله - تعالى - : { أَنتَ مَوْلاَنَا فانصرنا عَلَى القوم الكافرين } أي : أنت مولانا وناصرنا وحافظنا ومعيننا وممدنان بالخير والهدى فانصرنا يا ربنا على القوم الكافرين لكي تكون كلمتك هي العليا ، وكلمة الذين كفروا هي السفلى .

وقولهك { أَنتَ مَوْلاَنَا } يدل على نهاية خضوعهم وتذللهم وطاعتهم لله رب العالمين لأنهم قد اعترفوا بأنه - سبحانه - هو المتولي لكل نعمة يصلو إليها .

قال ابن كثير : وقد ورد في صحيح مسلم عن النبي - صلى الله عليه وسلم - " أن الله - تعالى - قال عقب كل دعوة من هذه الدعوات : قد فعلت " .

وروى البخاري والجماعة عن ابن مسعود قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " أعطيت خواتيم سورة البقرة من كنز تحت العرش لم يعطهن نبي قبلي " .

وبعد فهذه هي سورة البقرة التي اشتملت على ما يشفي الصدور ، ويهدي القلوب ، ويصلح النفوس : من توجيهات سامية ، وآداب حميدة ، وعقائد ، سليمة ، وتشريعات حكيمة ، وأمثال هادبة ، وقصص من شأنه أن يغرس في النفوس الخلق القويم ، وأن يغريها بالاتعاظ والاعتبار حتى تكون ممن رضي الله عنهم ورضوا عنه .

ولقد سبق لنا أن تكلمنا قبل البدء في تفسيرها عن وقت نزولها ، وعن فضلها وعن مقاصدها الإِجمالية . . .

والله نسأل أن ينفعنا بها وبكتابة الكريم ، وأن يجعل أقوالنا وأعمالنا خالصة لوجهه ، ونافعة لعباده .

اللهم اجعل القرآن ربيع قلوبنا ، ونور أبصارنا وبصائرنا ، وجلاء همنا وحزنا ، وأعنا على إتمام ما قصدناه بفضلك ورعايتك يا أكرم الأكرمين ، وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وأصحابه وأتباعه ومن سار على طريقته إلى يوم الدين .

 
في ظلال القرآن لسيد قطب - سيد قطب [إخفاء]  
{لَا يُكَلِّفُ ٱللَّهُ نَفۡسًا إِلَّا وُسۡعَهَاۚ لَهَا مَا كَسَبَتۡ وَعَلَيۡهَا مَا ٱكۡتَسَبَتۡۗ رَبَّنَا لَا تُؤَاخِذۡنَآ إِن نَّسِينَآ أَوۡ أَخۡطَأۡنَاۚ رَبَّنَا وَلَا تَحۡمِلۡ عَلَيۡنَآ إِصۡرٗا كَمَا حَمَلۡتَهُۥ عَلَى ٱلَّذِينَ مِن قَبۡلِنَاۚ رَبَّنَا وَلَا تُحَمِّلۡنَا مَا لَا طَاقَةَ لَنَا بِهِۦۖ وَٱعۡفُ عَنَّا وَٱغۡفِرۡ لَنَا وَٱرۡحَمۡنَآۚ أَنتَ مَوۡلَىٰنَا فَٱنصُرۡنَا عَلَى ٱلۡقَوۡمِ ٱلۡكَٰفِرِينَ} (286)

285

ثم هي العقيدة التي تعترف بالإنسان إنسانا ، لا حيوانا ولا حجرا ، ولا ملكا ولا شيطانا . تعترف به كما هو ، بما فيه من ضعف وما فيه من قوة ، وتأخذه وحدة شاملة مؤلفة من جسد ذي نوازع ، وعقل ذي تقدير ، وروح ذي أشواق . . وتفرض عليه من التكاليف ما يطيق ؛ وتراعي التنسيق بين التكليف والطاقة بلا مشقة ولا إعنات ؛ وتلبي كل حاجات الجسد والعقل والروح في تناسق يمثل الفطرة . . ثم تحمل الإنسان - بعد ذلك - تبعة اختياره للطريق الذي يختار :

( لا يكلف الله نفسا إلا وسعها . لها ما كسبت وعليها ما اكتسبت ) .

وهكذا يتصور المسلم رحمة ربه وعدله في التكاليف التي يفرضها الله عليه في خلافته للأرض ؛ وفي ابتلائه في أثناء الخلافة ؛ وفي جزائه على عمله في نهاية المطاف . ويطمئن إلى رحمة الله وعدله في هذا كله ؛ فلا يتبرم بتكاليفه ، ولا يضيق بها صدرا ، ولا يستثقلها كذلك ، وهو يؤمن أن الله الذي فرضها عليه أعلم بحقيقة طاقته ، ولو لم تكن في طاقته ما فرضها عليه . ومن شأن هذا التصور - فضلا عما يسكبه في القلب من راحة وطمأنينة وأنس - أن يستجيش عزيمة المؤمن للنهوض بتكاليفه ، وهو يحس أنها داخلة في طوقه ؛ ولو لم تكن داخلة في طوقه ما كتبها الله عليه ؛ فإذا ضعف مرة أو تعب مرة أو ثقل العبء عليه ، أدرك أنه الضعف لا فداحة العبء ! واستجاش عزيمته ونفض الضعف عن نفسه وهم همة جديدة للوفاء ، ما دام داخلا في مقدروه ! وهو إيحاء كريم لاستنهاض الهمة كلما ضعفت على طول الطريق ! فهي التربية كذلك لروح المؤمن وهمته وإرادته ؛ فوق تزويد تصوره بحقيقة إرادة الله به في كل ما يكلفه .

ثم الشطر الثاني من هذا التصور :

( لها ما كسبت وعليها ما اكتسبت ) .

فردية التبعة ، فلا تنال نفس إلا ما كسبت ؛ ولا تحمل نفس إلا ما اكتسبت . . فردية التبعة ، ورجعة كل إنسان إلى ربه بصحيفته الخاصة ، وما قيد فيها له أو عليه . فلا يحيل على أحد ، ولا ينتظر عون أحد . . ورجعة الناس إلى ربهم فرادى من شأنها - حين يستيقنها القلب - أن تجعل كل فرد وحدة إيجابية لا تنزل عن حق الله فيها لأحد من عباده إلا بالحق . وتقف كل إنسان مدافعا عن حق الله فيه تجاه كل إغراء ، وكل طغيان ، وكل إضلال ، وكل إفساد . فهو مسؤول عن نفسه هذه وعن حق الله فيها - وحق الله فيها هو طاعته في كل ما أمر به وفي كل ما نهى عنه ، وعبوديتها له وحده شعورا وسلوكا - فإذا فرط في هذا الحق لأحد من العبيد تحت الإغراء والإضلال ، أو تحت القهر والطغيان - إلا من أكره وقلبه مطمئن بالإيمان - فما أحد من تلك العبيد بدافع عنه يوم القيامة ولا شافع له ؛ وما أحد من تلك العبيد بحامل عنه شيئا من وزره ولا ناصر له من الله واليوم الآخر . . ومن ثم يستأسد كل إنسان في الدفع عن نفسه والدفاع عن حق الله فيها ، ما دام هو الذي سيلقى جزاءه مفردا وحيدا ! ولا خوف من هذه الفردية - في هذا المقام - فمن مقتضيات الإيمان أن ينهض كل فرد في الجماعة بحق الجماعة عليه ، بوصفه طرفا من حق الله في نفسه . فهو مأمور أن يتكافل مع الجماعة في ماله وكسبه ، وفي جهده ونصحه ، وفي إحقاق الحق في المجتمع وإزهاق الباطل ، وفي تثبيت الخير والبر وإزاحة الشر والنكر . . وكل أولئك يحسب له أو عليه في صحيفته يوم يلقى الله فردا فيتلقى هنالك جزاءه !

وكأنما سمع المؤمنون هذه الحقيقة وأدركوها . . فها هو ذا ينطلق من قلوبهم دعاء خافق واجف ، يذكره النص القرآني بطريقة القرآن التصويرية ؛ فكأنما نحن أمام مشهد الدعاء ، وصفوف المؤمنين قائمة تردده في خشوع ؛ عقب إعلان حقيقة التكاليف وحقيقة الجزاء :

( ربنا لا تؤاخذنا إن نسينا أو أخطأنا . ربنا ولا تحمل علينا إصرا كما حملته على الذين من قبلنا . ربنا ولا تحملنا ما لا طاقة لنا به . واعف عنا ، واغفر لنا ، وارحمنا أنت مولانا فانصرنا على القوم الكافرين ) . .

وهو دعاء يصور حال المؤمنين مع ربهم ؛ وإدراكهم لضعفهم وعجزهم ، وحاجتهم إلى رحمته وعفوه ، وإلى مدده وعونه ؛ وإلصاق ظهورهم إلى ركنه ، والتجائهم إلى كنفه ، وانتسابهم إليه وتجردهم من كل من عداه ؛ واستعدادهم للجهاد في سبيله واستمدادهم النصر منه . . كل أولئك في نغمة وادعة واجفة تصور بإيقاعاتها وجيب القلب ورفرفة الروح . .

( ربنا لا تؤاخذنا إن نسينا أو أخطأنا ) .

فدائرة الخطأ والنسيان هي التي تحكم تصرف المسلم حين ينتابه الضعف البشري الذي لا حيلة له فيه . وفي مجالها يتوجه إلى ربه يطلب العفو والسماح . وليس هو التبجح إذن بالخطيئة أو الإعراض ابتداء عن الأمر ، أو التعالي عن الطاعة والتسليم ؛ أو الزيغ عن عمد وقصد . . ليس في شيء من هذا يكون حال المؤمن مع ربه ؛ وليس في شيء من هذا يطمع في عفوه أو سماحته . . إلا أن يتوب ويرجع إلى الله وينيب . . وقد استجاب الله لدعاء عباده المؤمنين في هذا ، فقال رسول الله [ ص ] : " رفع عن أمتي الخطأ والنسيان ومااستكرهوا عليه " .

( ربنا ولا تحمل علينا إصرا كما حملته على الذين من قبلنا ) . .

وهو دعاء ينبعث من وراثة الأمة المسلمة لتراث الرسالة كله ، ومعرفتهم - كما علمهم ربهم في هذا القرآن - بما كان من سلوك الأمم التي جاءتها الرسالات قبلهم ؛ وما حملهم الله من الآصار والأثقال عقوبة لهم على بعض ما كان منهم . فقد حرم على بني إسرائيل بعض الطيبات بعملهم . وفي آية الأنعام : ( وعلى الذين هادوا حرمنا كل ذي ظفر ، ومن البقر والغنم حرمنا عليهم شحومهما إلا ما حملت ظهورهما أو الحوايا أو ما اختلط بعظم ) . . وكتب عليهم قتل أنفسهم تكفيرا عن عبادتهم للعجل كما سبق في أول هذه السورة . وحرم عليهم( السبت )أن يبتغوا فيه تجارة أو صيدا . . وهكذا فالمؤمنون يدعون ربهم ألا يحمل عليهم أثقالا كالتي حملها على الذين من قبلهم ، وقد بعث الله النبي الأمي يضع عن المؤمنين به من البشر كافة : ( إصرهم والأغلال التي كانت عليهم ) . . فجاءت هذه العقيدة سمحة ميسرة ، هينة لينة ، تنبع من الفطرة وتتبع خط الفطرة ، وقيل للرسول [ ص ]( ونيسرك لليسرى ) .

على أن الإصر الأكبر الذي رفعه الله عن كاهل الأمة المسلمة ، والذي حمله الله على عاتق الأمم التي استخلفها في الأرض قبلهم فنقضت عهد الاستخلاف وحادت عنه . . هذا الإصر الأكبر هو إصر العبودية للبشر . عبودية العبد للعبد . ممثلة في تشريع العبد للعبد . وفي خضوع العبد للعبد لذاته أو لطبقته أو لجنسه . . فهذا هو الإصر الأكبر الذي أطلق الله عباده المؤمنين منه ، فردهم إلى عبادته وحده وطاعته وحده ، وتلقي الشريعة منه وحده . وحرر بهذه العبودية لله الواحد الأحد أرواحهم وعقولهم وحياتهم كلها من العبودية للعبيد !

إن العبودية لله وحده - متمثلة في تلقي الشرائع والقوانين والقيم والموازين منه وحده - هي نقطة الانطلاق والتحرر البشري . الانطلاق والتحرر من سلطان الجبارين والطغاة ، ومن سلطان السدنة والكهنة ، ومن سلطان الأوهام والخرافات ، ومن سلطان العرف والعادة ، ومن سلطان الهوى والشهوة . ومن كل سلطان زائف يمثل الإصر الذي يلوي اعناق البشر ويخفض جباههم لغير الواحد القهار .

ودعاء المؤمنون : ( ولا تحمل علينا إصرا كما حملته على الذين من قبلنا ) : يمثل شعورهم بنعمة الانطلاق والتحرر من العبودية للعبيد ؛ كما يمثل خوفهم من الارتداد إلى ذلك الدرك السحيق .

( ربنا ولا تحملنا ما لا طاقة لنا به ) . .

وهو دعاء يشي بحقيقة الاستسلام . فالمؤمنون لا ينوون نكولا عن تكليف الله أيا كان . ولكنهم فقط يتوجهون إليه راجين متطلعين أن يرحم ضعفهم فلا يكلفهم ما لا يطيقون . كي لا يعجزوا عنه ويقصروا فيه . . وإلا فهي الطاعة المطلقة والتسليم . . إنه طمع الصغير في رحمة الكبير . ورجاء العبد الضعيف في سماحة المالك المتصرف . وطلب ما هو من شأن الله في معاملته لعباده من كرم وبر وود وتيسير .

ثم الاعتراف بالضعف بعد ذلك والتوجس من التقصير ، الذي لا يمحو آثاره إلا فضل الله العفو الغفور :

( واعف عنا ، واغفر لنا وارحمنا ) .

فهذا هو الضمان الحقيقي لاجتياز الامتحان ، ونيل الرضوان . فالعبد مقصر مهما يحاول من الوفاء . ومنرحمة الله به أن يعامله بالعفو والمرحمة والغفران . . عن عائشة رضي الله عنها ، قال رسول الله [ ص ] : " لا يدخل أحدكم الجنة بعمله " . . قالوا : ولا أنت يا رسول الله ؟ قال : " ولا أنا . إلا أن يتغمدني الله برحمته " .

وهذا هو قوام الأمر في حس المؤمن : عمل بكل ما في الوسع . وشعور مع ذلك بالتقصير والعجز . . ورجاء - بعد ذلك - في الله لا ينقطع . وتطلع إلى العفو والمغفرة والسماح .

وأخيرا يلصق المؤمنون ظهورهم إلى ركن الله ، وهم يهمون بالجهاد في سبيله ، لإحقاق الحق الذي إراده ، وتمكين دينه في الأرض ومنهجه ، ( حتى لا تكون فتنة ويكون الدين لله ) . يلصق المؤمنون ظهورهم إلى ركن الله الركين ؛ ويرفعون رايته على رؤوسهم فينتسبون إليه وحده . إذا انتسبت الجاهلية إلى شتى الشعارات والعنوانات ؛ ويطلبون نصره لأوليائه بما أنه هو مولاهم الوحيد ؛ وهم باسمه يقاتلون الكفار الخارجين :

( أنت مولانا ، فانصرنا على القوم الكافرين ) . .

إنه الختام الذي يلخص السورة . ويلخص العقيدة . ويلخص تصور المؤمنين ، وحالهم مع ربهم في كل حين . .

 
أنوار التنزيل وأسرار التأويل للبيضاوي - البيضاوي [إخفاء]  
{لَا يُكَلِّفُ ٱللَّهُ نَفۡسًا إِلَّا وُسۡعَهَاۚ لَهَا مَا كَسَبَتۡ وَعَلَيۡهَا مَا ٱكۡتَسَبَتۡۗ رَبَّنَا لَا تُؤَاخِذۡنَآ إِن نَّسِينَآ أَوۡ أَخۡطَأۡنَاۚ رَبَّنَا وَلَا تَحۡمِلۡ عَلَيۡنَآ إِصۡرٗا كَمَا حَمَلۡتَهُۥ عَلَى ٱلَّذِينَ مِن قَبۡلِنَاۚ رَبَّنَا وَلَا تُحَمِّلۡنَا مَا لَا طَاقَةَ لَنَا بِهِۦۖ وَٱعۡفُ عَنَّا وَٱغۡفِرۡ لَنَا وَٱرۡحَمۡنَآۚ أَنتَ مَوۡلَىٰنَا فَٱنصُرۡنَا عَلَى ٱلۡقَوۡمِ ٱلۡكَٰفِرِينَ} (286)

{ لا يكلف الله نفسا إلا وسعها } إلا ما تسعه قدرتها فضلا ورحمة ، أو ما دون مدى طاقتها بحيث يتسع فيه طوقها ويتيسر عليها كقوله تعالى : { يريد الله بكم اليسر ولا يريد بكم العسر } وهو يدل على عدم وقوع التكليف بالمحال ولا يدل على امتناعه . { لها ما كسبت } من خير . { وعليها ما اكتسبت } من شر لا ينتفع بطاعتها ولا يتضرر بمعاصيها غيرها ، وتخصيص الكسب بالخير والاكتساب بالشر لأن الاكتساب فيه احتمال والشر تشتهيه النفس وتنجذب إليه فكانت أجد في تحصيله وأعمل بخلاف الخير . { ربنا لا تؤاخذنا إن نسينا أو أخطأنا } أي لا تؤاخذنا بما أدى بنا إلى نسيان أو خطأ من تفريط وقلة مبالاة ، أو بأنفسهما إذ لا تمتنع المؤاخذة بهما عقلا فإن الذنوب كالسموم فكما أن تناولها يؤدي إلى الهلاك -وإن كان خطأ- فتعاطي الذنوب لا يبعد أن يفضي إلى العقاب وإن لم تكن عزيمة ، لكنه تعالى وعد التجاوز عنه رحمة وفضلا فيجوز أن يدعو الإنسان به استدامة واعتدادا بالنعمة فيه . ويؤيد ذلك مفهوم قوله عليه الصلاة والسلام " رفع عن أمتي الخطأ والنسيان " . { ربنا ولا تحمل علينا إصرا } عبأ ثقيلا يأصر صاحبه ، أي يحبسه في مكانه . يريد به التكاليف الشاقة . وقرئ { ولا تحمل } بالتشديد للمبالغة . { كما حملته على الذين من قبلنا } حملا مثل حملك إياه على { من قبلنا } ، أو مثل الذي حملته إياهم فيكون صفة لإصرا ، والمراد به ما كلف به بنو إسرائيل من قتل الأنفس ، وقطع موضع النجاسة ، وخمسين صلاة في اليوم والليلة ، وصرف ربع المال للزكاة . أو ما أصابهم من الشدائد والمحن . { ربنا ولا تحملنا ما لا طاقة لنا به } من البلاء والعقوبة . أو من التكاليف التي لا تفي بها الطاقة البشرية وهو يدل على جواز التكليف بما لا يطاق وإلا لما سئل التخلص منه ، والتشديد ههنا لتعدية الفعل إلى المفعول الثاني . { واعف عنا } وامح ذنوبنا . { واغفر لنا } واستر عيوبنا ولا تفضحنا بالمؤاخذة . { وارحمنا } وتعطف بنا وتفضل علينا . { أنت مولانا } سيدنا . { فانصرنا على القوم الكافرين } فإن من حق المولى أن ينصر مواليه على الأعداء ، أو المراد به عامة الكفرة .

روي أنه عليه الصلاة والسلام لما دعا بهذه الدعوات قيل له عند كل كلمة فعلت . وعنه عليه السلام " أنزل الله تعالى آيتين من كنوز الجنة . كتبها الرحمن بيده قبل أن يخلق الخلق بألفي سنة ، من قرأهما بعد العشاء الأخيرة أجزأتاه عن قيام الليل " . وعنه عليه الصلاة والسلام : " من قرأ الآيتين من آخر سورة البقرة في ليلة كفتاه " . وهو يرد قول من استكره أن يقال سورة البقرة ، وقال : ينبغي أن يقال السورة التي تذكر فيها البقرة ، كما قال عليه الصلاة والسلام " السورة التي تذكر فيها البقرة فسطاط القرآن فتعلموها ، فإن تعلمها بركة وتركها حسرة ، ولن يستطيعها البطلة قيل : يا رسول الله وما البطلة ؟ قال : السحرة " .

 
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية - ابن عطية [إخفاء]  
{لَا يُكَلِّفُ ٱللَّهُ نَفۡسًا إِلَّا وُسۡعَهَاۚ لَهَا مَا كَسَبَتۡ وَعَلَيۡهَا مَا ٱكۡتَسَبَتۡۗ رَبَّنَا لَا تُؤَاخِذۡنَآ إِن نَّسِينَآ أَوۡ أَخۡطَأۡنَاۚ رَبَّنَا وَلَا تَحۡمِلۡ عَلَيۡنَآ إِصۡرٗا كَمَا حَمَلۡتَهُۥ عَلَى ٱلَّذِينَ مِن قَبۡلِنَاۚ رَبَّنَا وَلَا تُحَمِّلۡنَا مَا لَا طَاقَةَ لَنَا بِهِۦۖ وَٱعۡفُ عَنَّا وَٱغۡفِرۡ لَنَا وَٱرۡحَمۡنَآۚ أَنتَ مَوۡلَىٰنَا فَٱنصُرۡنَا عَلَى ٱلۡقَوۡمِ ٱلۡكَٰفِرِينَ} (286)

لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ رَبَّنَا لَا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا رَبَّنَا وَلَا تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْرًا كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنَا رَبَّنَا وَلَا تُحَمِّلْنَا مَا لَا طَاقَةَ لَنَا بِهِ وَاعْفُ عَنَّا وَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا أَنْتَ مَوْلَانَا فَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ ( 286 )

قوله تعالى : { لا يكلف الله نفساً إلا وسعها } خبر جزم نص على أنه لا يكلف العباد من وقت نزوله الآية عبادة من أعمال القلوب والجوارح إلا وهي في وسع المكلف ، وفي مقتضى إدراكه وبنيته ، وبهذا انكشفت الكربة عن المسلمين في تأولهم أمر الخواطر ، وتأول من ينكر جواز تكليف ما لا يطاق هذه الآية بمعنى أنه لا يكلف ولا كلف وليس ذلك بنص في الآية ولا أيضاً يدفعه اللفظ ، ولذلك ساغ الخلاف( {[2869]} ) .

وهذا المعنى الذي ذكرناه في هذه الآية يجري مع معنى قوله تعالى { يريد الله بكم اليسر ولا يريد بكم العسر } [ البقرة : 185 ] وقوله تعالى : { ما جعل عليكم في الدين من حرج } [ الحج : 78 ] وقوله : { فاتقوا الله ما استطعتم }( {[2870]} ) [ التغابن : 16 ] .

واختلف الناس في جواز تكليف ما لا يطاق في الأحكام التي هي في الدنيا بعد اتفاقهم . على أنه ليس واقعاً الآن في الشرع ، وأن هذه الآية آذنت بعدمه ، فقال أبو الحسن الأشعري وجماعة من المتكلمين تكليف ما لا يطاق جائز عقلاً ولا يحرم ذلك شيئاً من عقائد الشرع ، ويكون ذلك أمارة على تعذيب المكلف وقطعاً به( {[2871]} ) .

قال القاضي أبو محمد : وينظر إلى هذا تكليف المصور أن يعقد شعيرة حسب الحديث( {[2872]} ) .

واختلف القائلون بجوازه( {[2873]} ) هل وقع في رسالة محمد صلى الله عليه وسلم أم لا ؟ فقالت فرقة وقع في نازلة أبي لهب( {[2874]} ) لأنه حكم عليه بتب اليدين وصلي النار ، وذلك مؤذن بأنه لا يؤمن ، وتكليف الشرع له الإيمان راتب( {[2875]} ) ، فكأنه كلف أن يؤمن وأن يكون في إيمانه أنه لا يؤمن لأنه إذا آمن فلا محالة أنه يؤمن بسورة { تبت يدا أبي لهب }( {[2876]} ) [ المسد : 1 ] ، وقالت فرقة لم يقع قط ، وقوله تعالى : { سيصلى ناراً }( {[2877]} ) [ المسد : 3 ] إنما معناه إن وافى على كفره .

قال القاضي أبو محمد عبد الحق رضي الله عنه : وما لا يطاق ينقسم أقساماً : فمنه المحال عقلاً كالجمع بين الضدين ، ومنه المحال عادة ، كرفع الإنسان جبلاً ، ومنه ما لا يطاق من حيث هو مهلك كالاحتراق بالنار ونحوه ، ومنه ما لا يطاق للاشتغال بغيره ، وهذا إنما يقال فيه ما لا يطاق على تجوز كثير( {[2878]} ) ، و { يكلف } يتعدى إلى مفعولين أحدهما محذوف تقديره «عبادة » أو شيئاً( {[2879]} ) ، وقرأ ابن أبي عبلة «إلا وَسِعها » بفتح الواو وكسر السين ، وهذا فيه تجوز لأنه مقلوب ، وكان وجه اللفظ إلا وسعته ، كما قال { وسع كرسيه السموات والأرض }( {[2880]} ) [ البقرة : 255 ] وكما قال { وسع كل شيء علماً }( {[2881]} ) [ طه : 98 ] ولكن يجيء هذا من باب أدخلت القلنسوة في رأسي ، وفمي في الحجر .

وقوله تعالى : { لها ما كسبت } يريد من الحسنات ، { وعليها ما اكتسبت } يريد من السيئات ، قاله السدي وجماعة من المفسرين ، لا خلاف في ذلك ، والخواطر ونحوها ليس من كسب الإنسان .

وجاءت العبارة في الحسنات ب { لها } من حيث هي مما يفرح الإنسان بكسبه ويسر بها فتضاف إلى ملكه ، وجاءت في السيئات ب { عليها } ، من حيث هي أوزار وأثقال ومتحملات صعبة ، وهذا كما تقول لي مال وعلي دين ، وكما قال المتصدق باللقطة : اللهم عن فلان فإن أبى فلي وعليَّ ، وكرر فعل الكسب فخالف بين التصريف حسناً لنمط الكلام . كما قال { فمهل الكافرين أمهلهم رويداً } [ الطلاق : 17 ] هذا وجه ، والذي يظهر لي في هذا أن الحسنات هي مما يكسب دون تكلف ، إذ كاسبها على جادة أمر الله ورسم شرعه ، والسيئات تكتسب ببناء المبالغة إذ كاسبها يتكلف في أمرها خرق حجاب نهي الله تعالى ويتخطاه إليها ، فيحسن في الآية مجيء التصريفين إحرازاً لهذا المعنى ، وقال المهدوي وغيره : وقيل معنى الآية لا يؤاخذ أحد بذنب أحد .

قال القاضي أبو محمد : وهذا صحيح في نفسه ، لكن من غير هذه الآية .

وقوله تعالى : { ربنا لا تؤاخذنا } معناه قولوا في دعائكم .

واختلف الناس في معنى قوله { نسينا أو أخطأنا } فذهب الطبري وغيره إلى أنه النسيان بمعنى الترك ، أي إن تركنا شيئاً من طاعتك وأنه الخطأ المقصود . قالوا وأما النسيان الذي يغلب المرء والخطأ الذي هو عن اجتهاد فهو موضع عن المرء ، فليس بمأمور في الدعاء بأن لا يؤاخذ به ، وذهب كثير من العلماء إلى أن الدعاء في هذه الآية إنما هو في النسيان الغالب والخطأ غير المقصود ، وهذا هو الصحيح عندي . قال قتادة في تفسير الآية بلغني أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : إن الله تجاوز لأمتي عن نسيانها وخطأها . وقال السدي نزلت هذه الآية فقالوها ؛ قال جبريل للنبي صلى الله عليه وسلم : قد فعل الله ذلك يا محمد .

قال القاضي أبو محمد : فظاهر قوليهما ما صححته ، وذلك أن المؤمنين لما كشف عنهم ما خافوه في قوله تعالى : { يحاسبكم به الله } [ البقرة : 284 ] أمروا بالدعاء في دفع ذلك النوع الذي ليس من طاقة الإنسان دفعه ، وذلك في النسيان والخطأ ، «والإصر » الثقل وما لا يطاق على أتم أنواعه ، وهذه الآية على هذا القول تقضي بجواز تكليف ما لا يطاق ، ولذلك أمر المؤمنون بالدعاء في أن لا يقع هذا الجائز الصعب . ومذهب الطبري والزجاج أن تكليف ما لا يطاق غير جائز( {[2882]} ) ، فالنسيان عندهم المتروك من الطاعات . والخطأ هو المقصود من العصيان ، والإصر هي العبادات الثقيلة كتكاليف بني إسرائيل من قتل أنفسهم وقرض أبدانهم ومعاقباتهم على معاصيهم في أبدانهم حسبما كان يكتب على أبوابهم وتحميلهم العهود الصعبة . وما لا طاقة للمرء به هو عندهم على تجوز ، كما تقول لا طاقة لي على خصومة فلان ، ولغير ذلك من الأمر تستصعبه وإن كنت في الحقيقة تطيقه أو يكون ذلك { ما لا طاقة لنا به } من حيث هو مهلك لنا كعذاب جهنم وغيره( {[2883]} ) .

وأما لفظة «أخطأ » فقد تجيء في القصد ومع الاجتهاد ، قال قتادة : الإصر العهد والميثاق الغليظ( {[2884]} ) . وقاله مجاهد وابن عباس والسدي وابن جريج والربيع وابن زيد وقال عطاء : الإصر المسخ قردة وخنازير . وقال ابن زيد أيضاً : الإصر الذنب لا كفارة فيه ولا توبة منه . وقال مالك رحمه الله : الإصر : الأمر الغليظ الصعب .

قال القاضي أبو محمد : والآصرة في اللغة : الأمر الرابط من ذمام أوقرابة أو عهد ونحوه ، فهذه العبارات كلها تنحو نحوه ، والإصار الحبل الذي تربط به الأحمال ونحوها ، والِقُّد يضم عضدي الرجل( {[2885]} ) يقال أصر يأصر والإصر بكسر الهمزة من ذلك ، وفي هذا نظر( {[2886]} ) . وروي عن عاصم أنه قرأ أُصراً بضم الهمزة ، ولا خلاف أن الذين من قبلنا يراد به اليهود . قال الضحاك : والنصارى ، وأما عبارات المفسرين في قوله : { ربنا ولا تحملنا ما لا طاقة لنا به } فقال قتادة لا تشدد علينا كما شددت على من كان قبلنا . وقال الضحاك : لا تحملنا من الأعمال ما لا نطيق ، وقال نحوه ابن زيد ، وقال ابن جريج : لا تمسخنا قردة وخنازير( {[2887]} ) ، وقال سلام بن سابور : الذي لا طاقة لنا به الُغَلَمة( {[2888]} ) ، وحكاه النقاش عن مجاهد وعطاء وعن مكحول ، وروي أن أبا الدرداء كان يقول في دعائه : وأعوذ بك في غلمة ليس لها عدة ، وقال السدي : هو التغليظ والأغلال التي كانت على بني إسرائيل من التحريم ، ثم قال تعالى فيما أمر المؤمنين بقوله : { واعف عنا } أي فيما واقعناه وانكشف { واغفر لنا } أي استر علينا ما علمت منا { وارحمنا } أي تفضل مبتدئاً برحمة منك لنا .

قال القاضي أبو محمد : فهي مناح للدعاء متباينة وإن كان الغرض المراد بكل واحد منها واحداً وهو دخول الجنة و { أنت مولانا } مدح في ضمنه تقرب إليه وشكر على نعمه ، ومولى هو من ولي فهو مفعل أي موضع الولاية ، ثم ختمت الدعوة( {[2889]} ) بطلب النصر على الكافرين الذي هو ملاك قيام الشرع وعلو الكلمة ووجود السبيل إلى أنواع الطاعات .

وروي أن جبريل عليه السلام أتى محمداً صلى الله عليه وسلم فقال : { قل ربنا لا تؤاخذنا إن نسينا أو أخطأنا } ، فقالها ، فقال جبريل قد فعل ، فقال : قل كذا وكذا فيقولها فيقول جبريل : قد فعل إلى آخر السورة ، وتظاهرت بهذا المعنى أحاديث ، وروي عن معاذ بن جبل أنه كان إذا فرغ من قراءة هذه السورة قال آمين( {[2890]} ) .

قال القاضي أبو محمد عبد الحق رضي الله عنه : هذا يظن به أنه رواه عن النبي صلى الله عليه وسلم ، فإن كان ذلك فكمال ، وإن كان بقياس على سورة الحمد من حيث هناك دعاء وهنا دعاء فحسن ، وروى أبو مسعود عقبة بن عمرو( {[2891]} ) عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : «من قرأ الآيتين من آخر سورة البقرة في ليلة كفتاه ، »( {[2892]} ) يعني من قيام الليل ، وقال علي بن أبي طالب رضي الله عنه : ما أظن أحداً عقل وأدرك الإسلام ينام حتى يقرأهما . وروي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : «أوتيت هؤلاء الآيات من آخر سورة البقرة من كنز تحت العرش لم يؤتهن أحد قبلي »( {[2893]} ) .


[2869]:- في جواز تكليف ما لا يطاق وعدم جوازه، لأن الآية لا تنص على عدم الجواز ولا تدفعه.
[2870]:- الآيات بترتيبها – من الآية (185) من سورة البقرة، ومن الآية (78) من سورة الحج، ومن الآية (16) من سورة التغابن، وهذه الآيات كلها تدل على رفع الحرج والعسر عن هذه الأمة.
[2871]:- في "شرح المحلى على جمع الجوامع" أن فائدة التعليق بالمحال اختيار المكلفين، هل يأخذون في المقدمات والأسباب فيترتب عليها الثواب، أولا – فالعقاب، وناقشه الكمال ابن أبي شريف بأن ظهور الحكمة والمصلحة للعقل في أفعال الله تعالى غير لازم.
[2872]:- في حديث أبي هريرة الذي رواه الشيخان: (فلْيخلقوا ذرة، أو ليخلقوا حبة، أو ليخلقوا شعيرة). وهذا في تهديد المصورين. والذي في البخاري عن ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من تحلم بحلم لم يره كلف أن يعقد بين شعيرتين ولن يفعل). وفي رواية: (كلف أن يعقد شعيرة)، والحديث رواه البخاري، والإمام أحمد، والترمذي في كتاب "الرؤيا" وليس فيه تكليف مالا يطاق، لأن هذا يكون يوم القيامة، وتأمل فإن الكلام فيه تخليط، والله أعلم.
[2873]:- هذا يتعارض مع قوله سابقا: «بعد اتفاقهم على أنه ليس واقعا في الشرع»، تأمل، ولعل هناك فرقة حكت الإجماع على عدم الوقوع، وفرقة حكت الخلاف في الوقوع وعدمه، فأشار إلى فرقة الاتفاق بقوله: «بعد اتفاقهم على أنه ليس واقعا»، وأشار إلى فرقة الخلاف بقوله: «واختلف القائلون بالجواز»، الخ. والله أعلم.
[2874]:- يأتي قريبا إن شاء الله حكاية الإجماع على عدم وقوع الممتنع لتعلق علم الله بعدم وقوعه، كما يأتي أن ذلك من باب الممكن الذي عرض له ما يمنعه لا من باب المحال.
[2875]:- أي قائم وثابت.
[2876]:- في هذا التصديق تناقض حيث اشتمل على إثبات التصديق في شيء ونفيه في كل شيء فهو من الممتنع لذاته، وأُجيب بأن من أنزل الله فيه أنه لا يؤمن لم يقصد إبلاغه ذلك، أي أنه لا يؤمن حتى يكلف تصديق النبي صلى الله عليه وسلم فيه دفعاً للتناقض، وإنما قصد إبلاغ ذلك إلى غيره، وإعلام النبي صلى الله عليه وسلم به لليأس من إيمانه، وعليه فتكليفه الإيمان من التكليف بالممتنع لغيره لا لذاته، والله أعلم. فإن قيل: فهل يكون الفعل مقدوراً للعبد في حال عدم مشيئة الله له أن يفعله ؟ قيل: إن أُريد بكونه مقدورا سلامة آلة العبد التي يتمكن بها من الفعل، وصحة أعضائه، ووجود قواه، وتمكينه من أسباب الفعل، وتهيئة طريق فعله، وفتح الطريق له – فنعم. هو مقدور بهذا الاعتبار. وإن أريد بكونه مقدورا القدرة المقارنة للفعل، وهي الموجبة له، التي إذا وجدت لم يتخلف عنها الفعل فليس مقدورا بهذا الاعتبار، وترجمة هذا الكلام أن القدرة نوعان: قدرة مصححة وهي قدرة الأسباب والشروط، وسلامة الآلة، وهي مناط التكليف – وهذه متقدمة على الفعل غير موجبة له. وقدرة مقارنة للفعل، مستلزمة له، لا يتخلف الفعل عنها. وهذه ليست شرطا في التكليف، ولا يتوقف صحته عليها. فإيمان من لم يشأ الله إيمانه، وطاعة من لم يشأ الله طاعته مقدور بالاعتبار الأول، غير مقدور بالاعتبار الثاني، وبهذا البيان تزول الشبهة إن شاء الله في التكليف بما لا يطاق، والله سبحانه وتعالى أعلم.
[2877]:- من الآية (3) من سورة المسد.
[2878]:- ما لا يطاق على ضربين – أحدهما: مالا يطاق للعجز عنه، والآخر: لا يطاق للاشتغال عنه بغيره، كما يقال: لا يطيق التصرف لاشتغاله بالكتابة، وما أشبه ذلك، وهذا سبيل الكافر، فإنه لا يطيق الإيمان له لأنه عاجز عن الإيمان، بل لاشتغاله عنه بضده الذي هو الكفر، فهذا يجوز تكليفه ما لا يطاق، وأما العاجز فما ورد في الشريعة تكليفه، ولو ورد لكان صوابا لأن الله تعالى له أن يفعل في ملكه ما يريد، وقد أثنى سبحانه على من سأله ألا يكلفه مالا طاقة له به، ولعل ما أشار إليه المؤلف رحمه الله يرجع إلى هذين الضربين. وحاصل ما في هذا المقام أنه ثبت في الأصول أن شرط التكليف القدرة على المكلف به فما لا قدرة للمكلف عليه لا يصح التكليف به شرعا وإن جاز عقلا. والطاقة: هي القدرة، وما لا يطاق لا تتعلق به قدرة الإنسان المقارنة للفعل، والتكليف بما لا يطاق هو التكليف بالمحال، وهو ما يرجع المحال فيه إلى المأمور به، ثم إنه لا يلزم من نفي التكليف بما لا يطاق نفي التكليف بالمشاق، ولذلك ثبت في الشرائع السابقة التكليف بالمشاق، ولم يثبت فيها التكليف بما لا يطاق. والتكليف بالمحال، أو بما لا يطاق له مقامان – المقام الأول في حكمه، وقد أشار إلى ذلك صاحب "جمع الجوامع" بقوله: «مسألة: يجوز التكليف بالمحال مطلقا، ومنع أكثر المعتزلة، والشيخ أبو حامد الغزالي، وابن دقيق العيد ما ليس ممتنعا لتعلق العلم بعدم وقوعه». والمقام الثاني: في وقوعه، وقد أشار إليه بقوله: «والحق وقوع الممتنع بالغير لا بالذات». وحاصل هذا الكلام: أن التكليف بالمحال جائز عقلا، سواء كان محالا لذاته، أي ممتنعا عادة وعقلا، كالجمع بين الضدين لأدائه إلى اجتماع النقيضين، أو محالا لغيره، أي ممتنعا عادة لا عقلا كالطيران من الإنسان، أو عقلا لا عادة كإيمان من الله أنه لا يؤمن، ومنع ذلك أكثر المعتزلة وبعض أهل السنة في غير ما تعلق علم الله بعدم وقوعه، ومع آخرون كون المحال مطلوبا لا ورود صيغة افعل، نحو قوله تعالى: [كونوا قِردة خاسئين]، فليس معنى هذه الصيغة الطلب، وإنما معناها التذليل والامتهان، وأن الحق هو وقوع المحال لغيره دون المحال لذاته ومفهومه، وقد حكى أبو عبد الله المحلي في شرح "جمع الجوامع" الاتفاق على عدم وقوع الممتنع لتعلق علم الله بعدم وقوعه، كإيمان أبي لهب، والذي عليه المحققون كالغزالي أن إيمان من علم الله أنه لا يؤمن ليس محالا عقلا، بل هو ممكن مقطوع بعدم وقوعه، ولا يخرجه القطع بذلك عن كونه ممكنا بحسب ذاته. قال التفتزاني رحمه الله: «كل ممكن عادة ممكن عقلا، وليس كل ممكن عقلا ممكن عادة»، ولا شك أن إيمان أبي لهب ممكن عادة فهو ممكن عقلا. والله سبحانه وتعالى أعلم.
[2879]:- قال أبو (ح): «إن عني أن أصله كذا فهو صحيح، لأن قوله: [إلا وُسعها] استثناء مفرغ من المفعول الثاني، وإن عني أنه محذوف في الصناعة فليس كذلك، بل الثاني هو [وُسعها] نحو: ما أعطيت زيدا إلا درهما، لأنه في الصناعة هو المفعول وإن كان أصله: ما أعطيت زيدا شيئا إلا درهما.
[2880]:- من الآية (255) من سورة البقرة.
[2881]:- من الآية (98) من سورة طه.
[2882]:- حاصله أن الذين فسروا الإصر بما لا يطاق هم الذين جوَّزوا التكليف بما لا يطاق، وأما الذين لا يجوِّزون ذلك كالإمام الطبري، والزجاج، وغيرهما، فقد فسروا الإصر بالعبادات الثقيلة الشديدة، كالتكاليف التي كانت في بني إسرائيل: من قتل أنفسهم في التوبة، وقرض موضوع النجاسة من أبدانهم. وحملوا قوله تعالى: [ولا تحمّلنا مالا طاقة لنا به] على المجاز، أي ما هو صعب وشديد وإن كان يطاق، وقالوا: الخطأ يكون عن قصد وعن غير قصد، والله أعلم.
[2883]:- أي لا طاقة لنا به من حيث العقوبات لا من حيث الأعمال.
[2884]:- تفسير باللازم لأن الوفاء بالعهد شديد على النفس.
[2885]:- الإصر: هو الأمر الثقيل الغليظ، ويجمع على آصار، وقُرئ بذلك، والآصرة: ما عطفك على رجل من رحِم، أو قرابة، أو مصاهرة، ويجمع على أواصر، والإصار – ويقال بالسين - : ما تُعقد به الأشياء، والقِدُّ وهو بكسر القاف: السير يقدُّ من جلد، وجمع إصار: أُصر – مثل كِتاب وكتب.
[2886]:- قال في القاموس: الأصر بالفتح: الكسر والعطف والحبس، وفعل ذلك كضرب، والإصر بالكسر: العهد، والذنب، والثِّقَل، ويضم ويفتح في الكل اهـ . وتأمل.
[2887]:- قال شهاب الدين القرافي: إذا أُريد بقوله: [ربّنا ولا تحملنا ما لا طاقة لنا به] أي من البلايا والرزايا والمكروهات جاز الدعاء بذلك، لأنه لم تدل النصوص على نفي ذلك، بخلاف التكاليف الشرعية فإنها مرفوعة بقوله تعالى: [لا يكلّف الله نفسا إلا وسعها] فإن أطلق من غير تخصيص لا بالنية ولا بالعادة عصى لاشتمال العموم على ما لا يجوز فيكون ذلك حراما لأن فيه طلب تحصيل الحاصل. انتهى.
[2888]:- هيجان شهوة النكاح وازدياد حدتها.
[2889]:- في بعض النسخ: ثم ختمت السورة.
[2890]:- رواه ابن جرير الطبري، وابن أبي شيبة.
[2891]:- عقبة بن عمرو بن ثعلبة الأنصاري، أبو مسعود البدري، مشهور بكنيته – اختلف في شهوده بدرا، قيل: مات بالكوفة، وقيل: مات بالمدينة. الإصابة 2-484.
[2892]:- روى هذا الحديث البخاري، ومسلم، وأبو داود، والترمذي، وغيرهم، والآيتان من قوله تعالى: [آمن الرسول] إلى آخر السورة، وتنتهي الآية الأولى عند قوله: [وإليك المصير] وليست [ما اكتسبت] رأس آية باتفاق العادّين، وقوله: (كفتاه) أي عن قيام الليل، أو عن قراءة القرآن، أو كفتاه شر الشيطان فلا يكون عليه له سلطان، أو ما أهمه في الدنيا والآخرة، والأولى أن يراد كل ذلك، لأن حذف المتعلق يؤذن بالعموم والشمول.
[2893]:- رواه الإمام أحمد، والنسائي، وابن مردويه، بألفاظ متقاربة.