12- لا تحاول - أيها النبي - إرضاء المشركين لأنهم لا يؤمنون ، وعساك إن حاولت إرضاءهم أن تترك تلاوة بعض ما يوحى إليك مما يشق سماعه عليهم ، كاحتقار بعض آلهتهم ، خوفاً من قبح ردهم واستهزائهم ، وعسى أن تحس بالضيق وأنت تتلوه ، لأنهم يطلبون أن ينزل الله عليك كنزاً تنعم به كالملوك ، أو يجئ معك مَلَك يخبرنهم بصدقك ، فلا تبال - أيها النبي - بعنادهم ، فما أنت إلا منذر ومحذِّر من عقاب الله من يخالف أمره ، وقد فعلت فأرِحْ نفسك منهم . واعلم أن الله على كل شيء رقيب ومهيمن ، وسيفعل بهم ما يستحقون .
قوله تعالى : { فلعلك } ، يا محمد ، { تارك بعض ما يوحى إليك } ، فلا تبلغه إياهم . وذلك أن كفار مكة لما قالوا : { ائت بقرآن غير هذا } [ يونس-15 ] ليس فيه سب آلهتنا هم النبي صلى الله عليه وسلم أن يدع آلهتهم ظاهرا ، فأنزل الله تعالى : { فلعلك تارك بعض ما يوحى إليك } يعني : سب الآلهة ، { وضائق به صدرك } ، أي : فلعلك يضيق صدرك { أن يقولوا } ، أي : لأن يقولوا ، { لولا أنزل عليه كنز } ينفقه { أو جاء معه ملك } ، يصدقه ، قاله عبد الله بن أبي أمية المخرومي . قال الله تعالى : { إنما أنت نذير } ليس عليك إلا البلاغ ، { والله على كل شيء وكيل } حافظ .
ثم بين - سبحانه - بعض أقوال المشركين ، التى كان النبى - صلى الله عليه وسلم - يضيق بها صدره ، ويحزن منها نفسه ، فقال - تعالى - :
{ فَلَعَلَّكَ تَارِكٌ بَعْضَ مَا يوحى إِلَيْكَ وَضَآئِقٌ . . . } .
قال الفخر الرازى - رحمه الله - : روى عن ابن عباس - رضى الله عنهما أن رؤساء مكة قالوا يا محمد ، اجعل لنا جبال مكة ذهبا إن كنت رسولا . وقال آخرون : " ائتنا بالملائكة يشهدون بنبوتك . فقال : لا أقدر على ذلك فنزلت هذه الآية " .
ولفظ { لعل } - كما يقول الآلوسى - للترجى ، وهو يقتضى التوقع ، ولا يلزم من توقع الشئ وقوعه ولا ترجح وقوعه ، لجواز أن يوجد ما يمنع منه ، فلا يشكل بأن توقع ترك التبليغ منه - صلى الله عليه وسلم - مما لا يليق بمقام النبوة ، لأن المانع منه هنا ثبوت عصمته - صلى الله عليه وسلم - " عن كتم شئ أمر بتبليغه . . . والمقصود بهذا الأسلوب هنا تحريضه - صلى الله عليه وسلم - وتهييج داعيته لأداء الرسالة ، ويقال نحو ذلك فى كل توقع نظير هذا التوقع " .
و { تارك } اسم فاعل من الفعل ترك ، و { ضائق } اسم فاعل من الفعل ضاق ، وهو معطوف على { تارك } .
والمراد ببعض ما يوحى إليه - صلى الله عليه وسلم - فى قوله - سبحانه - { فَلَعَلَّكَ تَارِكٌ بَعْضَ مَا يوحى إِلَيْكَ } : ما أنزل عليه : من قرآن فيه استهزاء بآلهتهم ، وتسفيه لعقولهم التى استساغت أن تشرك مع الله - تعالى - فى عبادتها آلهة أخرى .
والضمير المجرور فى قوله - سبحانه - { وَضَآئِقٌ بِهِ صَدْرُكَ } يعود إلى بعض الموحى به ، وقيل يعود للتبليغ ، وقيل للتكذيب .
وجملة { أَن يَقُولُواْ } فى محل نصب على أنها مفعول لأجله ، أى : كراهة أو خشية أن يقولوا .
والكنز : يطلق على المال الكثير المجموع بعضه إلى بعض سواء أكان فى بطن الأرض أم فى ظهرها ، ومرادهم بإنزاله هنا : أن ينزل على الرسول - صلى الله عليه وسلم - من السماء مال كثير يغنيه هو وأصحابه ، ويجعلهم فى رغد من العيش ، بدل ما يبدو على بعضهم من فقر وفاقة . .
والمعنى : ليس خافيا علينا - أيها الرسول الكريم - ما يفعله المشركون معك ، من تكذيب لدعوتك ، ومن جحود لرسالتك ، ومن مطالب متعنته يطلبونها منك . . .
ليس خافيا علينا شيئا من ذلك ، ولعلك إزاء مسالكهم القبيحة هذه ، تارك تبليغ بعض ما يوحى إليك ، وهو ما يثير غضبهم ، وضائق صدرك بهذا التبليغ ، كراهة تكذيبهم لوحى الله ، واستهزائهم بدعوتك ، وقولهم لك على سبيل التعنت : هلا أنزل إليك من السماء مال كثير تستغنى به وتغنى أتباعك ، وهلا كان معك ملك يصاحبك فى دعوتك ، ويشهد أمامنا بصدقك ويؤيدك فى تحصيل مقصودك .
لا - أيها الرسول الكريم - لا تترك شيئا من تبليغ ما أمرك الله بتبليغه لهؤلاء المشركين ، ولا يضيق صدرك بأفعالهم الذميمة ، وبأقوالهم الباطلة ، بل واصل دعوتك لهم إلى طريق الحق ، فما عليك إلا الإِنذار ، أما نحن فإلينا إيابهم ، وعلينا حسابهم .
وعبر - سبحانه - عن تأثر الرسول - صلى الله عليه وسلم - من مواقفهم المتعنتة باسم الفاعل { ضائق } لا بالصفة المشبهة " ضيق " لمراعاة المقابل وهو قوله { تارك } ، وللإِشارة إلى أن هذا الضيق مما يعرض له - صلى الله عليه وسلم - أحيانا ، وليس صفة ملازمة له ، لأن اسم الفاعل يقتضى الحدوث والانقطاع ، بخلاف الصفة المشبهة فتقتضى الثبات والدوام .
وأبرز - سبحانه - هنا صفة الإِنذار للرسول - صلى الله عليه وسلم - مع أن وظيفته الإِنذار والتبشير ، لأن المقام هنا يستوجب ذلك ، إذ أن هؤلاء المشركين قد تجاوزوا كل حد فى الإِشارة إليه - صلى الله عليه وسلم - .
وقوله - سبحانه - { والله على كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ } تذييل قصد به زيادة تثبيته وتحريضه على المضى فى تبليغ دعوته .
أى : سر فى طريقك - أيها الرسول الكريم - غير مبال بما يصدر عنهم من مضايقات لك ، والله - تعالى - حافظ لأحوالك وأحوالهم ، وسيجازيهم بالجزاء الذى يتناسب مع جرائمهم وكفرهم .
والمتأمل فى هذه الآية الكريمة يراها تعبر أكمل تعبر عن الفترة الحرجة التى نزلت فيها هذه السورة الكريمة ، فقد سبق أن قلنا عند التعريف بها ، إنها نزلت فى الفترة التى أعقبت وفاة النصيرين الكبيرين للرسول - صلى الله عليه وسلم - وهما أبو طالب وخديجة - رضى الله عنها - وكانت هذه الفترة من أشق الفترات على الرسول - صلى الله عليه وسلم - حيث تكاثر فيها إيذاء المشركين له ولأصحابه . . .
فأنت ترى أن هذه الآية الكريمة تحث النبى - صلى الله عليه وسلم - على الثبات والصبر ، وعلى تبليغ ما يوحى إليه ، مع عدم المبالاة بما يضعه المشركون فى طرقه من عقبات . .
هذا ، وقد سبق أن بينا عند التعريف بهذه السورة - أيضا - أن من العلماء من يرى أن هذه الآية مدنية ، ولعلك معى - أيها القارئ الكريم - فى أنه لا يوجد أى دليل نقلى أو عقلى يؤيد ذلك ، بل الذى تؤيده الأدلة ويؤيده سبب النزول أن الآية مكية كبقية السورة .
وهناك أيات أخرى مكية تشبه هذه الآية فى أسلوبها وموضوعها ، ومن هذه الآيات قوله - تعالى - : { وَقَالُواْ مَالِ هذا الرسول يَأْكُلُ الطعام وَيَمْشِي فِي الأسواق لولا أُنزِلَ إِلَيْهِ مَلَكٌ فَيَكُونَ مَعَهُ نَذِيراً . أَوْ يلقى إِلَيْهِ كَنْزٌ أَوْ تَكُونُ لَهُ جَنَّةٌ يَأْكُلُ مِنْهَا . . . }
أولئك الجاهلون بحكمة الخلق وبسنن الكون - وهم أفراد من هذا الإنسان القاصر الغافل اليؤوس الكفور الفرح الفخور - الذين لا يدركون حكمة إرسال الرسل من البشر فيطلبون أن يكون الرسول ملكا أو أن يصاحبه ملك ؛ ولا يقدرون قيمة الرسالة فيطلبون أن يكون للرسول كنز ! . . أولئك المكذبون المعاندون الذين يلجون في التكذيب والعناد . . ما تراك صانعا معهم أيها الرسول ؟
( فلعلك تارك بعض ما يوحى إليك وضائق به صدرك أن يقولوا : لولا أنزل عليه كنز أو جاء معه ملك . إنما أنت نذير والله على كل شيء وكيل ) . .
ولعل هنا تحمل معنى الاستفهام . وهو ليس استفهاما خالصا ، إنما يتلبس به أن المتوقع من النفس البشرية أن تضيق صدرا بهذا الجهل ، وبهذا التعنت ، وبهذه الاقتراحات السخيفة التي تكشف عن بعد كامل عن إدراك طبيعة الرسالة ووظيفتها . فهل سيضيق صدرك - يا محمد - وهل سيحملك هذا الضيق على أن تترك بعض ما أنزل إليك فلا تبلغه لهم ، كي لا يقابلوه بما اعتادوا أن يقابلوا به نظائره فيما أخبرتهم من قبل ؟
كلا . لن تترك بعض ما يوحى إليك ولن يضيق به صدرك من قولهم هذا :
فواجبك كله أن تنذرهم - وأبرز صفة النذير هنا لأن المقام يستوجبها مع أمثال هؤلاء - فأد واجبك : ( والله على كل شيء وكيل ) . .
فهو الموكل بهم ، يصرفهم كيف يشاء وفق سنته ، ويحاسبهم بعد ذلك على ما يكسبون . ولست أنت موكلا بكفرهم أو إيمانهم . إنما أنت نذير .
وهذه الآية تشي بجو تلك الفترة الحرجة في تاريخ الدعوة ؛ وما كان يعتور صدر رسول الله [ ص ] من الضيق . كما تشي بثقل المواجهة للجاهلية المتمردة المعاندة ، في الوقت الذي هلك فيه العشير والنصير ؛ وغمرت الوحشة قلب رسول الله [ ص ] وغشى الكرب على قلوب المؤمنين القلائل في هذه الجاهلية المحيطة .
ومن بين كلمات الآية نحس جوا مكروبا تتنزل فيه هذه الكلمات الربانية بالبشاشة ، وتسكب فيه الطمأنينة ، وتريح الأعصاب والقلوب !
{ فلعلّك تاركٌ بعض ما يوحى إليك } تترك تبليغ بعض ما يوحى إليك وهو ما يخالف رأي المشركين مخافة ردهم واستهزائهم به ، ولا يلزم من توقع الشيء لوجود ما يدعو إليه وقوعه لجواز أن يكون ما يصرف عنه وهو عصمة الرسل عن الخيانة في الوحي والثقة في التبليغ ها هنا . { وضائقٌ به صدرك } وعارض لك أحيانا ضيق صدرك بأن تتلوه عليهم مخافة . { أن يقولون لولا أُنزل عليه كنز } ينفقه في الاستتباع كالملوك . { أو جاء معه مَلكٌ } يصدقه وقيل الضمير في { به } مبهم يفسره { أن يقولوا } . { إنما أنت نذير } ليس عليك إلا الإنذار بما أوحي إليك ولا عليك ردوا أو اقترحوا فما بالك يضيق به صدرك . { والله على كل شيء وكيل } فتوكل عليه فإنه عالم بحالهم وفاعل بهم جزاء أقوالهم وأفعالهم .