قوله تعالى : { تنزيل الكتاب من الله العزيز العليم غافر الذنب } ساتر الذنب { وقابل التوب } يعني : التوبة مصدر تاب يتوب توباً . وقيل : التوب جمع توبة ، مثل دومة ودوم ، وحومة وحوم ، قال ابن عباس { غافر الذنب } لمن قال لا إله إلا الله { قابل التوب } ممن قال لا إله إلا الله محمد رسول الله { شديد العقاب } لمن لا يقول لا إله إلا الله { ذي الطول } ذي الغنى عمن لا يقول لا إله إلا الله . قال مجاهد : ذي الطول ذي السعة والغنى ، وقال الحسن : ذو الفضل ، وقال قتادة : ذو النعم ، وقيل : ذو القدرة . وأصل الطول الإنعام الذي تطول مدته على صاحبه . { لا إله إلا هو إليه المصير* }
{ غَافِرِ الذنب } أى : ساتر لذنوب عباده ، ومزيل لأثرها عنهم بفضله ورحمته .
فلفظ { غَافِرِ } من الغفر بمعنى الستر والتغطية ، يقال : غفر الله - تعالى - ذنب فلان غَفْراً ومغفرة وغفرانا ، إذا غطاه وستره وعفا عنه .
ولفظ الذنب : يطلق على كل قول أو فعل تسوء عاقبته ، مأخوذ من ذنب الشئ ، أى : نهايته { وَقَابِلِ التوب } والتوب مصدر بمعنى الرجوع عن الذنب والتوبة منه . يقال : تاب فلان عن الذنب توبة وتوبتا إذا رجع عنه .
أى : أنه - سبحانه يغفر ذنوب عباده ، ويقبل توبتهم فضلا منه وكرما .
قال صاحب الكشاف : ما بال الواو فى قوله { وَقَابِلِ التوب } ؟
قلت : فيها نكته جليلة ، وهى إفادة الجمع للمذنب التائب بين رحمتين : بين أن يقبل توبته فيكتبها له طاعة من الطاعات ، وأن يجعلها محاءة للذنوب ، كأنه لم يذنب . كأنه قال : جامع المغفرة والقبول . .
{ شَدِيدِ العقاب } أى : لمن أشرك به ، وأعرض عن الحق الذى جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم { ذِي الطول } أى : ذى الفضل والثواب والإِنعام على من يشاء من عباده .
والطَّول : السعة والغنى والزيادة ، يقال : لفلان على فلان طول ، أى زيادة وفضل ، ومنه الطُّول فى الجسم لأنه زيادة فيه . قال - تعالى - : { وَمَن لَّمْ يَسْتَطِعْ مِنكُمْ طَوْلاً . . . } أى : غنى وسعة .
{ لاَ إله إِلاَّ هُوَ } أى : لا إله بحق وصدق إلا هو - سبحانه - .
{ إِلَيْهِ المصير } أى : إليه المرجع والمآب يوم القيامة ، ليحاسبكم على أعمالكم فى الدنيا .
قال القرطبى : روى عن عمر بن الخطاب - رضى الله عنه - أنه افتقد رجلا ذا بأس شديد من أهل الشام فلما سأل عنه قيل له : تتابع فى هذا الشراب .
فقال عمر لكاتبه : اكتب من عمر بن الخطاب إلى فلان ، سلام عليك ، وأنا أحمد الله إليك الذى لا إله هو { بسم الله الرحمن الرَّحِيمِ . حما . تَنزِيلُ الكتاب مِنَ الله العزيز العليم } .
إلى قوله - تعالى - : { إِلَيْهِ المصير } .
ثم ختم الكتاب وقال لرسوله : لا تدفعه إليه حتى تجده صاحيا . ثم أمر من عنده بالدعاء له بالتوبة . فلما وصل الكتاب إلى الرجل جعل يقرؤه ويقول : قد وعدنى الله أن يغفر لى ، وحذرنى عقابه ، فلم يبرح يرددها حتى بكى ، ثم نزع فأحسن النزع وحسنت توبته .
فلما بلغ عمر ذلك قال : هكذا فاصنعوا إذا رأيتم أحدكم قد زل زلته فسددوه وادعوا الله له أن يتوب عليه ، ولا تكونوا أعوانا للشيطان عليه .
( غافر الذنب ) . . الذي يعفو عن ذنوب العباد ، بما يعلمه - سبحانه - من استحقاقهم للغفران .
( وقابل التوب ) . . الذي يتوب على العصاة ، ويتقبلهم في حماه ، ويفتح لهم بابه بلا حجاب .
( شديد العقاب )الذي يدمر على المستكبرين ويعاقب المعاندين ، الذين لا يتوبون ولا يستغفرون .
( ذي الطول ) . . الذي يتفضل بالإنعام ، ويضاعف الحسنات ، ويعطي بغير حساب .
( لا إله إلا هو ) . . فله الألوهية وحده لا شريك له فيها ولا شبيه .
إليه المصير . . فلا مهرب من حسابه ولا مفر من لقائه . وإليه الأوبة والمعاد .
وهكذا تتضح صلته بعباده وصلة عباده به . تتضح في مشاعرهم وتصوراتهم وإدراكهم ، فيعرفون كيف يعاملونه في يقظة وفي حساسية ؛ وفي إدراك لما يغضبه وما يرضيه .
وقد كان أصحاب العقائد الأسطورية يعيشون مع آلهتهم في حيرة ، لا يعرفون عنها شيئاً مضبوطاً ؛ ولا يتبينون ماذا يسخطها وماذا يرضيها ، ويصورونها متقلبة الأهواء ، غامضة الاتجاهات ، شديدة الانفعالات ، ويعيشون معها في قلق دائم يتحسسون مواضع رضاها ، بالرقى والتمائم والضحايا والذبائح ، ولا يدرون سخطت أم رضيت إلا بالوهم والتخمين !
فجاء الإسلام واضحاً ناصعاً ، يصل الناس بإلههم الحق ، ويعرفهم بصفاته ، ويبصرهم بمشيئته ويعلمهم كيف يتقربون إليه ، وكيف يرجون رحمته ، ويخشون عذابه ، على طريق واضح قاصد مستقيم .
وقوله : { غَافِرِ الذَّنْبِ وَقَابِلِ التَّوْبِ } أي : يغفر ما سلف من الذنب ، ويقبل التوبة في المستقبل لمن تاب إليه وخَضَع لديه .
وقوله : { شَدِيدُ الْعِقَابِ } أي : لمن تمرد وطغى وآثر الحياة الدنيا ، وعتا عن{[25403]} أوامر الله ، وبغى [ وقد اجتمع في هذه الآية الرجاء والخوف ] {[25404]} . وهذه كقوله تعالى : { نَبِّئْ عِبَادِي أَنِّي أَنَا الْغَفُورُ الرَّحِيمُ وَأَنَّ عَذَابِي هُوَ الْعَذَابُ الألِيمُ } [ الحجر : 49 ، 50 ] يقرن هذين الوصفين كثيرًا في مواضع متعددة من القرآن ؛ ليبقى العبد بين الرجاء والخوف .
وقوله : { ذِي الطَّوْلِ } قال ابن عباس : يعني : السعة والغنى . وكذا قال مجاهد وقتادة .
وقال يزيد بن الأصم : { ذِي الطَّوْلِ } يعني : الخير الكثير .
وقال عكرمة : { ذِي الطَّوْلِ } ذي المن .
وقال قتادة : [ يعني ] {[25405]} ذي النعم والفواضل .
والمعنى : أنه المتفضل على عباده ، المتطول عليهم بما هو فيه من المنن والأنعام ، التي لا يطيقون القيام بشكر واحدة منها ، { وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَتَ اللَّهِ لا تُحْصُوهَا [ إِنَّ الإنْسَانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ ] } [ إبراهيم : 34 ]{[25406]} .
وقوله : { لا إِلَهَ إِلا هُوَ } أي : لا نظير له في جميع صفاته ، فلا إله غيره ، ولا رب سواه { إِلَيْهِ الْمَصِيرُ } أي : المرجع والمآب ، فيجازي كل عامل بعمله ، { وَهُوَ سَرِيعُ الْحِسَابِ } [ الرعد : 41 ] .
وقال أبو بكر بن عياش : سمعت أبا إسحاق السَّبِيعي يقول : جاء رجل إلى عمر بن الخطاب [ رضي الله عنه ] {[25407]} فقال : يا أمير المؤمنين إني قَتَلْتُ ، فهل لي من توبة ؟ فقرأ عليه { حم . تَنزيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ . غَافِرِ الذَّنْبِ وَقَابِلِ التَّوْبِ شَدِيدِ الْعِقَابِ } وقال : اعمل ولا تيأس .
رواه ابن أبي حاتم - واللفظ له - وابن جرير{[25408]} .
وقال ابن أبي حاتم : حدثنا أبي ، حدثنا موسى بن مروان الرِّقِّي ، حدثنا عمر - يعني ابن أيوب - أخبرنا جعفر بن بَرْقان ، عن يزيد بن الأصم {[25409]} قال : كان رجل من أهل الشام ذو بأس ، وكان يفد إلى عمر بن الخطاب [ رضي الله عنه ] {[25410]} ، ففقده عمر فقال : ما فعل فلان بن فلان ؟ فقالوا : يا أمير المؤمنين ، يتابع في هذا الشراب . قال : فدعا عمر كاتبه ، فقال : اكتب : " من عمر بن الخطاب إلى فلان ابن فلان ، سلام عليك ، [ أما بعد ] {[25411]} : فإني أحمد إليك الله الذي لا إله إلا هو ، غافر الذنب وقابل التوب ، شديد العقاب ، ذي الطول ، لا إله إلا هو إليه المصير " . ثم قال لأصحابه : ادعوا الله لأخيكم أن يُقْبِل بقلبه ، وأن يتوب الله عليه {[25412]} . فلما بلغ الرجل كتابُ عمر جعل يقرؤه ويردده ، ويقول : غافر الذنب وقابل التوب شديد العقاب ، قد حذرني عقوبته ووعدني أن يغفر لي .
ورواه الحافظ أبو نعيم من حديث جعفر بن برقان ، وزاد : " فلم يزل يُرَدّدها على نفسه ، ثم بكى ثم نزع فأحسن النزع فلما بلغ عمر [ رضي الله عنه ] {[25413]} خبرهُ قال : هكذا فاصنعوا ، إذا رأيتم أخاكم زل زلَّة فسددوه ووفقوه ، وادعوا الله له أن يتوب عليه ، ولا تكونوا أعوانًا للشيطان عليه{[25414]} .
وقال ابن أبي حاتم : حدثنا عمر بن شَبَّة{[25415]} ، حدثنا حماد بن واقد - أبو عُمَر الصفار - ، حدثنا ثابت البناني ، قال : كنت مع مصعب بن الزبير في سواد الكوفة ، فدخلت حائطًا أصلي ركعتين فافتتحت : { حم } المؤمن ، حتى بلغت : { لا إِلَهَ إِلا هُوَ إِلَيْهِ الْمَصِيرُ } فإذا رجل خلفي على بغلة شهباء عليه مُقَطَّعات يمنية فقال : إذا قلت : { غَافِرِ الذَّنْبِ } فقل : " يا غافر الذنب ، اغفر لي ذنبي " . وإذا قلت : { وَقَابِلِ التَّوْبِ } ، فقل : " يا قابل التوب ، اقبل توبتي " . وإذا قلت : { شَدِيدُ الْعِقَابِ } ، فقل : " يا شديد العقاب ، لا تعاقبني " . قال : فالتفت فلم أر أحدًا ، فخرجت إلى الباب فقلت : مَرّ بكم رجل عليه مقطعات يمنية ؟ قالوا : ما رأينا أحدًا فكانوا يُرَون أنه إلياس .
ثم رواه من طريق أخرى ، عن ثابت ، بنحوه . وليس فيه ذكر إلياس .
وقوله : { غافر } بدل من المكتوبة{[9958]} ، وإن أردت ب { غافر } المضي ، أي غفرانه في الدنيا وقضاؤه بالغفران وستره على المذنبين ، فيجوز أن يكون { غافر } صفة ، لأن إضافته إلى المعرفة تكون محضة ، وهذا مترجح جداً ، وإذا أردت ب { غافر } الاستقبال أو غفرانه يوم القيامة فالإضافة غير محضة ، و : { غافر } نكرة فلا يكون نعتاً ، لأن المعرفة لا تنعت بالنكرة ، وفي هذا نظر . وقال الزجاج : { غافر } { وقابل } صفتان . و : { شديد العقاب } بدل{[9959]} ، و : { الذنب } اسم الجنس . وأما { التوب } فيحتمل أن يكون مصدراً كالعوم والنوم فيكون اسم جنس ، ويحتمل أن يكون جمع توبة كتمرة وتمر ، وساعة وساع . وقبول التوبة من الكافر مقطوع لإخبار الله تعالى ، وقبول التوبة من العاصي في وجوبها قولان لأهل السنة ، وحكى الطبري عن أبي بكر بن عياش أن رجلاً جاء إلى عمر بن الخطاب فقال : إني قتلت ، فهل لي من توبة ؟ فقال نعم ، اعمل ولا تيأس ، ثم قرأ هذه الآيات إلى { قابل التوب } .
و { شديد العقاب } : صفة ، وقيل بدل{[9960]} .
ثم عقب هذا الوعيد بوعد ثان في قوله : { ذي الطول } أي ذي التطول والمن بكل نعمة فلا خير إلا منه ، فترتب في الآية بين وعدين ، وهكذا رحمة الله تغلب غضبه .
قال القاضي أبو محمد : سمعت هذه النزعة من أبي رضي الله عنه ، وهي نحو من قول عمر رضي الله عنه : لن يغلب عسر يسرين يريد في قوله تعالى { فإن مع العسر يسراً ، إن مع العسر يسراً }{[9961]} .
و : { الطول } الإنعام ، ومنه : حليت بطائل{[9962]} . وحكى الثعلبي عن أهل الإشارة أنه تعالى : { غافر الذنب } فضلاً ، { وقابل التوب } وعداً ، و { شديد العقاب } عدلاً . وقال ابن عباس : { الطول } : السعة والغنى ، ثم صدع بالتوحيد في قوله : { لا إله إلا هو } . وبالبعث والحشر في قوله : { إليه المصير } .
أجريت على اسم الله ستة نعوت معارفُ ، بعضُها بحرف التعريف وبعضها بالإضافة إلى معرّف بالحرف .
ووصْفُ الله بوصفي { العَزِيز العَليم } [ غافر : 2 ] هنا تعريض بأن منكري تنزيل الكتاب منه مغلوبون مقهورون ، وبأن الله يعلم ما تكنّه نفوسهم فهو محاسبهم على ذلك ، ورَمْزٌ إلى أن القرآن كلام العزيز العليم فلا يقدر غير الله على مثله ولا يعلم غير الله أن يأتي بمثله .
وهذا وجه المخالفة بين هذه الآية ونظيرتها من أول سورة الزمر التي جاء فيها وصف { العَزِيز الحكيم } [ الزمر : 1 ] على أنه يتأتى في الوصف بالعلم ما تأتَّى في بعض احتمالات وصف { الحكيم في سورة الزمر . ويتأتى في الوصفين أيضاً ما تَأَتَّى هنالك من طريقي إعجاز القرآن . وفي ذكرهما رمز إلى أن الله أعلم حيث يجعل رسالَته وأنه لا يجاري أهواء الناس فيمن يرشحونه لذلك من كبرائهم { وقالوا لولا نُزِّل هذا القرآن على رجل من القريتين عظيم } [ الزخرف : 31 ] .
وفي إِتْباع الوصفين العظيمين بأوصاف { غافر الذنب وقَابِل التَّوْب شَديد العِقاب ذِي الطَّول } ترشيح لذلك التعريضضِ كأنه يقول : إن كنتم أذنبتم بالكفر بالقرآن فإن تدارك ذنبكم في مكنتكم لأن الله مقرَّر اتصافه بقبول التوبة وبغفران الذنب فكما غفر لمن تابوا من الأمم فقبل إيمانهم يغفر لمن يتوب منكم .
وتقديم { غافر } على { قابل التوب } مع أنه مرتب عليه في الحصول للاهتمام بتعجيل الإِعلام به لمن استعدّ لتدارك أمره فوصفُ { غافر الذنب وقابل التوب } تعريض بالترغيب ، وصِفتا { شَدِيد العقاب ذِي الطَّول } تعريض بالترهيب . والتوبُ : مصدر تاب ، والتوب بالمثناة والثوب بالمثلثة والأَوْب كلها بمعنى الرجوع ، أي الرجوع إلى أمر الله وامتثاله بعد الابتعاد عنه . وإنما عطفت صفة { وقَابِل التَّوْب } بالواو على صفة { غَافِر الذنب } ولم تُفْصَل كما فُصِلت صفتا { العليمِ } [ غافر : 2 ] { غافرِ الذنب } وصفة { شديد العقاب } إشارة إلى نكتة جليلة وهي إفادة أن يجمَع للمذنب التائب بين رحمتين بين أن يقبل توبته فيجعلها له طاعة ، وبين أن يمحو عنه بها الذنوب التي تاب منها وندِم على فعلها ، فيصبحَ كأنه لم يفعلها . وهذا فضل من الله .
وقوله : { شديد العقاب } إفضاء بصريح الوعيد على التكذيب بالقرآن لأن مجيئه بعد قوله : { تنزيلُ الكِتَاب مِن الله } [ غافر : 2 ] يفيد أنه المقصود من هذا الكلام بواسطة دلالة مستتبعات التراكيب .
والمراد { بغافر } و { قابل } أنه موصوف بمدلوليهما فيما مضى إذ ليس المراد أنه سيغفر وسيقبل ، فاسم الفاعل فيهما مقطوع عن مشابهة الفعل ، وهو غير عامل عمَل الفعل ، فلذلك يكتسِبُ التعريف بالإِضافة التي تزيد تقريبه من الأسماء ، وهو المحمل الذي لا يناسب غيرُهُ هنا .
و { التوب } صفة مشبَّهة مضافة لفاعلها ، وقد وقعت نعتاً لاسم الجلالة اعتداداً بأن التعريف الداخل عَلى فاعل الصفة يقوم مقام تعريف الصفة فلم يخالَف ما هو المعروف في الكلام من اتحاد النعت والمنعوت في التعريف واكتساب الصفة المشبهة التعريفَ بالإِضافة هو قول نحاة الكوفة طرداً لباب التعريف بالإضافة ، وسيبَويه يجوز اكتساب الصفات المضافةِ التعريفَ بالإِضافة إلاّ الصفة المشبهة لأن إضافتها إنما هي لفاعلها في المعنى لأن أصل ما تضاف إليه الصفة المشبهة أنه كان فاعلاً فكانت إضافتها إليه مجرد تخفيف لفظي والخطب سهل .
والطوْل يطلق على سعة الفضل وسعة المال ، ويطلق على مطلق القدرة كما في « القاموس » ، وظاهرُه الإِطلاقُ وأقره في « تاج العروس » وجعله من معنى هذه الآية ، ووقوعُه مع { شديد العقاب } ومزاوجتها بوصفي { غافر الذنب وقابل التوب } ليشير إلى التخويف بعذاب الآخرة من وصف { شديد العِقَاب } ، وبعذاب الدنيا من وصف { ذِي الطَّوْل } كقوله : { أو نرينك الذي وعدناهم فإنا عليهم مقتدرون } [ الزخرف : 42 ] ، وقوله : { قل إن اللَّه قادر على أن ينزل آية } [ الأنعام : 37 ] . وأعقب ذلك بما يدل على الوحدانية وبأن المصير ، أي المرجع إليه تسجيلاً لبطلان الشرك وإفساداً لإِحالتهم البعث .
فجملة { لا إله إلاَّ هو } في موضع الصفة ، وأتبع ذلك بجملة { إليه المَصِير } إنذاراً بالبعث والجزاء لأنه لما أجريت صفات { غَافِر الذَّنب وقَابِل التَّوبِ شَدِيد العِقَاب } أثير في الكلام الإِطماعُ والتخويفُ فكان حقيقاً بأن يشعروا بأن المصير إما إلى ثوابه وإما إلى عقابه فليزنوا أنفسهم ليضعوها حيث يلوح من حالهم .
وتقديم المجرور في { إليه المَصِيرُ } للاهتمام وللرعاية على الفاصلة بحرفين : حرف لين ، وحرف صحيح مثل : العليم ، والبلاد ، وعقاب .
وقد اشتملت فاتحة هذه السورة على ما يشير إلى جوامع أغراضها ويناسب الخوض في تكذيب المشركين بالقرآن ويشير إلى أنهم قد اعتزوا بقوتهم ومكانتهم وأن ذلك زائل عنهم كما زال عن أمم أشد منهم ، فاستوفت هذه الفاتحة كمال ما يطلب في فواتح الأغراض مما يسمى براعة المطلع أو براعة الاستهلال .