قوله تعالى : { وأقيموا الصلاة } . يعني الصلوات الخمس بمواقيتها وحدودها .
قوله تعالى : { وآتوا الزكاة } . أدوا زكاة أموالكم المفروضة . فهي مأخوذة من زكا الزرع إذا نما وكثر . وقيل : من تزكى أي تطهر ، وكلا المعنيين موجودان في الزكاة ، لأن فيها تطهيراً وتنمية للمال .
قوله تعالى : { واركعوا مع الراكعين } . أي صلوا مع المصلين ، محمد صلى الله عليه وسلم وأصحابه ، وذكر بلفظ الركوع لأنه ركن من أركان الصلاة ، ولأن صلاة اليهود لم يكن فيها ركوع ، وكأنه قال : صلوا صلاة ذات ركوع ، قيل : إعادته بعد قوله : وأقيموا الصلاة لهذا ، أي صلوا مع الذين في صلواتهم ركوع ، فالأول مطلق في حق الكل ، وهذا في حق أقوام مخصوصين . وقيل : هذا حث على إقامة الصلاة جماعة كأنه قال لهم : صلوا مع المصلين الذين سبقوكم بالإيمان .
وبعد أن أمرهم - سبحانه - بأصل الدين الذي هو الإِيمان به وبرسوله محمد صلى الله عليه وسلم أردفه بركنين من أركانه العملية ، إذا قاموا بهما لانت قلوبهم للحق ، وانعطفت نفوسهم نحو خشية الله وحده ، فقال تعالى : { وَأَقِيمُواْ الصلاة وَآتُواْ الزكاة واركعوا مَعَ الراكعين } والمراد بإقامة الصلاة ، أداؤها مستوفية لأركانها وشرائطها وآدابها . والمراد بإيتاء الزكاة دفعها لمستحقيها كالمة غير منقوصة .
والمعنى : عليكم يا معشر اليهود أن تحافظوا على أداء الصلاة ، التي هي أعظم العبادات البدنية ، وعلى إيتاء الزكاة التي هي أعظم العبادات المالية ، وأن تخضعوا لما يلزمكم في دين الله - تعالى - لأن في محافظتكم على هذه العبادات تطهيراً لقلوبكم ، وتأليفاً لنفوسكم ، وتزكية لمشاعركم ، ولأنكم إن لم تحافظوا عليها كما أمركم الله - تعالى - فسيلحقكم الخزي في الدنيا ، والعذاب في الأخرى .
قال مقاتل : قوله تعالى لأهل الكتاب : { وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ } أمرهم أن يصلوا مع النبي صلى الله عليه وسلم { وَآتُوا الزَّكَاةَ } أمرهم أن يؤتوا الزكاة ، أي : يدفعونها إلى النبي صلى الله عليه وسلم { وَارْكَعُوا مَعَ الرَّاكِعِينَ } أمرهم أن يركعوا مع الراكعين من أمة محمد صلى الله عليه وسلم .
وقال علي بن طلحة ، عن ابن عباس : [ { وَآتُوا الزَّكَاةَ } ] {[1650]} يعني بالزكاة : طاعة الله والإخلاص .
وقال وَكِيع ، عن أبي جَنَاب ، عن عِكْرِمة عن ابن عباس ، في قوله : { وَآتُوا الزَّكَاةَ } قال : ما يوجب الزكاة ؟ قال : مائتان فصاعدا .
وقال مبارك بن فضالة ، عن الحسن ، في قوله تعالى : { وَآتُوا الزَّكَاةَ } قال : فريضة واجبة ، لا تنفع الأعمال إلا بها وبالصلاة .
وقال ابن أبي حاتم : حدثنا أبو زُرْعَة ، حدثنا عثمان بن أبي شيبة ، حدثنا جرير عن أبي حيان [ العجمي ]{[1651]} التيمي ، عن الحارث العُكلي في قوله : { وَآتُوا الزَّكَاةَ } قال : صدقة الفطر .
وقوله تعالى : { وَارْكَعُوا مَعَ الرَّاكِعِينَ } أي : وكونوا مع المؤمنين في أحسن أعمالهم ، ومن أخص ذلك وأكمله{[1652]} الصلاة .
[ وقد استدل كثير من العلماء بهذه الآية على وجوب الجماعة ، وبسط ذلك في كتاب الأحكام الكبير إن شاء الله ، وقد تكلم القرطبي على مسائل الجماعة والإمامة فأجاد ]{[1653]} .
{ وأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة } يعني صلاة المسلمين وزكاتهم فإن غيرهما كلا صلاة ولا زكاة . أمرهم بفروع الإسلام بعد ما أمرهم بأصوله ، وفيه دليل على أن الكفار مخاطبون بها . و{ الزكاة } من زكا الزرع ، إذا نما ، فإن أخراجها يستجلب بركة في المال ويثمر للنفس فضيلة الكرم . أو من الزكاة بمعنى : الطهارة ، فإنها تطهر المال من الخبث والنفس من البخل .
{ واركعوا مع الراكعين } أي في جماعتهم ، فإن صلاة الجماعة تفضل صلاة الفذ بسبع وعشرين درجة لما فيها من تظاهر النفوس ، وعبر عن الصلاة بالركوع احترازا عن صلاة اليهود . وقيل الركوع : الخضوع والانقياد لما يلزمهم الشارع ، قال الأضبط السعدي :
وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآَتُوا الزَّكَاةَ وَارْكَعُوا مَعَ الرَّاكِعِينَ ( 43 )
وقد تقدم القول في الصلاة ، و { الزكاة } في هذه الآية هي المفروضة بقرينة إجماع الأمة على وجوب الأمر بها ، و { الزكاة } مأخوذة من زكا الشيء إذا نما وزاد ، وسمي الإخراج من المال زكاة( {[548]} ) وهو نقص منه من حيث ينمو بالبركة أو بالأجر الذي يثيب الله به المزكي وقيل { الزكاة } مأخوذة من التطهير ، كما يقال زكا فلان أي طهر من دنس الجرحة أو الاغفال ، فكأن الخارج من المال يطهره من تبعة الحق الذي جعل الله فيه للمساكين ، ألا ترى أن النبي صلى الله عليه وسلم سمى في الموطأ ما يخرج في الزكاة أوساخ الناس( {[549]} ) .
وقوله تعالى : { واركعوا مع الراكعين } قال قوم : جعل الركوع لما كان من أركان الصلاة عبارة عن الصلاة كلها .
وقال قوم : إنما خص الركوع بالذكر لأن بني إسرائيل لم يكن في صلاتهم ركوع( {[550]} ) .
وقالت فرقة : إنما قال { مع } لأن الأمر بالصلاة أولاً لم يقتض شهود الجماعة ، فأمرهم بقوله { مع } بشهود الجماعة ، والركوع في اللغة الانحناء بالشخص .
أخبر أخبار القرون التي مضت . . . أدبُّ كأني كلما قمت راكع
ويستعار أيضاً في الانحطاط في المنزلة ، قال الأضبط بن قريع : [ الخفيف ]