130- فاصبر - أيها الرسول - علي ما يقولونه في رسالتك من تكذيب واستهزاء ، ونَزِّه ربك عما لا يليق به بالثناء عليه ، وعبادته - وحده - دائماً ، وخاصة قبل أن تشرق الشمس وقبل أن تغرب ، ونزِّهه واعبده في ساعات الليل ، وفي أطراف النهار بالصلاة ، حتى تدوم صلتك بالله ، فلتطمئن إلي ما أنت عليه ، وترضى بما قدر لك .
قوله تعالى : { فاصبر على ما يقولون } نسختها آية القتال { وسبح بحمد ربك } أي صل بأمر ربك . وقيل : صل لله بالحمد له والثناء عليه { قبل طلوع الشمس } يعني صلاة الصبح { وقبل غروبها } صلاة العصر ، { ومن آناء الليل } ، ساعاته واحدها إنى { فسبح } يعني صلاة المغرب والعشاء . قال ابن عباس : يريد أول الليل { وأطراف النهار } يعني : صلاة الظهر وسمي وقت الظهر أطراف النهار لأن وقته عند الزوال ، وهو طرف النصف الأول انتهاء وطرف النصف الآخر ابتداء . وقيل : المراد من آناء الليل صلاة العشاء ، ومن أطراف النهار صلاة الظهر والمغرب ، لأن الظهر في آخر الطرف الأول من النهار ، وفي أول الطرف الآخر من النهار ، فهو في طرفين منه والطرف الثالث غروب الشمس ، وعند ذلك يصلى المغرب . { لعلك ترضى } أي ترضى ثوابه في المعاد ، وقرأ الكسائي وأبو بكر عن عاصم ( ترضى ) بضم التاء أي : تعطى ثوابه . وقيل : ترضى أي : يرضاك الله تعالى ، كما قال : ( وكان عند ربه مرضياً ) وقيل : معنى الآية لعلك ترضى بالشفاعة ، كما قال : ( ولسوف يعطيك ربك فترضى ) . أخبرنا أبو سعيد أحمد بن محمد بن العباس الخطيب الحميدي ، أنا أبو عبد الله محمد بن عبد الله الحافظ ، أنا أبو عبد الله محمد بن يعقوب الشيباني إملاء ، أنا إبراهيم بن عبد الله السعدي ، أنا يزيد بن هارون ، أنا إسماعيل بن أبي خالد ، عن قيس بن أبي حازم ، عن جرير بن عبد الله قال : " كنا جلوساً عند رسول الله صلى الله عليه وسلم فنظر إلى القمر ليلة البدر ، فقال : إنكم سترون ربكم كما ترون هذا القمر لا تضامون في رؤيته ، فإن استطعتم أن لا تغلبوا على صلاة قبل طلوع الشمس وقبل غروبها فافعلوا " ، ثم قرأ ( وسبح بحمد ربك قبل طلوع الشمس وقبل غروبها ) .
ثم أمر الله - تعالى - رسوله - صلى الله عليه وسلم - بالمداومة على الصبر ، وعلى الإكثار من ذكره - تعالى - ونهاه عن التطلع إلى زينة الحياة الدنيا .
فقال - تعالى - : { فاصبر . . . . } .
الفاء فى قوله - تعالى - : { فاصبر على مَا يَقُولُونَ . . . } فصيحة ، أى : إذا كان الأمر كان ذكرنا لك - أيها الرسول الكريم - من أن تأخير عذاب أعدائك للإمهال وليس للإهمال . . . فاصبر على ما يقولونه فى شأنك من أنك ساحر أو مجنون . . . وسر فى طريقك دون أن تلتفت إلى إيذائهم أو مكرهم واستهزائهم .
ثم أرشده - سبحانه - إلى ما يشرح صدره ، ويجلو همه فقال : { وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشمس وَقَبْلَ غُرُوبِهَا وَمِنْ آنَآءِ الليل فَسَبِّحْ وَأَطْرَافَ النهار لَعَلَّكَ ترضى } .
أى : وعليك - أيها الرسول الكريم - أن تكثر من تشبيح ربك وتحميده وتنزيهه قبل طلوع الشمس وقبل غروبها ، وفى ساعات الليل وفى " أطراف النهار " .
أى : فى الوقت الذى يجمع الطرفين ، وهو وقت الزوال ، إذ هو نهاية النصف الأول من النهار ، وبداية النصف الثانى منه ، إذا فى هذا التسبيح والتحميد والتنزيه لله - تعالى - والثناء عليه بما هو أهله ، جلاء للصدور ، وتفريج للكروب وأنس للنفوس ، واطمئنان للقلوب .
ويرى كثير من المفسرين ، أن المراد بالتسبيح هنا ، إقامة الصلاة والمداومة عليها .
قال ابن كثير : قوله { وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشمس } يعنى صلاة الفجر { وَقَبْلَ غُرُوبِهَا } يعنى صلاة العصر ، كما جاء فى الصحيحين عن جرير بن عبد الله البجلى قال : كنا جلوسا عند رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فنظر إلى القمر ليلة البدر فقال : " إنكم سترون ربكم كما ترون هذا القمر ، لا تضامون فى رؤيته - أى : لا ينالكم ضيم فى رؤيته بأن يراه بعضكم دون بعض - فإن استطعتم أن لا تغلبوا على صلاة قبل طلوع الشمس وقبل غروبها فافعلوا " ثم قرأ هذه الآية . . . .
وقوله : { وَمِنْ آنَآءِ الليل فَسَبِّحْ } أى : من ساعاته فتهجد به ، وحمله بعضهم على المغرب والعشاء . { وَأَطْرَافَ النهار } فى مقابلة آناء الليل { لَعَلَّكَ ترضى } كما قال - سبحانه - : { وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فترضى }
وإذا كانوا مؤخرين إلى أجل ، ممهلين لا مهملين ، فلا عليك - يا محمد - منهم ولا مما أوتوه من زينة الحياة الدنيا ليكون ابتلاء لهم ، فإنما هي الفتنة ، وما أعطاكه الله إنعاما فهو خير مما أعطاهم ابتلاء :
( فاصبر على ما يقولون ، وسبح بحمد ربك قبل طلوع الشمس وقبل غروبها ، ومن آناء الليل فسبح وأطراف النهار لعلك ترضى . ولا تمدن عينيك إلى ما متعنا به أزواجا منهم زهرة الحياة الدنيا لتفتنهم فيه ، ورزق ربك خير وأبقى . وأمر أهلك بالصلاة واصطبر عليها لا نسألك رزقا نحن نرزقك والعاقبة للتقوى . . )
فاصبر على ما يقولون من كفر واستهزاء وجحود وإعراض ، ولا يضق صدرك بهم ، ولا تذهب نفسك عليهم حسرات . واتجه إلى ربك . سبح بحمده قبل طلوع الشمس وقبل غروبها . في هدأة الصبح وهو يتنفس ويتفتح بالحياة ؛ وفي هدأة الغروب والشمس تودع ، والكون يغمض أجفانه ، وسبح بحمده فترات منالليل والنهار . . كن موصولا بالله على مدار اليوم . . ( لعلك ترضى ) . .
إن التسبيح بالله اتصال . والنفس التي تتصل تطمئن وترضى . ترضى وهي في ذلك الجوار الرضي ؛ وتطمئن وهي في ذلك الحمى الآمن .
فالرضى ثمرة التسبيح والعبادة ، وهو وحده جزاء حاضر ينبت من داخل النفس ويترعرع في حنايا القلب .
أي : من تكذيبهم لك ، { وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ } يعني : صلاة الفجر ، { وَقَبْلَ غُرُوبِهَا } يعني : صلاة العصر ، كما جاء في الصحيحين عن جرير بن عبد الله البَجَليّ رضي الله عنه قال : كنا جلوسًا عند رسول الله صلى الله عليه وسلم فنظر إلى القمر ليلة البدر ، فقال : " إنكم سترون ربكم كما ترون هذا القمر ، لا تُضَامُّون في رؤيته ، فإن استطعتم ألا تغلبوا على صلاة قبل طلوع الشمس وقبل غروبها ، فافعلوا " ثم قرأ هذه الآية{[19553]} .
وقال الإمام أحمد : حدثنا سفيان بن عيينة ، عن عبد الملك بن عمير ، عن عمارة بن رُوَيْبة قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : " لن يَلجَ النار أحد صلى قبل طلوع الشمس وقبل غروبها " .
رواه مسلم من حديث عبد الملك بن عمير ، به{[19554]} .
وفي المسند والسنن ، عن ابن عمر قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " إن أدنى أهل الجنة منزلة من ينظر في ملكه مسيرة ألف سنة ، ينظر إلى أقصاه كما ينظر إلى أدناه ، وإن أعلاهم منزلة لَمَنْ ينظر إلى الله عز وجل في اليوم مرتين " {[19555]} .
وقوله : { وَمِنْ آنَاءِ اللَّيْلِ فَسَبِّحْ } أي : من ساعاته فتهجد به . وحمله بعضهم على المغرب والعشاء ، { وَأَطْرَافَ النَّهَارِ } في مقابلة آناء الليل ، { لَعَلَّكَ تَرْضَى } كما قال تعالى : { وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضَى } [ الضحى : 5 ] .
وفي الصحيح : " يقول الله : يا أهل الجنة ، فيقولون : لبيك ربنا وسعديك . فيقول : هل رضيتم ؟ فيقولون : وما لنا لا نرضى ، وقد أعطيتنا ما لم تعط أحدا من خلقك ؟ فيقول : إني أعطيكم أفضل من ذلك . فيقولون : وأي شيء أفضل من ذلك ؟ فيقول : أحل عليكم رضواني ، فلا أسخط عليكم بعده أبدًا " {[19556]} .
وفي الحديث [ الآخر ]{[19557]} يقال : " يا أهل الجنة ، إن لكم{[19558]} عند الله موعدا يريد أن يُنْجزكُمُوه . فيقولون : وما هو ؟ ألم يبيض وجوهنا ويثقل موازيننا ويزحزحنا عن النار ، ويدخلنا{[19559]} الجنة ؟ فيكشف الحجاب فينظرون إليه فوالله ما أعطاهم خيرًا من النظر إليه ، وهي{[19560]} الزيادة " {[19561]} .
وقوله : " فاصْبِرْ على ما يَقُولُونَ " يقول جلّ ثناؤه لنبيه : فاصبر يا محمد على ما يقول هؤلاء المكذّبون بآيات الله من قومك لك إنك ساحر ، وإنك مجنون وشاعر ونحو ذلك من القول . " وَسَبّحْ بِحَمْدِ رَبّكَ " يقول : وصل بثنائك على ربك ، وقال : بحمد ربك . والمعنى : بحمدك ربك ، كما تقول : أعجبني ضرب زيد ، والمعنى : ضربي زيدا . وقوله : " قَبْلَ طُلُوعِ الشّمْسِ " وذلك صلاة الصبح وَقَبْلَ غُرُوبِها وهي العصر وَمِنْ آناءِ اللّيْلِ وهي ساعات الليل ، واحدها : إنْيٌ ، على تقدير حمل ومنه قول المنخّل السعدي :
حُلْوٌ وَمُرّ كَعِطْفِ القِدْحِ مُرّتُهُ *** فِي كُلّ إنْيٍ قَضَاهُ اللّيْلُ يَنْتَعِلُ
ويعني بقوله : " وَمِنْ آناءِ اللّيْلِ فَسَبّحْ " صلاة العشاء الاَخرة ، لأنها تصلى بعد مضيّ آناء من الليل .
وقوله : " وأطْرَافَ النّهارِ " : يعني صلاة الظهر والمغرب وقيل : أطراف النهار ، والمراد بذلك الصلاتان اللتان ذكرنا ، لأن صلاة الظهر في آخر طرف النهار الأوّل ، وفي أوّل طرف النهار الاَخر ، فهي في طرفين منه ، والطرف الثالث : غروب الشمس ، وعند ذلك تصلى المغرب ، فلذلك قيل أطراف ، وقد يحمل أن يقال : أريد به طرفا النهار . وقيل : أطراف ، كما قيل صَغَتْ قُلُوبُكما فجمع ، والمراد : قلبان ، فيكون ذلك أوّل طرف النهار الاَخر ، وآخر طرفه الأول .
وبنحو الذي قلنا في ذلك ، قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :
حدثنا محمد بن بشار ، قال : حدثنا عبد الرحمن ، قال : حدثنا سفيان ، عن عاصم ، عن ابن أبي زيد ، عن ابن عباس " وَسَبّحْ بِحَمْدِ رَبّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشّمْسِ وَقَبْلَ غُرُوبِها " قال : الصلاة المكتوبة .
حدثنا تميم بن المنتصر ، قال : حدثنا يزيد بن هارون ، قال : أخبرنا إسماعيل بن أبي خالد ، عن قيس بن أبي حازم ، عن جرير بن عبد الله ، قال : كنا جلوسا عند رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فرأى القمر ليلة البدر فقال : «إنّكُمْ رَاءُونَ رَبّكُمْ كمَا تَرَوْنَ هَذَا ، لا تُضَامُونَ فِي رُؤْيَتِهِ ، فإنِ اسْتَطَعْتمْ أنْ لا تُغْلَبُوا عَلى صَلاةٍ قَبلَ طُلُوعِ الشّمْسِ وَقَبْلَ غُرُوبِها فافْعَلُوا » ثُمّ تَلا : «وسَبّحْ بحَمْدِ رَبّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشّمْسِ وَقَبْلَ غُرُوبِها » .
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني حجاج " وَسَبّحْ بِحَمْدِ رَبّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشّمْسِ وَقَبْلَ غُرُوبِها " قال ابن جريج : العصر ، وأطراف النهار قال : المكتوبة .
حدثنا الحسن ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، عن معمى ، عن قَتادة في قوله : " وَسَبّحْ بِحَمْدِ رَبّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشّمْسِ " قال : هي صَلاة الفجر وَقَبْلَ غُرُوبِها قال : صلاة العصر . وَمِنْ آناءِ اللّيْلِ قال : صلاة المغرب والعشاء . وأطْرافَ النَهارِ قال : صلاة الظهر .
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قوله " وَمِنْ آناءِ اللّيْلِ فَسَبّحْ وأطْرَافَ النّهارِ " : قال : من آناء الليل : العَتَمة . وأطراف النهار : المغرب والصبح .
ونصب قوله وأطْرافَ النهار عطفا على قوله قَبْلَ طُلُوع الشّمْسِ ، لأن معنى ذلك : فسبح بحمد ربك آخر الليل ، وأطراف النهار . وبنحو الذي قلنا في معنى آناءِ اللّيْلِ قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جُرَيج ، قال : قال ابن عباس وَمِن آناءِ اللّيْلِ قال : المصلى من الليل كله .
حدثني يعقوب بن إبراهيم ، قال : حدثنا ابن عُلَية ، عن أبي رجاء ، قال : سمعت الحسن قرأ : وَمِنْ آناء اللّيْلِ قال : من أوّله ، وأوسطه ، وآخره .
حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس ، في قوله : وَمِنْ آناءِ اللّيْلِ فَسَبّحْ قال : آناء الليل : جوف الليل .
وقوله : لَعَلّكَ تَرْضَى يقول : كي ترضى .
وقد اختلفت القرّاء في قراءة ذلك ، فقرأته عامة قرّاء المدينة والعراق : لَعَلّكَ تَرْضَى بفتح التاء . وكان عاصم والكسائي يقرآن ذلك : «لَعَلّكَ تُرْضَى » بضم التاء ، ورُوي ذلك عن أبي عبد الرحمن السّلَميّ ، وكأنّ الذين قرأوا ذلك بالفتح ، ذهبوا إلى معنى : إن الله يعطيك ، حتى ترضى عطيّته وثوابه إياك ، وكذلك تأوّله أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قوله : لَعَلّكَ تَرْضَى قال : الثواب ، ترضى بما يثيبك الله على ذلك .
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جُرَيج لَعَلّكَ تُرْضَى قال : بما تُعْطَى .
وكأن الذين قرأوا ذلك بالضم ، وجهوا معنى الكلام إلى لعلّ الله يرضيك من عبادتك إياه ، وطاعتك له . والصواب من القول في ذلك عندي : أنهما قراءتان ، قد قرأ بكل واحدة منهما علماء من القرّاء ، وهما قراءتان مستفيضتان في قَرَأة الأمصار ، متفقتا المعنى ، غير مختلفتيه وذلك أن الله تعالى ذكره إذا أرضاه ، فلا شكّ أنه يرضى ، وأنه إذا رضي فقد أرضاه الله ، فكل واحدة منهما تدلّ على معنى الأخرى ، فبأيتهما قرأ القارىء فمصيب الصواب .
{ فاصبر على ما يقولون وسبح بحمد ربك } وصل وأنت حامد لربك على هدايته وتوفيقه ، أو نزهة عن الشرك وسائر ما يضيفون إليه من النقائص حامدا له على ما ميزك بالهدى معترفا بأنه المولى للنعم كلها . { قبل طلوع الشمس } يعني الفجر . { وقبل غروبها } يعني الظهر والعصر لأنهما في آخر النهار أو العصر وحده . { ومن آناء الليل } ومن ساعاته جمع أنا بالكسر والقصر ، أو أناء بالفتح والمد . { فسبح } يعني المغرب والعشاء وإنما قدم زمان الليل لاختصاصه بمزيد الفضل فإن القلب فيه أجمع والنفس أميل إلى الاستراحة فكانت العبادة فيه أحمس ولذلك قال سبحانه وتعالى : { إن ناشئة الليل هي أشد وطأ وأقوم قيلا } { وأطراف النهار } تكرير لصلاتي الصبح والمغرب إرادة الاختصاص ، ومجيئه بلفظ الجمع لأمن الإلباس كقوله :
*** ظهراهما مثل ظهور الترسين ***
أو أمر بصلاة الظهر فإنه نهاية النصف الأول من النهار وبداية النصف الآخر وجمعه باعتبار النصفين أو لأن النهار جنس ، أو بالتطوع في أجزاء النهار . { لعلك ترضى } متعلق ب { سبح } أي سبح في هذه الأوقات طمعا أن تنال عند الله ما به ترضي نفسك : وقرأ الكسائي وأبو بكر بالبناء للمفعول أي يرضيك ربك .
فرع على ذلك أمر رسول الله بالصبر على ما يقولون من التكذيب وبالوعيد لتأخير نزوله بهم . والمعنى : فلا تستعجل لهم العذاب واصبر على تكذيبهم ونحوه الشامل له الموصول في قوله { ما يقولون } .
وأمره بأن يقبل على مزاولة تزكية نفسه وتزكية أهله بالصلاة ، والإعراض عما متع الله الكفّار برفاهية العيش ، ووعده بأن العاقبة للمتقين .
فالتسبيح هنا مستعمل في الصلاة لاشتمالها على تسبيح الله وتنزيهه .
والباء في قوله { بحمد ربك } للملابسة ، وهي ملابسة الفاعل لفعله ، أي سبّحْ حامداً ربّك ، فموقع المجرور موقع الحال .
والأوقات المذكورة هي أوقات الصلوات ، وهي وقت الصبح قبل طلوع الشمس ، ووقتان قبل غروبها وهما الظهر والعصر ، وقيل المراد صلاة العصر . وأما الظهر فهي قوله : { وأطراف النهار } كما سيأتي .
و { منْ } في قوله { من آناء الليل } ابتدائية متعلّقة بفعل ( فسبح ) . وذلك وقتا المغرب والعشاء . وهذا كله من المجمل الذي بيّنته السنّة المتواترة .
وأدخلت الفاء على { فسبح } لأنه لما قدم عليه الجار والمجرور للاهتمام شابه تقديم أسماء الشرط المفيدة معنى الزمان ، فعومل الفعل معاملة جواب الشرط كقوله صلى الله عليه وسلم « ففيهما فجاهد » ، أي الأبوين ، وقوله تعالى : { ومن الليل فتهجد به نافلة لك } وقد تقدم في سورة الإسراء ( 79 ) .
ووجه الاهتمام بآناء الليل أن الليل وقت تميل فيه النفوس إلى الدعة فيخشى أن تتساهل في أداء الصلاة فيه .
وآناء الليل : ساعاته . وهو جمع إنْي بكسر الهمزة وسكون النون وياء في آخره . ويقال : إنو بواو في آخره . ويقال : إنىً بألف في آخره مقصوراً ويقال : أناء بفتح الهمزة في أوله وبمد في آخره وجَمْع ذلك على آناء بوزن أفْعال .
وقوله { وأطراف النهار } بالنصب عطف على قوله { قبل طلوع الشمس } ، وطرف الشيء منتهاه . قيل : المراد أول النهار وآخره ، وهما وقتا الصبح والمغرب ، فيكون من عطف البعض على الكل للاهتمام بالبعض ، كقوله { حافظوا على الصلوات والصلاة الوسطى } [ البقرة : 238 ] . وقيل : المراد طرف سير الشمس في قوس الأفق ، وهو بلوغ سيرها وسْط الأفق المعبر عنه بالزوال ، وهما طرفان طرفُ النهاية وطرف الزوال ، وهو انتهاء النصف الأول وابتداء النصف الثاني من القوس ، كما قال تعالى : { وأقم الصلاة طرفي النهار } [ هود : 114 ] . وعلى هذا التفسير يتجه أن يكون ذكر الطرفين معاً لوقت صلاة واحدة أن وقتها ما بين الخروج من أحد الطرفين والدخول في الطرف الآخر وتلك حصة دقيقة .
وعلى التفسيرين فللنهار طرفان لا أطراف ، كما قال تعالى : { وأقم الصلاة طرفي النهار فالجمع في قوله { وأطراف النهار } من إطلاق اسم الجمع على المثنى ، وهو متسع فيه في العربية عند أمن اللبس ، كقوله تعالى : { فقد صغت قلوبكما } [ التحريم : 4 ] .
والذي حسّنه هنا مشاكلة الجمع للجمع في قوله { ومن آناء الليل فسبح } .
وقرأ الجمهور { لعلّك تَرضى } بفتح التاء بصيغة البناء للفاعل ، أي رجاءً لك أن تنال من الثواب عند الله ما ترضَى به نفسُك .
ويجوز أن يكون المعنى : لعل في ذلك المقدار الواجب من الصلوات ما ترضى به نفسك دون زيادة في الواجب رفقاً بك وبأمتك . ويبيّنه قوله : وجعلت قرّة عيني في الصلاة .
وقرأ الكسائي ، وأبو بكر عن عاصم تُرضى بضم التاء أي يرضيك ربّك ، وهو محتمل للمعنيين .