مفاتيح الغيب للرازي - الفخر الرازي  
{فَٱصۡبِرۡ عَلَىٰ مَا يَقُولُونَ وَسَبِّحۡ بِحَمۡدِ رَبِّكَ قَبۡلَ طُلُوعِ ٱلشَّمۡسِ وَقَبۡلَ غُرُوبِهَاۖ وَمِنۡ ءَانَآيِٕ ٱلَّيۡلِ فَسَبِّحۡ وَأَطۡرَافَ ٱلنَّهَارِ لَعَلَّكَ تَرۡضَىٰ} (130)

ثم إنه تعالى لما أخبر نبيه بأنه لا يهلك أحدا قبل استيفاء أجله أمره بالصبر على ما يقولون ولا شبهة في أن المراد أن يصبر على ما يكرهه من أقوالهم ، فيحتمل أن يكون ذلك قول بعضهم : إنه ساحر أو مجنون أو شاعر إلى غير ذلك ، ويحتمل أن يكون المراد تكذيبهم له فيما يدعيه من النبوة ، ويحتمل أيضا تركهم القبول منه لأن كل ذلك مما يغمه ويؤذيه فرغبه تعالى في الصبر وبعثه على الإدامة على الدعاء إلى الله تعالى وإبلاغ ما حمل من الرسالة وأن لا يكون ما يقدمون عليه صارفا له عن ذلك ، ثم قال الكلبي ومقاتل : هذه الآية منسوخة بآية القتال ، ثم قال : { وسبح بحمد ربك } وهو نظير قوله : { واستعينوا بالصبر والصلاة } وفيه مسائل :

المسألة الأولى : { بحمد ربك } في موضع الحال وأنت حامد لربك على أن وفقك للتسبيح وأعانك عليه .

المسألة الثانية : إنما أمر عقيب الصبر بالتسبيح لأن ذكر الله تعالى يفيد السلوة والراحة إذ لا راحة للمؤمنين دون لقاء الله تعالى .

المسألة الثالثة : اختلفوا في التسبيح على وجهين ، فالأكثرون على أن المراد منه الصلاة وهؤلاء اختلفوا على ثلاثة أوجه . أحدها : أن الآية تدل على أن الصلوات الخمس لا أزيد ولا أنقص ، فقال ابن عباس رضي الله عنهما : دخلت الصلوات الخمس فيه ، فقبل طلوع الشمس هو صلاة الفجر ، وقبل غروبها هو الظهر والعصر لأنهما جميعا قبل الغروب ، ومن آناء الليل فسبح المغرب والعشاء الأخيرة ويكون قوله : { وأطراف النهار } كالتوكيد للصلاتين الواقعتين في طرفي النهار وهما صلاة الفجر وصلاة المغرب كما اختصت في قوله : { والصلاة الوسطى } بالتوكيد . القول الثاني : أن الآية تدل على الصلوات الخمس وزيادة ، أما دلالتها على الصلوات الخمس فلأن الزمان إما أن يكون قبل طلوع الشمس أو قبل غروبها ، فالليل والنهار داخلان في هاتين العبارتين ، فأوقات الصلوات الواجبة دخلت فيهما ، بقي قوله : { ومن آناء الليل فسبح وأطراف النهار لعلك ترضى } وأطراف النهار للنوافل . القول الثالث : أنها تدل على أقل من الخمس ، فقوله : قبل طلوع الشمس للفجر ، وقبل غروبها للعصر ، ومن آناء الليل للمغرب والعتمة ، فيبقى الظهر خارجا . والقول الأول أقوى وبالاعتبار أولى . هذا كله إذا حملنا التسبيح على الصلاة ، قال أبو مسلم : لا يبعد حمله على التنزيه والإجلال ، والمعنى اشتغل بتنزيه الله تعالى في هذه الأوقات ، وهذا القول أقرب إلى الظاهر وإلى ما تقدم ذكره ، وذلك لأنه تعالى صبره أولا على ما يقولون من تكذيبه ومن إظهار الشرك والكفر ، والذي يليق بذلك أن يأمر بتنزيهه تعالى عن قولهم حتى يكون دائما مظهرا لذلك وداعيا إليه فلذلك قال ما يجمع كل الأوقات .

المسألة الرابعة : أفضل الذكر ما كان بالليل لأن الجمعية فيه أكثر . وذلك لسكون الناس وهدأ حركاتهم وتعطيل الحواس عن الحركات وعن الأعمال ، ولذلك قال سبحانه وتعالى : { إن ناشئة الليل هي أشد وطأ وأقوم قيلا } وقال : { أمن هو قانت آناء الليل ساجدا وقائما يحذر الآخرة } ولأن الليل وقت السكون والراحة . فإذا صرف إلى العبادة كانت على الأنفس أشق وللبدن أتعب فكانت أدخل في استحقاق الأجر والفضل .

المسألة الخامسة : لقائل أن يقول : النهار له طرفان فكيف قال : { وأطراف النهار } بل الأولى أن يقول كما قال : { وأقم الصلاة طرفي النهار } ، وجوابه من الناس من قال أقل الجمع اثنان فسقط السؤال ، ومنهم من قال : إنما جمع لأنه يتكرر في كل نهار ويعود ، أما قوله تعالى : { لعلك ترضى } ففيه وجوه . أحدها : أن هذا كما يقول الملك الكبير : يا فلان اشتغل بالخدمة فلعلك تنتفع به ويكون المراد إني أوصلك إلى درجة عالية في النعمة ، وهو إشارة إلى قوله : { ولسوف يعطيك ربك فترضى } وقوله : { عسى أن يبعثك ربك مقاما محمودا } ، وثانيها : لعلك ترضى ما تنال من الثواب . وثالثها : لعلك ترضى ما تنال من الشفاعة . وقرأ الكسائي وعاصم : { لعلك ترضى } بضم التاء والمعنى لا يختلف لأن الله تعالى إذا أرضاه فقد رضيه وإذا رضيه فقد أرضاه .