ثم رخص الله تعالى في صلة الذين لم يعادوا المؤمنين ولم يقاتلوهم فقال :{ لا ينهاكم الله عن الذين لم يقاتلوكم في الدين ولم يخرجوكم من دياركم أن تبروهم } أي لا ينهاكم الله عن بر الذين لم يقاتلوكم ، { وتقسطوا إليهم } تعدلوا فيهم بالإحسان والبر ، { إن الله يحب المقسطين } قال ابن عباس : نزلت في خزاعة كانوا قد صالحوا النبي صلى الله عليه وسلم على أن لا يقاتلوه ولا يعينوا عليه أحداً ، فرخص الله في برهم . وقال عبد الله بن الزبير : نزلت في أسماء بنت أبي بكر ، وذلك أن أمها قتيلة بنت عبد العزى قدمت عليها بالمدينة بهدايا ، ضباباً وأقطاً وسمناً ، وهي مشركة ، فقالت أسماء : لا أقبل منك هدية ولا تدخلي علي بيتي حتى أستأذن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فسألت رسول الله صلى الله عليه وسلم فأنزل الله هذه الآية ، فأمرها رسول الله صلى الله عليه وسلم أن تدخلها منزلها وتقبل هديتها وتكرمها وتحسن إليها .
أخبرنا عبد الواحد المليحي ، أنبأنا أحمد بن عبد الله النعيمي ، أنبأنا محمد ابن يوسف ، حدثنا محمد بن إسماعيل ، حدثنا قتيبة ، حدثنا حاتم عن هشام ابن عروة عن أبيه عن أسماء بنت أبي بكر رضي الله عنهما قالت : " قدمت علي أمي وهي مشركة في عهد قريش إذ عاهدوا رسول الله صلى الله عليه وسلم ومدتهم مع أبيها فاستفتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فقلت : يا رسول الله إن أمي قدمت علي وهي راغبة أفأصلها ؟ قال : " صليها " . وروي عن ابن عيينة قال : فأنزل الله فيها ، { لا ينهاكم الله عن الذين لم يقاتلوكم في الدين } .
ثم بين - سبحانه - للمؤمنين القاعدة التى يسيرون عليها فى مودتهم وعداوتهم وصلتهم ومقاطعتهم . فقال - تعالى - : { لاَّ يَنْهَاكُمُ الله عَنِ الذين لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدين وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِّن دِيَارِكُمْ أَن تَبَرُّوهُمْ وتقسطوا إِلَيْهِمْ إِنَّ الله يُحِبُّ المقسطين } .
وقد ذكر المفسرون فى سبب نزول هذه الآية والتى بعدها روايات منها ، ما أخرجه البخارى وغيره " عن أسماء بنت أبى بكر الصديق قالت : أتتنى أمى راغبة - أى : فى عطائى - وهى مشركة فى عهد قريش . . . فسألت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أأصلها ؟ فأنزل الله - تعالى - : { لاَّ يَنْهَاكُمُ الله } .
فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : " نعم صلي أمك " " .
وروى الإمام أحمد وجماعة عن عبد الله بن الزبير قال : قدمت قتيلة بنت عبد العزى - وهى مشركة - على ابنتها اسماء بنت أبى بكر بهدايا ، فأبت أسماء أن تقبل هديتها ، أو تدخلها بيتها ، حتى أرسلت إلى عائشة ، لكى تسأل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن هذا ، فسألته ، فأنزل الله - تعالى - : { لاَّ يَنْهَاكُمُ الله عَنِ الذين لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدين } .
وقال الحسن وأبو صالح : نزلت هذه الآية فى قبائل من العرب كانوا قد صالحوا النبى - صلى الله عليه وسلم - على أن لا يقاتلوه ، ولا يعينوا عليه .
وقال مجاهد : نزلت فى قوم بمكة آمنوا ولم يهاجروا ، فكان المهاجرون والأنصار يتحرجون من برهم ، لتركهم فرض الهجرة .
قال الآلوسى - بعد أن ذكر هذه الروايات وغيرهما - : { والأكثرون على أنها فى كفرة اتصفوا بما فى حيز الصلة . . .
والذى تطمئن إليه النفس أن هاتين الآيتين ، ترسمان للمسلمين المنهج الذى يجب أن يسيروا عليه مع غيرهم ، وهو أن من لم يقاتلنا من الكفار ، ولم يعمل أو يساعد على إلحاق الأذى والضرر بنا ، فلا يأس من بره وصلته .
ومن قاتلنا ، وحاول إيذاءنا منهم . فعلينا أن نقطع صلتنا به ، وأن نتخذ كافة الوسائل لردعه وتأديبه ، حتى لا يتجاوز حدودمه معنا .
والمعنى : { لاَّ يَنْهَاكُمُ الله } تعالى - أيها المؤمنون - { عَنِ } مودة وصلى الكافرين { الذين لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدين وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِّن دِيَارِكُمْ } أي : لم يقاتلوكم من أجل أنكم مسلمون ، ولم يحاولوا إلحاق أى أذى بكم ، كالعمل على إخراجكم من دياركم .
لا ينهاكم الله - تعالى - عن { أَن تَبَرُّوهُمْ } أي : عن أن تحسنوا معاملتهم وتكرموهم . وعن أن { تقسطوا إِلَيْهِمْ } أى تقضوا إليهم بالعدل ، وتعاملوهم بمثل معاملتهم لكم ، ولا تجوروا عليهم فى حكم من الأحكام .
{ إِنَّ الله يُحِبُّ المقسطين } أي العادلين فى أقوالهم وأفعالهم وأحكامهم ، الذين ينصفون الناس ، ويعطونهم العدل من أنفسهم ، ويحسنون إلى من أحسن إليهم .
وإلى أن يتحقق وعد الله الذي دل عليه لفظ الرجاء رخص الله لهم في موادة من لم يقاتلوهم في الدين ولم يخرجوهم من ديارهم . ورفع عنهم الحرج في أن يبروهم ، وأن يتحروا العدل في معاملاتهم معهم فلا يبخسونهم من حقوقهم شيئا . ولكنه نهى أشد النهي عن الولاء لمن قاتلوهم في الدين وأخرجوهم من ديارهم وساعدوا على إخراجهم . وحكم على الذين يتولونهم بأنهم هم الظالمون . . ومن معاني الظلم الشرك بالرجوع إلى قوله تعالى : ( إن الشرك لظلم عظيم ) . . وهو تهديد رهيب يجزع منه المؤمن ، ويتقي أن يدخل في مدلوله المخيف !
وتلك القاعدة في معاملة غير المسلمين هي أعدل القواعد التي تتفق مع طبيعة هذا الدين ووجهته ونظرته إلى الحياة الإنسانية ، بل نظرته الكلية لهذا الوجود ، الصادر عن إله واحد ، المتجه إلى إله واحد ، المتعاون في تصميمه اللدني وتقديره الأزلي ، من وراء كل اختلاف وتنويع .
وهي أساس شريعته الدولية ، التي تجعل حالة السلم بينه وبين الناس جميعا هي الحالة الثابتة ، لا يغيرها إلا وقوع الاعتداء الحربي وضرورة رده ، أو خوف الخيانة بعد المعاهدة ، وهي تهديد بالاعتداء ؛ أو الوقوف بالقوة في وجه حرية الدعوة وحرية الاعتقاد . وهو كذلك اعتداء . وفيما عدا هذا فهي السلم والمودة والبر والعدل للناس أجمعين .
ثم هي القاعدة التي تتفق مع التصور الإسلامي الذي يجعل القضية بين المؤمنين ومخالفيهم هي قضية هذه العقيدة دون غيرها ؛ ويجعل القيمة التي يضن بها المؤمن ويقاتل دونها هي قضية العقيدة وحدها . فليس بينهم وبين الناس ما يتخاصمون عليه ويتقاتلون إلا حرية الدعوة وحرية الاعتقاد ، وتحقيق منهج الله في الأرض ، وإعلاء كلمة الله .
وهذا التوجيه يتفق مع اتجاه السورة كلها إلى إبراز قيمة العقيدة ، وجعلها هي الراية الوحيدة التي يقف تحتها المسلمون . فمن وقف معهم تحتها فهو منهم ، ومن قاتلهم فيها فهو عدوهم . ومن سالمهم فتركهم لعقيدتهم ودعوتهم ، ولم يصد الناس عنها ، ولم يحل بينهم وبين سماعها ، ولم يفتن المؤمنين بها ، فهو مسالم لا يمنع الإسلام من البر به والقسط معه .
إن المسلم يعيش في هذه الأرض لعقيدته ، ويجعلها قضيته مع نفسه ومع الناس من حوله . فلا خصومة على مصلحة ، ولا جهاد في عصبية - أي عصبية - من جنس أو أرض أو عشيرة أو نسب . إنما الجهاد لتكون كلمة الله هي العليا ، ولتكون عقيدته هي المنهج المطبق في الحياة .
ولقد نزلت بعد ذلك سورة التوبة وفيها ( براءة من الله ورسوله إلى الذين عاهدتم من المشركين . . الخ ) . . فانتهت بهذا حالة المعاهدة والموادعة بين المسلمين والمشركين كافة . بعد مهلة أربعة أشهر لأصحاب المعاهدات غير المسماة الأجل ، ومهلة إلى انتهاء الأجل لأصحاب المعاهدات المسماة . ولكن هذا إنما كان بعدما أثبتت التجارب أن القوم لا يرعون عهودهم مع المسلمين إلا ريثما تسنح لهم الفرصة لنقضها وهم الرابحون ! فانطبقت القاعدة الأخرى : ( وإما تخافن من قوم خيانة فانبذ إليهم على سواء إن الله لا يحب الخائنين ) . . وكان هذا ضرورة لتأمين القاعدة الإسلامية - وهي حينئذ شبه الجزيرة كلها - من المتربصين بالمسلمين من أعدائهم المعايشين لهم من المشركين وأهل الكتاب الذين تكررت غدراتهم ونقضهم للعهود . وهي حالة اعتداء في صميمها . تنطبق عليها حالة الاعتداء . وبخاصة أن الأمبراطوريتين المحيطتين بأرض الإسلام قد بدأتا تجمعان له وتشعران بخطره ، وتؤلبان عليه الإمارات العربية المتاخمة الخاضعة للدولتين الرومانية والفارسية . فلم يبق بد من تطهير المعسكر الإسلامي من بقية أعدائه قبل الالتحام في المعارك الخارجية المتوقعة يومذاك .
وقوله تعالى : { لا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ } أي لا ينهاكم عن الإحسان إلى الكفرة الذين لا يقاتلونكم في الدين ، كالنساء والضعفة منهم ، { أَنْ تَبَرُّوهُمْ } أي : تحسنوا إليهم { وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ } أي : تعدلوا { إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ } .
قال الإمام أحمد : حدثنا أبو معاوية ، حدثنا هشام بن عروة ، عن فاطمة بنت المنذر ، عن أسماء - هي بنت أبي بكر ، رضي الله عنهما - قالت : قَدَمت أمي وهي مشركة في عهد قريش إذ عاهدوا ، فأتيتُ النبي{[28676]} صلى الله عليه وسلم فقلت : يا رسول الله ، إن أمي قدمت وهي راغبة ، أفأصلها ؟ قال : " نعم ، صلي أمك " أخرجاه{[28677]} .
وقال الإمام أحمد : حدثنا عارم ، حدثنا عبد الله بن المبارك ، حدثنا مصعب بن ثابت ، حدثنا عامر بن عبد الله بن الزبير ، عن أبيه قال : قدمت قُتَيلة على ابنتها أسماء بنت أبي بكر بهدايا : صِنَاب وأقط{[28678]} وسمن ، وهي مشركة ، فأبت أسماء أن تقبل هديتها تدخلها بيتها ، فسألت عائشة النبي صلى الله عليه وسلم ، فأنزل الله ، عز وجل : { لا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ } إلى آخر الآية ، فأمرها أن تقبل هديتها ، وأن تدخلها بيتها .
وهكذا رواه ابن جرير وابن أبي حاتم ، من حديث مصعب بن ثابت ، به {[28679]} . وفي رواية لأحمد وابن{[28680]} جرير : " قُتَيلة بنت عبد العزي بن [ عبد ] {[28681]} أسعد ، من بني مالك بن حسل{[28682]} . وزاد ابن أبي حاتم : " في المدة التي كانت بين قريش ، ورسول الله صلى الله عليه وسلم " .
وقال أبو بكر أحمد بن عمرو بن عبد الخالق البزار : حدثنا عبد الله بن شبيب ، حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة ، حدثنا أبو قتادة العدوي ، عن ابن أخي الزهري ، عن الزهري ، عن عروة ، عن عائشة وأسماء أنهما قالتا : قدمت علينا أمنا المدينة ، وهي مشركة ، في الهدنة التي كانت بين قريش وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقلنا : يا رسول الله ، إن أمنا قدمت علينا المدينة راغبةً ، أفنصلها ؟ قال : " نعم ، فَصِلاها " {[28683]} .
ثم قال : وهذا الحديث لا نعلمه يروي عن الزهري ، عن عروة ، عن عائشة إلا من هذا الوجه .
قلت : وهو منكر بهذا السياق ؛ لأن أم عائشة هي أم رومان ، وكانت مسلمة مهاجرة وأم أسماء غيرها ، كما هو مصرح باسمها في هذه الأحاديث المتقدمة والله أعلم .
وقوله : { إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ } تقدم تفسير ذلك في سورة " الحجرات " ، وأورد الحديث الصحيح : ( المقسطون على منابر من نور عن يمين العرش ، الذين يعدلون في حكمهم ، وأهاليهم ، وما وَلُوا ) {[28684]} .
القول في تأويل قوله تعالى : { لاّ يَنْهَاكُمُ اللّهُ عَنِ الّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مّن دِيَارِكُمْ أَن تَبَرّوهُمْ وَتُقْسِطُوَاْ إِلَيْهِمْ إِنّ اللّهَ يُحِبّ الْمُقْسِطِينَ } .
يقول تعالى ذكره : { لا يَنْهاكُمُ اللّهُ عَنِ الّذِينَ لَمْ يُقاتِلُوكُمْ فِي الدّينِ }من أهل مكة { وَلم يُخْرِجوكُمْ مِنْ دِيارِكُمْ أنْ تَبرّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إلَيْهِمْ }يقول : وتعدلوا فيهم بإحسانكم إليهم ، وبرّكم بهم .
واختلف أهل التأويل في الذين عُنُوا بهذه الآية ، فقال بعضهم : عُني بها : الذين كانوا آمنوا بمكة ولم يهاجروا ، فأذن الله للمؤمنين ببرّهم والإحسان إليهم .
حدثنا محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، قال : حدثنا عيسى وحدثني الحارث ، قال : حدثنا الحسن ، قال : حدثنا ورقاء ، جميعا عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، في قوله : لا يَنْهاكُمْ اللّهُ عَن الّذِينَ لَم يُقَاتِلُوكُم فِي الدّينِ أن تستغفروا لهم ، و وتبروّهم وتقسطوا إليهم قال : وهم الذين آمنوا بمكة ولم يهاجروا . وقال آخرون : عُنِي بها من غير أهل مكة مَنْ لم يهاجر .
حدثني محمد بن إبراهيم الأنماطيّ ، قال : حدثنا هارون بن معروف ، قال : حدثنا بشر بن السري ، قال : حدثنا مصعب بن ثابت ، عن عمه عامر بن عبد الله بن الزبير ، عن أبيه ، قال : نزلت في أسماء بنت أبي بكر ، وكانت لها أمّ في الجاهلية يقال لها قُتَيلة ابنة عبد العُزى ، فأتتها بهدايا وصِنَاب وأقط وَسمْن ، فقالت : لا أقبل لك هدية ، ولا تدخلي عليّ حتى يأذن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فذكرت ذلك عائشة لرسول الله صلى الله عليه وسلم ، فأنزل الله لا يَنْهاكُمْ اللّهُ عَنِ الّذِينَ لَمْ يُقاتِلُوكُمْ فِي الدّينِ . . . إلى قوله : المُقْسِطِينَ .
قال : ثنا إبراهيم بن الحجاج ، قال : حدثنا عبد الله بن المبارك ، قال : حدثنا مصعب بن ثابت ، عن عامر بن عبد الله بن الزبير ، عن أبيه ، قال : قَدِمتْ قُتَيلة بنت عبد العُزى بن سعد من بني مالك بن حِسْل على ابنتها أسماء بنت أبي بكر ، فذكر نحوه .
وقال آخرون : بل عُنِي بها من مشركي مكة من لم يقاتل المؤمنين ، ولم يخرجوهم من ديارهم قال : ونسخ الله ذلك بعدُ بالأمر بقتالهم .
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد : وسألته عن قول الله عزّ وجلّ : لا يَنْهاكُمُ اللّهُ . . . الآية ، فقال : هذا قد نسخ ، نَسَخه ، القتال ، أمروا أن يرجعوا إليهم بالسيوف ، ويجاهدوهم بها ، يضربونهم ، وضرب الله لهم أجل أربعة أشهر ، إما المذابحة ، وإما الإسلام .
حدثنا ابن عبد الأعلى ، قال : حدثنا ابن ثور ، عن معمر ، عن قتادة ، في قوله { لا يَنْهاكُمُ اللّهُ . . . }الآية ، قال : نسختها { اقْتُلُوا المُشْرِكينَ حَيْثُ وَجَدتُمُوهُمْ } .
وأولى الأقوال في ذلك بالصواب قول من قال : عُنِي بذلك : لا ينهاكم الله عن الذين لم يقاتلوكم في الدين ، من جميع أصناف الملل والأديان أن تبرّوهم وتصلوهم ، وتقسطوا إليهم ، إن الله عزّ وجلّ عمّ بقوله { الّذِينَ لَمْ يُقاتلُوكُمْ فِي الدّينِ ولَمْ يُخْرِجُوكمْ مِنْ دِيارِكُمْ }جميع من كان ذلك صفته ، فلم يخصُصْ به بعضا دون بعض ، ولا معنى لقول من قال : ذلك منسوخ ، لأن برّ المؤمن من أهل الحرب ممن بينه وبينه قرابة نسب ، أو ممن لا قرابة بينه وبينه ولانسب غير محرّم ولا منهى عنه إذا لم يكن في ذلك دلالة له ، أو لأهل الحرب على عورة لأهل الإسلام ، أو تقوية لهم بكُراع أو سلاح . قد بين صحة ما قلنا في ذلك ، الخبر الذي ذكرناه عن ابن الزبير في قصة أسماء وأمها .
وقوله : { إنّ اللّهُ يُحِبّ المُقْسِطِينَ }يقول : إن الله يحبّ المنصفين الذين ينصفون الناس ، ويعطونهم الحقّ والعدل من أنفسهم ، فيبرّون من برّهم ، ويُحْسنون إلى من أحسن إليهم .
اختلف الناس في هؤلاء الذين لم ينه عنهم أن يبروا من هم . فقال مجاهد : هم المؤمنون من أهل مكة الذين آمنوا ولم يهاجروا وكانوا لذلك في رتبة سوء لتركهم فرض الهجرة ، وقال آخرون : أراد المؤمنين التاركين للهجرة كانوا من أهل مكة ومن غيرها . وقال الحسن وأبو صالح : أراد خزاعة وبني الحارث بن كعب ، وقبائل من العرب كفارا إلا أنهم كانوا مظاهرين للنبي صلى الله عليه وسلم محبين فيه وفي ظهوره ، ومنهم كنانة وبنو الحارث بن عبد مناف ومزينة ، وقال قوم : أراد من كفار قريش من لم يقاتل : ولا أخرج ولا أظهر سوءاً ، وعلى هذين القولين فالآية منسوخة بالقتال ، وقال عبد الله بن الزبير : أراد النساء والصبيان من الكفرة ، وقال إن الآية نزلت بسبب أم أسماء حين استأذنت النبي صلى الله عليه وسلم في برها وصلتها فأذن لها ، وكانت المرأة خالتها فيما روي فسمتها في حديثها أماً ، وقال أبو جعفر بن النحاس والثعلبي : أراد المستضعفين من المؤمنين الذين لم يستطيعوا الهجرة ، وهذا قول ضعيف . وقال مرة الهمداني وعطية العوفي : نزلت في قوم من بني هاشم ، منهم العباس ، قال وقتادة نسختها { فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم }{[11049]} [ التوبة : 5 ] . وقوله تعالى : { أن تبروهم } بدل ، وهذا هو بدل الاشتمال ، والإقساط : العدل .
استئناف هو منطوق لمفهوم الأوصاف التي وُصف بها العدوّ في قوله تعالى : { وقد كفروا بما جاءكم من الحق يخرجون الرسول وإياكم } [ الممتحنة : 1 ] وقوله : { إن يثقفوكم يكونوا لكم أعداء ويبسطوا إليكم أيديهم وألسنتهم بالسوء } [ الممتحنة : 2 ] ، المسوقة مساق التعليل للنهي عن اتخاذ عدوّ الله أولياء ، استثنى الله أقواماً من المشركين غير مضمرين العداوة للمسلمين وكان دينهم شديد المنافرة مع دين الإِسلام .
فإن نظرنا إلى وصف العدوّ من قوله : { لا تتخذوا عدوي وعدوكم } وحملناه على حالة معاداة من خالفهم في الدين ونظرنا مع ذلك إلى وصف { يخرجون الرسول وإياكم } ، كان مضمون قوله : { لا ينهاكم الله عن الذين لم يقاتلوكم في الدين } إلى آخره ، بياناً لمعنى العداوة المجعولة علة للنهي عن الموالاة وكان المعنى أن مناط النهي هو مجموع الصفات المذكورة لا كل صفة على حيالها .
وإن نظرنا إلى أن وصف العدوّ هو عدوّ الدين ، أي مخالفة في نفسه مع ضميمة وصف { وقد كفروا بما جاءكم من الحق } ، كان مضمون { لا ينهاكم الله } إلى آخره تخصيصاً للنهي بخصوص أعداء الدين الذين لم يقاتلوا المسلمين لأجل الدين ولم يُخرجوا المسلمين من ديارهم .
وأيَّاً ما كان فهذه الجملة قد أخرجت من حكم النهي القومَ الذين لم يقاتلوا في الدين ولم يُخرجوا المسلمين من ديارهم ، واتصال هذه الآية بالآيات التّي قبلها يجعل الاعتبارين سواء فدخل في حكم هذه الآية أصناف وهم حلفاءُ النبي صلى الله عليه وسلم مثل خُزاعة ، وبني الحارث بن كعب بن عبد مناةَ بن كنانة ، ومزينة كان هؤلاء كلهم مظاهرين النبي صلى الله عليه وسلم ويحبون ظهوره على قريش ، ومثل النساء والصبيان من المشركين ، وقد جاءت قُتيلة ( بالتصغير ويقال لها : قتلة ، مكبراً ) بنت عبد العُزى من بني عامر بن لؤي من قريش وهي أم أسماء بنت أبي بكر الصديق إلى المدينة زائرةً ابنتها وقتيلة يومئذٍ مشركة في المدة التي كانت فيها المهادنة بين رسول الله صلى الله عليه وسلم وبين كفار قريش بعد صلح الحديبية ( وهي المدة التي نزلت فيها هذه السورة ) فسألت أسماءُ رسول الله صلى الله عليه وسلم أتصِل أمها ؟ قال : « نعم صِلي أُمَّكِ » ، وقد قيل : إن هذه الآية نزلت في شأنها .
وقوله : { أن تبروهم } بدل اشتمال من { الذين لم يقاتلوكم في الدين } الخ ، لأن وجود ضمير الموصول في المبدل وهو الضمير المنصوب في { أن تبروهم } يجعل بر المسلمين بهم مما تشتمل عليه أحوالهم . فدخل في الذين لم يقاتلوا المسلمين في الدين نَفر من بني هاشم منهم العباس بن عبد المطلب ، والذينَ شملتهم أحكام هذه الآية كلّهم قد قيل إنهم سبب نزولها وإنما هو شمول وما هو بسبب نزول .
والبرّ : حسن المعاملة والإِكرامُ . وهو يتعدى بحرف الجر ، يقال : برّ به ، فتعديته هنا بنفسه على نزع الخافض .
والقسط : العدل . وضمن { تقسطوا } معنى تُفضوا فعدّي ب ( إلى ) وكان حقه أن يعدَّى باللام . على أن اللام و ( إلى ) يتعاقبان كثيراً في الكلام ، أي أن تعاملوهم بمثل ما يعاملونكم به من التقرب ، فإن معاملة أحد بمثل ما عامل به من العدل .
وجملة و { إن الله يحب المقسطين } تذييل ، أي يحب كل مقسط فيدخل الذين يقسطون للذين حالفوهم في الدين إذا كانوا مع المخالفة محسنين معاملتهم .
وعن ابن وهب قال : سألت ابن زيد عن قوله تعالى : { لا ينهاكم الله } الآية قال : نسخها القتال ، قال الطبري : لا معنى لقول من قال : ذلك منسوخ ، لأن بر المؤمن بمن بينه وبينه قرابة من أهل الحرب أو بمن لا قرابة بينه وبينه غير محرم إذا لم يكن في ذلك دلالة على عورة لأهل الإِسلام . اه .
ويؤخذ من هذه الآية جواز معاملة أهل الذمة بالإِحسان وجواز الاحتفاء بأعيانهم .