المنتخب في تفسير القرآن الكريم للمجلس الأعلى للشؤون الإسلامية - المنتخب [إخفاء]  
{وَٱبۡتَلُواْ ٱلۡيَتَٰمَىٰ حَتَّىٰٓ إِذَا بَلَغُواْ ٱلنِّكَاحَ فَإِنۡ ءَانَسۡتُم مِّنۡهُمۡ رُشۡدٗا فَٱدۡفَعُوٓاْ إِلَيۡهِمۡ أَمۡوَٰلَهُمۡۖ وَلَا تَأۡكُلُوهَآ إِسۡرَافٗا وَبِدَارًا أَن يَكۡبَرُواْۚ وَمَن كَانَ غَنِيّٗا فَلۡيَسۡتَعۡفِفۡۖ وَمَن كَانَ فَقِيرٗا فَلۡيَأۡكُلۡ بِٱلۡمَعۡرُوفِۚ فَإِذَا دَفَعۡتُمۡ إِلَيۡهِمۡ أَمۡوَٰلَهُمۡ فَأَشۡهِدُواْ عَلَيۡهِمۡۚ وَكَفَىٰ بِٱللَّهِ حَسِيبٗا} (6)

6- واختبروا عقول اليتامى وتبينوا أحوالهم ومعرفتهم بالتصرف قبل البلوغ ، حتى إذا أصبحوا صالحين للزواج وتبينتم رشدهم وسدادهم فادفعوا إليهم أموالهم ، ولا تأكلوها مسرفين مستعجلين الانتفاع بها قبل أن يبلغوا وتُردُّ إليهم . ومن كان من الأوصياء عليهم غنياً فليتعفف عن أموال اليتامى ، ومن كان فقيراً فليكتف بقدر ما يكفيه عُرْفاً ، فإذا سلمتموهم أموالهم فأشهدوا عليهم ، والله من ورائكم هو المحاسب والمراقب ، وكفى به حسيباً ومراقباً .

 
معالم التنزيل في تفسير القرآن الكريم للبغوي - البغوي [إخفاء]  
{وَٱبۡتَلُواْ ٱلۡيَتَٰمَىٰ حَتَّىٰٓ إِذَا بَلَغُواْ ٱلنِّكَاحَ فَإِنۡ ءَانَسۡتُم مِّنۡهُمۡ رُشۡدٗا فَٱدۡفَعُوٓاْ إِلَيۡهِمۡ أَمۡوَٰلَهُمۡۖ وَلَا تَأۡكُلُوهَآ إِسۡرَافٗا وَبِدَارًا أَن يَكۡبَرُواْۚ وَمَن كَانَ غَنِيّٗا فَلۡيَسۡتَعۡفِفۡۖ وَمَن كَانَ فَقِيرٗا فَلۡيَأۡكُلۡ بِٱلۡمَعۡرُوفِۚ فَإِذَا دَفَعۡتُمۡ إِلَيۡهِمۡ أَمۡوَٰلَهُمۡ فَأَشۡهِدُواْ عَلَيۡهِمۡۚ وَكَفَىٰ بِٱللَّهِ حَسِيبٗا} (6)

قوله تعالى : { وابتلوا اليتامى } ، الآية نزلت في ثابت بن رفاعة وفي عمه ، وذلك أن رفاعة توفي وترك ابنه ثابتاً وهو صغير فجاء عمه إلى النبي صلى الله عليه وسلم وقال : إن ابن أخي يتيم في حجري ، فما يحل لي من ماله ؟ ومتى أدفع إليه ماله ؟ فأنزل الله تعالى هذه الآية { وابتلوا اليتامى } أي اختبروهم في عقولهم ودينهم وحفظهم أموالهم .

قوله تعالى : { حتى إذا بلغوا النكاح } . أي : مبلغ الرجال والنساء .

قوله تعالى : { فإن آنستم }أبصرتم .

قوله تعالى : { منهم رشداً } ، قال المفسرون : يعني عقلاً وصلاحاً في الدين ، وحفظاً للمال ، وعلماً بما يصلحه ، وقال سعيد بن جبير ومجاهد والشعبي : لا يدفع إليه ماله وإن كان شيخاً حتى يؤنس منه رشدا . والابتلاء يختلف باختلاف أحوالهم ، فإن كان ممن يتصرف في السوق فيدفع الولي إليه شيئاً يسيراً من المال وينظر في تصرفه ، وإن كان ممن لا يتصرف في السوق فيختبره في نفقة داره والإنفاق على عبيده وأجرائه ، ويختبر المرأة في أمر بيتها ، وحفظ متاعها ، وغزلها واستغزالها ، فإذا رأى حسن تدبيره ، وتصرفه في الأمور مراراً يغلب على القلب رشده دفع المال إليه . واعلم أن الله تعالى علق زوال الحجر عن الصغير وجواز دفع المال إليه بشيئين : بالبلوغ والرشد ، والبلوغ يكون بأحد أشياء أربعة : اثنان يشترك فيهما الرجال والنساء واثنان مختصان بالنساء ، فما يشترك فيه الرجال والنساء أحدهما السن والثاني الاحتلام ، أما السن : فإذا استكمل المولود خمس عشرة سنة حكم ببلوغه غلاماً كان أو جارية ، لما أخبرنا عبد الوهاب بن محمد الخطيب ، أنا عبد العزيز بن أحمد الخلال ، أنا أبو العباس الأصم ، أنا الربيع ، أنا الشافعي ، أخبرنا سفيان ، عن عيينة عن عبد الله بن عمر ، عن نافع ، عن ابن عمر رضي الله عنهما قال : عرضت على رسول الله صلى الله عليه وسلم عام أحد ، وأنا ابن أربع عشرة سنة ، فردني ثم عرضت عليه عام الخندق ، وأنا ابن خمس عشرة سنة ، فأجازني . قال نافع : فحدثت بهذا الحديث عمر بن عبد العزيز ، فقال : هذا فرق بين المقاتلة والذرية ، وكتب أن يفرض لابن خمس عشرة في المقاتلة ومن لم يبلغها في الذرية ، وهذا قول أكثر أهل العلم . وقال أبو حنيفة رحمه الله تعالى : " بلوغ الجارية باستكمال سبع عشرة ، وبلوغ الغلام باستكمال ثماني عشرة سنة " وأما الاحتلام فنعني به : نزول المني ، سواء كان بالاحتلام أو الجماع ، أو غيرهما ، فإذا حدث ذلك بعد استكمال تسع سنين من أيهما كان حكم ببلوغه لقوله تعالى : { وإذا بلغ الأطفال منكم الحلم فليستأذنوا } وقال النبي صلى الله عليه وسلم لمعاذ في الجزية حين بعثه إلى اليمن : ( خذ من كل حالم دينارا ) وأما الإنبات : وهو نبات الشعر الخشن حول الفرج ، فهو بلوغ في أولاد المشركين ، لما روي عن عطية القرظي قال : كنت من سبي قريظة فكانوا ينظرون فمن أنبت الشعر قتل ، ومن لم ينبت لم يقتل ، فكنت ممن لم ينبت . وهل يكون ذلك بلوغاً في أولاد المسلمين ؟ فيه قولان : أحدهما : يكون بلوغاً كما في أولاد الكفار ، والثاني : لا يكون بلوغاً ، لأنه لا يمكن الوقوف على مواليد المسلمين بالرجوع إلى آبائهم ، وفي الكفار لا يوقف على مواليدهم ، ولا يقبل قول آبائهم فيه لكفرهم ، فجعل الإنبات للذي هو إمارة البلوغ بلوغاً في حقهم . وأما ما يختص بالنساء فالحيض ، والحبل ، فإذا حاضت المرأة بعد استكمال تسع سنين يحكم ببلوغها وكذلك إذا ولدت يحكم ببلوغها قبل الوضع بستة أشهر لأنها أقل مدة الحمل ، وأما الرشد : فهو أن يكون مصلحاً في دينه وماله ، والصلاح في الدين هو أن يكون مجتنباً عن الفواحش والمعاصي التي تسقط العدالة ، والصلاح في المال هو أن لا يكون مبذراً ، والتبذير : هو أن ينفق ماله فيما لا يكون فيه محمدة دنيوية ولا مثوبة أخروية ، أو لا يحسن التصرف فيها ، فيغبن في البيوع ، فإذا بلغ الصبي وهو مفسد في دينه وغير مصلح لماله ، دام الحجر عليه ، ولا يدفع إليه المال ، ولا ينفذ تصرفه ، وعند أبي حنيفة رضي الله عنه إذا كان مصلحاً لماله زال الحجر عنه ، وإن كان مفسداً في دينه ، وإذا كان مفسداً لماله قال : لا يدفع إليه حتى يبلغ خمساً وعشرين سنة ، غير أن تصرفه يكون نافذاً قبله ، والقرآن حجة لمن استدام الحجر عليه ، لأن الله تعالى قال : { حتى إذا بلغوا النكاح فإن آنستم منهم رشداً }

قوله تعالى : { فادفعوا إليهم أموالهم } أمر بدفع المال إليهم بعد البلوغ وإيناس الرشد . والفاسق لا يكون رشيداً ، وبعد بلوغه خمساً وعشرين سنة وهو مفسد لماله بالاتفاق غير رشيد ، فوجب أن لا يجوز دفع المال إليه كما قبل بلوغ هذا السن ، وإذا بلغ وأونس منه الرشد زال الحجر عنه ودفع إليه المال رجلاً كان أو امرأة تزوج أو لم يتزوج . وعند مالك رحمه الله تعالى : إن كانت امرأة لا يدفع المال إليها ما لم تتزوج فإذا تزوجت دفع إليها ولكن لا ينفذ تصرفها إلا بإذن الزوج ما لم تكبر وتجرب ، وإذا بلغ الصبي رشيداً وزال الحجر عنه ثم عاد سفيهاًنظر ، فإن عاد مبذراً لماله حجر عليه ، وإن عاد مفسداً في دينه فعلى وجهين : أحدهما يعاد الحجر عليه كما يستدام الحجر عليه إذا بلغ بهذه الصفة ، والثاني : لا يعاد لأن حكم الدوام أقوى من حكم الابتداء . وعند أبي حنيفة رحمه الله تعالى ، لا حجر على الحر العاقل البالغ بحال ، والدليل على إثبات الحجر من اتفاق الصحابة رضي الله عنهم ما روي عن هشام ابن عروة عن أبيه أن عبد الله بن جعفر ابتاع أرضاً سبخة بستين ألف درهم فقال علي : لآتين عثمان ، فلأحجرن عليك ، فأتى ابن جعفر الزبير فأعلمه بذلك فقال الزبير : أنا شريكه ، فقال عثمان : كيف أحجر على رجل في بيع شريكه في الزبير ؟ فكان ذلك اتفاقاً منهم على جواز الحجر حتى احتال الزبير في دفعه .

قوله تعالى : { ولا تأكلوها } . يا معشر الأولياء .

قوله تعالى : { إسرافاً } . بغير حق .

قوله تعالى : { وبداراً } . أي مبادرة .

قوله تعالى : { أن يكبروا } . و " أن " في محل النصب . يعني : لا تبادروا كبرهم ورشدهم حذراً أن يبلغوا فيلزمكم تسليمها إليهم ، ثم بين ما يحل لهم من مالهم .

قوله تعالى : { ومن كان غنياً فليستعفف } . أي ليمتنع من مال اليتيم فلا يرزؤه قليلاً ولا كثيراً ، والعفة : الامتناع مما لا يحل .

قوله تعالى : { ومن كان فقيراً } . محتاجاً إلى مال اليتيم وهو يحفظه ويتعهده

قوله تعالى : { فليأكل بالمعروف } .

أخبرنا محمد بن الحسن المروزي ، أخبرنا أبو سهل محمد بن عمر السنجري أخبرنا الإمام أبو سليمان الخطابي ، أخبرنا أبو بكر بن داسة التمار ، أخبرنا أبو داود السجستاني ، أخبرنا حميد بن مسعدة أن خالد بن الحرث حدثهم ، أخبرنا حسين يعني المعلم ، عن عمرو بن شعيب ، عن أبيه عن جده رضي الله عنه أن رجلاً أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : إني فقير وليس لي شيء ولي يتيم فقال : " كل من مال يتيمك غير مسرف ولا مبادر ولا متأثل " . واختلفوا في أنه هل يلزمه القضاء ؟ فذهب بعضهم إلى انه يقضي إذا أيسر ، وهو المراد من قوله { فليأكل بالمعروف } ، فالمعروف القرض ، أي يستقرض من مال اليتيم إذا احتاج إليه فإذا أيسر قضاه ، وهو قول مجاهد وسعيد بن جبير ، قال عمر ابن الخطاب رضي الله عنه إني أنزلت نفسي من مال الله تعالى بمنزلة مال اليتيم إن استغنيت استعففت ، وإن افتقرت أكلت بالمعروف ، فإذا أيسرت قضيت . وقال الشعبي : لا يأكله إلا أن يضطر إليه كما يضطر إلى الميتة . وقال قوم : لا قضاء عليه ، ثم اختلفوا في كيفية هذا الأكل بالمعروف ، فقال عطاء وعكرمة : يأكل بأطراف أصابعه ، ولا يسرف ولا يكتسي منه . وقال النخعي : لا يلبس الكتان ولا الحلل ولكن ما سد الجوعة ووارى العورة ، وقال الحسن وجماعة : يأكل من ثمر نخيله ولبن مواشيه بالمعروف ولا قضاء عليه . فأما الذهب والفضة فلا ، فإن أخذ شيئاً منه فعليه رده ، وقال الكلبي : المعروف ركوب الدابة ، وخدمة الخادم ، وليس له أن يأكل من ماله شيئا .

أخبرنا أبو إسحاق السرخسي ، أخبرنا زاهر بن أحمد ، أنا أبو إسحق الهاشمي ، أنا أبو مصعب ، عن مالك ، عن يحيى بن سعيد أنه قال : سمعت القاسم بن محمد يقول : جاء رجل إلى ابن عباس رضي الله عنهما قال : إن لي يتيماً وإن له إبلاً ، أفأشرب من لبن إبله ؟ فقال : إن كنت تبغي ضالة إبله وتهنا جرباها وتليط حوضها وتسقيها يوم ورودها فاشرب غير مضر بنسل ولا ناهك في الحلب .

وقال بعضهم : والمعروف أن يأخذ من ماله بقدر قيامه وأجرة عمله ولا قضاء عليه ، وهو قول عائشة وجماعة من أهل العلم .

قوله تعالى :{ فإذا دفعتم إليهم أموالهم فأشهدوا عليهم } . هذا أمر إرشاد ، وليس بواجب ، أمر الولي بالإشهاد على دفع المال إلى اليتيم بعدما بلغ لتزول عنه التهمة وتنقطع الخصومة .

قوله تعالى : { وكفى بالله حسيباً } محاسباً ومجازياً وشاهداً .

 
التفسير الوسيط للقرآن الكريم لسيد طنطاوي - سيد طنطاوي [إخفاء]  
{وَٱبۡتَلُواْ ٱلۡيَتَٰمَىٰ حَتَّىٰٓ إِذَا بَلَغُواْ ٱلنِّكَاحَ فَإِنۡ ءَانَسۡتُم مِّنۡهُمۡ رُشۡدٗا فَٱدۡفَعُوٓاْ إِلَيۡهِمۡ أَمۡوَٰلَهُمۡۖ وَلَا تَأۡكُلُوهَآ إِسۡرَافٗا وَبِدَارًا أَن يَكۡبَرُواْۚ وَمَن كَانَ غَنِيّٗا فَلۡيَسۡتَعۡفِفۡۖ وَمَن كَانَ فَقِيرٗا فَلۡيَأۡكُلۡ بِٱلۡمَعۡرُوفِۚ فَإِذَا دَفَعۡتُمۡ إِلَيۡهِمۡ أَمۡوَٰلَهُمۡ فَأَشۡهِدُواْ عَلَيۡهِمۡۚ وَكَفَىٰ بِٱللَّهِ حَسِيبٗا} (6)

ثم بين - سبحانه - الوقت الذى يتم فيه تسليم أموال اليتامى إليهم ، وكيف تجب حياطتهم والعناية بهم وبأموالهم فقال - تعالى - : { وابتلوا اليتامى . . . } .

وَابْتَلُوا الْيَتَامَى حَتَّى إِذَا بَلَغُوا النِّكَاحَ فَإِنْ آَنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْدًا فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ وَلَا تَأْكُلُوهَا إِسْرَافًا وَبِدَارًا أَنْ يَكْبَرُوا وَمَنْ كَانَ غَنِيًّا فَلْيَسْتَعْفِفْ وَمَنْ كَانَ فَقِيرًا فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ فَإِذَا دَفَعْتُمْ إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ فَأَشْهِدُوا عَلَيْهِمْ وَكَفَى بِاللَّهِ حَسِيبًا ( 6 )

وقوله - تعالى - { وابتلوا } من الابتلاء بمعنى الاختبار والامتحان .

والخطاب للأولياء والأوصياء وكل من له صلة باليتامى .

والمراد ببلوغ النكاح هنا : بلوغ الحكم المذكور في قوله - تعالى - : { وَإِذَا بَلَغَ الأطفال مِنكُمُ الحلم فَلْيَسْتَأْذِنُواْ } وقوله { آنَسْتُمْ } أى تبينتم وشاهدتم وأحسستم .

قال القرطبي : { آنَسْتُمْ } أى أبصرتم ورأيتم ومنه قوله - تعالى - : { فَلَمَّا قضى مُوسَى الأجل وَسَارَ بِأَهْلِهِ آنَسَ مِن جَانِبِ الطور نَاراً } أى أبصر ورأى . وتقول العرب : اذهب فاستأنس هل ترى أحدا . معناه : تبصر . وقيل : آنست وأحسست ووجدت بمعنى واحد .

والمعنى : عليكم أيها الأولياء والأوصياء أن تختبروا اليتامى ، وذلك بتتبع أحوالهم في الاهتداء إلى ضبط الأمور ، وحسن التصرف في الأموال وبتمرينهم على ما يليق بأحوالهم حتى لا يجيء وقت بلوغهم إلا وقد صاروا فى قدرتهم أن يصرفوا أموالهم تصريفاً حسناً . فإن شاهدتم وأحسستم منهم { رُشْداً } أى صلاحا في عقولهم ، وحفظا لأموالهم ، فادفعوها إليهم من غير تأخير أو مماطلة .

و { حتى } هنا لغاية ، وهى داخلة على الجملة ، فهى تبين نهاية الصغر ، والجملة التي دخلت عليها ظرفية فى معنى الشرط .

قال صاحب الكشاف : فإن قلت : كيف نظم الكلام ؟ قلت : ما بعد { حتى } إلى قوله : { فادفعوا إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ } جعل غاية للابتلاء ، وهى { حتى } التى تقع بعدها الجمل . والجملة الواقعة بعدها جملة شرطية ، لأن إذا متضمنة معنى الشرط . وفعل الشرط { بَلَغُواْ النِّكَاحَ } وقوله { فَإِنْ آنَسْتُمْ مِّنْهُمْ رُشْداً فادفعوا إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ } جملة من شرط وجزاء واقعة جواباً للشرط الأول الذى هو إذا بلغوا النكاح . فكأنه قيل : وابتلوا اليتامى إلى وقت بلوغهم ، فاستحقاقهم دفع أموالهم إليهم بشرط إيناس الرشد منهم .

فإن قلت : فما معنى تنكير الرشد ؟ قلت : معناه نوعا من الرشد وهو الرشد في التصرف والتجارة . أو طرفا من الرشد ومخيلة من مخايلة حتى لا ينتظر به تمام الرشد .

ثم نهى - سبحانه - والأوصياء وغيرهم من الطمع فى شئ من مال اليتامى فقال - تعالى - :

{ وَلاَ تَأْكُلُوهَآ إِسْرَافاً وَبِدَاراً أَن يَكْبَرُواْ } .

أى : ادفعوا أيها الأولياء والأوصياء إلى اليتامى أموالهم من غير تأخير عن حد البلوغ ، ولا تأكلوها مسرفين فى الأكل ومبادرين بالأخذ خشية أن يكبروا ، بأن تفرطوا فى إنفاقها وتقولوا : ننفقها كما تريد قبل أن يكبر اليتامى فينتزعوها من أيدينا .

والإِسراف فى الأصل - كما يقول الآلوسى - تجاوز الحد المباح إلى ما لم يبح . وربما كان ذلك في الإفراط وربما كان في التقصير . غير أنه إذا كان فى الإفراط منه يقال : أسرف يسرف إسرافاً . وإذا كان في التقصير يقال : سرف يسرف سرفا .

وقوله { وَبِدَاراً } مفاعلة من البدر وهو العجلة الى الشئ والمسارعة إليه . وهما - أى قوله { إِسْرَافاً وَبِدَاراً } منصوبان على الحال من الفاعل فى قوله { تَأْكُلُوهَآ } أى : ولا تأكلوها مسرفين ومبادرين كبرهم .

أو منصوبان على أنهما مفعول لأجله ، أى ولا تأكلوها لإِسرافكم ومبادرتكم كبرهم .

والمراد من هذه الجملة الكريمة بيان أشنع الأحوال التى تقع من الأوصياء أو الأولياء وهى أن يأكلوا أموال اليتامى بإسراف وتعجل مخافة أن يبلغ الأيتام رشدهم ، فتؤخذ من أولئك الأوصياء تلك الأموال لترد : إلى أصحابها وهم اليتامى بعد أن يبلغوا سن الرشد .

ثم بين - سبحانه - ما ينبغى على الوصى إن كان غنيا وما ينبغى له إن كان فقيراً فقال :

{ وَمَن كَانَ غَنِيّاً فَلْيَسْتَعْفِفْ وَمَن كَانَ فَقِيراً فَلْيَأْكُلْ بالمعروف } .

والاستعفاف عن الشئ تركه . يقال : عف الرجل عن الشئ واستعف إذا أمسك عنه . والعفة : الامتناع عما لا يحل .

أى : ومن كان من الأولياء أو الأوصياء على أموال اليتامى غنيا فليستعفف أي فليتنزه عن أكل مال اليتيم ، وليقنع بما أعطاه الله من رزق وفير إشفاقا على مال اليتيم . ومن كان فقيراً من هؤلاء الأوصياء فليأكل بالمعروف . بأن يأخذ من مال اليتيم على قدر حاجته الضرورية وأجر سعيه وخدمته له . فقد روى أبو داود عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده " أن رجلاً أتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال : إنى فقير ليس لى شئ ولى يتيم . قال فقال له النبي صلى الله عليه وسلم : كل من مال يتيمك غير مسرف ولا مبادر ولا متأثل . أي غير مسرف في الأخذ ، ولا مبادر أى متعجل ، ولا جامع منه ما يتجاوز حاجتك . "

ثم بين - سبحانه - ما ينبغى على الأوصياء عند انتهاء وصايتهم على اليتامى وعند دفع أموالهم إليهم فقال : { فَإِذَا دَفَعْتُمْ إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ فَأَشْهِدُواْ عَلَيْهِمْ وكفى بالله حَسِيباً } . أى : فإذا أردتم أيها الأولياء أن تدفعوا إلى التيامى أموالهم التى تحت أيديكم بعد البلوغ والرشد ، فاشهدوا عليهم عند الدفع بأنهم قبضوها وبرئت عنها ذممكم ، لأن هذا الإِشهاد أبعد عن التهمة ، وأنفى للخصومة ، وأدخل في الأمانة وبراءة الساحة .

وقوله - تعالى - { وكفى بالله حَسِيباً } أى كفى بالله محاسبا لكم على أعمالكم وشاهدا عليكم فى أقوالكم وأفعالكم ، ومجازيا إياكم بما تستحقون من خير أو شر ، لأنه - سبحانه - لا تخفى عليه خافية في الأرض ولا في السماء . وإنكم إن أفلتم من حساب الناس في الدنيا فلن تفلتوا من حساب الله الذى لا يغادر صغيرة ولا كبيرة إلا أحصاها ، فعليكم أن تتحروا الحلال في كل تصرفاتكم . ففى هذا التذييل وعيد شديد لكل جاحد لحق غيره ، ولكل معتد على اموال الناس وحقوقهم ، ولا سيما اليتامى الذين فقدوا الناصر والمعين .

هذا ، وقد أخذ العلماء من هذه الآية الكريمة جملة من الأحكام منها :

1- أن على الأوصياء أن يختبروا اليتامى بتتبع أحوالهم فى الاهتداء إلى ضبط الأموال وحسن التصرف فيها ، وأن يمرنوهم على ذلك بحسب ما يليق بأحوالهم .

ويرى جمهور العلماء أن هذا الاختبار يكون قبل البلوغ . ويرى بعضهم أن هذا الاختبار يكون بعد البلوغ .

وقد قال القرطبى فى بيان كيفية هذا الاختبار ما ملخصه : لا بأس فى أن يدفع الولى إلى اليتيم شيئا من ماله يبيح له التصرف فيه ، فإن نماه وحسن النظر فيه فقد وقع الاختبار ، ووجب على الوصى تسليم جميع ماله إليه - أى بعد بلوغه - وإن أساء النظر وجب عليه إمساك المال عنه . .

وقال جماعة من الفقهاء : الصغير لا يخلو من أن يكون غلاما او جارية ، فإن كان غلاما رد النظر إليه في نفقة الدار شهرا ، وأعطاه شيئا نزرا ليتصرف فيه ؛ ليعرف كيف تدبيره وتصرفه ، وهو مع ذلك يراعيه لئلا يتلفه ، فإذا رآه متوخيا الإصلاح سلم إليه مال عند البلوغ وأشد عليه .

وإن كان جارية رد إليها ما يرد إلى ربة البيت من تدبير بيتها والنظر فيه فإن رآها رشيدة سلم إليها مالها وأشد عليها وإلا بقيا تحت الحجر .

وقد بنى الإِمام أو بحنيفة على هذا الاخبار أن تصرفات الصبى العاقل المميز بإذن المولى صحيحة ، لأن ذلك الاختبار إنما يحصل إذا أذن له الولى في البيع والشراء - مثلا - وهذا يقتضى صحة تصرفاته .

ويرى الإِمام الشافعى أن الاختبار لا يقتضى الإِذن فى التصرف ولا يتوقف عليه ، بل يكون الاختبار بدون التصرف على حسب ما يليق بحال الصبى فابن التاجر - مثلا - يختبر فى البيع والشراء إلى حيث يتوقف الأمر على العقد وحينئذ يعقد الولى إن أراد .

2- كذلك أخذ العلماء من هذه الآية أن الأوصياء لا يدفعون أموال اليتامى إليهم إلا بتحقيق أمرين :

أحدهما : بلوغ النكاح .

والثانى : إيناس الرشد .

والمراد ببلوغ النكاح بلوغ وقته وهو التزوج ، وهو كناية عن الخروج من حالة الصبا للذكر والأنثى ، بأن توجد المظاهر التى تدل على الرجولة في الغلام ، والتى تدل على مبلغ بلوغ النساء فى الفتاة ، وذلك يكون بالاحتلام أو بالحيض بالنسبة للفتاة أو بلوغ سن معينة قدرها بعضهم بخمس عشرة سنة بالنسبة للذكر والأنثى على السواء .

وقدرها أبو حنيفة بسبع عشرة سنة بالنسبة للفتاة ، وبثمانى عشرة سنة بالنسبة للفتى . ومن بلاغة القرآن الكريم أنه عبر عن حالة البلوغ بقوله : { حتى إِذَا بَلَغُواْ النِّكَاحَ } لأن هذا الوقت يختلف باختلاف البلاد في الحرارة والبرودة ، وباختلاف أمزجة أهل البلد الواحد فى القوة والضعف ، والصحة والمرض .

والمراد بإيناس الرشد : أن يتبين الأولياء من اليتامى الصلاح في العقل والخلق والتصرف فى الأموال .

ويرى جمهور العلماء أن اليتيم لا يدفع إليه ماله مهما بلغت سنة ما لم يؤنس منهم الرشد لأن الله - تعالى - يقول :

{ وَلاَ تُؤْتُواْ السفهآء أَمْوَالَكُمُ التي جَعَلَ الله لَكُمْ قِيَاماً } ويقول : { فَإِنْ آنَسْتُمْ مِّنْهُمْ رُشْداً فادفعوا إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ } ومعنى ذلك أنه إذا لم يؤنس منهم الرشد لا تدفع إليهم أموالهم ، بل يستمرون تحت ولاية الأولياء عليهم لأنهم ما زالوا سفهاء لم يتبين رشدهم .

وقد خالف الإِمام أبو حنيفة جمهور الفقهاء فقال . لا يدفع إلى اليتيم ماله إذا بلغ ولم يؤنس منه الرشد حتى يبلغ خمسا وعشرين سنة ، فإذا بلغها عاقلا ولو غير رشيد فليس لأحد عليه سبيل ، ويجب أن يدفع الوصى إليه ماله ولو كان فاسقا أو مبذرا .

قالوا : وإنما اختبار أبو حنيفة هذه السن لأن مدة بلوغ الذكر عنده ثمانى عشر سنة ، فإذا زيد عليها سبع سنين - وهى مدة معتبرة في تغير أحوال الإِنسان - فعند ذلك يدفع إليه ماله أونس منه الرشد أو لم يؤنس ، لأن اسم الرشد واقع على العقل في الجملة ، والله - تعالى - شرط رشدا منكرا ولم يشترط سائر ضروب الرشد ، فاقتضى ظاهر الآية أنه لما حصل العقل فقد حصل ما هو الشرط المذكور في هذه الآية .

3- كذلك أخذ العلماء من هذه الآية الكريمة الوصى على اليتيم إذا كان غنيا فعليه أن يتحرى العفاف . وألا يأخذ شيئا من مال اليتيم ، لأن أخذه مع غناه يتنافى مع العفاف الذى يجب أن يتحلى به الأوصياء ، ويعتبر من باب الطمع في مال اليتيم .

أما إذا كان الوصى فقيراً فقد أذن الله له أن يأكل من مال اليتيم بالمعروف أي بالقدر الذى تقتضيه حاجته الضرورية ، ولا يستنكره الشرع ولا العقل .

وقد بسط الإِمام الرازى القول فى هذه المسألة فقال ما ملخصه : العلماء فى أن الوصى هل له أن ينتفع بمال اليتيم أولا ؟

فمنهم من يرى أن للوصى أن يأخذ من مال اليتيم بقدر أجر عمله ؛ لأن قوله - تعالى - { وَلاَ تَأْكُلُوهَآ إِسْرَافاً } مشعر بأن له أن يأكل بقدر الحاجة . ولأن قوله - تعالى - { إِنَّ الذين يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ اليتامى ظُلْماً } يدل على أن مال اليتيم قد يؤكل ظلما وغير ظلم ، ولو لم يكن ذلك لم يكن لقوله { إِنَّ الذين يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ اليتامى ظُلْماً } فائدة . فهذا يدل على أن للوصى المحتاج أن ياكل من ماله بالمعروف . ولن الوصى لما تكفل بإصلاح مهمات الصبى وجب أن يتمكن من أن يأكل من ماله بقدر عمله قياسا على الساعى فى أخذ الصدقات وجمعها ؛ فإن يضرب له فى تلك الصدقات بسهم فكذا ههنا .

ومنهم من يرى أن له يأخذ بقدر ما يحتاج إليه من مال اليتيم قرضا ، ثم إذا أيسر قضاه ، وإن مات ولم يقدر على القضاء بأن كان معسرا فلا شئ عليه .

ويشهد لهذا الرأى قول عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - : إنى أنزلت نفسى من هذا المال منزلة والى اليتيم .

إن استغنيت استعففت . وإن احتجبت استقرضت . فإذا ايسرت فضيت .

4- كذلك من الأحكام التي أخذها العلماء من هذه الآية أن على الأوصياء عندما يدفعون أموال اليتامى إليهم أن يشهدوا على دفعها ، منعا للخصومات والمنازعات ، وإبراء لذمة الأوصياء ولكى يكون اليتامى على بينة من أمرهم .

وقد اختلف العلماء في أن الوصى إذا ادعى بعد بلوغ اليتيم أنه قد دفع إليه ماله هل يصدق ؟ وكذلك إذا قال : أنفقت عليه فى صغره هل يصدق ؟

أما الشافعية والمالكية والحنابلة فيرون أنه لا يصدق ؛ لأن الآية الكريمة تقول : { فَإِذَا دَفَعْتُمْ إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ فَأَشْهِدُواْ عَلَيْهِمْ } وقوله { فَأَشْهِدُواْ عَلَيْهِمْ } أمر . وظاهر الأمر أنه للوجوب . وليس معنى الوجوب هنا أنه يأثم إذا لم يشهد . بل معناه أن الاشهاد لا بد منه فى براءة ذمته بأن يدفع له ماله أمام رجلين أو رجل وامرأتين حتى إذا دفع المال ولم يشهد ثم طالبه اليتيم فحينئذ يكون القول ما قاله اليتيم بعد أن يقسم على أن الوصى لم يدفع إليه ماله .

ويرى الإِمام أبو حنيفة أن الأمر فى قوله - قوله - { فَأَشْهِدُواْ عَلَيْهِمْ } للندب . وأن الوصى إذا ادعى ذلك يصدق ويكتفى فى تصديقه بيمينه ؛ لأنه أمين لم تعرف خيانته ، إذ لو عرفت خيانته لعزل . والأمين يصدق باليمين إذا كان هناك خلاف بينه وبين من ائتمنه . ولأن قوله - تعالى - بعد ذلك { وكفى بالله حَسِيباً } يؤيد أن البينة ليست لازمة ؛ إذ معناه أنه لا شاهد أفضل من الله - تعالى - فيما بينكم وبينهم .

 
في ظلال القرآن لسيد قطب - سيد قطب [إخفاء]  
{وَٱبۡتَلُواْ ٱلۡيَتَٰمَىٰ حَتَّىٰٓ إِذَا بَلَغُواْ ٱلنِّكَاحَ فَإِنۡ ءَانَسۡتُم مِّنۡهُمۡ رُشۡدٗا فَٱدۡفَعُوٓاْ إِلَيۡهِمۡ أَمۡوَٰلَهُمۡۖ وَلَا تَأۡكُلُوهَآ إِسۡرَافٗا وَبِدَارًا أَن يَكۡبَرُواْۚ وَمَن كَانَ غَنِيّٗا فَلۡيَسۡتَعۡفِفۡۖ وَمَن كَانَ فَقِيرٗا فَلۡيَأۡكُلۡ بِٱلۡمَعۡرُوفِۚ فَإِذَا دَفَعۡتُمۡ إِلَيۡهِمۡ أَمۡوَٰلَهُمۡ فَأَشۡهِدُواْ عَلَيۡهِمۡۚ وَكَفَىٰ بِٱللَّهِ حَسِيبٗا} (6)

1

ويتبين السفه والرشد - بعد البلوغ - وأمر السفه والرشد لا يخفى عادة ، ولا يحتاج إلى تحديد مفهومة بالنصوص . فالبيئة تعرف الراشد من السفيه وتأنس رشد هذا وسفه ذاك ، وتصرفات كل منهما لا تخفى على الجماعة ؛ فالاختبار يكون لمعرفة البلوغ ، الذي يعبر عنه النص بكلمة : " النكاح " وهو الوظيفة التي يؤهل لها البلوغ :

( وابتلوا اليتامى ، حتى إذا بلغوا النكاح ، فإن آنستم منهم رشدا فادفعوا إليهم أموالهم ، ولا تأكلوها إسرافا وبدارا أن يكبروا . ومن كان غنيا فليستعفف ، ومن كان فقيرا فليأكل بالمعروف . فإذا دفعتم إليهم أموالهم فأشهدوا عليهم ، وكفى بالله حسيبا )

ويبدو من خلال النص الدقة في الإجراءات التي يتسلم بها اليتامى أموالهم عند الرشد . كذلك يبدو التشديد في وجوب المسارعة بتسليم أموال اليتامى إليهم ، بمجرد تبين الرشد - بعد البلوغ - وتسليمها لهم كاملة سالمة ، والمحافظة عليها في أثناء القيام عليها ، وعدم المبادرة إلى أكلها بالإسراف قبل أن يكبر أصحابها فيتسلموها ! مع الاستعفاف عن أكل شيء منها مقابل القيام عليها - إذا كان الولي غنيا - والأكل منها في أضيق الحدود - إذا كان الولي محتاجا - ومع وجوب الأشهاد في محضر التسليم . . وختام الآية : التذكير بشهادة الله وحسابه : ( وكفى بالله حسيبا ) . .

كل هذا التشديد ، وكل هذا البيان المفصل ، وكل هذا التذكير والتحذير . . يشي بما كان سائدا في البيئة من الجور على أموال اليتامى الضعاف في المجتمع وبما كان يحتاج إليه تغيير هذا العرف السائد من تشديد وتوكيد ، ومن بيان وتفصيل ، لا يدع مجالا للتلاعب عن أي طريق . .

وهكذا كان المنهج الرباني ينسخ معالم الجاهلية في النقوس والمجتمعات ، ويثبت معالم الإسلام ؛ ويمحو سمات الجاهلية في وجه المجتمع ، ويثبت ملامح الإسلام . وهكذا كان يصوغ المجتمع الجديد ومشاعره وتقاليده ، وشرائعه وقوانينه ، في ظلال تقوى الله ورقابته ، ويجعلها الضمان الأخير لتنفيذ التشريع . ولا ضمان لأي تشريع في الأرض بغير هذه التقوى وبدون هذه الرقابة : ( وكفى بالله حسيبا ) . .

 
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري - الطبري [إخفاء]  
{وَٱبۡتَلُواْ ٱلۡيَتَٰمَىٰ حَتَّىٰٓ إِذَا بَلَغُواْ ٱلنِّكَاحَ فَإِنۡ ءَانَسۡتُم مِّنۡهُمۡ رُشۡدٗا فَٱدۡفَعُوٓاْ إِلَيۡهِمۡ أَمۡوَٰلَهُمۡۖ وَلَا تَأۡكُلُوهَآ إِسۡرَافٗا وَبِدَارًا أَن يَكۡبَرُواْۚ وَمَن كَانَ غَنِيّٗا فَلۡيَسۡتَعۡفِفۡۖ وَمَن كَانَ فَقِيرٗا فَلۡيَأۡكُلۡ بِٱلۡمَعۡرُوفِۚ فَإِذَا دَفَعۡتُمۡ إِلَيۡهِمۡ أَمۡوَٰلَهُمۡ فَأَشۡهِدُواْ عَلَيۡهِمۡۚ وَكَفَىٰ بِٱللَّهِ حَسِيبٗا} (6)

القول في تأويل قوله تعالى :

{ وَابْتَلُواْ الْيَتَامَىَ حَتّىَ إِذَا بَلَغُواْ النّكَاحَ فَإِنْ آنَسْتُمْ مّنْهُمْ رُشْداً فَادْفَعُواْ إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ وَلاَ تَأْكُلُوهَآ إِسْرَافاً وَبِدَاراً أَن يَكْبَرُواْ وَمَن كَانَ غَنِيّاً فَلْيَسْتَعْفِفْ وَمَن كَانَ فَقِيراً فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ فَإِذَا دَفَعْتُمْ إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ فَأَشْهِدُواْ عَلَيْهِمْ وَكَفَىَ بِاللّهِ حَسِيباً } .

يعني تعالى ذكره بقوله : { وَابْتَلُوا اليَتَامى } : واختبروا عقول يتاماكم في أفهامهم ، وصلاحهم في أديانهم ، وإصلاحهم أموالهم . كما :

حدثنا الحسن بن يحيى ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا معمر ، عن قتادة والحسن في قوله : { وَابْتَلُوا اليَتَامى } قالا : يقول : اختبروا اليتامى .

حدثنا محمد بن الحسين ، قال : حدثنا أحمد بن المفضل ، قال : حدثنا أسباط ، عن السديّ : أما ابتلوا اليتامى : فجرّبوا عقولهم .

حدثني محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، قال : حدثنا عيسى ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد في قوله : { وَابْتَلُوا اليَتَامى } قال : عقولهم .

حدثني المثنى ، قال : حدثنا عبد الله بن صالح ، قال : ثني معاوية بن صالح ، عن عليّ بن أبي طلحة ، عن ابن عباس ، قوله : { وَابْتَلُوا اليَتَامَى } قال : اختبروهم .

حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد في قوله : { وَابْتَلُوا اليَتَامَى حتى إذَا بَلَغُوا النّكاحَ } قال : اختبروه في رأيه وفي عقله كيف هو إذا عرف أنه قد أُنس منه رشد دفع إليه ماله . قال : وذلك بعد الاحتلام .

قال أبو جعفر : وقد دللنا فيما مضى قبل على أن معنى الابتلاء : الاختبار ، بما فيه الكفاية عن إعادته .

وأما قوله : { إذَا بَلَغُوا النّكاحَ } فإنه يعني : إذا بلغوا الحلم . كما :

حدثني محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، عن عيسى ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد في قوله : { حتى إذَا بَلَغُوا النّكاحَ } : حتى إذا احتلموا .

حدثني عليّ بن داود قال : حدثنا عبد الله بن صالح ، قال : ثني معاوية ، عن علي بن أبي طلحة ، عن ابن عباس : { حتى إذَا بَلَغُوا النّكاحَ } قال : عند الحلم .

حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد في قوله : { حتى إذَا بَلَغُوا النكاحَ } قال : الحلم .

القول في تأويل قوله : { فإنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْدا } .

يعني قوله : { فإنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْدا } : فإن وجدتم منهم وعرفتم . كما :

حدثني المثنى ، قال : حدثنا أبو صالح ، قال : ثني معاوية بن صالح ، عن عليّ بن أبي طلحة ، عن ابن عباس : { فإنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْدا } قال : عرفتم منهم .

يقال : آنست من فلان خيرا وبِرّا بمدّ الألف إيناسا ، وأنست به آنسُ أُنْسا بقصر ألفها : إذا ألفه . وقد ذكر أنها في قراءة عبد الله : «فإنْ أحْسَيْتُمْ مِنْهُمْ رُشْدا » بمعنى : أحسستم : أي وجدتم .

واختلف أهل التأويل في معنى الرشد الذي ذكره الله في هذه الاَية ، فقال بعضهم : معنى الرشد في هذا الموضع : العقل والصلاح في الدين . ذكر من قال ذلك :

حدثنا محمد بن الحسين ، قال : حدثنا أحمد بن المفضل ، قال : حدثنا أسباط ، عن السديّ : { فإنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْدا } عقولاً وصلاحا .

حدثنا بشر بن معاذ ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة : { فإنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْدا } يقول : صلاحا في عقله ودينه .

وقال آخرون : معنى ذلك : صلاحا في دينهم ، وإصلاحا لأموالهم . ذكر من قال ذلك :

حدثنا ابن وكيع ، قال : ثني أبي ، عن مبارك ، عن الحسن ، قال : رشدا في الدين وصلاحا وحفظا للمال .

حدثني المثنى ، قال : حدثنا أبو صالح ، قال : ثني معاوية ، عن عليّ بن أبي طلحة ، عن ابن عباس : { فإنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْدا } في حالهم ، والإصلاح في أموالهم .

وقال آخرون : بل ذلك العقل خاصة . ذكر من قال ذلك :

حدثنا محمد بن بشار ، قال : حدثنا عبد الرحمن ، قال : حدثنا سفيان ، عن منصور ، عن مجاهد ، قال : لا ندفع إلى اليتيم ماله ، وإن أخذ بلحيته ، وإن كان شيخا ، حتى يؤنس منه رشده : العقل .

حدثنا ابن بشار ، قال : حدثنا يحيى ، عن سفيان ، عن منصور ، عن مجاهد : { فإنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْدا } قال : العقل .

حدثني يعقوب بن إبراهيم ، قال : حدثنا هشيم ، قال : أخبرنا أبو شبرمة ، عن الشعبي ، قال : سمعته يقول : إن الرجل ليأخذ بلحيته وما بلغ رشده .

وقال آخرون : بل هو الصلاح والعلم بما يصلحه . ذكر من قال ذلك :

حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جريج : { فإنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْدا } قال : صلاحا وعلما بما يصلحه .

قال أبو جعفر : وأولى هذه الأقوال عندي بمعنى الرشد في هذا الموضع : العقل وإصلاح المال¹ لإجماع الجميع على أنه إذا كان كذلك لم يكن ممن يستحقّ الحجر عليه في ماله ، وحوز ما في يده عنه ، وإن كان فاجرا في دينه . وإذ كان ذلك إجماعا من الجميع ، فكذلك حكمه إذا بلغ وله مال في يدي وصي أبيه أو في يد حاكم قد ولي ماله لطفولته ، واجب عليه تسليم ماله إليه ، إذا كان عاقلاً بالغا ، مصلحا لماله ، غير مفسد¹ لأن المعنى الذي به يستحقّ أن يولي على ماله الذي هو في يده ، هو المعنى الذي به يستحقّ أن يمنع يده من ماله الذي هو في يد وليّ ، فإنه لا فرق بين ذلك . وفي إجماعهم على أنه غير جائز حيازة ما في يده في حال صحة عقله وإصلاح ما في يده ، الدليلُ الواضح على أنه غير جائز منع يده مما هو له في مثل ذلك الحال ، وإن كان قبل ذلك في يد غيره لا فرق بينهما . ومن فرق بين ذلك عكس عليه القول في ذلك ، وسئل الفرق بينهما من أصل أو نظير ، فلن يقول في أحدهما قولاً إلا ألزم في الاَخر مثله . فإن كان ما وصفنا من الجميع إجماعا ، فبين أن الرشد الذي به يستحقّ اليتيم إذا بلغ فأونس منه دفع ماله إليه ، ما قلنا من صحة عقله وإصلاح ماله .

القول في تأويل قوله تعالى : { فادْفَعُوا إلَيْهِمْ أمْوالَهُمْ وَلا تَأكُلُوها إسْرَافا } .

يعني بذلك تعالى ذكره : ولاة أموال اليتامى ، يقول الله لهم : فإذا بلغ أيتامكم الحلم ، فآنستم منهم عقلاً وإصلاحا لأموالهم ، فادفعوا إليهم أموالهم ، ولا تحبسوها عنهم .

وأما قوله : { وَلا تأْكُلُوها إسْرَافا } يعني : بغير ما أباحه الله لكم . كما :

حدثنا الحسن بن يحيى ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا معمر ، عن قتادة والحسن : { وَلا تأْكُلُوها إسْرَافا } يقول : لا تسرف فيها .

حدثنا محمد بن الحسين ، قال : حدثنا أحمد بن مفضل ، قال : حدثنا أسباط ، عن السديّ : { وَلا تَأْكُلُوها إسْرَافا } قال : يسرف في الأكل .

وأصل الإسراف : تجاوز الحدّ المباح إلى ما لم يبح ، وربما كان ذلك في الإفراط ، وربما كان في التقصير ، غير أنه إذا كان في الإفراط ، فاللغة المستعملة فيه أن يقال : أسرف يُسرف إسرافا ، وإذا كان كذلك في التقصير ، فالكلام منه : سَرِفَ يَسْرَفُ سَرَفا ، يقال : مررت بكم فسرفتكم ، يراد منه : فسهوت عنكم وأخطأتكم ، كما قال الشاعر :

أعْطَوْا هُنَيْدَةَ يَحْدُوها ثمَانِيَةٌ ***ما فِي عَطائِهِمْ مَنّ وَلا . سَرَفُ

يعني بقوله : ولا سرف : لا خطأ فيه ، يراد به : أنهم يصيبون مواضع العطاء فلا يخطئونها .

القول في تأويل قوله تعالى : { وَبِدَارا أنْ يَكْبَرُوا } .

يعني جلّ ثناؤه بقوله : { وَبِدارا } ومبادرة¹ وهو مصدر من قول القائل : بادرت هذا الأمر مبادرة وبدارا . وإنما يعني بذلك جلّ ثناؤه : ولاة أموال اليتامى ، يقول لهم : لا تأكلوا أموالهم إسرافا ، يعني : ما أباح الله لكم أكله ، ولا مبادرة منكم بلوغهم ، وإيناس الرشد منهم حذرا أن يبلغوا فيلزمكم تسليمه إليهم . كما :

حدثني المثنى ، قال : حدثنا أبو صالح ، قال : ثني معاوية بن صالح ، عن عليّ بن أبي طلحة ، عن ابن عباس ، قوله : { إسْرافا وَبِدَارا } يعني : أكل مال اليتيم مبادرا أن يبلغ فيحول بينه وبين ماله .

حدثنا الحسن بن يحيى ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا معمر ، عن قتادة والحسن : { وَلا تَأْكُلُوها إسْرَافا وَبِدَارا } يقول : لا تسرف فيها ، ولا تبادر .

حدثنا محمد بن الحسين ، قال : حدثنا أحمد بن مفضل ، قال : حدثنا أسباط ، عن السديّ : { وَبِدَارا } تبادرا أن يكبروا ، فيأخذوا أموالهم .

حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال قال ابن زيد في قوله : { إسْرَافا وَبِدَارا } قال : هذه لوليّ اليتيم خاصة ، جعل له أن يأكل معه إذا لم يجد شيئا يضع يده معه ، فيذهب بوجهه ، يقول : لا أدفع إليه ماله ، وجعلتَ تأكله تشتهي أكله ، لأنك إن لم تدفعه إليه لك فيه نصيب ، وإذا دفعته إليه فليس لك فيه نصيب .

وموضع «أن » في قوله : «أن يكبروا » نصبٌ بالمبادرة ، لأن معنى الكلام : لا تأكلوها مبادرة كبرهم .

القول في تأويل قوله تعالى : { وَمَنْ كانَ غَنِيّا فَلْيَسْتَعْفِفْ وَمَنْ كانَ فَقِيرا فَلْيَأْكُلْ بالمَعْرُوفِ } .

يعني بقوله جلّ ثناؤه : { وَمَنْ كانَ غَنِيّا } من ولاة أموال اليتامى على أموالهم ، { فَلْيَسْتَعْفِفْ } بماله عن أكلها بغير الإسراف والبدار أن يكبروا ، بما أباح الله له أكلها به . كما :

حدثنا ابن بشار ، قال : حدثنا أبو أحمد ، قال : حدثنا سفيان ، عن الأعمش وابن أبي ليلى ، عن الحكم ، عن مقسم ، عن ابن عباس في قوله : { وَمَنْ كانَ غَنِيّا فَلْيَسْتَعْفِفْ } قال : لغناه من ماله ، حتى يستغني عن مال اليتيم .

وبه قال : حدثنا سفيان ، عن منصور ، عن إبراهيم في قوله : { وَمَنْ كانَ غَنِيّا فَلْيَسْتَعْفِفْ } بغناه .

حدثني يعقوب بن إبراهيم ، قال : حدثنا ابن علية ، عن ليث ، عن الحكم ، عن مقسم ، عن ابن عباس في قوله : { وَمَنْ كانَ غَنِيّا فَلْيَسْتَعْفِفْ وَمَنْ كانَ فَقِيرا فَلْيَأْكُلْ بالمَعْرُوفِ } قال : من مال نفسه ، ومن كان فقيرا منهم إليها محتاجا فليأكل بالمعروف .

قال أبو جعفر : ثم اختلف أهل التأويل في المعروف الذي أذن الله جلّ ثناؤه لولاة أموالهم أكلها به إذا كانوا أهل فقر وحاجة إليها ، فقال بعضهم : ذلك هو القرض يستقرضه من ماله ثم يقضيه . ذكر من قال ذلك :

حدثنا أبو كريب ، قال : حدثنا وكيع ، عن سفيان وإسرائيل ، عن أبي إسحاق ، عن حارثة بن مضرّب ، قال : قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه : إني أنزلت مال الله تعالى مني بمنزلة مال اليتيم ، إن استغنيت استعففت ، وإن افتقرت أكلت بالمعروف ، فإذا أيسرت قضيت .

حدثنا أبو كريب ، قال : حدثنا ابن عطية ، عن زهير ، عن العلاء بن المسيب ، عن حماد ، عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس في قوله : { وَمَنْ كانَ فَقِيرا فَلْيَأْكُلْ بالمَعْرُوفِ } قال : هو القرض .

حدثنا محمد بن عبد الأعلى ، قال : حدثنا المعتمر ، قال : سمعت يونس ، عن محمد بن سيرين ، عن عبيدة السلماني ، أنه قال في هذه الاَية : { وَمَنْ كانَ غَنيّا فَلْيَسْتَعْفِفْ وَمَنْ كانَ فَقِيرا فَلْيَأْكُلْ بالمَعْرُوفِ } قال : الذي ينفق من مال اليتيم يكون عليه قرضا .

حدثني يعقوب بن إبراهيم ، قال : حدثنا ابن علية ، قال : حدثنا سلمة بن علقمة ، عن محمد بن سيرين ، قال : سألت عبيدة عن قوله : { وَمَنْ كانَ غَنيّا فَلْيَسْتَعْفِفْ وَمَنْ كانَ فَقِيرا فَلْيَأْكُلْ بالمَعْرُوفِ } قال : إنما هو قرض ، ألا ترى أنه قال : { فإذَا دَفَعْتُمْ إلَيْهِمْ أمْوَالَهُمْ فَأشْهِدُوا عَلَيهمْ } ؟ قال : فظننت أنه قالها برأيه .

حدثنا الحسن بن يحيى ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا هشام ، عن محمد ، عن عبيدة في قوله : { وَمَنْ كانَ فَقيرا فَلْيَأْكُلْ بالمَعْرُوفِ } وهو عليه قرض .

حدثني يعقوب ، قال : حدثنا هشيم ، عن سلمة بن علقمة ، عن ابن سيرين ، عن عبيدة في قوله : { وَمَنْ كانَ فَقيرا فَلْيَأَكُلْ بالمَعْرُوفِ } قال : المعروف : القرض ، ألا ترى إلى قوله : { فإذَا دَفَعْتُمْ إلَيْهِمْ أمْوَالَهُمْ فأشْهِدُوا عَلَيْهِمْ } ؟

حدثنا الحسن بن يحيى ، قال : حدثنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا معمر ، عن أيوب ، عن ابن سيرين ، عن عبيدة ، مثل حديث هشام .

حدثني المثنى ، قال : حدثنا أبو صالح ، قال : ثني معاوية بن صالح ، عن عليّ بن أبي طلحة ، عن ابن عباس : { وَمَنْ كانَ فَقِيرا فَلْيَأْكُلْ بالمَعْرُوفِ } يعني : القرض .

حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس : { وَمَنْ كانَ غَنِيا فَلْيَسْتَعْفِفْ وَمَنْ كانَ فَقِيرا فَلْيَأْكُلْ بالمعروف } يقول : إن كان غنيا فلا يحلّ له من مال اليتيم أن يأكل منه شيئا ، وإن كان فقيرا فليستقرض منه ، فإذا وجد ميسرة فليعطه ما استقرض منه¹ فذلك أكله بالمعروف .

حدثنا أبو كريب ، قال : حدثنا ابن إدريس ، قال : سمعت أبي يذكر عن حماد ، عن سعيد بن جبير ، قال : يأكل قرضا بالمعروف .

حدثني يعقوب بن إبراهيم ، قال : حدثنا هشيم ، قال : أخبرنا حجاج ، عن سعيد بن جبير ، قال : هو القرض ما أصاب منه من شيء قضاه إذا أيسر ، يعني قوله : { وَمَنْ كانَ غَنِيّا فَلْيَسْتَعْفِفْ وَمَنْ كانَ فَقِيرا فَلْيَأْكُلْ بالمَعْرُوفِ } .

حدثني يعقوب ، قال : حدثنا ابن علية ، عن هشام الدسوائي ، قال : حدثنا حماد ، قال : سألت سعيد بن جبير ، عن هذه الاَية : { وَمَنْ كانَ فَقِيرا فَلْيَأْكُلْ بالمَعْرُوفِ } قال : إن أخذ من ماله قدر قوته قرضا ، فإن أيسر بعد قضاه ، وإن حضره الموت ولم يوسر تحلله من اليتيم ، وإن كان صغيرا تحلله من وليه .

حدثنا حميد بن مسعدة ، قال : حدثنا بشر بن المفضل ، قال : حدثنا شعبة ، عن حماد ، عن سعيد بن جبير : فليأكل قرضا .

حدثنا محمد بن المثنى ، قال : حدثنا محمد بن جعفر ، قال : حدثنا شعبة ، عن حماد ، عن سعيد بن جبير : { وَمَنْ كانَ فَقِيرا فَيْأْكُلْ بالمَعْرُوفِ } قال : هو القرض .

حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا حكام ، عن عمرو بن أبي قيس ، عن عطاء بن السائب ، عن الشعبي : { وَمنْ كانَ غَنيّا فَلْيَسْتَعْفِفْ وَمَنْ كانَ فَقِيرا فَلْيَأْكُلْ بالمَعْرُوفِ } قال : لا يأكله إلا أن يضطرّ إليه كما يضطرّ إلى الميتة ، فإن أكل منه شيئا قضاه .

حدثنا حميد بن مسعدة ، قال : حدثنا بشر بن المفضل ، قال : حدثنا شعبة ، عن عبد الله بن أبي نجيح ، عن مجاهد في قوله : { فَلْيَأْكُلْ بالمَعْرُوفِ } قال : قرضا .

حدثنا ابن المثنى ، قال : حدثنا محمد بن جعفر ، قال : حدثنا شعبة ، عن عبد الله بن أبي نجيح ، عن مجاهد ، مثله .

حدثني محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، عن عيسى ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد : { فَلْيأكُلْ بالمَعْرُوفِ } قال : سلفا من مال يتيمه .

حدثنا الحسن بن يحيى ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا الثوري ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، وعن حماد ، عن سعيد بن جبير : { فَلْيَأْكُلْ بالمَعْرُوفِ } قالا : هو القرض . قال الثوري : وقاله الحكم أيضا ، ألا ترى أنه قال : { فإذَا دَفَعْتُمْ إلَيْهِمْ أمْوَالَهُمْ فأشْهِدُوا عَلَيْهِمْ } ؟

حدثني يعقوب ، قال : حدثنا هشيم ، قال : حدثنا حجاج ، عن مجاهد ، قال : هو القرض ما أصاب منه من شيء قضاه إذا أيسر ، يعني : { وَمَنْ كانَ فَقِيرا فَلْيَأْكُلْ بالمَعْرُوفِ } .

حدثنا ابن وكيع ، قال : حدثنا أبي ، عن أبي جعفر ، عن الربيع ، عن أبي العالية : { فَلْيأْكُلْ بالمَعْرُوفِ } قال : القرض ، ألا ترى إلى قوله : { فإذَا دَفَعْتُمْ إلَيْهِمْ أمْوَالَهُمْ } ؟ .

حدثنا ابن وكيع ، قال : حدثنا أبي ، عن سفيان ، عن عاصم ، عن أبي وائل ، قال : قرضا .

حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا جرير ، عن منصور ، عن الحكم ، عن سعيد بن جبير ، قال : إذا احتاج الوليّ أو افتقر فلم يجد شيئا ، أكل من مال اليتيم ، وكتبه ، فإن أيسر قضاه ، وإن لم يوسر حتى تحضره الوفاة دعا اليتيم فاستحلّ منه ما أكل .

حدثني يعقوب بن إبراهيم ، قال : حدثنا ابن علية ، قال : أخبرنا ابن أبي نجيح ، عن مجاهد في قوله : { وَمَنْ كانَ فَقِيرا فَلْيَأْكُلْ بالمَعْرُوفِ } من مال اليتيم بغير إسراف ولا قضاء عليه فيما أكل منه .

واختلف قائلو هذا القول في معنى أكل ذلك بالمعروف ، فقال بعضهم : أن يأكل من طعامه بأطراف الأصابع ، ولا يلبس منه . ذكر من قال ذلك :

حدثنا ابن بشار ، قال : حدثنا أبو أحمد ، قال : حدثنا سفيان ، عن السديّ ، قال : أخبرني من سمع ابن عباس يقول : { وَمَنْ كانَ فَقِيرا فَلْيَأْكُلْ بالمَعْرُوفِ } قال : بأطراف أصابعه .

حدثنا أبو كريب ، قال : حدثنا عبيد الله الأشجعي ، عن سفيان ، عن السديّ ، عمن سمع ابن عباس يقول¹ فذكر مثله .

حدثنا محمد بن الحسين ، قال : حدثنا أحمد بن مفضل ، قال : حدثنا أسباط ، عن السديّ : { وَمَنْ كانَ غَنِيّا فَلْيَسْتَعْفِفْ وَمَنْ كانَ فَقِيرا فَلْيَأْكُلْ بالمَعْرُوفِ } يقول : فمن كان غنيا من ولي مال اليتيم فليستعفف عن ماله ، ومن كان فقيرا من ولي مال اليتيم فليأكل معه بأصابعه ، لا يسرف في الأكل ، ولا يلبس .

حدثنا ابن المثنى ، قال : حدثنا حرمي بن عمارة ، قال : حدثنا شعبة ، عن عمارة ، عن عكرمة في مال اليتيم : يَدُك مع أيديهم ، ولا تتخذ منه قَلنْسُوَة .

حدثنا الحسن بن يحيى ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا ابن عيينة ، عن عمرو بن دينار ، عن عطاء وعكرمة ، قالا : تضع يدك مع يده .

وقال آخرون : بل المعروف في ذلك ، أن يأكل ما يسدّ جوعه ويلبس ما وارى العورة . ذكر من قال ذلك :

حدثني يعقوب بن إبراهيم ، قال : حدثنا هشيم ، قال : أخبرنا مغيرة عن إبراهيم ، قال : إن المعروف ليس يلبس الكتان ولا الحلل ، ولكن ما سدّ الجوع ووارى العورة .

حدثنا ابن بشار ، قال : حدثنا عبد الرحمن ، قال : حدثنا سفيان ، عن مغيرة ، عن إبراهيم ، قال : كان يقال : ليس المعروف يلبس الكتان والحلل ، ولكن المعروف ما سدّ الجوع ووارى العورة .

حدثنا الحسن بن يحيى ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا الثوري ، عن مغيرة ، عن إبراهيم نحوه .

حدثنا عليّ بن سهل ، قال : حدثنا الوليد بن مسلم ، قال : حدثنا أبو معبد ، قال : سئل مكحول عن وليّ اليتيم ، ما أكله بالمعروف إذا كان فقيرا ؟ قال : يده مع يده . قيل له : فالكسوة ؟ قال : يلبس من ثيابه ، فأما أن يتخذ من ماله مالاً لنفسه فلا .

حدثنا أبو كريب ، قال : حدثنا الأشجعي ، عن سفيان ، عن مغيرة ، عن إبراهيم في قوله : { فَلْيَأْكُلْ بالمَعْرُوفِ } قال : ما سدّ الجوع ، ووارى العورة ، أما أنه ليس لبوس الكتان والحلل .

وقال آخرون : بل ذلك المعروف أكل تمره وشرب رِسْل ماشيته بقيامه على ذلك ، فأما الذهب والفضة فليس له أخذ شيء منهما إلا على وجه القرض . ذكر من قال ذلك :

حدثنا الحسن بن يحيى ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا معمر ، عن الزهري ، عن القاسم بن محمد ، قال : جاء رجل إلى ابن عباس فقال : إن في حجري أموال أيتام ؟ وهو يستأذنه أن يصيب منها . فقال ابن عباس : ألست تبغي ضالتها ؟ قال : بلى . قال : ألست تهنأ جرباها ؟ قال : بلى . قال : ألست تليط حياضها ؟ قال : بلى . قال : ألست تَفْرِطُ عليها يوم ورودها ؟ قال : بلى . قال : فأصب من رِسْلها ، يعني : من لبنها .

حدثنا الحسن بن يحيى ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا الثوري ، عن يحيى بن سعيد ، عن القاسم بن محمد ، قال : جاء أعرابيّ إلى ابن عباس ، فقال : إن في حجري أيتاما ، وإن لهم إبلاً ولي إبل ، وأنا أمنح من إبلي فقراء ، فماذا يحلّ لي من ألبانها ؟ قال : إن كنت تبغي ضالتها ، وتهنأ جرباها ، وتلوط حوضها ، وتسعى عليها ، فاشرب غير مضرّ بنسل ، ولا ناهك في الحلب .

حدثني المثنى ، قال : حدثنا عبد الوهاب ، قال : حدثنا داود ، عن أبي العالية في هذه الاَية : { وَمَنْ كانَ غَنيّا فَلْيَسْتَعْفِفْ وَمَنْ كانَ فَقِيرا فَلْيَأْكُلْ بالمَعْرُوفِ } قال : من فضل الرسل والثمرة .

حدثنا ابن المثنى ، قال : حدثنا عبد الأعلى ، قال : حدثنا داود ، عن أبي العالية في والي مال اليتيم ، قال : يأكل من رسل الماشية ، ومن الثمرة لقيامه عليه ، ولا يأكل من المال ، وقال : ألا ترى أنه قال : { فإذَا دَفعْتُمْ إلَيْهِمْ أمْوَالَهُمْ } ؟ .

حدثنا أبو كريب ، قال : حدثنا ابن إدريس ، قال : سمعت داود ، عن رُفَيْع أبي العالية ، قال : رخص لوليّ اليتيم أن يصيب من الرسل ، ويأكل من الثمرة¹ وأما الذهب والفضة فلا بدّ أن تردّ . ثم قرأ : { فإذَا دَفَعْتُمْ إلَيْهمْ أمْوَالهُمْ } ألا ترى أنه قال : لا بدّ من أن يدفع ؟ .

حدثني يعقوب بن إبراهيم ، قال : حدثنا هشيم ، قال : أخبرنا عوف ، عن الحسن أنه قال : إنما كانت أموالهم أدخال النخل والماشية ، فرخص لهم إذا كان أحدهم محتاجا أن يصيب من الرسل .

حدثني يعقوب ، قال : حدثنا هشيم ، قال : أخبرنا إسماعيل بن سالم ، عن الشعبي في قوله : { وَمَنْ كانَ فَقِيرا فَلْيَأْكُلْ بالمَعْرُوفِ } قال : إذا كان فقيرا أكل من التمر ، وشرب من اللبن وأصاب من الرسل .

حدثنا بشر بن معاذ ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة : { وَمَنْ كانَ فَقِيرا فَلْيَأْكُلْ بالمَعْرُوفِ } ذكر لنا أن عمّ ثابت بن رفاعة وثابت يومئذٍ يتيم في حجره من الأنصار ، أتى نبيّ الله صلى الله عليه وسلم ، فقال : يا نبيّ الله ، إن ابن أخي يتيم في حجري ، فما يحلّ لي من ماله ؟ قال : «أنْ تأْكُلَ بالمَعْرُوف مِنْ غَيْرِ أنْ تَقِيَ مالَكَ بمالِهِ ، وَلا تَتّخِذَ مِنْ مالِهِ وَفْرا » وكان اليتيم يكون له الحائط من النخل ، فيقوم وليه على صلاحه وسقيه ، فيصيب من ثمرته . أو تكون له الماشية ، فيقوم وليه على صلاحها ، أو يلي علاجها ومؤنتها فيصيب من جُزَازها وعوارضها ورِسْلها ، فأما رقاب المال وأصول المال ، فليس له أن يستهلكه .

حُدثت عن الحسين بن الفرج ، قال : سمعت أبا معاذ ، يقول : أخبرنا عبيد بن سليمان ، قال : سمعت الضحاك يقول في قوله : { وَمَنْ كانَ فَقِيرا فَلْيَأْكُلْ بالمَعْروفِ } يعني : ركوب الدابة وخدمه الخادم ، فإن أخذ من ماله قرضا في غنى ، فعليه أن يؤدّيه ، وليس له أن يأكل من ماله شيئا .

وقال آخرون منهم : له أن يأكل من جميع المال إذا كان يلي ذلك وإن أتى على المال ولا قضاء عليه . ذكر من قال ذلك :

حدثنا أبو كريب ، قال : حدثنا إسماعيل بن صبيح ، عن أبي إدريس ، عن يحيى بن سعيد وربيعة جميعا ، عن القاسم بن محمد ، قال : سئل عمر بن الخطاب رضي الله عنه عما يصلح لوليّ اليتيم ؟ قال : إن كان غنيا فليستعفف ، وإن كان فقيرا فليأكل بالمعروف .

حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : أخبرنا يحيى بن أيوب ، عن محمد بن عجلان ، عن زيد بن أسلم ، عن أبيه ، أن عمر بن الخطاب كان يقول : يحلّ لوليّ الأمر ما يحلّ لوليّ اليتيم ، من كان غنيا فليستعفف ، ومن كان فقيرا فليأكل بالمعروف .

حدثني يعقوب بن إبراهيم ، قال : حدثنا هشيم ، قال : أخبرنا الفضل بن عطية ، عن عطاء بن أبي رباح في قوله : { وَمَنْ كانَ فَقِيرا فَلْيَأْكُلْ بالمَعْرُوف } قال : إذا احتاج فليأكل بالمعروف ، فإن أيسر بعد ذلك فلا قضاء عليه .

حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا يحيى بن واضح ، قال : حدثنا الحسين بن واقد ، عن يزيد النحوي ، عن عكرمة والحسن البصري ، قالا : ذكر الله تبارك وتعالى مال اليتامى ، فقال : { وَمَنْ كانَ غَنِيّا فَلْيَسْتَعْففْ وَمَنْ كانَ فَقِيرا فَلْيَأْكُلْ بالمَعْرُوفِ } ومعروف ذلك : أن يتقي الله في يتيمه .

حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا حكام ، عن عمرو ، عن منصور ، عن إبراهيم : أنه كان لا يرى قضاء على وليّ اليتيم إذا أكل وهو محتاج .

حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا جرير ، عن منصور ، عن مغيرة ، عن حماد ، عن إبراهيم : { فَلْيَأْكُلْ بالمَعْرُوفِ } في الوصيّ قال : لا قضاء عليه .

حدثنا ابن المثنى ، قال : حدثنا محمد بن جعفر ، قال : حدثنا شعبة ، عن منصور ، عن إبراهيم أنه قال في هذه الاَية : { وَمَنْ كانَ فَقِيرا فَلْيَأْكُلْ بالمَعْرُوفِ } قال : إذا عمل فيه وليّ اليتيم أكل بالمعروف .

حدثنا بشر بن محمد ، قال : حدثنا يزيد بن زريع ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة ، قال : كان الحسن يقول : إذا احتاج أكل بالمعروف من المال ، طُعْمَةًمن الله له .

حدثنا الحسن بن يحيى ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا ابن عيينة ، عن عمرو بن دينار ، عن الحسن البصري ، قال : قال رجل للنبيّ صلى الله عليه وسلم : إن في حجري يتيما أفأضربه ؟ قال : «فِيما كُنْتَ ضَارِبا مِنْهُ وَلَدَكَ » ؟ قال : أفأصيب من ماله ؟ قال : «بالمَعْروفِ غيرَ مُتأثّلٍ مالاً ، وَلا وَاقٍ مَالكَ بِمَالِهِ » .

حدثنا الحسن بن يحيى ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا الثوري ، عن ابن أبي نجيح ، عن الزبير بن موسى ، عن الحسن البصري ، مثله .

حدثنا محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، عن عيسى ، عن ابن أبي نجيح ، عن عطاء أنه قال : يضع يده مع أيديهم ، فيأكل معهم . كقدر خدمته وقدر عمله .

حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جريج ، عن هشام بن عروة ، عن أبيه ، عن عائشة ، قالت : وليّ اليتيم إذا كان محتاجا يأكل بالمعروف لقيامه بماله .

حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد : وسألته عن قول الله تبارك وتعالى : { وَمَنْ كانَ غَنيّا فَلْيَسْتَعْفِفْ ومَنْ كانَ فَقِيرا فَلْيَأْكُلْ بالمَعْرُوفِ } قال : إن استغنى كفّ ، وإن كان فقيرا أكل بالمعروف . قال : أكل بيده معهم لقيامه على أموالهم وحفظه إياها ، يأكل مما يأكلون منه ، وإن استغنى كفّ عنه ولم يأكل منه شيئا .

قال أبو جعفر : وأولى الأقوال في ذلك بالصواب ، قول من قال بالمعروف الذي عناه الله تبارك وتعالى في قوله : { وَمَنْ كانَ فَقِيرا فَلْيَأْكُلْ بالمَعْرُوفِ } : أكل مال اليتيم عند الضرورة والحاجة إليه على وجه الاستقراض منه ، فأما على غير ذلك الوجه ، فغير جائز له أكله . وذلك أن الجميع مجمعون على أن والي اليتيم لا يملك من مال يتيمه إلا القيام بمصلحته . فلما كان إجماعا منهم أنه غير مالكه ، وكان غير جائز لأحد أن يستهلك مال أحد غيره ، يتيما كان ربّ المال أو مدركا رشيدا ، وكان عليه إن تعدّى فاستهلكه بأكل أو غيره ضمانه لمن استهلكه عليه بإجماع من الجميع ، وكان والي اليتيم سبيله سبيل غيره في أنه لا يملك مال يتيمه ، كان كذلك حكمه فيما يلزمه من قضائه إذا أكل منه سبيله سبيل غيره وإن فارقه في أن له الاستقراض منه عند الحاجة إليه كما له الاستقراض عليه عند حاجته إلى ما يستقرض عليه إذا كان قيما بما فيه مصلحته ، ولا معنى لقول من قال : إنما عنى بالمعروف في هذا الموضع أكل والي اليتيم ، من مال اليتيم¹ لقيامه على وجه الاعتياض على عمله وسعيه ، لأن الوالي اليتيم أن يؤاجر نفسه منه للقيام بأموره إذا كان اليتيم محتاجا إلى ذلك بأجرة معلومة ، كما يستأجر له غيره من الأجراء ، وكما يشتري له من نصيبه غنيا كان الوالي أو فقيرا . وإذا كان ذلك كذلك ، وكان الله تعالى ذكره قد دلّ بقوله : { وَمَنْ كانَ غَنِيّا فَلْيَسْتَعْفِفْ وَمَنْ كانَ فَقِيرا فَلْيَأْكُلْ بالمَعْرُوفِ } على أنه أكل مال اليتيم إنما أذن لمن أذن له من ولاته في حال الفقر والحاجة ، وكانت الحال التي للولاة أن يؤجروا أنفسهم من الأيتام مع حاجة الأيتام إلى الأجراء ، غير مخصوص بها حال غنى ولا حال فقر ، كان معلوما أن المعنى الذي أبيح لهم من أموال أيتامهم في كلّ أحوالهم ، غير المعنى الذي أبيح لهم ذلك فيه في حال دون حال . ومن أبى ما قلنا ممن زعم أن لوليّ اليتيم أكل مال يتيمه عند حاجته إليه على غير وجه القرض استدلالاً بهذه الاَية ، قيل له : أمجمع على أن الذي قلت تأويل قوله : { وَمَن كانَ فَقِيرا فَلْيَأْكُلْ بالمَعْرُوفِ } ؟ فإن قال لا ، قيل له : فما برهانك على أن ذلك تأويله ، وقد علمت أنه غير مالك مال يتيمه ؟ فإن قال : لأن الله أذن له بأكله ، قيل له : أذن له بأكله مطلقا ، أم بشرط ؟ فإن قال بشرط ، وهو أن يأكله بالمعروف ، قيل له : وما ذلك المعروف وقد علمت القائلين من الصحابة والتابيعن ومن بعدهم من الخالفين إن ذلك هو أكله قرضا وسلفا ؟ ويقال لهم أيضا مع ذلك : أرأيت المولى عليهم في أموالهم من المجانين والمعاتيه ألولاة أموالهم أن يأكلوا من أموالهم عند حاجتهم إليه على غير وجه القرض لا الاعتياض من قيامهم بها ، كما قلتم ذلك في أموال اليتامى فأبحتموها لهم ؟ فإن قالوا ذلك لهم ، خرجوا من قول جميع الحجة ، وإن قالوا ليس ذلك لهم ، قيل لهم : فما الفرق بين أموالهم وأموال اليتامى وحكم ولاتهم واحد في أنهم ولاة أموال غيرهم ؟ فلن يقولوا في أحدهما شيئا إلا ألزموا في الاَخر مثله . ويسألون كذلك عن المحجور عليه ، هل لمن يلي ماله أن يأكل ماله عند حاجته إليه ؟ نحو سؤالناهم عن أموال المجانين والمعاتيه .

القول في تأويل قوله تعالى : { فإذَا دَفَعْتُمْ إلَيْهِمْ أمْوَالَهُمْ فأشْهِدُوا عَلَيْهِمْ } .

قال أبو جعفر : يعني بذلك جلّ ثناؤه : وإذا دفعتم يا معشر ولاة أموال اليتامى إلى اليتامى أموالهم ، فأشهدوا عليهم ، يقول : فأشهدوا على الأيتام باستيفائهم ذلك منكم ودفعكموه إليهم . كما :

حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس ، قوله : { فإذَا دَفَعْتُمْ إلَيْهِمْ أمْوَالَهُمْ فأشْهِدُوا عَلَيْهِمْ } يقول : إذا دفع إلى اليتيم ماله ، فليدفعه إليه بالشهود ، كما أمره الله تعالى .

القول في تأويل قوله تعالى : { وكَفَى باللّهِ حَسِيبا } .

يقول تعالى ذكره : وكفى بالله كافيا من الشهود الذي يُشهدهم والي اليتيم على دفعه مال يتيمه إليه . كما :

حدثنا محمد بن الحسين ، قال : حدثنا أحمد بن مفضل ، قال : حدثنا أسباط ، عن السديّ : { وكَفَى باللّهِ حَسِيبا } يقول : شهيدا .

يقال منه : قد أحسبني الذي عندي ، يراد به : كفاني . وسمع من العرب : لأُحْسِبَنّكم من الأسودين ، يعني به : من الماء والتمر ، والمُحْسِبُ من الرجال : المرتفع الحسب ، والمُحْسَبُ : المكفيّ .

 
أنوار التنزيل وأسرار التأويل للبيضاوي - البيضاوي [إخفاء]  
{وَٱبۡتَلُواْ ٱلۡيَتَٰمَىٰ حَتَّىٰٓ إِذَا بَلَغُواْ ٱلنِّكَاحَ فَإِنۡ ءَانَسۡتُم مِّنۡهُمۡ رُشۡدٗا فَٱدۡفَعُوٓاْ إِلَيۡهِمۡ أَمۡوَٰلَهُمۡۖ وَلَا تَأۡكُلُوهَآ إِسۡرَافٗا وَبِدَارًا أَن يَكۡبَرُواْۚ وَمَن كَانَ غَنِيّٗا فَلۡيَسۡتَعۡفِفۡۖ وَمَن كَانَ فَقِيرٗا فَلۡيَأۡكُلۡ بِٱلۡمَعۡرُوفِۚ فَإِذَا دَفَعۡتُمۡ إِلَيۡهِمۡ أَمۡوَٰلَهُمۡ فَأَشۡهِدُواْ عَلَيۡهِمۡۚ وَكَفَىٰ بِٱللَّهِ حَسِيبٗا} (6)

{ وابتلوا اليتامى } اختبروهم قبل البلوغ بتتبع أحوالهم في صلاح الدين ، والتهدي إلى ضبط المال وحسن التصرف ، بأن يكل إليه مقدمات العقد . وعن أبي حنيفة رحمه الله تعالى بأن يدفع إليه ما يتصرف فيه . { حتى إذا بلغوا النكاح } حتى إذا بلغوا حد البلوغ بأن يحتلم ، أو يستكمل خمس عشرة سنة عندنا لقوله عليه الصلاة والسلام : " إذا استكمل الولد خمس عشرة سنة ، كتب ما له وما عليه وأقيمت عليه الحدود " . وثماني عشرة عند أبي حنيفة رحمه الله تعالى . وبلوغ النكاح كناية عن البلوغ ، لأنه يصلح للنكاح عنده .

{ فإن آنستم منهم رشدا } فإن أبصرتم منهم رشدا . وقرئ أحستم بمعنى أحسستم . { فادفعوا إليهم أموالهم } من غير تأخير عن حد البلوغ ، ونظم الآية أن إن الشرطية جواب إذا المتضمنة معنى الشرط ، والجملة غاية الابتلاء فكأنه قيل ؛ وابتلوا اليتامى إلى وقت بلوغهم واستحقاقهم دفع أموالهم إليهم بشرط إيناس الرشد منهم ، وهو دليل على أنه لا يدفع إليهم ما لم يؤنس منهم الرشد . وقال أبو حنيفة رحمه الله تعالى : إذا زادت على سن البلوغ سبع سنين وهي مدة معتبرة في تغير الأحوال ، إذ الطفل يميز بعدها ويؤمر بالعبادة ، دفع إليه المال وإن لم يؤنس منه الرشد . { ولا تأكلوها إسرافا وبدارا أن يكبروا } مسرفين ومبادرين كبرهم ، أو لإسرافكم ومبادرتكم كبرهم . { ومن كان غنيا فليستعفف } من أكلها . { ومن كان فقيرا فليأكل بالمعروف } بقدر حاجته وأجرة سعيه ، ولفظ الاستعفاف والأكل بالمعروف مشعر بأن الولي له حق في مال الصبي ، وعنه عليه الصلاة والسلام " أن رجلا قال له إن في حجري يتيما أفآكل من ماله ؟ قال : كل بالمعروف غير متأثل مالا ولا واق مالك بماله " وإيراد هذا التقسيم بعد قوله ولا تأكلوها يدل على أنه نهي للأولياء أن يأخذوا وينفقوا على أنفسهم أموال اليتامى . { فإذا دفعتم إليهم أموالهم فأشهدوا عليهم } بأنهم قبضوها فإنه أنفى للتهمة وأبعد من الخصومة ، ووجوب الضمان وظاهره يدل على أن القيم لا يصدق في دعواه إلا بالبينة وهو المختار عندنا وهو مذهب مالك خلافا لأبي حنيفة . { وكفى بالله حسيبا } محاسبا فلا تخالفوا ما أمرتم به ولا تتجاوزوا ما حد لكم .

 
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية - ابن عطية [إخفاء]  
{وَٱبۡتَلُواْ ٱلۡيَتَٰمَىٰ حَتَّىٰٓ إِذَا بَلَغُواْ ٱلنِّكَاحَ فَإِنۡ ءَانَسۡتُم مِّنۡهُمۡ رُشۡدٗا فَٱدۡفَعُوٓاْ إِلَيۡهِمۡ أَمۡوَٰلَهُمۡۖ وَلَا تَأۡكُلُوهَآ إِسۡرَافٗا وَبِدَارًا أَن يَكۡبَرُواْۚ وَمَن كَانَ غَنِيّٗا فَلۡيَسۡتَعۡفِفۡۖ وَمَن كَانَ فَقِيرٗا فَلۡيَأۡكُلۡ بِٱلۡمَعۡرُوفِۚ فَإِذَا دَفَعۡتُمۡ إِلَيۡهِمۡ أَمۡوَٰلَهُمۡ فَأَشۡهِدُواْ عَلَيۡهِمۡۚ وَكَفَىٰ بِٱللَّهِ حَسِيبٗا} (6)

هذه مخاطبة للجميع ، والمعنى : يخلص التلبس بهذا الأمر للأوصياء ، والابتلاء : الاختبار ، و { بلغوا النكاح } ، معناه : بلغوا مبلغ الرجال بحلم وحيض أو ما يوازيه ، ومعناه : جربوا عقولهم وقرائحهم وتصرفهم ، و { آنستم } ، معناه علمتم وشعرتم وخبرتم ، كما قال الشاعر : [ الخفيف ]

آنَسَتْ نَبْأَةً وأفزعها القنّاص . . . عَصْراً وَقَدْ دَنَا الإمْساءُ

وقرأ ابن مسعود - «أ حسْتم » - بالحاء وسكون السين على مثال فعلتم ، وقرأ أبو عبد الرحمن وأبو السمال وابن مسعود وعيسى الثقفي : «رشداً » بفتح الراء والشين والمعنى واحد ، ومالك رحمه الله يرى الشرطين : البلوغ ، والرشد المختبر ، وحينئذ يدفع المال ، وأبو حنيفة يرى أن يدفع المال بالشرط الواحد ما لم يحتفظ له سفه كما أبيحت التسرية بالشرط الواحد وكتاب الله قد قيدها بعدم الطول وخوف العنت ، إلى غير ذلك من الأمثلة ، كاليمين والحنث اللذين بعدهما تجب الكفارة ، ولكنها تجوز قبل الحنث .

قال القاضي أبو محمد : والتمثيل عندي في دفع المال بنوازل الشرطين غير صحيح ، وذلك أن البلوغ لم تسقه الآية سياق الشرط ، ولكنه حالة الغالب على بني آدم أن تلتئم عقولهم فيها ، فهو الوقت الذي لا يعتبر شرط الرشد إلا فيه ، فقال إذا بلغ ذلك الوقت فلينظر إلى الشرط وهو الرشد حينئذ ، وفصاحة الكلام تدل على ذلك ، لأن التوقيف بالبلوغ جاء ب { إذا } والمشروط جاء ب { إن } التي هي قاعدة حروف الشرط ، و { إذا } ليست بحرف شرط لحصول ما بعدها ، وأجاز سيبويه أن يجازى بها في الشعر ، وقال : فعلوا ذلك مضطرين ، وإنما جوزي به لأنها تحتاج إلى جواب ، ولأنها يليها الفعل مظهراً أو مضمراً ، واحتج الخليل على منع شرطيتها بحصول ما بعدها ، ألا ترى أنك تقول أجيئك إذا احمر البسر ، ولا تقول : إن احمر البسر ، وقال الحسن وقتادة : الرشد في العقل والدين ، وقال ابن عباس : بل في العقل وتدبير المال لا غير ، وهو قول ابن القاسم في مذهبنا ، والرواية الأخرى : أنه في العقل والدين مروية عن مالك ، وقالت فرقة : دفع الوصي المال إلى المحجور يفتقر إلى أن يرفعه إلى السلطان ويثبت عنده رشده ، أو يكون ممن يأمنه الحاكم في مثل ذلك ، وقالت فرقة : ذلك موكول إلى اجتهاد الوصي دون أن يحتاج إلى رفعه إلى السلطان .

قال القاضي أبو محمد : والصواب في أوصياء زمننا أن لا يستغنى عن رفعه إلى السلطان وثبوت الرشد عنده ، لما حفظ من تواطؤ الأوصياء على أن يرشد الوصي ويبرأ المحجور لسفهه وقلة تحصيله في ذلك الوقت ، وقوله : { ولا تأكلوها } الآية ، نهي من الله تعالى للأوصياء عن أكل أموال اليتامى بغير الواجب المباح لهم ، والإسراف : الإفراط في الفعل ، والسرف الخطأ في مواضع الإنفاق ، ومنه قول الشاعر [ جرير ] : [ البسيط ]

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . *** ما في عَطائِهِمُ مَنٌّ وَلاَ سَرَفُ{[3857]}

أي لا يخطئون مواضع العطاء { وبداراً } : معناه مبادرة كبرهم ، أي إن الوصي يستغنم مال محجوره فيأكل ويقول : أبادر كبره لئلا يرشد ويأخذ ماله ، قاله ابن عباس وغيره . و { أن يكبروا } نصب ببدار ، ويجوز أن يكون التقدير مخافة أن وقوله : { ومن كان غنياً فليستعفف } الآية ، يقال : عف الرجل عن الشيء واستعف : إذا أمسك ، فأمر الغني بالإمساك عن مال اليتيم ، وأباح الله للوصي الفقير أن يأكل من مال يتيمه بالمعروف ، واختلف العلماء في حد المعروف ، فقال عمر بن الخطاب وابن عباس وعبيدة وابن جبير والشعبي ومجاهد وأبو العالية : إن ذلك القرض أن يتسلف من مال يتيمه ويقضي إذا أيسر ، ولا يتسلف أكثر من حاجته ، وقال ابن عباس أيضاً وعكرمة والسدي وعطاء : روي عن عمر رضي الله عنه أنه قال{[3858]} : إني نزلت من مال الله منزلة والي اليتيم ، إن استغنيت استعففت ، وإن احتجت أكلت بالمعروف ، فإذا أيسرت قضيت . وروي عن إبراهيم وعطاء وغيرهما أنه لا قضاء على الوصي الفقير فيما أكل بالمعروف ، قال الحسن : هي طعمة من الله له ، وذلك أن يأكل ما يقيمه أكلاً بأطراف الأصابع ، ولا يكتسي منه بوجه ، وقال إبراهيم النخعي ومكحول : يأكل ما يقيمه ويكتسي ما يستر عورته ، ولا يلبس الكتان والحلل ، وقال ابن عباس وأبو العالية والحسن والشعبي : إنما يأكل الوصي بالمعروف إذا شرب من اللبن وأكل من الثمر بما يهنأ الجربى ويليط الحوض ويجد الثمر وما أشبهه ، وقالت فرقة : المعروف أنه يكون له أجر بقدر عمله وخدمته ، وقال الحسن بن حي : إن كان وصي أب فله الأكل بالمعروف ، وإن كان وصي حاكم فلا سبيل له إلى المال بوجه ، وقال ابن عباس والنخعي : المراد أن يأكل الوصي بالمعروف من ماله حتى لا يحتاج إلى مال اليتيم ، وقال ربيعة بن أبي عبد الرحمن : المراد اليتامى في الحالين ، أي : من كان منهم غنياً فليعف بماله ، ومن كان فقيراً فليتقتر عليه بالمعروف والاقتصاد ، وقوله : { فإذا دفعتم } الآية . أمر من الله بالتحرز والحزم ، وهذا هو الأصل في الإشهاد في المدفوعات كلها ، إذا كان حبسها أولاً معروفاً ، وقالت فرقة : الإشهاد ها هنا فرض وقالت فرقة : هو ندب إلى الحزم ، وروى عمر بن الخطاب وابن جبيرة أن هذا هو دفع ما يستقرضه الوصي الفقير إذا أيسر ، واللفظ يعم هذا وسواه ، والحسيب هنا المحسب ، أي هو كاف من الشهود ، هكذا قال الطبري ، والأظهر { حسيباً } معناه : حاسباً أعمالكم ومجازياً بها ، ففي هذا وعيد لكل جاحد حق .


[3857]:- شطر البيت لجرير (ديوانه: 174) وصدره: أعطوا هنيدة يحدوها ثمانية والهنيدة: مائة من الإبل، يحدوها: أي يسوقها ثمانية من العبيد. والمن: الفخر بالإحساس واستكثاره.
[3858]:- انظر طبقات ابن سعد 3/ 276.
 
التحرير والتنوير لابن عاشور - ابن عاشور [إخفاء]  
{وَٱبۡتَلُواْ ٱلۡيَتَٰمَىٰ حَتَّىٰٓ إِذَا بَلَغُواْ ٱلنِّكَاحَ فَإِنۡ ءَانَسۡتُم مِّنۡهُمۡ رُشۡدٗا فَٱدۡفَعُوٓاْ إِلَيۡهِمۡ أَمۡوَٰلَهُمۡۖ وَلَا تَأۡكُلُوهَآ إِسۡرَافٗا وَبِدَارًا أَن يَكۡبَرُواْۚ وَمَن كَانَ غَنِيّٗا فَلۡيَسۡتَعۡفِفۡۖ وَمَن كَانَ فَقِيرٗا فَلۡيَأۡكُلۡ بِٱلۡمَعۡرُوفِۚ فَإِذَا دَفَعۡتُمۡ إِلَيۡهِمۡ أَمۡوَٰلَهُمۡ فَأَشۡهِدُواْ عَلَيۡهِمۡۚ وَكَفَىٰ بِٱللَّهِ حَسِيبٗا} (6)

{ وابتلوا اليتامى حتى إِذَا بَلَغُواْ النِّكَاحَ فَإِنْ ءَانَسْتُمْ مِّنْهُمْ رُشْداً فادفعوا إِلَيْهِمْ أموالهم وَلاَ تَأْكُلُوهَآ إِسْرَافاً وَبِدَاراً أَن يَكْبَرُواْ } .

يجوز أن يكون جملة { وابتلوا } معطوفة على جملة { ولا تؤتوا السفهاء أموالكم } [ النساء : 5 ] لتنزيلها منها منزلة الغاية للنهي . فإن كان المراد من السفهاء هنالك خصوص اليتامى فيتّجه أن يقال : لماذا عدل عن الضمير إلى الاسم الظاهر وعن الاسم الظاهر المساوي للأوّل إلى التعبير بآخر أخصّ وهو اليتامى ، ويجاب بأنّ العدول عن الإضمار لزيادة الإيضاح والاهتمام بالحكم ، وأنّ العدول عن إعادة لفظ السفهاء إيذان بأنّهم في حالة الابتلاء مرجو كمال عقولهم ، ومتفاءل بزوال السفاهة عنهم ، لئلاّ يلوح شبه تناقض بين وصفهم بالسفه وإيناس الرشد منهم ، وإن كان المراد من السفهاء هنالك أعمّ من اليتامى ، وهو الأظهر ، فيتّجه أن يقال : ما وجه تخصيص حكم الابتلاء والاستيناس باليتامى دون السفهاء ؟ ويجاب بأنّ الإخبار لا يكون إلاّ عند الوقت الذي يرجى فيه تغيّر الحال ، وهو مراهقة البلوغ ، حين يرجى كمال العقل والتنقّل من حال الضعف إلى حال الرشد ، أمّا من كان سفهه في حين الكبر فلا يعرف وقت هو مظنّة لانتقال حاله وابتلائه .

ويجوز أن تكون جملة { وابتلوا } معطوفة على جملة { وآتوا اليتامى أموالهم } [ النساء : 2 ] لبيان كيفية الإيتاء ومقدّماته ، وعليه فالإظهار في قوله : { اليتامى } لبعد ما بين المعاد والضمير ، لو عبّر بالضمير .

والابتلاء : الاختبار ، وحتّى ابتدائية ، وهي مفيدة للغاية ، لأنّ إفادتها الغاية بالوضع ، وكونَها ابتدائية أو جارّة استعمالاتٌ بحسب مدخولها ، كما تقدّم عند قوله تعالى : { حتى إذا فشلتم } في سورة [ آل عمران : 152 ] . و ( إذا ) ظرف مضمّن معنى الشرط ، وجمهور النحاة على أنّ ( حتّى ) الداخلة على ( إذا ) ابتدائية لا جارّة .

والمعنى : ابتلوا اليتامى حتّى وقت إن بلغوا النكاح فادفعوا إليهم أموالهم وما بعد ذلك ينتهي عنده الابتلاء ، وحيث علم أنّ الابتلاء لأجل تسليم المال فقد تقرّر أنّ مفهوم الغاية مراد منه لازمه وأثره ، وهو تسليم الأموال . وسيصرّح بذلك في جواب الشرط الثاني .

والابتلاء هنا : هو اختبار تصرّف اليتيم في المال باتّفاق العلماء ، قال المالكية : يدفع لليتيم شيء من المال يمكنه التصرّف فيه من غير إجحاف ، ويردّ النظر إليه في نفقة الدار شهراً كاملاً ، وإن كانت بنتاً يفوّض إليها ما يفوّض لربّة المنزل ، وضبط أموره ، ومعرفة الجيّد من الرديء ، ونحو ذلك ، بحسب أحوال الأزمان والبيوت . وزاد بعض العلماء الاختبار في الدين ، قاله الحسن ، وقتادة ، والشافعي . وينبغي أن يكون ذلك غير شرط إذ مقصد الشريعة هنا حفظ المال ، وليس هذا الحكم من آثار كليّة حفظ الدين .

وبلوغ النكاح على حذف مضاف ، أي بلوغ وقت النكاح أي التزوّج ، وهو كناية عن الخروج من حالة الصبا للذكر والأنثى ، وللبلوغ علامات معروفة ، عبّر عنها في الآية ببلوغ النكاح بناء على المتعارف عند العرب من التبكير بتزويج البنت عن البلوغ .

ومن طلب الرجل الزواج عند بلوغه ، وبلوغ صلاحية الزواج تختلف باختلاف البلاد في الحرارة والبرودة ، وباختلاف أمزجة أهل البلد الواحد في القوّة والضعف ، والمزاج الدموي والمزاج الصفراوي ، فلذلك أحاله القرآن على بلوغ أمد النكاح ، والغالب في بلوغ البنت أنّه أسبق من بلوغ الذكر ، فإن تخلّفت عن وقت مظنّتها فقال الجمهور : يستدلّ بالسنّ الذي لا يتخلّف عنه أقصى البلوغ عادة ، فقال مالك ، في رواية ابن القاسم عنه : هو ثمان عشرة سنة للذكور والإناث ، وروي مثله عن أبي حنيفة في الذكور ، وقال : في الجاري سَبْع عشرة سنة ، وروى غيْر ابن القاسم عن مالك أنّه سبع عشرة سنة . والمشهور عن أبي حنيفة : أنّه تسع عشرة سنة للذكور وسبع عشرة للبنات ، وقال الجمهور : خمس عشرة سنة . قاله القاسم بن محمد ، وسالم بن عبد الله بننِ عُمر ، وإسحاق ، والشافعي ، وأحمد ، والأوزاعي ، وابن الماجشون ، وبه قال أصبغ ، وابن وهب ، من أصحاب مالك ، واختاره الأبهري من المالكية ، وتمسّكوا بحديث ابن عمر أنّه عرضَه رسولُ الله يوم بدر وهو ابن أربع عشرة سنة فلم يُجزه ، وعرضه يوم أحُد وهو ابن خمس عشرة فأجازه . ولا حجّة فيه إذ ليس يلزم أن يكون بلوغ عبد الله بن عمر هو معيار بلوغ عموم المسلمين ، فصادف أن رآه النبي وعليه ملامح الرجال ، فأجازه ، وليس ذكر السنّ في كلام ابن عمر إيماء إلى ضبط الإجازة . وقد غفل عن هذا ابن العربي في أحكام القرآن ، فتعجّب من ترك هؤلاء الأيمّة تحديد سنّ البلوغ بخمس عشرة سنة ، والعجبُ منه أشدّ من عجبه منهم ، فإنّ قضية ابن عمر قضية عَين ، وخلاف العلماء في قضايا الأعيان مَعلوم ، واستدلّ الشافعية بما روى أنّ النبي قال : إذا استكمل الولد خمس عشرة سنة كتب ما لَه وما عليه ، وأقيمت عليه الحدود . وهو حديث ضعيف لا ينبغي الاستدلال به .

ووقت الابتلاء يكون بعد التمييز لا محالة ، وقبل البلوغ : قاله ابن الموّاز عن مالك ، ولعلّ وجهه أنّ الابتلاء قبل البلوغ فيه تعريض بالمال للإضاعة لأنّ عقل اليتيم غير كامل ، وقال البغداديون من المالكية : الابتلاء قبل البلوغ . وعبّر عن استكمال قوّة النماء الطبيعي بـ{ بلغوا النكاح } ، فأسند البلوغ إلى ذواتهم لأنّ ذلك الوقت يدعو الرجل للتزوّج ويدعو أولياء البنت لتزويجها ، فهو البلوغ المتعارف الذي لا متأخّر بعده ، فلا يشكل بأنّ الناس قد يزوّجون بناتهم قبل سنّ البلوغ ، وأبناءهم أيضاً في بعض الأحوال ، لأنّ ذلك تعجّل من الأولياء لأغراض عارضة ، وليس بلوغاً من الأبناء أو البنات .

وقوله : { فإن آنستم منهم رشداً } شرط ثان مقيّد للشرط الأول المستفاد من { إذا بَلغوا } . وهو وجوابه جواب ( إذا ) ، ولذلك قرن بالفاء ليكون نصّاً في الجواب ، وتكون ( إذا ) نصّاً في الشرط ، فإنّ جواب ( إذا ) مستغن عن الربط بالفاء لولا قصد التنصيص على الشرطية .

وجاءت الآية على هذا التركيب لتدلّ على أنّ انتهاء الحجر إلى البلوغ بالأصالة ، ولكن بشرط أن يُعرف من المحجور الرشد ، وكلّ ذلك قطع لمعاذير الأوصياء من أن يمسكوا أموال محاجيرهم عندهم مدّة لزيادة التمتّع بها .

ويتحصّل من معنى اجتماع الشرطين في الكلام هنا ، إذ كان بدون عطف ظاهر أو مقدّر بالقرينة ، أنّ مجموعهما سبب لتسليم المال إلى المحجور ، فلا يكفي حصول أحدهما ولا نظر إلى الذي يحصل منهما ابتداء ، وهي القاعدة العامّة في كلّ جملة شرط بنيت على جملة شرط آخر ، فلا دلالة لهما إلاّ على لزوم حصول الأمرين في مشروط واحد ، وعلى هذا جرى قول المالكية ، وإمامِ الحرمين . ومن العلماء من زعم أنّ ترتيب الشرطين يفيد كون الثاني منهما في الذكر هو الأوّل في الحصول . ونسبه الزجّاجي في كتاب « الأذكار » إلى ثعلب ، واختاره ابن مالك وقال به من الشافعية : البغوي ، والغزالي في الوسيط ، ومن العلماء من زعم أنّ ترتيب الشرطين في الحصول يكون على نحو ترتيبهما في اللفظ ، ونسبه الشافعية إلى القفّال ، والقاضي الحسين ، والغزالي في « الوجيز » ، والإمام الرازي في « النهاية » ، وبنوا على ذلك فروعاً في تعليق الشرط على الشرط في الإيمان ، وتعليق الطلاق والعتاق ، وقال إمام الحرمين : لا معنى لاعتبار الترتيب ، وهو الحقّ ، فإنّ المقصود حصولها بقطع النظر عن التقدّم والتأخّر ، ولا يظهر أثر للخلاف في الإخبار وإنشاء الأحكام ، كما هنا ، وإنّما قد يظهر له أثر في إنشاء التعاليق في الأيمان ، وأيمان الطلاق والعتاق ، وقد علمت أنّ المالكية لا يرون لذلك تأثيراً . وهو الصواب .

واعلم أنّ هذا إذا قامت القرينة على أنّ المراد جعل الشرطين شرطاً في الجواب ، وذلك إذا تجرّد عن العطف بالواو ولو تقديراً ، فلذلك يتعيّن جعل جملة الشرط الثاني وجوابه جواباً للشرط الأول ، سواء ارتبطت بالفاء كما في هذه الآية أم لم ترتبط ، كما في قوله : { ولا ينفعكم نصحي إن أردت أن أنصح لكم إن كان الله يريد أن يغويكم } [ هود : 34 ] . وأمّا إذا كان الشرطان على اعتبار الترتيب فلكلّ منهما جواب مستقلّ نحو قوله تعالى : { يأيّها النبي إنا أحللنا لك أزواجك } إلى قوله : { وامرأة مؤمنة إن وهبت نفسها للنبيء إن أراد النبي أن يستنكحها } [ الأحزاب : 50 ] . فقوله : { إن وهبت } شرط في إحلال امرأة مؤمنة له ، وقوله : { إنْ أرَادَ النَّبِىُّ } شرط في انعقاد النكاح ، لئلاّ يتوهّم أنّ هبة المرأة نفسها للنبي تعيِّن عليه تزوّجها ، فتقدير جوابه : إن أراد فله ذلك ، وليسا شرطين للإحلال لظهور أنّ إحلال المرأة لا سبب له في هذه الحالة إلاّ أنّها وهبت نفسها .

وفي كلتا حالتي الشرط الوارد على شرط يجعل جواب أحدهما محذوفاً دلّ عليه المذكور ، أو جواب أحدهما جواباً للآخر : على الخلاف بين الجمهور والأخفش ، إذ ليس ذلك من تعدّد الشروط وإنَّما يتأتَّى ذلك في نحو قولك : « إن دخلت دار أبي سفيان ، وإن دخلت المسجد الحرام ، فأنت آمن » وفي نحو قولك : « إن صليت إن صمت أُثْبِت » من كلّ تركيب لا تظهر فيه ملازمة بين الشرطين ، حتَّى يصير أحدهما شرطاً في الآخر .

هذا تحقيق هذه المسألة الذي أطال فيه كثير وخصّها تقيّ الدين السبكي برسالة وهي مسألة سأل عنها القاضي ابنُ خلكان الشيخ ابن الحاجب كما أشار إليه في ترجمته من كتاب « الوفيات » ، ولم يفصّلها ، وفصّلها ، الدماميني في « حاشية مغني اللبيب » .

وإيناس الرشد هنا علمه ، وأصل الإيناس رؤية الإنسي أي الإنسان ، ثمّ أطلق على أوّل ما يتبادر من العلم ، سواء في المبصرات ، نحو : { آنس من جانب الطُّور ناراً } [ القصص : 29 ] أم في المسموعات ، نحو قول الحارث بن حلزة في بقرة وحشية :

ءانَسَتْ نَبْأةً وأفْزَعَهَا القُن *** اصُ عَصْراً وقد دَنا الإمْساء

وكأنّ اختيار { آنستم } هنا دون علمتم للإشارة إلى أنّه إن حصل أوّل العلم برشدهم يدفع إليهم مالهم دون تراخ ولا مطل .

والرشد بضم الراء وسكون الشين ، وتفتح الراء فيفتح الشين ، وهما مترادفان وهو انتظام تصرّف العقل ، وصدور الأفعال عن ذلك بانتظام ، وأريد به هنا حفظ المال وحسن التدبير فيه كما تقدّم في { ابتلوا اليتامى } .

والمخاطب في الآية الأوصياء ، فيكون مقتضى الآية أنّ الأوصياء هم الذين يتولَّون ذلك ، وقد جعله الفقهاء حكماً ، فقالوا : يتولّى الوصيّ دفع مال محجوره عندما يأنس منه الرشد ، فهو الذي يتولّى ترشيد محجوره بتسليم ماله إليه .

وقال اللخمي : من أقامه الأب والقاضي لا يقبل قوله بترشيد المحجور إلاّ بعد الكشف لفساد الناس اليوم وعدم أمنهم أن يتواطئوا مع المحاجير ليرشِّدوهم فيسمحوا لهم بما قبلَ ذلك . وقال ابن عطية : والصواب في أوصياء زماننا أن لا يستغنى عن رفعهم إلى السلطان وثبوت الرشد عنده لما عرف من تواطؤ الأوصياء على أن يرشّد الوصيّ محجوره ويبرىء المحجور الوصيّ لسفهه وقلّة تحصيله في ذلك الوقت . إلاّ أنّ هذا لم يجر عليه عمل ، ولكن استحسن الموثّقون الإشهاد بثبوت رشد المحجور الموصى عليه من أبيه للاحتياط ، أمّا وصيّ القاضي فاختلفت فيه أقوال الفقهاء ، والأصحّ أنّه لا يرشّد محجوره إلاّ بعد ثبوت ذلك لدى القاضي ، وبه جرى العمل .

وعندي أنّ الخطاب في مثله لعموم الأمّة ، ويتولّى تنفيذه مَن إليه تنفيذ ذلك الباب من الولاة ، كشأن خطابات القرآن الواردة لجماعة غير معيّنين ، ولا شك أنّ الذي إليه تنفيذ أمور المحاجير والأوصياء هو القاضي ، ويحصل المطلوب بلا كلفة .

والآية ظاهرة في تقدّم الابتلاء والاستيناس على البلوغ لمكان ( حتّى ) المؤذنة بالانتهاء ، وهو المعروف من المذهب ، وفيه قول أنّه لا يُدفع للمحجور شيء من المال للابتلاء إلا بعد البلوغ .

والآية أيضاً صريحة في أنّه إذا لم يحصل الشرطان معاً : البلوغ والرشد ، لا يدفع المال للمحجور . واتّفق على ذلك عامّة علماء الإسلام ، فمن لم يكن رشيداً بعد بلوغه يستمرّ عليه الحجر ، ولم يخالف في ذلك إلاّ أبو حنيفة . قال : ينتظر سبعَ سنين بعد البلوغ فإن لم يؤنس منه الرشد أطلق من الحجر . وهذا يخالف مقتضى الشرط من قوله تعالى : { فإن آنستم منهم رشداً } لأنّ أبا حنيفة لا يعتبر مفهوم الشرط ، وهو أيضاً يخالف القياس إذ ليس الحجر إلاّ لأجل السفه وسوء التصرّف فأي أثر للبلوغ لولا أنّه مظنّة الرشد ، وإذا لم يحصل مع البلوغ فما أثر سبع السنين في تمام رشده .

ودلّت الآية بحكم القياس على أنّ من طرأَ عليه السفه وهو بالغ أو اختلّ عقله لأجل مرض في فكره ، أو لأجل خرف من شدّة الكبر ، أنّه يحجّر عليه إذ علّة التحجير ثابتة ، وخالف في ذلك أيضاً أبو حنيفة . وقال : لا حجر على بالغ .

وحكم الآية شامل للذكور والإناث بطريق التغليب : فالأنثى اليتيمة إذا بلغت رشيدة دُفع مالها إليها .

والتنكير في قوله : { رشداً } تنكير النوعية ، ومعناه إرادة نوع الماهية لأنّ المواهي العقلية متّحدة لا أفراد لها ، وإنّما أفرادها اعتبارية باعتبار تعدد المحَال أو تعدّد المتعلّقات ، فرشد زيد غير رشد عمرو ، والرشد في المال غير الرشد في سياسة الأمّة ، وفي الدعوة إلى الحقّ ، قال تعالى : { وما أمر فرعون برشيد } [ هود : 97 ] ، وقال عن قوم شعيب { إنك لأنت الحليم الرشيد } [ هود : 87 ] . وماهية الرشد هي انتظام الفكر وصدور الأفعال على نحوه بانتظام ، وقد علم السامعون أنّ المراد هنا الرشد في التصرّف المالي ، فالمراد من النوعية نحو المراد من الجنس ، ولذلك ساوى المعرّف بلام الجنس النكرةَ ، فمن العجائب توهّم الجصّاص أنّ في تنكير ( رشداً ) دليلاً لأبي حنيفة في عدم اشتراط حسن التصرّف واكتفائه بالبلوغ ، بدعوى أنّ الله شرط رشداً مَّا وهو صادق بالعقل إذ العقل رشد في الجملة ، ولم يشترط الرشّد كلّه . وهذا ضعف في العربية ، وكيف يمكن العموم في المواهي العقلية المحضة مع أنّها لا أفراد لها . وقد أُضيفت الأموال هنا إلى ضمير اليتامى : لأنّها قَوي اختصاصها بهم عندما صاروا رشداء فصار تصرّفهم فيها لا يخاف منه إضاعة ما للقرابة ولعموم الأمّة من الحقّ في الأموال .

وقوله : { ولا تأكلوها إسرافاً } عطف على { وابتلوا اليتامى } باعتبار ما اتّصل به من الكلام في قوله : { فإن آنستم منهم رشداً } إلخ وهو تأكيد للنهي عن أكل أموال اليتامى الذي تقدّم في قوله : { ولا تأكلوا أموالهم إلى أموالكم } [ النساء : 2 ] وتفضيح لحيلة كانوا يحتالونها قبل بلوغ اليتامى أشُدّهم : وهي أن يتعجّل الأولياء استهلاك أموال اليتامى قبل أن يتهّيئوا لمطالبتهم ومحاسبتهم ، فيأكلوها بالإسراف في الإنفاق ، وذلك أنّ أكثر أموالهم في وقت النزول كانت أعياناً من أنعام وتمر وحبّ وأصواف فلم يكن شأنها ممّا يكتم ويختزن ، ولا ممّا يعسر نقل الملك فيه كالعقار ، فكان أكلها هو استهلاكها في منافع الأولياء وأهليهم ، فإذا وجد الوليّ مال محجوره جَشِع إلى أكله بالتوسّعِ في نفقاته ولباسه ومراكبه وإكرام سمرائه ممّا لم يكن ينفق فيه مال نفسه ، وهذا هو المعنى الذي عبّر عنه بالإسراف ، فإنّ الإسراف الإفراط في الإنفاق والتوسّع في شؤون اللذات .

وانتصب ( إسرافاً ) على الحال : أو على النيابة عن المفعول المطلق ، وأيّا ما كان ، فليس القصد تقييد النهي عن الأكل بذلك ، بل المقصود تشويه حالة الأكل .

والبدار مصدر بادره ، وهو مفاعلة من البَدْر ، وهو العجلة إلى الشيء ، بَدَره عجله ، وبادره عاجله ، والمفاعلة هنا قصد منها تمثيل هيئة الأولياء في إسرافهم في أكل أموال محاجيرهم عند مشارفتهم البلوغ ، وتوقّع الأولياء سرعة إبَّانه ، بحال من يبدر غيره إلى غاية والآخر يبدر إليها فهما يتبادرانها ، كأنّ المحجور يسرع إلى البلوغ ليأخذ ماله ، والوصي يسرع إلى أكله لكيلا يجد اليتيم ما يأخذ منه ، فيذهب يدّعي عليه ، ويقيم البيّنات حتّى يعجز عن إثبات حقوقه ، فقوله : { أن يكبروا } في موضع المفعول لمصدر المفاعلة . ويكبر بفتح الموحدة مضارع كبر كعَلِم إذا زاد في السنّ ، وأمّا كبُر بضم الموحدة فهو إذا عظم في القدر ، ويقال : كبر عليه الأمر بضم الموحدة شَقّ .

{ ومن كان غنيا فليستعفف ومن كان فقيرا فليأكل بالمعروف }

عطف على { ولا تأكلوها إسرافاً } الخ المقرّر به قوله : { ولا تأكلوا أموالهم إلى أموالكم } [ النساء : 2 ] ليتقرّر النهي عن أكل أموالهم . وهو تخصيص لعموم النهي عن أكل أموال اليتامى في الآيتين السابقتين للترخيص في ضرب من ضروب الأكل ، وهو أن يأكل الوصيّ الفقير من مال محجوره بالمعروف ، وهو راجع إلى إنفاق بعض مال اليتيم في مصلحته ، لأنّه إذا لم يُعْط وصيّه الفقير بالمعروف ألهاه التدبير لقوته عن تدبير مال محجوره .

وفي لفظ المعروف ( حوالة على ما يناسب حال الوصيّ ويتيمه بحسب الأزمان والأماكن وقد أرشد إلى ذلك حديث أبي داوود : أنّ رجلاً أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : « إني فقير وليس لي شيء » قال : " كل من مال يتيمك غير مسرف ولا مبادر ولا متاثل " . وفي « صحيح مسلم » عن عائشة : نزلت الآية في ولي اليتيم إذا كان محتاجاً أن يأكل منه بقدر ماله بالمعروف ، ولذلك قال المالكية : يأخذ الوصي بقدر أجرة مثله ، وقال عمر بن الخطاب ، وابن عباس ، وأبو عبيدة ، وابن جبير ، والشعبي ، ومجاهد : إنّ الله أذن في القرض لا غير . قال عمر : « إني نزّلت نفسي من مال الله منزلة الوصيّ من مال اليتيم ، إن استغنيت استعففت وإن احتجت أكلت بالمعروف ، فإذا أيسرت قضيت » وقال عطاء ، وإبراهيم : لا قضاء على الوصيّ إن أيسر .

وقال الحسن ، والشعبي ، وابن عباس ، في رواية : إنّ معناه أن يشرب اللبن ويأكل من الثمر ويهنأ الجربي من إبله ويلوط الحوض . وقيل : إنّما ذلك عند الاضطرار كأكل الميتة والخنزير : روي عن عكرمة ، وابن عباس ، والشعبي ، وهو أضعف الأقوال لأنّ الله ناط الحكم بالفقر لا بالاضطرار ، وناطه بمال اليتيم ، والاضطرار لا يختصّ بالتسليط على مال اليتيم بل على كلّ مال . وقال أبو حنيفة وصاحباه : لا يأخذ إلاّ إذا سافر من أجل اليتيم يأخذ قوته في السفر . واختلف في وصيّ الحاكم هل هو مثل وصيّ الأب . فقال الجمهور : هما سواء ، وهو الحقّ ، وليس في الآية تخصيص .

ثم اختلفوا في الوصيّ الغنيّ هل يأخذ أجر مثله على عمله بناء على الخلاف في أنّ الأمر في قوله : { فليستعفف } للوجوب أو للندب ، فمن قال للوجوب قال : لا يأكل الغني شيئاً ، وهذا قول كلّ من منعه الانتفاع بأكثر من السلف والشيء القليل ، وهم جمهور تقدّمت أسماءهم . وقيل : الأمر للندب فإذا أراد أن يأخذ أجر مثله جاز له إذا كان له عمل وخدمة ، أمّا إذا كان عمله مجرّد التفقّد لليتيم والإشراف عليه فلا أجر له .

وهذا كله بناء على أنّ الآية محكمة . ومن العلماء من قال : هي منسوخة بقوله تعالى : { إن الذين يأكلون أموال اليتامى ظلما } [ النساء : 10 ] الآية ، وقوله : { ولا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل } [ البقرة : 188 ] وإليه مال أبو يوسف ، وهو قول مجاهد ، وزيد بن أسلم .

ومن العلماء من سلك بالآية مسلك التأويل فقال ربيعة بن أبي عبد الرحمن : المراد فمن كان غنياً أي من اليتامى ، ومن كان فقيراً كذلك ، وهي بيان لكيفية الإنفاق على اليتامى فالغنيّ يعطى كفايته ، والفقير يعطى بالمعروف ، وهو بعيد ، فإنّ فعل ( استعفف ) : يدلّ على الاقتصاد والتعفّف عن المسألة .

وقال النخعي ، وروي عن ابن عباس : من كان من الأوصياء غنيّا فليستعفف بماله ولا يتوسّع بمال محجوره ومن كان فقيراً فإنّه يقتّر على نفسه لئلا يمدّ يده إلى مال يتيمه . واستحسنه النحاس والكِيَا الطبري{[214]} في أحكام القرآن .

{ فَإِذَا دَفَعْتُمْ إِلَيْهِمْ أموالهم فَأَشْهِدُواْ عَلَيْهِمْ وكفى بالله حَسِيباً }

وهو أمر بالإشهاد عند الدفع ، ليظهر جليّا ما يسلمه الأوصياء لمحاجيرهم ، حتى يمكن الرجوع عليهم يوماً ما بما يطّلع عليه ممّا تخلّف عند الأوصياء ، وفيه براءة للأوصياء أيضاً من دعاوي المحاجير من بعدُ . وحسبك بهذا التشريع قعطا للخصومات .

والأمر هنا يحتمل الوجوب ويحتمل الندب ، وبكلّ قالت طائفة من العلماء لم يسمّ أصحابها : فإن لوحظ ما فيه من الاحتياط لحقّ الوصيّ كان الإشهاد مندوباً لأنّه حقّه فله أن لا يفعله ، وإن لوحظ ما فيه من تحقيق مقصد الشريعة من رفع التهارج وقع الخصومات ، كان الإشهاد واجباً نظير ما تقدّم في قوله تعالى : { إذا تداينتم بدين إلى أجل مسمى فاكتبوه } [ البقرة : 282 ] وللشريعة اهتمام بتوثيق الحقوق لأنّ ذلك أقوم لنظام المعاملات . وأياما كان فقد جعل الله الوصيّ غير مصدّق في الدفع إلاّ ببينة عند مالك قال ابن الفرس : لولا أنّه يَضمن إذا أنكره المحجور لم يكن للأمر بالتوثّق فائدة ، ونقل الفخر عن الشافعي موافقة قول مالك ، إلاّ أنّ الفخر احتجّ بأنّ ظاهر الأمر للوجوب وهو احتجاج واه لأنّه لا أثر لكون الأمر للوجوب أو للندب في ترتّب حكم الضمان ، إذ الضمان من آثار خطاب الوضع ، وسببه هو انتفاء الإشهاد ، وأمّا الوجوب والندب فمن خطاب التكليف وأثرهما العقاب والثواب . وقال أبو حنيفة : هو مصدّق بيمينه لأنّه عدّه أمينا ، وقيل : لأنّه رأى الأمر للندب . وقد علمت أنّ محمل الأمر بالإشهاد لا يؤثّر في حكم الضمان . وجاء بقوله : { وكفى بالله حسيباً } تذييلا لهذه الأحكام كلها ، لأنّها وصيّات وتحريضات فوكل الأمر فيها إلى مراقبة الله تعالى . والحسيب : المحاسب . والباء زائدة للتوكيد .


[214]: - هو علي ابن علي الطبري – نسبة إلى طبرستان كورة قرب الري – الملقب الكيا الطبري ويقال الكيا الهراسي – والكيا بهمزة مكسورة في أوله فكاف مكسورة، معنه الكبير بلغة الفرس. والهراسي بفتح الهاء وتشديد الراء نسبة إلى الهريسة إما إلى يعها أو صنعها. الشافعي ولد سنة 450 وتوفي في بغداد سنة 504.