157- وأخص بها الذين يتبعون الرسول محمدا ، الذي لا يكتب ولا يقرأ ، وهو الذي يجدون وصفه مكتوبا عندهم في التوراة والإنجيل ، يأمرهم بكل خير وينهاهم عن كل شر ، ويحل لهم الأشياء التي يستطيبها الطبع ، ويُحرم عليهم الأشياء التي يستخبثها الطبع كالدم والميتة ، ويزيل عنهم الأثقال والشدائد التي كانت عليهم . فالذين صدقوا برسالته وآزروه وأيدوه ونصروه على أعدائه ، واتبعوا القرآن الذي أنزل معه كالنور الهادي ، أولئك هم الفائزون دون غيرهم ممن لم يؤمنوا به .
قوله تعالى : { الذين يتبعون الرسول النبي الأمي } ، وهو محمد صلى الله عليه وسلم . قال ابن عباس رضي الله عنهما : هو نبيكم ، كان أمياً لا يكتب ولا يقرأ ولا يحسب ، وقال النبي صلى الله عليه وسلم : ( إنا أمة أمية لا نكتب ولا نحسب ) . وهو منسوب إلى الأم ، أي هو على ما ولدته أمه . وقيل : هو منسوب إلى أمته ، أصله أمتي ، سقطت التاء في النسبة كما سقطت في المكي والمدني ، وقيل : هو منسوب إلى أم القرى وهي مكة .
قوله تعالى : { الذي يجدونه } أي : يجدون صفته ونعته ونبوته .
قوله تعالى : { مكتوباً عندهم في التوراة والإنجيل } . أخبرنا عبد الواحد المليحي ، أنا أحمد بن عبد الله النعيمي ، أنا محمد بن يوسف ، حدثنا محمد بن إسماعيل ، حدثنا محمد بن سنان ، حدثنا فليح ، حدثنا هلال ، عن عطاء بن يسار قال : لقيت عبد الله بن عمرو بن العاص ، فقلت : أخبرني عن صفة رسول الله صلى الله عليه وسلم في التوراة ، قال : أجل والله ، إنه لموصوف في التوراة ببعض صفته في القرآن : ( يا أيها النبي إنا أرسلناك شاهداً ومبشراً ونذيراً ، وحرزاً للأميين ، أنت عبدي ورسولي ، سميتك المتوكل ، ليس بفظ ولا غليظ ، ولا سخاب في الأسواق ، ولا يدفع بالسيئة السيئة ، ولكن يعفو ويغفر ، ولن يقبضه الله حتى يقيم به الملة العوجاء ، بأن يقولوا : لا إله إلا الله ، ويفتح به أعيناً عمياً ، وآذاناً صماً ، وقلوباً غلفاً ) . تابعه عبد العزيز بن أبي سلمة .
وقال سعيد عن هلال عن عطاء عن ابن سلام ، أخبرنا الإمام الحسين بن محمد القاضي ، أنا أبو العباس عبد الله بن محمد بن هارون الطيسفوني ، أنا أبو الحسن محمد بن أحمد الترابي ، أنا أبو بكر أحمد بن محمد بن عمر ابن بسطام ، أنا أبو الحسن أحمد بن سيار القرشي ، حدثنا عبد الله ابن عثمان ، عن أبي حمزة ، عن الأعمش ، عن أبي صالح ، عن عبد الله بن ضمرة عن كعب قال : إني أجد في التوراة مكتوباً : محمد رسول الله لا فظ ولا غليظ ولا سخاب في الأسواق ، ولا يجزي بالسيئة السيئة ، ولكن يعفو ويصفح ، أمته الحمادون ، يحمدون الله في كل منزلة ، ويكبرونه على كل نجد ، يأتزرون على أنصافهم ، ويوضئون أطرافهم ، صفهم في الصلاة وصفهم في القتال سواء ، مناديهم ينادي في جو السماء ، لهم في جوف الليل دوي النحل ، مولده بمكة ، ومهاجره بطابة ، وملكه بالشام .
قوله تعالى : { يأمرهم بالمعروف } أي : بالإيمان .
قوله تعالى : { وينهاهم عن المنكر } أي : عن الشرك ، وقيل : المعروف : الشريعة والسنة ، والمنكر : مالا يعرف في شريعة ولا سنة ، وقال عطاء : { يأمرهم بالمعروف } بخلع الأنداد ، ومكارم الأخلاق ، وصلة الأرحام ، { وينهاهم عن المنكر } : عن عبادة الأوثان ، وقطع الأرحام .
قوله تعالى : { ويحل لهم الطيبات } يعني : ما كانوا يحرمونه في الجاهلية من البحيرة ، والسائبة ، والوصيلة ، والحام .
قوله تعالى : { ويحرم عليهم الخبائث } يعني : الميتة ، والدم ، ولحم الخنزير ، والزنا وغيرها من المحرمات .
قوله تعالى : { ويضع عنهم إصرهم } ، قرأ ابن عامر ( آصارهم ) بالجمع ، والإصر : كل ما يثقل على الإنسان من قول أو فعل ، قال ابن عباس ، والحسن ، والضحاك ، والسدي ، ومجاهد ، يعني العهد الثقيل ، كان أخذ على بني إسرائيل بالعمل بما في التوراة . وقال قتادة : يعني التشديد الذي كان عليهم في الدين .
قوله تعالى : { والأغلال } ، يعني : الأثقال .
قوله تعالى : { التي كانت عليهم } ، وذلك مثل : قتل النفس في التوراة ، وقطع الأعضاء الخاطئة ، وقرض النجاسة عن الثوب بالمقراض ، وتعيين القصاص في القتل ، وتحريم أخذ الدية ، وترك العمل في السبت ، وأن صلاتهم لا تجوز إلا في الكنائس ، وغير ذلك من الشدائد ، شبهت بالأغلال التي تجمع اليد إلى العنق .
قوله تعالى : { فالذين آمنوا به } ، أي : بمحمد صلى الله عليه وسلم .
قوله تعالى : { وعزروه } . وقروه .
قوله تعالى : { ونصروه } على الأعداء .
قوله تعالى : { واتبعوا النور الذي أنزل معه } . يعني : القرآن .
ثم أضاف - سبحانه - صفات أخرى لمن هم أهل لرحمته ورضوانه .
وهذه الصفات تنطبق كل الانطباق على محمد صلى الله عليه وسلم الذي أمر بنو إسرائيل وغيرهم باتباعه فقال تعالى : { الذين يَتَّبِعُونَ الرسول . . . . } .
قوله - تعالى - { الذين يَتَّبِعُونَ الرسول النبي الأمي } في محل جر على أنه نعت لقوله : { لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ } أو بدل منه . أو مرفوع على أنه خبر لمبتدأ محذوف . أى : هم الذين يتبعون . . . الخ .
وقد وصف الله - تعالى - رسوله محمد صلى الله عليه وسلم بأوصاف كريمة تدعو العاقل المنصف إلى اتباعه والإيمان به .
الوصف الأول : أنه رسول الله إلى الناس كافة بشيراً ونذيراً .
الوصف الثانى : أنه بنى أوحى الله إليه بشريعة عامة كاملة باقية إلى يوم الدين .
الوصف الثالث : أنه أمى ما قرأ ولا كتب ولا جلس إلى معلم ولا أخذ علمه عن أحد ولكن الله - تعالى - أوحى إليه بالقرآن الكريم عن طريق جبريل - عليه السلام - ، وأفاض عليه من لدنه علوما نافعة ومبادىء توضح ما أنزله عليه من القرآن الكريم ، فسبق بذلك الفلاسفة والمشرعين والمؤرخين وأرباب العلوم الكونية والطبيعية ، فأميته مع هذه العلوم التي يصلح عليها أمر الدنيا والآخرة ، أوضح دليل على أن ما يوقله إنما هو بوحى من الله إليه .
قال تعالى : { وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَآ إِلَيْكَ رُوحاً مِّنْ أَمْرِنَا مَا كُنتَ تَدْرِي مَا الكتاب وَلاَ الإيمان ولكن جَعَلْنَاهُ نُوراً نَّهْدِي بِهِ مَن نَّشَآءُ مِنْ عِبَادِنَا } وقال - سبحانه - { وَمَا كُنتَ تَتْلُواْ مِن قَبْلِهِ مِن كِتَابٍ وَلاَ تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ إِذاً لاَّرْتَابَ المبطلون } الصفة الرابعة : أشار إليها بقوله { الذي يَجِدُونَهُ مَكْتُوباً عِندَهُمْ فِي التوراة والإنجيل } أى هذا الرسول النبى الأمى من صفاته أن أهل الكتاب يجدون اسمه ونعته مكتوباً عندهم في التوراة والإنجيل ، ووجود اسمه ونعته في كتبهم من أكبر الدواعى إلى الإيمان به وتصديقه واتباعه ولقد كان اليهود يبشرون ببعثة النبى صلى الله عليه وسلم قبل زمانه ويقرؤون في كتبهم ما يدل على ذلك ، فلما بعث الله - تعالى - نبيه بالهدى ودين الحق آمن منهم الذين فتحوا قلوبهم للحق ، وخافوا مقام ربهم ونهوا أنفسهم عن الهوى ، وأما الذين استنكفوا واستكبروا ، وحسدوا محمدا صلى الله عليه وسلم على ما آتاه الله من فضله فقد أخذوا يحذفون من كتبهم ما جاء عن النبى صلى الله عليه وسلم فيها ، " أو يؤولونه تأويلا فاسداً أو يكتمونه عن عامتهم .
ورغم حرصهم على حذف ما جاء عن الرسول في كتبهم أو تأويلهم السقيم له ، أو كتمانه عن الأميين منهم . أبى الله - تعالى - إلا أن يتم نوره ، إذ بقى في التوراة والإنجيل ما بشر بالنبى صلى الله عليه وسلم وصرح بنعوته وصفاته ، بل وباسمه صريحا .
وذد تحدث العلماء الاثبات عن بشارات الأنبياء بمحمد صلى الله عليه وسلم وجمعوا عشرات النصوص التي ذكرت نعوته وصفاته ، وها نحن نذكر طرفا مما قاله العلماء في هذا الشأن .
قال الإمام الماوردى في ( أعلام النبوة ) : ( وقد تقدمت بشائر من سلف من الأنبياء ، بنبوة محمد صلى الله عليه وسلم مما هو حجة على أممهم ، ومعجزة تدل على صدقه عند غيرهم ، بما أطلعه الله - تعالى - على غيبه ، ليكون عونا للرسل ، وحثا على القبول ، فمنهم من عينه باسمه ، ومنهم من ذكره بصفته ومنهم من عزاه إلى قومه ، ومنهم من أضافه إلى بلده ، ومنهم من خصه بأفعاله ، ومنه من ميزه بظهوره وانتشاره ، وقد حقق الله - تعالى - هذه الصفات جميعها فيه ، حتى صار جلياً بعد الاحتمال ، ويقينا بعد الارتياب ) .
وجاء في ( منية الأذكياء في قصص الأنبياء ) : ( إن نبينا - عليه الصلاة والسلام - قد بشر به الأنبياء السابقون ، وشهدوا بصدق نبوته ، ووصفوه وصفا رفع كل احتمال ، حيث صرحوا باسمه وبلده وجنسه وحليته وأطواره وسمته ، ومع أن أهل الكتاب حذفوا اسمه من نسخهم الأخيرة إلا أن ذلك لم يجدهم نفعا ، لبقاء الصفات التي اتفق عليها المؤرخون من كل جنس وملة وهى أظهر دلالة من الاسم على المسمى ، إذ قد يشترك اثنان في اسم ، ويمتنع اشتراك اثنين في جميع الأوصاف . لكن من أمد غير بعيد قد شرعوا في تحريف بعض الصفات ليبعد صدقها على النبى صلى الله عليه وسلم فترى كل نسخة متأخرة تختلف عما قبلها في بعض المواضع اختلافا لا يخفى على اللبيب أمره ، ولا ما قصد به . ولم يفدهم ذلك غير تقوية الشبهة عليهم . لانتشار النسخ بالطبع وتيسير المقابلة بينها " .
وقال المرحوم الشيخ ( رحمة الله الهندى ) في كتابه ( إظهار الحق ) ( إن الأخبار الواقعة في حق محمد صلى الله عليه وسلم توجد كثيرة إلى الآن - أيضا - مع وقوع التحريفات في هذه الكتب . ومن عرف أولا طريق أخبار النبى المتقدم عن النبى المتأخر . ثم نظر ثانيا بنظر الانصاف إلى هذه الاخبارات وقابلها بالاخبارات التي نقلها الانجيليون في حق عيسى - عليه السلام - جزم بأن الاخبارات المحمدية في غاية القوة ) .
وقد جمع صاحب كتاب ( إظهار الحق ) وغيره من العلماء والمؤرخين كثيراً من البشائر التي وردت في التوراة والإنجيل خاصة بالنبى صلى الله عليه وسلم ومبينة نعوته وصفاته .
ومن أجمع ما جاء في التوراة خاصاً بالنبى صلى الله عليه وسلم ما أخرجه البخارى عن عبد الله بن عمرو بن العاص - رضى الله عنهما - قال : ( قرأت في التوراة صفة النبى صلى الله عليه وسلم ( محمد رسول الله : عبدى ورسولى ، سميته المتوكل ، ليس بفظ ، ولا غليط ، ولا صخاب في الأسواق ، ولا يجزى بالسيئة السيئة ، بل يعفو ويصفح ، ولن أقبضه حتى أقيم به الملة العوجاء بأن يقولوا : لا إله إلا الله ) .
كذلك مما يشهد بوجود النبى صلى الله عليه وسلم في التوراة ، ما أخرجه الإمام أحمد عن أبى صخر العقيلى قال : ( حدثنى رجل من الأعراب فقال : جلبت حلوبة . إلى المدينة في حياة النبى صلى الله عليه وسلم فلما فرغت من بيعى قلت لألقين هذا الرجل فلأسمعن منه ، قال : فتلقانى بين ابى بكر وعمر يمشيان ، فتبعتهم حتى إذا أتوا على رجل من اليهود وقد نشر التوراة يقرؤها يعزى بها نفسه عن ابن له في الموت كأجمل الفتيان وأحسنها ، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم : أنشدك بالذى أنزل التوراة هل تجد في كتابك هذا صفتى ومخرجى ) فقال برأسه هكذا ، أى : لا ، فقال ابنه : أى والذى أنزل التوراة إنا لنجد في كتابنا صفتك ومخرجك ، وإنى أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أنك رسول الله ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم " أقيموا اليهودى عن أخيكم " ثم تولى كفنه والصلاة عليه .
هذا ، ومن أراد مزيد معرفة بتلك المسألة فليراجع ما كتبه العلماء في ذلك .
ثم وصف الله - تعالى - رسوله صلى الله عليه وسلم بصفة خامسة فقال تعالى : { يَأْمُرُهُم بالمعروف وَيَنْهَاهُمْ عَنِ المنكر } أى هذا الرسول النبى الأمى الذي يجده أهل الكتاب مكتوباً عندهم في التوراة والإنجيل من صفاته كذلك أنه يأمرهم بالمعروف الذي يتناول الإيمان بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر كما يتناول مكارم الأخلاق ومحاسن الشيم وغير ذلك من الأمور التي جاء بها الشرع الحنيف . وارتاحت لها العقول السليمة ، والقلوب الطاهرة وينهاهم عن المنكر الذي يتناول الكفر والمعاصى ومساوىء الأخلاق .
ثم وصف الله - تعالى - رسوله محمداً صلى الله عليه وسلم بصفة سادسة فقال تعالى : { وَيُحِلُّ لَهُمُ الطيبات وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الخبآئث } أى : يحل لهم ما حرمه الله عليهم من الطيبات كالشحوم وغيرها بسبب ظلمهم وفسوقهم عقوبة لهم ، ويحل لهم كذلك ما كانوا قد حرموه على أنفسهم دون أن يأذن به الله كلحوم الإبل وألبانها ، ويحرم عليهم ما هو خبيث كالدم ولحم الميتة والخنزير في المأكولات ، وكأخذ الربا وأكل أموال الناس بالباطل في المعاملات وفى ذلك سعادتهم وفلاحهم .
ثم وصف الله تعالى - رسوله صلى الله عليه وسلم بصفة سابعة فقال تعالى : { وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ والأغلال التي كَانَتْ عَلَيْهِمْ } .
الإصر : الثقل الذي يأصر صاحبه . أى بحبسه عن الحركة الثقيلة ، ويطلق على العهد كما في قوله تعالى : { قَالَ أَأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ على ذلكم إِصْرِي } أى عهدى .
قال القرطبى : " وقد جمعت هذه الآية المعنيين ، فإن بنى إسرائيل قد كان أخذ عليهم عهد أن يقوموا بأعمال ثقال فوضع عنهم بمحمد صلى الله عليه وسلم ذلك العهد وثقل تلك الأعمال ، كغسل البول ، وتحليل الغنائم ، ومجالسة الحائض ، ومؤاكلتها ومضاجعتها .
فإنهم كانوا إذا أصاب ثوب أحدهم بول قرضته . وإذا جمعوا الغنائم نزلت نار من السماء فأكلتها وإذا حاضت المرأة لم يقربوها . إلى غير ذلك مما ثبت في الصحيح وغيره " .
والأغلال : جمع غل . وهو ما يوضع في العنق أو اليد من الحديد . والتعبير بوضع الإصر والأغلال عنهم استعارة لما كان في شرائعهم من الأشياء الشاقة والتكاليف الشديدة كاشتراط قتل النفس لصحة التوبة . فقد شبه - سبحانه - ما أخذ به بنو إسرائيل من الشدة في العبادات والمعاملات والمأكولات جزاء ظلمهم بحال من يحمل أثقالا يئن من حملها وهو فوق ذلك مقيد بالسلاسل ؛ والأغلال في عنقه ويديه ورجليه .
والمعنى : إن من صفات هذا الرسول النبى الأمى أنه جاءهم ليرفع عنهم ما ثقل عليهم من تكاليف كلفهم الله بها بسبب ظلمهم . لأنه - عليه الصلاة والسلام - جاء بالتبشير والتخفيف . وبعث بالحنيفية السمحة . ومن وصاياه صلى الله عليه وسلم : " بشروا ولا تنفروا ويسروا ولا تعسروا " .
قال الإمام ابن كثير : " وقد كانت الأمم التي قبلنا في شرائعهم ضيق عليهم . فوسع الله على هذه الأمة أمورها . وسهلها لهم . ولهذا قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " إن الله تجاوز لأمتى ما حدثت به أنفسهم ما لم تقل أو تعمل " وقال : " رفع عن أمتى الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه " ولهذا قال : أرشد الله هذه الأمة أن يقولوا : { رَبَّنَا وَلاَ تَحْمِلْ عَلَيْنَآ إِصْراً كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الذين مِن قَبْلِنَا رَبَّنَا وَلاَ تُحَمِّلْنَا مَا لاَ طَاقَةَ لَنَا بِهِ واعف عَنَّا واغفر لَنَا وارحمنآ أَنتَ مَوْلاَنَا فانصرنا عَلَى القوم الكافرين } وثبت في صحيح مسلم أن الله تعالى قال بعد كل سؤال من هذه : قد فعلت قد فعلت " .
إذا ، فمن الواجب على بنى إسرائيل أن يتبعوا محمداً صلى الله عليه وسلم الذي هذه صفاته ، والذى في اتباعه سعادتهم في دنياهم وآخرتهم ، ولهذا ختم الله - تعالى - الآية الكريمة ببيان حالة المصدقين لنبيه فقال تعالى :
{ فالذين آمَنُواْ بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ واتبعوا النور الذي أُنزِلَ مَعَهُ أولئك هُمُ المفلحون } .
أى : فالذين آمنوا بهذا الرسول النبى الأمى من بنى إسرائيل وغيرهم وعزروه ، بأن منعوه وحموه من كل من يعاديه ، مع التعظيم والتوقير له ونصروه بكل وسائل النصر { واتبعوا النور الذي أُنزِلَ مَعَهُ } وهو القرآن والوحى الذي جاء به ودعا إليه الناس ، { أولئك هُمُ المفلحون } أى الفائزون الظافرون برحمة الله ورضوانه .
وبذلك تكون الآية الكريمة قد وصفت النبى صلى الله عليه وسلم بأحسن الصفات وأكرم المناقب ، وأقامت الحجة على أهل الكتاب بما يجدونه في كتبهم وعلى ألسنة رسلهم بأنه ما جاء إلا لهدايته وسعادتهم ، وأنهم إن آمنوا به وصدقوه ، كانوا من { الذين يَسْتَمِعُونَ القول فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ أولئك الذين هَدَاهُمُ الله وأولئك هُمْ أُوْلُواْ الألباب }
( الذين يتبعون الرسول النبي الأمي الذي يجدونه مكتوباً عندهم في التوراة والإنجيل ؛ يأمرهم بالمعروف وينهاهم عن المنكر ، ويحل لهم الطيبات ، ويحرم عليهم الخبائث ، ويضع عنهم إصرهم والأغلال التي كانت عليهم . فالذين آمنوا به وعزروه ونصروه واتبعوا النور الذي أنزل معه أولئك هم المفلحون ) .
وإنه لنبأ عظيم ، يشهد بأن بني إسرائيل قد جاءهم الخبر اليقين بالنبي الأمي ، على يدي نبيهم موسى ونبيهم عيسى - عليهما السلام - منذ أمد بعيد . جاءهم الخبر اليقين ببعثه ، وبصفاته ، وبمنهج رسالته ، وبخصائص ملته . فهو ( النبي الأمي ) ، وهو يأمر الناس بالمعروف وينهاهم عن المنكر ، وهو يحل لهم الطيبات ويحرم عليهم الخبائث ، وهو يضع عمن يؤمنون به من بني إسرائيل الأثقال والأغلال التي علم الله أنها ستفرض عليهم بسبب معصيتهم ، فيرفعها عنهم النبي الأمي حين يؤمنون به . وأتباع هذا النبي يتقون ربهم ، ويخرجون زكاة أموالهم ، ويؤمنون بآيات الله . . وجاءهم الخبر اليقين بأن الذين يؤمنون بهذا النبي الأمي ؛ ويعظمونه ويوقرونه ، وينصرونه ويؤيدونه ، ويتبعون النور الهادي الذي معه ( أولئك هم المفلحون ) . .
وبذلك البلاغ المبكر لبني إسرائيل - على يد نبيهم موسى عليه السلام - كشف الله سبحانه عن مستقبل دينه ، وعن حامل رايته ، وعن طريق أتباعه ، وعن مستقر رحمته . . فلم يبق عذر لأتباع سائر الديانات السابقة ، بعد ذلك البلاغ المبكر بالخبر اليقين .
وهذا الخبر اليقين من رب العالمين لموسى عليه السلام - وهو والسبعون المختارون من قومه في ميقات ربه - يكشف كذلك عن مدى جريمة بني إسرائيل في استقبالهم لهذا النبي الأمي وللدين الذي جاء به . وفيه التخفيف عنهم والتيسير ، إلى جانب ما فيه من البشارة بالفلاح للمؤمنين !
إنها الجريمة عن علم وعن بينة ! والجريمة التي لم يألوا فيها جهداً . . فقد سجل التاريخ أن بني إسرائيل كانوا هم ألأم خلق وقف لهذا النبي وللدين الذي جاء به . . اليهود أولاً والصليبيون أخيراً . . وأن الحرب التي شنوها على هذا النبي ودينه وأهل دينه كانت حرباً خبيثة ماكرة لئيمة قاسية ؛ وأنهم أصروا عليها ودأبوا ؛ وما يزالون يصرون ويدأبون !
والذي يراجع - فقط - ما حكاه القرآن الكريم من حرب أهل الكتاب للإسلام والمسلمين - وقد سبق منه في سورة البقرة وآل عمران والنساء والمائدة ما سبق - يطلع على المدى الواسع المتطاول الذي أداروا فيه المعركة مع هذا الدين في عناد لئيم !
والذي يراجع التاريخ بعد ذلك - منذ اليوم الذي استعلن فيه الإسلام بالمدينة ، وقامت له دولة - إلى اللحظة الحاضرة ، يدرك كذلك مدى الإصرار العنيد على الوقوف لهذا الدين وإرادة محوه من الوجود !
ولقد استخدمت الصهيونية والصليبية في العصر الحديث من ألوان الحرب والكيد والمكر أضعاف ما استخدمته طوال القرون الماضية . . وهي في هذه الفترة بالذات تعالج إزالة هذا الدين بجملته ؛ وتحسب أنها تدخل معه في المعركة الأخيرة الفاصلة . . لذلك تستخدم جميع الأساليب التي جربتها في القرون الماضية كلها - بالإضافة إلى ما استحدثته منها - جملة واحدة !
ذلك في الوقت الذي يقوم ممن ينتسبون إلى الإسلام ناس يدعون في غرارة ساذجة إلى التعاون بين أهل الإسلام وأهل بقية الأديان للوقوف في وجه تيار المادية والإلحاد ! أهل بقية الأديان الذين يذبحون من ينتسبون إلى الإسلام في كل مكان ؛ ويشنون عليهم حرباً تتسم بكل بشاعة الحروب الصليبية ومحاكم التفتيش في الأندلس - سواء عن طريق أجهزتهم المباشرة في المستعمرات في آسيا وإفريقية أو عن طريق الأوضاع التي يقيمونها ويسندونها في البلاد [ المستقلة ! ] لتحل محل الإسلام عقائد ومذاهب علمانية ! تنكر " الغيبية " لأنها " علمية ! " و " تطوّر " الأخلاق لتصبح هي أخلاق البهائم التي ينزو بعضها على بعض في " حرية ! " ، و " تطوّر " كذلك الفقه الإسلامي ، وتقيم له مؤتمرات المستشرقين لتطويره . كيما يحل الربا والاختلاط الجنسي وسائر المحرمات الإسلامية ! !
إنها المعركة الوحشية الضارية يخوضها أهل الكتاب مع هذا الدين ، الذي بشروا به وبنبيه منذ ذلك الأمد البعيد . ولكنهم تلقوه هذا التلقي اللئيم الخبيث العنيد !
القول في تأويل قوله تعالى : { الّذِينَ يَتّبِعُونَ الرّسُولَ النّبِيّ الاُمّيّ الّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوباً عِندَهُمْ فِي التّوْرَاةِ وَالإِنْجِيلِ يَأْمُرُهُم بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُحِلّ لَهُمُ الطّيّبَاتِ وَيُحَرّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَآئِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالأغْلاَلَ الّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ فَالّذِينَ آمَنُواْ بِهِ وَعَزّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتّبَعُواْ النّورَ الّذِيَ أُنزِلَ مَعَهُ أُوْلََئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ } . .
وهذا القول إبانة من الله جلّ ثناؤه عن أن الذين وعد موسى نبيه عليه السلام أن يكتب لهم الرحمة التي وصفها جلّ ثناؤه بقوله : وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلّ شَيْءٍ هم أمة محمد صلى الله عليه وسلم ، لأنه لا يعلم لله رسول وصف بهذه الصفة أعني الأميّ غير نبينا محمد صلى الله عليه وسلم ، وبذلك جاءت الروايات عن أهل التأويل . ذكر من قال ذلك .
حدثنا ابن وكيع ، قال : حدثنا عمران بن عيينة ، عن عطاء ، عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس : فَسأَكْتُبُها للّذِينَ يَتّقُونَ قال : أمة محمد صلى الله عليه وسلم .
قال : ثنا زيد بن حُباب ، عن حماد بن سلمة ، عن عطاء ، عن ابن عباس ، قال : أمة محمد صلى الله عليه وسلم .
حدثنا أبو كريب وابن وكيع ، قالا : حدثنا يحيى بن يمان ، عن أشعث ، عن جعفر ، عن سعيد ، في قوله : فَسأَكْتُبُها للّذِينَ يَتّقُونَ قال : أمة محمد صلى الله عليه وسلم ، فقال موسى عليه السلام : ليتني خُلقت في أمة محمد
حدثنا ابن حميد وابن وكيع ، قالا : حدثنا جرير ، عن عطاء ، عن سعيد بن جبير : فَسأَكْتُبُها للّذِينَ يَتّقُونَ قال : الذين يتبعون محمدا صلى الله عليه وسلم .
حدثنا ابن وكيع ، قال : حدثنا جرير ، عن ليث ، عن شهر بن حَوْشَب ، عن نَوْف الحميريّ ، قال : لما اختار موسى قومه سبعين رجلاً لميقات ربه قال الله لموسى : أجعل لكم الأرض مسجدا وطَهُورا ، وأجعل السكينة معكم في بيوتكم ، وأجعلكم تقرءون التوراة عن ظهور قلوبكم ، يقرؤها الرجل منكم والمرأة والحرّ والعبد والصغير والكبير . فقال موسى لقومه : إن الله قد يجعل لكم الأرض طَهُورا ومسجدا . قالوا : لا نريد أن نصلي إلاّ في الكنائس . قال : ويجعل السكينة معكم في بيوتكم . قالوا : لا نريد إلاّ أن تكون كما كانت في التابوت . قال : ويجعلكم تقرءون التوراة عن ظهور قلوبكم ، ويقرؤها الرجل منكم والمرأة والحرَ والعبد الصغير والكبير . قالوا : لا نريد أن نقرأها إلاّ نظرا . فقال الله : فَسأَكْتُبُها للّذِينَ يَتّقُونَ وَيُؤْتَونَ الزّكاةَ . . . إلى قوله : أُولَئِكَ هُمُ المُفْلِحُونَ .
حدثنا محمد بن عبد الأعلى ، قال : حدثنا محمد بن ثور ، عن معمر ، عن يحيى بن أبي كثير ، عن نوف البِكاليّ ، قال : لما انطلق موسى بوفد بني إسرائيل كلمه الله ، فقال : إني قد بسطت لهم الأرض طَهورا ومساجد يصلون فيها حيث أدركتهم الصلاة إلاّ عند مرحاض أو قبر أو حمام ، وجعلت السكينة في قلوبهم ، وجعلتهم يقرءون التوراة عن ظهر ألسنتهم . قال : فذكر ذلك موسى لبني إسرائيل ، فقالوا : لا نستطيع حمل السكينة في قلوبنا ، فاجعلها لنا في تابوت ، ولا نقرأ التوراة إلاّ نظرا ، ولا نصلي إلاّ في الكنيسة فقال الله : فَسأَكْتُبُها للّذِينَ يَتّقُونَ وَيُؤْتَونَ الزّكاةَ . . . حتى بلغ : أُولَئِكَ هُمُ المُفْلِحُونَ . قال : فقال موسى عليه السلام : يا رب اجعلني نبيهم قال : نبيهم منهم . قال : ربّ اجعلني منهم قال : لن تدركهم . قال : يا ربّ أتيتك بوفد بني إسرائيل ، فجعلت وفادتنا لغيرنا فأنزل الله : وَمِنْ قَوْمِ مُوسَى أُمّةٌ يُهْدُونَ بالحَقّ وبِهِ يَعْدِلُونَ . قال نوف البِكالي : فاحمدوا الله الذي حفظ غيبتكم ، وأخذ لكم بسهمكم ، وجعل وفادة بني إسرائيل لكم .
حدثنا محمد بن المثنى ، قال : حدثنا معاذ بن هشام ، قال : ثني أبي ، عن يحيى بن أبي كثير ، عن نوف البِكالي بنحوه ، إلاّ أنه قال : فإني أنزل عليكم التوراة تقرءونها عن ظهر ألسنتكم ، رجالكم ونساؤكم وصبيانكم . قالوا : لا نصلي إلاّ في كنيسة ، ثم ذكر سائر الحديث نحوه .
حدثنا ابن وكيع ، قال : حدثنا إسحاق بن إسماعيل ، عن يعقوب ، عن جعفر ، عن سعيد بن جبير : فَسأَكْتُبُها للّذِينَ يَتّقُونَ قال : أمة محمد صلى الله عليه وسلم .
حدثني محمد بن الحسين ، قال : حدثنا أحمد بن المفضل ، قال : حدثنا أسباط ، عن السديّ : فَسأَكْتُبُها للّذِينَ يَتّقُونَ قال : هؤلاء أمة محمد صلى الله عليه وسلم .
حدثنا بشر بن معاذ ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة ، قال : لما قيل : فَسأَكْتُبُها للّذِينَ يَتّقُونَ وَيُؤْتَونَ الزّكاةَ وَالّذِينَ هُمْ بآياتِنا يُؤْمِنُونَ تمنتها اليهود والنصارى ، فأنزل الله شرطا بَيّنا وثيقا ، فقال : الّذِينَ يَتّبِعُونَ الرّسُولَ النّبِيّ الأُمّيّ وهو نبيكم صلى الله عليه وسلم كان أميّا لا يكتب .
وقد بيّنا معنى الأميّ فيما مضى بما أغنى عن إعادته .
وأما قوله : الّذِي يَجدُونَهُ مَكْتُوبا عنْدَهُمْ فِي التّوْرَاةِ والإنْجِيل فإن الهاء في قوله : يَجِدُونَهُ عائدة على الرسول ، وهو محمد صلى الله عليه وسلم . كالذي :
حدثني محمد بن الحسين ، قال : حدثنا أحمد بن المفضل ، قال : حدثنا أسباط ، عن السديّ ، قوله : الّذِينَ يَتّبِعُونَ الرّسُولَ النّبِيّ الأُمّيّ هذا محمد صلى الله عليه وسلم .
حدثني ابن المثنى ، قال : حدثنا عثمان بن عمر ، قال : حدثنا فليح عن هلال بن عليّ ، عن عطاء بن يسار ، قال : لقيت عبد الله بن عمرو ، فقلت : أخبرني عن صفة رسول الله صلى الله عليه وسلم في التوراة قال : أجل والله إنه لموصوف في التوراة كصفته في القرآن : يا أيّهَا النّبيّ إنّا أرْسلناكَ شاهِدا ومبشّرا ونذِيرا وحرزا للأميين ، أنت عبدي ورسولي ، سميتك المتوكل ، ليس بفظّ ولا غليظ ولا صخّاب في الأسواق ، ولا يَجْزِي بالسيئة السيئة ، ولكن يعفو ويصفح ولن نقبضه حتى نقيم به الملة العوجاء ، بأن يقولوا : لا إله إلاّ الله ، فنفتح به قلوبا غُلْفا وآذانا صُمّا ، وأعينا عُمْيا . قال عطاء : ثم لقيت كعبا فسألته عن ذلك ، فما اختلفا حرفا ، إلاّ أن كعبا قال بلغته : قلوبا غُلُوفِيَا . وآذانا صموميا ، وأعينا عموميَا .
حدثني أبو كريب ، قال : حدثنا موسى بن داود ، قال : حدثنا فليح بن سليمان ، عن هلال بن عليّ ، قال : ثني عطاء ، قال : لقيت عبد الله بن عمرو بن العاص ، فذكر نحوه . إلاّ أنه قال في كلام كعب : أعينا عُمُومَا ، وآذانا صُمُومَا ، وقلوبا غُلُوفَا .
قال : ثنا موسى ، قال : حدثنا عبد العزيز بن سلمة ، عن هلال بن عليّ ، عن عطاء بن يسار ، عن عبد الله بنحوه ، وليس فيه كلام كعب .
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة ، قال الله : الّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبا عِنْدَهُمْ يقول : يجدون نعته وأمره ونبوّته مكتوبا عندهم .
القول في تأويل قوله تعالى : يَأْمُرُهُمْ بالمَعْرُوفِ ويَنْهاهُمْ عَنِ المُنْكَرِ ويُحِلّ لَهُمُ الطّيِباتِ ويُحَرّمُ عَلَيْهِمُ الخَبائِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إصْرَهُمْ والأَغْلالَ التي كانَتْ عَلَيْهِمْ .
يقول تعالى ذكره : يأمر هذا النبيّ الأميّ أتباعه بالمعروف ، وهو الإيمان بالله ولزوم طاعته فيما أمر ونهى ، فذلك المعروف الذي يأمرهم به ، وينهاهم عن المنكر وهو الشرك بالله ، والانتهاء عما نهاهم الله عنه .
وقوله : ويُحِلّ لَهُمُ الطّيّباتِ وذلك ما كانت الجاهلية تحرّمه من البحائر والسوائب والوصائل والحوامي . ويُحَرّمُ عَلَيهِمُ الخبَائِثَ وذلك لحم الخنزير والربا ، وما كانوا يستحلونه من المطاعم والمشارب التي حرّمها الله . كما :
حدثني المثنى ، قال : حدثنا عبد الله بن صالح ، قال : ثني معاوية ، عن عليّ ، عن ابن عباس : ويُحَرّمُ عَلَيْهِمُ الخَبائِثَ وهو لحم الخنزير والربا ، وما كانوا يستحلونه من المحرّمات من المآكل التي حرّمها الله .
وأما قوله : وَيَضَعُ عَنْهُمْ إصْرَهُمْ والأغْلالَ الّتِي كانَتْ عَلَيْهِمْ فإن أهل التأويل اختلفوا في تأويله ، فقال بعضهم : يعني بالإصر : العده والميثاق الذي كان أخذه على بني إسرائيل بالعمل بما في التوراة . ذكر من قال ذلك .
حدثنا ابن وكيع ، قال : حدثنا جابر بن نوح ، عن أبي رَوْق ، عن الضحاك ، عن ابن عباس : وَيَضَعُ عَنْهُمْ إصْرَهُمْ قال : عهدهم .
قال : ثنا المحاربي ، عن جويبر ، عن الضحاك ، قال : عهدهم .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا عمرو بن عليّ ، قال : أخبرنا هشيم ، عن جويبر ، عن الضحاك ، مثله .
حدثنا ابن وكيع ، قال : حدثنا يحيى بن يمان ، عن مبارك ، عن الحسن : وَيَضَعُ عَنْهُمْ إصْرَهُمْ قال : العهود التي أعطوها من أنفسهم .
قال : ثنا ابن نمير ، عن موسى بن قيس ، عن مجاهد : وَيَضَعُ عَنْهُمْ إصْرَهُمْ قال : عهدهم .
حدثني محمد بن الحسين ، قال : حدثنا أحمد بن المفضل ، قال : حدثنا أسباط ، عن السديّ : وَيَضَعُ عَنْهُمْ إصْرَهُمْ والأغْلالَ التي كانَتْ عَلَيْهِمْ يقول : يضع عنهم عهودهم ومواثيقهم التي أخذت عليهم في التوراة والإنجيل .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا عبد الله بن صالح ، قال : ثني معاوية ، عن علي ، عن ابن عباس : وَيَضَعُ عَنْهُمْ إصْرَهُمْ والأغْلالَ التي كانَتْ عَلَيْهِمْ ما كان الله أخذ عليهم من الميثاق فيما حرّم عليهم ، يقول : يضع ذلك عنهم .
وقال بعضهم : عني بذلك أنه يضع عمن اتبع نبيّ الله صلى الله عليه وسلم التشديد الذي كان على بني إسرائيل في دينهم . ذكر من قال ذلك .
حدثنا بشر بن معاذ ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة : وَيَضَعُ عَنْهُمْ إصْرَهُمْ والأغْلالَ التي كانَتْ عَلَيْهِمْ فجاء محمد صلى الله عليه وسلم بإقالة منه وتجاوز عنه .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا الحماني ، قال : حدثنا شريك ، عن سالم ، عن سعيد : وَيَضَعُ عَنْهُمْ إصْرَهُمْ قال : البول ونحوه مما غلظ على بني إسرائيل .
قال : ثنا الحِمّاني ، قال : حدثنا يعقوب ، عن جعفر ، عن سعيد ، قال : شدّة العمل .
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جريج ، قال : قال مجاهد ، قوله : وَيَضَعُ عَنْهُمْ إصْرَهُمْ والأغْلالَ التي كانَتْ عَلَيْهِمْ قال : من اتبع محمدا ودينه من أهل الكتاب ، وضع عنهم ما كان عليهم من التشديد في دينهم .
حدثنا ابن وكيع ، قال : حدثنا ابن فضيل ، عن أشعث ، عن ابن سيرين ، قال : قال أبو هريرة لابن عباس : ما علينا في الدين من حرج أن نزني ونسرق ؟ قال : بلى ، ولكن الإصر الذي كان على بني إسرائيل وُضع عنكم .
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قوله : وَيَضَعُ عَنْهُمْ إصْرَهُمْ قال : ، قال : قال أبو هريرة لابن عباس : ما علينا في الدين من حرج أن نزني ونسرق ؟ قال : بلى ، ولكن الإصر الذي كان على بني إسرائيل وُضع عنكم .
15242- حدثني يونس قال ، أخبرنا ابن وهب قال ، قال ابن زيد في قوله : " ويضع عنهم إصرهم " ، قال : إصرهم الذي جعله عليهم .
قال أبو جعفر : وأولى الأقوال في ذلك بالصواب أن يقال : إنّ " الإصر " هو العهد وقد بينا ذلك بشواهده في موضعٍ غير هذا بما فيه الكفاية وأن معنى الكلام : ويضع النبيُّ الأميُّ العهدَ الذي كان الله أخذ على بني إسرائيل ، من إقامة التوراة والعملِ بما فيها من الأعمال الشديدة ، كقطع الجلد من البول ، وتحريم الغنائم ، ونحو ذلك من الأعمال التي كانت عليهم مفروضةً ، فنسخها حُكْم القرآن .
وأما " الأغلال التي كانت عليهم " ، فكان ابن زيد يقول بما :
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قوله : وَيَضَعُ عَنْهُمْ إصْرَهُمْ قال : ها من الأعمال الشديدة كقطع الجلد من البول ، وتحريم الغنائم ، ونحو ذلك من الأعمال التي كانت عليهم مفروضة ، فنسخها حكم القرآن .
وأما الأغلال التي كانت عليهم ، فكان ابن زيد يقول بما :
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب عنه في قوله : والأغْلالَ التي كانَتْ عَلَيْهِمْ قال : الأغلال . وقرأ غُلّتْ أيْدِيهِمْ قال : تلك الأغلال ، قال : ودعاهم إلى أن يؤمنوا بالنبيّ ، فيضع ذلك عنهم .
القول في تأويل قوله تعالى : فالّذِينَ آمَنُوا بِهِ وَعَزّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتّبَعُوا النّورَ الّذِي أُنْزِلَ مَعَهُ أُولَئِكَ هُمُ المُفْلِحُونَ .
يقول تعالى ذكره : فالذين صدّقوا بالنبيّ الأميّ ، وأقرّوا بنبوّته ، وعَزّرُوهُ يقول : وَقّروه وعظموه وحموه من الناس . كما :
حدثني المثنى ، قال : حدثنا عبد الله بن صالح ، قال : ثني معاوية ، عن عليّ ، عن ابن عباس : وعَزّروه يقول : حَموه ووقروه .
حدثني الحرث ، قال : حدثنا عبد العزيز ، قال : ثني موسى بن قيس ، عن مجاهد : وَعَزّرُوهُ وَنَصَرُوهُ قال : عزّروه : سدّدوا أمره ، وأعانوا رسوله ونصروه .
وقوله نَصَرُوهُ يقول : وأعانوه على أعداء الله وأعدائه بجهادهم ونصب الحرب لهم . وَاتّبَعُوا النّورَ الّذِي أُنْزِلَ مَعَهُ يعني القرآن والإسلام . أُولَئِكَ هُمُ المُفْلِحُونَ يقول : الذين يفعلون هذه الأفعال التي وصف بها جلّ ثناؤه أتباع محمد صلى الله عليه وسلم هم المنجحون . المدركون ما طلبوا ورجوا بفعلهم ذلك .
حدثني بشر بن معاذ ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة ، قال : فما نقموا ، يعني اليهود إلاّ أن حسدوا نبيّ الله ، فقال الله : الّذِينَ آمَنُوا بِهِ وَعَزّرُوهُ وَنَصَرُوهُ فأما نصره وتعزيره فقد سُبقتم به ، ولكن خياركم من آمن بالله واتبع النور الذي أنزل معه .
يريد قتادة بقوله : «فما نقموا إلاّ أن حسدوا نبيّ الله » أن اليهود كان محمد صلى الله عليه وسلم بما جاء به من عند الله رحمة عليهم لو اتبعوه ، لأنه جاء بوضع الإصر والأغلال عنهم ، فحملهم الحسد على الكفر به وترك قبول التخفيف لغلبة خذلان الله عليهم .
{ الذين يتبعون الرسول النبي } مبتدأ خبره يأمرهم ، أو خبر مبتدأ تقديره هم الذين ، أو بدل من الذين يتقون بدل البعض أو الكل ، والمراد من آمن منهم بمحمد صلى الله عليه وسلم وإنما سماه رسولا بالإضافة إلى الله تعالى ونبيا بالإضافة إلى العباد . { الأمّيّ } الذي لا يكتب ولا يقرأ ، وصفه به تنبيها على أن كمال علمه مع حاله إحدى معجزاته . { الذي يجدونه مكتوبا عندهم في التوراة والإنجيل } اسما وصفة . { يأمرهم بالمعروف وينهاهم عن المنكر ويحل لهم الطيبات } مما حرم عليهم كالشحوم . { ويحرّم عليهم الخبائث } كالدم ولحم الخنزير أو كالربا والرشوة . { ويضع عنهم إصرهم والأغلال التي كانت عليهم } ويخفف عنهم ما كلفوا به من التكاليف الشاقة كتعيين القصاص في العمد والخطأ ، وقطع الأعضاء الخاطئة وقرض موضع النجاسة ، وأصل الإصر الثقل الذي يأصر صاحبه أي يحبسه من الحراك لثقله . وقرأ ابن عامر " آصارهم " . { فالذين آمنوا به وعزّروه } وعظموه بالتقوية . وقرئ بالتخفيف وأصله المنع ومنه التعزير . { ونصروه } لي . { واتبعوا النور الذي أُنزل معه } أي مع نبوته يعني القرآن ، وإنما سماه نورا لأنه بإعجازه ظاهر أمره مظهر غيره ، أو لأنه كاشف الحقائق مظهر لها ، ويجوز أن يكون معه متعلقا باتبعوا أي واتبعوا النور المنزل مع اتباع النبي فيكون إشارة إلى اتباع الكتاب والسنة . { أولئك هم المفلحون } الفائزون بالرحمة الأبدية ، ومضمون الآية جواب دعاء موسى صلى الله عليه وسلم .
هذه الألفاظ أخرجت اليهود والنصارى من ا?شتراك الذي يظهر في قوله { فسأكتبها للذين يتقون } [ الأعراف : 156 ] وخلصت هذه العدة لأمة محمد صلى الله عليه وسلم قاله ابن عباس وابن جبير وغيرهما ، و { يتبعون } معناه في شرعه ودينه ، و { الرسول } و { النبي } اسمان لمعنيين فإن الرسول ، أخص من النبي هذا في الآدميين لاشتراك الملك في لفظة الرسول ، و { النبي } مأخوذ من النبأ ، وقيل لما كان طريقاً إلى رحمة الله تعالى وسبباً شبه بالنبي الذي هو الطريق ، ونشدوا :
لأصبح رتماً ُدَقاَق الحصى*** مكان النبي من الكاثب
وأصله الهمز ولكنه خفف كذا قال سيبويه وذلك كتخفيفهم خابية وهي من خبأ ، واستعمل تخفيفه حتى قد روي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : «لا تنبروا اسمي » وقدم الرسول اهتماماً بمعنى الرسالة عند المخاطبين بالقرآن وإلا فمعنى النبوءة هو المتقدم وكذلك رد رسول الله صلى الله عليه وسلم على البراء بن عازب حين قال آمنت بكتابك الذي أنزلت وبرسولك الذي أرسلت ، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم : «وبنبيك الذي أرسلت » ليترتب الكلام كما ترتب الأمر في نفسه ، لأنه نبىء ثم أرسل ، وأيضاً في العبارة المردودة تكرار الرسالة وهو معنى واحد ، و «الأُّمي » بضم الهمزة قيل نسب إلى أم القرى وهي مكة .
قال القاضي أبو محمد : واللفظة على هذا مختصة بالنبي صلى الله عليه وسلم وغير مضمنة معنى عدم الكتابة ، وقيل هو منسوب لعدمه الكتابة والحساب إلى الأم ، أي هو على حال الصدر عن الأم في عدم الكتابة ، وقالت فرقة هو منسوب إلى الأمة ، وهذا أيضاً مضمن عدم الكتابة لأن الأمة بجملتها غير كاتبة حتى تحدث فيها الكتابة كسائر الصنائع ، وقرأ بعض القراء فيما ذكر أبو حاتم «الأَمي » بفتح الهمزة وهو منسوب إلى الأم وهو القصد ، أي لأن هذا النبي مقصد للناس وموضع أم يؤمونه بأفعالهم وتشرعهم ، قال ابن جني : وتحتمل هذه القراءة أن يريد الأمي فغير تغيير النسب .
والضمير في قوله : { يجدونه } لبني إسرائيل والهاء منه لمحمد صلى الله عليه وسلم ، والمراد صفته ونعته .
وروي أن الله عز وجل قال لموسى قل لبني إسرائيل أجعل لكم الأرض مسجداً وطهوراً وأجعل السكينة معكم في بيوتكم وأجعلكم تقرؤون التوراة عن ظهر قلوبكم ، فأخبر موسى بني إسرائيل فقالوا : إنما نريد أن نصلي في الكنائس وأن تكون السكينة كما كانت في التابوت وأن لا نقرأ التوراة إلا نظراً ، فقيل لهم فنكتبها للذين يتقون يعني أمة محمد صلى الله عليه وسلم ، وروي عن عبد الله بن عمر ، وفي البخاري أو غيره أن في التوراة من صفة محمد صلى الله عليه وسلم «يا أيها النبي إنا أرسلناك شاهداً ومبشراً ونذيراً وحرزاً للأميين أنت عبدي ورسولي سميتك المتوكل ليس بفظ ولا غليظ ولا صَّخاب في الأسواق ، ولا يجزي بالسيئة السيئة ، ولكن يعفو ويصفح ، ولن أقبضه حتى أقيم به الملة العوجاء بأن يقولوا : لا إله إلا الله ، فنقيم به قلوباً غلفاً وآذاناً صماً وأعيناً عمياً » .
وفي البخاري «فنفتح به عيوناً عمياً وآذاناً صماً وقلوباً غلفاً » ونص كعب الأحبار نحو هذه الألفاظ إلا أنه قال «قلوباً غلفاً وآذاناً صموماً » ، قال الطبري وهي لغة حميرية وقد رويت «غلوفياً وصمومياً » .
قال القاضي أبو محمد : وأظن هذا وهماً وعجمة .
وقوله تعالى : { يأمرهم بالمعروف وينهاهم عن المنكر } يحتمل أن يريد ابتداء وصف الله تعالى النبي صلى الله عليه وسلم ويحتمل أن يجعله متعلقاً ب { يجدونه } في موضع الحال على تجوز ، أي يجدونه في التوراة أمراً بشرط وجوده فالمعنى الأول لا يقتضي أنهم علموا من التوراة أنه يأمرهم وينهاهم ويحل ويحرم ، والمعنى الثاني يقتضي ذلك فالمعنى الثاني على هذا ذم لهم ، ونحا إلى هذا أبو إسحاق الزجّاج ، وقال أبو علي الفارسي في الإغفال { يأمرهم } عندي تفسير لما كتب من ذكره كما أن قوله تعالى { خلقه من تراب } تفسير للمثل ، ولا يجوز أن يكون حالاً من الضمير في { يجدونه } لأن الضمير للذكر والاسم ، والذكر والاسم لا يأمران .
قال القاضي أبو محمد : وما قدمته من التجوز وشرط الوجود يقرب ما منع منه أبو علي ، وانظر و { بالمعروف } ما عرف الشرع ، وكل معروف من جهة المروءة فهو معروف بالشرع ، فقد قال صلى الله عليه وسلم «بعثت لأتمم محاسن الأخلاق » و { المنكر } مقابله .
و { الطيبات } قال فيها بعض المفسرين إنها إشارة إلى البحيرة ونحوها ، ومذهب مالك رحمه الله أنها المحللات فكأنه وصفها بالطيب إذ هي لفظة تتضمن مدحاً وتشريفاً ، وبحسب هذا يقول في { الخبائث } إنها المحرمات وكذلك قال ابن عباس «الخبائث » هي لحم الخنزير والربا وغيره ، وعلى هذا حلل مالك المتقذرات كالحيات والخنافس والعقارب ونحوها ، ومذهب الشافعي رحمه الله أن الطيبات هي من جهة الطعم إلا أن اللفظة عنده ليست على عمومها بهذا الوجه من الطعم يقتضي تحليل الخمر والخنزير بل يراها مختصة فيما حلله الشرع ، ويرى «الخبائث » لفظاً عاماً في المحرمات بالشرع وفي المتقذرات فيحرم العقارب والخنافس والوزغ وما جرى هذا المجرى ، والناس على هذين القولين إلا أن في تعيين الخبائث اختلافاً ليس هذا موضع تقصيه .
وقوله تعالى : { ويضع عنهم إصرهم } الآية ، { يضع } كأن قياسه أن يكون «يضِع » بكسر الضاد لكن رده حرف الحلق إلى فتح الضاد ، قال أبو حاتم وأدغم أبو عمرو «ويضع عنهم » العين في العين وأشمها الرفع وأشبعها أبو جعفر وشيبة ونافع ، وطلحة ويذهب عنهم إصرهم ، و «الإصر » الثقل وبه فسر هنا قتادة وابن جبير ومجاهد ، و «الإصر » أيضاً العهد وبه فسر ابن عباس والضحاك والحسن وغيرهم ، وقد جمعت هذه الآية المعنيين فإن بني إسرائيل قد كان أخذ عليهم عهد أن يقوموا بأعمال ثقال فوضع عنهم بمحمد صلى الله عليه وسلم ذلك العهد وثقل تلك الأعمال ، وحكى أبو حاتم عن ابن جبير ، قال : «الإصر » شدة العبادة .
وقرأ ابن كثير ونافع وأبو عمرو وعاصم وحمزة والكسائي والناس «إصرهم » وقرأ ابن عامر وحده وأيوب السختياني ويعلى بن حكيم وأبو سراج الهذلي وأبو جعفر «آصارهم » بالجمع لما كانت الأعمال كثيرة كانت أثقالها متغايرة ، ومن وحد الإصر فإنما هو مفرد اسم جنس يراد به الجمع ، قال أبو حاتم : في كتاب بعض العلماء «أصرهم » واحد مفتوح الهمزة عن نافع وعيسى والزيات وذلك غلط ، وذكرها مكي عن أبي بكر عن عاصم وقال : هي لغة .
{ والأغلال التي كانت عليهم } عبارة مستعارة أيضاً لتلك الأثقال كقطع الجلد من أثر البول ، وأن لا دية ولا بد من قتل للقاتل ، وترك الأشغال يوم السبت ، فإنه روي أن موسى عليه السلام رأى يوم السبت رجلاً يحمل قصباً فضرب عنقه ، هذا قول جمهور المفسرين ، وهذا مثل قولك طوق فلان كذا إذا ألزمه ، ومنه قول الشاعر : [ مجزوء الكامل ]
إذهب بها إذهب بها*** طوقتها طوق الحمامه
أي لزمك عارها ومن هذا المعنى قول الهذلي :
فليس كعهد الدار يا أم مالك*** ولكن أحاطت بالرقاب السلاسل
وعاد الفتى كالكهل ليس بقابل*** سوى الحق شيئاً فاستراح العواذل
يريد أوامر الإسلام ولوازم الإيمان الذي قيد الفتك كما قال صلى الله عليه وسلم ، وقال ابن زيد : إنما المراد هنا ب { الأغلال } قول الله عز وجل في اليهود { غلت أيديهم } فمن آمن بمحمد صلى الله عليه وسلم زالت عنه الدعوة وتغليلها .
ثم أخبر تعالى عن حال المؤمنين فقال : { فالذين آمنوا به وعزروه ونصروه } وقرأ الجحدري وسليمان التيمي وقتادة وعيسى «عزروه » بالتخفيف ، وجمهور الناس على التشديد في الزاي ، ومعناه في القراءتين وقروه ، والتعزير والنصر مشاهدة خاصة للصحابة ، واتباع النور يشترك فيه معهم المؤمنون إلى يوم القيامة ، و { النور } كناية عن جملة الشرع ، وقوله : { معه } فيه حذف مضاف والتقدير مع بعثه أو نبوته أو نحو هذا ، وشبه الشرع والهدى بالنور إذ القلوب تستضيء به كما يستضيء بالنور ، و { المفلحون } معناه الفائزون ببغيتهم ، وهذا يعم معاني الفلاح فإن من بقي فقد فاز ببغيته .
تقديم وصف الرسول لأنه الوصف الأخص الأهم ، ولأن في تقديمه زيادة تسجيل لتحريف أهل الكتاب ، حيث حذفوا هذا الوصف ليصير كلام التوراة صادقاً بمن أتى بعد موسى من أنبياء بني إسرائيل ، ولأن محمداً صلى الله عليه وسلم اتشهر بوصف النبي الأمي ، فصار هذا المركب كاللقب له ، فلذلك لا يغير عن شهرته ، وكذلك هو حيثما ورد ذكره في القرآن .
والأمي : الذي لا يعرف الكتابة والقراءة ، قيل هو منسوب إلى الأم أي هو أشبه بأمه منه بأبيه ، لأن النساء في العرب ما كُنّ يعرفن القراءة والكتابة ، وما تعلمْنها إلاّ في الإسلام ، فصار تعلم القراءة والكتابة من شعار الحرائر دون الإماء كما قال عُبيْد الراعي ، وهو إسلامي :
هُنَّ الحرائِر لا ربّاتُ أخمرَة *** سُودُ المحاجِر لا يقْرأن بالسّوَرِ
أما الرجال ففيهم من يقرأ ويكتب .
وقيل : منسوب إلى الأمّة أي الذي حاله حال معظم الأمة ، أي الأمة المعهودة عندهم وهي العربية ، وكانوا في الجاهلية لا يعرف منهم القراءة والكتابة إلاّ النادر منهم ، ولذلك يصفهم أهلُ الكتاب بالأُمييّن ، لما حكى الله تعالى عنهم في قوله : { ذلك بأنهم قالوا ليس علينا في الأُميين سبيل } في آل عمران ( 75 ) .
والأميّة وصف خص الله به من رسله محمداً ، إتماماً للإعجاز العلمي العقلي الذي أيده الله به ، فجعل الأمية وصفاً ذاتياً له ، ليتم بها وصفه الذاتي وهو الرسالة ، ليظهر أن كماله النفساني كمالٌ لدُنّي إلهي ، لا واسطة فيه للأسباب المتعارفة للكمالات ، وبذلك كانت الأمية وصف كمال فيه ، مع أنها في غيره وصف نقصان ، لأنه لمّا حصل له من المعرفة وسداد العقل ما لا يحتمل الخطأ في كل نواحي معرفة الكمالات الحق ، وكان على يقين من علمه ، وبينة من أمره ، ما هو أعظم مما حصل للمتعلمين ، صارت أميته آية على كون ما حصل له إنّما هو من فيوضات إلهية .
ومعنى : { يجدونه مكتوباً } وجدان صفاته ونعوته ، التي لا يشبهه فيها غيره ، فجعلت خاصته بمنزلة ذاته . وأطلق عليها ضمير الرسول النبي الأمي مجازاً بالاستخدام ، وإنما الموجود نعته ووصفه ، والقرينة قوله : { مكتوباً } فإن الذات لا تكتب ، وعُدل عن التعبير بالوصف للدلالة على أنهم يجدون وصفاً لا يقبل الالتباس ، وهو : كونه أمياً ، ويأمر بالمعروف ، وينهى عن المنكر ، ويُحل الطيبات ، ويحرم الخبائث ، ويضع عنهم إصرهم ، وشدة شريعتهم .
وذكرالإنجيل هنا لأنه منزل لِبني إسرائيل ، وقد آمن به جمع منهم ومن جاء بعدهم من خلفهم ، وقد أعلم الله موسى بهذا .
والمكتوب في التوراة هو ما ذكرناه آنفاً ، والمكتوب في الإنجيل بشارات جمة بمحمد صلى الله عليه وسلم وفي بعضها التصريح بأنه يبعث بعثة عامة ، ففي إنجيل متّى في الإصحاح الرابع والعشرين « ويقوم أنبياء كذَبةٌ كثيرون ويُضلون كثيرون ، ولكن الذي يصبر إلى المنتهى ( أي يدوم شرعه إلى نهاية العالم ) فهذا يخلص ويكرز{[241]} ببشارة الملكوت هذه في كل المسكونة شهادة لجميع الأمم ثم يأتي المنتهى » ( أي منتهى الدنيا ) ، وفي إنجيل يوحنا في الإصحاح الرابع عشر « وإما المُعزّي الروح القدس الذي سيرسله الأب باسمي فهو يعلمكم كل شيء ويذكركم بكل ما قلتُه لكم » ( ومعنى باسمي أي بمماثلتي وهو كونه رسولاً مشرعاً لا نبيّاً موكداً ) .
وتقدم ذكر التوراة والإنجيل في أول سورة آل عمران .
وجملة : { يأمرهم بالمعروف } قال أبو علي الفارسي : « هي بيان للمكتوب عندهم ولا يجوز أن تكون حالاً من ضمير { يجدونه } لأن الضمير راجع للذكر والاسم . والذكر والاسم لا يأمران » أي فتعين كون الضمير مجازاً ، وكون الآمر بالمعروف هو ذات الرسول لا وصفه وذِكرُه ، ولا شك أن المقصود من هذه الصفات تعريفهم بها ؛ لتدلهم على تعيين الرسول الأمي عند مجيئه بشريعة هذه صفاتها .
وقد جعل الله المعروف والمنكر ، والطيبات ، والخبائث ، والإصر والأغلال متعلقات لتشريع النبي الأمي وعلامات ، فوجب أن يكون المراد منها ما يتبادر من معاني ألفاظها للأفهام المستقيمة .
فالمعروفُ شامل لكل ما تقبلُه العقول والفطر السليمة ، والمنكر ضده ، وقد تقدم بيانهما عند قوله تعالى : { ولتْكُن منكم أمة يَدعون إلى الخير ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر } في سورة آل عمران ( 104 ) .
ويجمعها معنى : الفطرة ، التي هي قوام الشريعة المحمدية كما قال تعالى : { فأقم وجهك للدين حنيفاً فطرت الله التي فطر الناس عليها } [ الروم : 30 ] ، وهذه أوضح علامة لتعرف أحكام الشريعة المحمدية .
والطيبات : جمع طيبة ، وقد روعي في التأنيث معنى الأكِيلة ، أو معنى الطُّعمة ، تنبيهاً على أن المراد الطيبات من المأكولات ، كما دل عليه قوله في نظائِرها نحو : { يأيها الناس كلوا مما في الأرض حلالاً طيباً } في البقرة ( 168 ) وقوله : { يسألونك ماذا أحل لهم قل أحل لكم الطيبات } في سورة المائدة ( 4 ) ، وليس المراد الأفعال الحسنة ؛ لأن الأفعال عُرّفت بوصف المعروف والمنكر . والمأكولات لا تدخل في المعروف والمنكر ، إذ ليس للعقل حظ في التمييز بين مقبُولها ومرفوضها ، وإنما تمتلك الناسَ فيها عوائِدُهم ، ولما كان الإسلام دينَ الفطرة ولا اعتداد بالعوائد فيه ، ناط حال المأكولات بالطّيب وحرمتها بالخُبث ، فالطّيب ما لا ضُر فيه ولا وخامَة ولا قذارة ، والخبيثُ ما أضر ، أوْ كان وَخيم العاقبة ، أو كان مستقذراً لا يقبله العقلاء ، كالنجاسة ، وهذا ملاك المُباح والمحرم من المآكل ، فلا تدخل العادات إلاّ في اختيار أهلها ما شاءوا من المباح ، فقد كانت قريش لا تأكل الضب ، وقد وُضع على مَائدة رسول الله فكره أن يأكل منه ، وقال : ما هو بحرام ولكنه لم يكن من طعام قومي فأجدني أعافُه ولهذا فالوجه : إن كل ما لا ضر فيه ولا فساد ولا قذارة فهو مباح ، وقد يكون مكروهاً اعتباراً بمضرة خفيفة ، فلذلك ورد النهي عن أكل كل ذي ناب من السباع ، ومحمله عند مالك في أشهر الروايات عنه ، على الكراهة ، وهو الذي لا ينبغي التردد فيه ، وأي ضُر في أكل لحم الأسد ، وكذلك إباحة أكل الخشاش والحشرات والزواحف البرية والبحرية ، لاختلاف عوائِد الناس في أكلها وعدمه ، فقد كانت جَرْم لا يأكلون الدجاج ، وَفقعس يأكلون الكلب ، فلا يحجر على قوم لأجل كراهية غيرهم مما كرهه ذوقه أو عادة قومه ، وقد تقدم شيء من هذا في آية سورة المائِدة ، فعلى الفقيه أن يقصر النظر على طبائِع المأكولات وصفاتها ، وما جهلت بعض صفاته وحرمته الشريعة مثل تحريم الخنزير .
وَوْضع الإصر إبطال تشريعه ، أي بنسخ ما كان فيه شدة من الشرايع الإلهية السابقة ، وحقيقة الوضع الحط من علو إلى سفل ، وهو هنا مجاز في إبطال التكليف بالأعمال الشاقة .
وحقه التعدية إلى المفعول الثاني بحرف ( في ) الظرفية ، فإذا عُدي إليْه ب ( عن ) دل على نقل المفعول الأول من مدخول ( عن ) وإذا عدي إلى المفعول الثاني ب ( على ) كان دالاً على حط المفعول الأول في مدخول ( على ) حطا متمكناً ، فاستعير يضعُ عنهم } هنا إلى إزالة التكليفات التي هي كالإصر والأغلال فيشمل الوضْعُ معنى النسخ وغيره ، كما سيأتي .
و« الإصر » ظاهر كلام الزمخشري في « الكشاف » و« الأساس » إنه حقيقة في الثّقل ، ( بكسر الثاءِ ) الحسيّ بحيث يَصعب معه التحرك ، ولم يقيده غيره من أصحاب دواوين اللغة ، وهذا القيد من تحقيقاته ، وَهو الذي جرى عليه ظاهر كلام ابن العربي في « الأحكام » ، والمراد به هنا التكاليف الشاقة والحرج في الدين ، فإن كان كما قيده الزمخشري يكن { ويضع عنهم أصرهم } تمثيلية بتشبيه حال المزال عنه ما يحْرجه من التكاليف بحال مَن كان محمّلاً بثقل فأزيل عن ظهره ثَقله ، كما في قوله تعالى : { يحملون أوزارهم على ظهورهم } [ الأنعام : 31 ] وإن لم يكن كذلك كان « الإصر » استعارة مكنية { ويضع } تخييلاً ، وهو أيضاً استعارة تبعية للإزالة .
وقد كانت شريعة التوراة مشتملة على أحكام كثيرة شاقة مثل العقوبة بالقتل على معاص كثيرة ، منها العمل يومَ السبتِ ، ومثلُ تحريم مأكولات كثيرة طيبة وتغليظ التحريم في أمور هينة ، كالعمل يوم السبت ، وأشد ما في شريعة التوراة من الإصر أنها لم تشرع فيها التوبة من الذنوب ، ولا استتابة المُجرم ، والإصر قد تقدم في قوله تعالى : { ربنا ولا تحمل علينا إصراً كما حملته على الذين من قبلنا } في سورة البقرة ( 286 ) وقرأ ابن عامر وحده في القراءات المشهورة ، ( آصارهم ) بلفظ الجمع ، والجمع والإفراد في الأجناس سواء .
و{ الأغلالُ } جمع غُل بضم الغين وهو إطار من حديد يجعل في رقبة الأسير والجاني ويمسك بسير من جلد ، أو سلسلة من حديد بيد المُوكّل بحراسة الأسير ، قال تعالى : { إذ الأغلال في أعناقهم والسلاسل } [ غافر : 71 ] ويستعار الغُل للتكليف والعمل الذي يؤلم ولا يطاق فهوَ استعارة فإن بنيْنا على كلام الزَمخشري كان { الأغلال } تمثيلية بتشبيه حال المحرر من الذل والإهانة بحال من أطلق من الأسر ، فتعيّن أن وضع الأغلال استعارة لما يعانيه اليهود من المذلة بين الأمم الذين نزلوا في ديارهم بعد تخريب بيت المقدس ، وزوال ملك يهوذا ، فإن الإسلام جاء بتسوية أتباعه في حقوقهم في الجامعة الإسلامية ، فلا يبقى فيه مَيز بين أصيل ودخيل ، وصميم ولصيق ، كما كان الأمر في الجاهلية ، ومناسبة استعارة الأغلال للذلة أوضح ، لأن الأغلال من شعار الإذلال في الأسر والقود ونحوهما .
وهذان الوصفان لهما مزيد اختصاص باليهود ، المتحدث عنهم في خطاب الله تعالى لموسى ، ولا يتحققان في غيرهم ممن آمن بمحمد صلى الله عليه وسلم لأن اليهود قد كان لهم شرع ، وكان فيه تكاليف شاقة ، بخلاف غير اليهود من العرب والفرس وغيرهم ، ولذلك أضاف الله الإصر إلى ضميرهم ، ووَصف الأغلال بما فيه ضميرهم ، على أنك إذا تأملت في حال الأمم كلهم قبل الإسلام لا تجد شرائعهم وقوانينهم وأحوالهم خالية من إصر عليهم ، مثل تحريم بعض الطيبات في الجاهلية ، ومثل تكاليف شاقة عند النصارى والمجوس لا تتلاقى مع السماحة الفطرية ، وكذلك لا تجدها خالية من رهق الجبابرة ، وإذلال الرؤساء ، وشدة الأقوياء على الضعفاء ، وما كان يحدث بينهم من التقاتل والغارات ، والتكايُل في الدماء ، وأكلهم أموالهم بالباطل ، فأرسل الله محمداً صلى الله عليه وسلم بدينِ من شأنه أن يخلص البشر من تلك الشدائِد ، كما قال تعالى : { وما أرسلناك إلاّ رحمة للعالمين } [ الأنبياء : 107 ] ولذلك فسرنا الوضع بما يَعم النسخ وغيره ، وفسرنا الأغلال بما يخالف المراد من الأصر ، ولا يناكد هذا ما في أديان الجاهلية والمجوسية وغيرها من التحلل في أحكام كثيرة ، فإنه فساد عظيم لا يخفف وطأة ما فيها من الإصر ، وهو التحلل الذي نظر إليه أبو خِراش الهُذلي في قوله ، يَعْني شريعة الإسلام :
فليس كعهد الدار يا أم مالك *** ولكن أحَاطت بالرقاب السلاسل
والفاء في قوله : { فالذين آمنوا به } فاء الفصيحة ، والمعنى : إذا كان هذا النبي كما علمتم من شهادة التوراة والإنجيل بنبوءته ، ومن اتصاف شرعه بالصفة التي سمعتم ، علمتم أن الذين آمنوا به وعزروه ونصروه واتبعوا هديه ، هم المفلحون .
والقصر المستفاد من تعريف المسند ومن ضمير الفصل قصر إضافي ، أي هم الذين أفلحوا أي دون من كفر به بقرينة المقام ، لأن مقام دعاء موسى يقتضي أنه أراد المغفرة والرحمة وكتابة الحسنة في الدنيا والآخرة لكل من اتبع دينه ، ولا يريد موسى شمول ذلك لمن لا يتبع الإسلام بعد مجيء محمد صلى الله عليه وسلم ولكن جرى القصر على معنى الاحتراس من الإيهام ، ويجوز أن يكون القصر ادعائياً ، دالاً على معنى كمال صفة الفلاح للذين يتبعون النبي الأمي ، ففلاح غيرهم من الأمم المفلحين الذين سبقوهم كلاَ فلاح ، إذا نُسب إلى فلاحهم ، أي إن الأمة المحمدية أفضل الأمم على الجملة ، وإنهم الذين تنالهم الرحمة الإلهية التي تسع كل شيء من شؤونهم قال تعالى : { وما أرسلناك إلاّ رحمة للعالمين } [ الأنبياء : 107 ] .
ومعنى { عزروه } أيدوه وقّووْه ، وذلك بإظهار ما تضمنته كتبهم من البشارة بصفاته ، وصفات شريعته ، وإعلان ذلك بين الناس ، وذلك شيء زائِد على الإيمان به ، كما فعل عبد الله بن سَلاَم ، وكقول ورقة بن نوفل : « هذا الناموس الذي أنزل على موسى » ، وهو أيضاً مغاير للنصر ، لأن النصر هو الإعانة في الحرب بالسلاح ، ومن أجل ذلك عطف عليه { ونصروه } .
واتّباع النور تمثيل للاقتداء بما جاء به القرآن : شبه حال المقتدي بهدي القرآن ، بحال الساري في الليل إذا رأى نوراً يلوح له اتّبعه ، لعلمه بأنه يجد عنده منجاة من المخاوف وأضرار السير ، وأجزاءُ هذا التمثيل استعارات ، فالإتباع يصلح مستعاراً للاقتداء ، وهو مجاز شائِع فيه ، والنور يصلح مستعاراً للقرآن ؛ لأن الشيء الذي يعلّم الحقّ والرشد يشبّه بالنور ، وأحسن التمثيل ما كان صالحاً لاعتبار التشبيهات المفردة في أجزائه .
والإشارة في قوله : { أولئك هم المفلحون } للتنويه بشأنهَم ، وللدلالة على أن المشار إليهم بتلك الأوصاف صاروا أحرياء بما يخبر به عنهم بعد اسم الإشارة كقوله : { أولئك على هدى من ربهم } [ البقرة : 5 ] .
وفي هذه الآية تنويه بعظيم فضل أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم رضي الله عنهم ، ويُلحق بهم من نصر دينه بعدهم .