قوله تعالى : { فإن خفتم فرجالاً أو ركباناً } . فرجالاً أي رجالة يقال : راجل ورجال مثل صاحب وصحاب وقائم وقيام ونائم ونيام أو ركبانا على دوابهم وهو جمع راكب ، معناه : إن لم يمكنكم أن تصلوا قانتين موفين للصلاة حقها لخوف ، فصلوا مشاة على أرجلكم ، أو ركباناً على ظهور دوابكم ، وهذا في حال المقاتلة والمسايفة . يصلي حيث كان وجهه راجلاً أو راكباً مستقبل القبلة ، وغير مستقبلها ويومئ بالركوع والسجود ويجعل السجود أخفض من الركوع ، وكذلك إذا قصده سبع أو غشيه سيل ، يخاف منه على نفسه فعدا أمامه مصلياً بالإيماء يجوز . والصلاة في حال الخوف على أقسام ، فهذه أحد أقسام شدة صلاة الخوف ، وسائر الأقسام سيأتي بيانها في سورة النساء إن شاء الله تعالى ، ولا ينتقص عدد الركعات بالخوف عند أكثر أهل العلم .
وروى مجاهد ، عن ابن عباس رضي الله عنهما قال : " فرض الله الصلاة على لسان نبيكم صلى الله عليه وسلم في الحضر أربعاً ، وفي السفر ركعتين وفي الخوف ركعة " . وهو قول عطاء وطاووس والحسن ومجاهد وقتادة : أنه يصلي في حال شدة الخوف ركعة ، وقال سعيد بن جبير : إذا كنت في القتال وضرب الناس بعضهم بعضاً فقل : سبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبر . واذكر الله فإذا ذكرت الله فتلك صلاتك . قوله تعالى : { فإذا أمنتم فاذكروا الله } . أي فصلوا الصلوات الخمس تامة بحقوقها .
والفاء في قوله : { فَإنْ خِفْتُمْ فَرِجَالاً أَوْ رُكْبَاناً } للتفريع أي : حافظوا على الصلاة في كل وقت ، وأدوها بخشوع واطمئنان ، فإن كان بكم خوف من عدو في حال المقاتلة في الحرب أو من غيره لسبب من الأسباب ، فصلوا رجلين أي ماشين على الأقدام ، أو راكبين على ركائبكم بإيماء ، سواء وليتم وجوهكم شطر القبلة أولا .
و ( رجالا ) جمع راجل . وهو القوى على المشي برجليه . يقال : رَجل الإِنسان يرجل رجلا إذا لم يحد ما يركبه ومشى على قدميه ، والركابن جمع راكب للجمل أو الفرس أو غيرهما .
وجواب الشرط محذوف والتقدير : فإن خفتم فصلوا رجلين أو راكبين ، وهذان اللفظان أي - رجالا أو ركباناً - حالان من الضمير في " فصلوا " المحذوف .
والآية الكريمة تدل على شدة عناية الإِسلام بشأن الصلاة ، فقد أمر الله - تعالى - عباده بأن يحافظوا عليها في حالتي الأمن والخوف ، والصحة والمرض ، والسفر والإِقامة .
وقد بسط هذا المعنى الأستاذ الإِمام محمد عبده فقال ما ملخصه : وقوله - تعالى - : { فَإنْ خِفْتُمْ فَرِجَالاً أَوْ رُكْبَاناً } هذا تأكيد للمحافظة على الصلاة ، وبيان أنها لا تسقط بحال ، لأن حال الخوف على النفس أو العرض أو المال هو مظنة العذر في الترك كما يكون السفر عذراً في ترك الصيام . . والسبب في عدم سقوط الصلاة عن المكلف بحال أنها عمل قلبي ، وإنما فرضت تلك الأعمال الظاهرة لأنها مساعدة على العمل القلبي المقصود بالذات ، وهو تذكر سلطان الله - تعالى - المستولي علينا وعلى العالم كله ، ومن شأن الإِنسان إذا أراد عملا قلبياً يجتمع فيه الذكر أن يستعين على ذلك ببعض ما ينسابه من قول وعمل .
ولا ريب أن هذه الهيأة التي اختارها الله - تعالى - للصلاة هي أفضل معين على استحضار سلطانه فإن قولك " الله أكبر " في فاتحة الصلاة وعند الانتقال فبها من عمل إلى عمل يعطيك من الشعور يكون الله أكبر وأعظم من كل شيء ما يغمر روحك ، ويستولي على إرادتك . . وكذلك الشأن في سائر أعمال الصلاة .
فإذا تعذر عليك الإِتيان ببعض تلك الأعمال البدنية ؛ فإن ذلك لا يسقط عنك هذه العبادة القلبية التي هي روح الصلاة وغيرها ، وهي الإِقبال على الله - تعالى - واستحضار سلطانه ، مع الإِشارة إلى تلك الأعمال بقدر الإِمكان الذي لا يمنع من مدافعه الخوف الطارئ من سبع مفترس ، أو عدو مغتال ، أو لص محتال . . فالآية تعلمنا أنه يجب أن لا يذهلنا عن الله شيء في حال من الأحوال . . "
وقال الإِمام ابن العربي : قوله - تعالى - { فَإنْ خِفْتُمْ فَرِجَالاً أَوْ رُكْبَاناً } أمر الله - تعالى - بالمحافظة على الصلاة في كل حال من صحة ومرض ، وحضر وسفر ، وقدرة وعجز ، وخوف وأمن ، لا تسقط عن المكلف بحال ، ولا يتطرق إلى فرضيتها اختلال . وقد قال صلى الله عليه وسلم : " صل قائماً ، فإن لم تستطع فقاعداً ، فإن لم تستطع فعلى جنب " .
والمقصود من ذلك أن تفعل الصلاة كيفما أمكن ، لا تسقط بحال حتى لو لم يتفق فعلها إلا بالإِشارة بالعين للزم فعليها كذلك إذا لم يقدر على حركة سائر الجوارح ، وبهذا المعنى تميزت عن سائر العبادات ، فإن العبادات كلها تسقط بالأعذار ، ولذلك قال علماؤنا : " إن تارك الصلاة يقتل ، لأنها أشبهت الإِيمان الذي لا يسقط بحال ، ولا تجوز النيابة فيها ببد ولا مال " .
ثم قال - تعالى - : { فَإِذَآ أَمِنتُمْ فاذكروا الله كَمَا عَلَّمَكُم مَّا لَمْ تَكُونُواْ تَعْلَمُونَ } أي فإذا زال خوفكم وصرتم آمنين مطمئنين ، { فاذكروا الله } أي فأدوا الصلاة تامة كاملة مثل ما علمكم إياها ربكم على لسان نبيكم صلى الله عليه وسلم وقد من الله - تعالى - عليكم بهذا التعليم الذي كنتم تجهلونه فضلا منه وكرماً .
وعبر - سبحانه - " بإن " المفيدة للشك في حالة الخوف ، وبإذا المفيدة للتحقيق في حالة الأمن ، للإِشعار بأن حالة الأمن هي الحالة الكثيرة الثابتة ، وأن حالة الخوف هي الحالة القليلة الطارئة ، وفي ذلك فضل جزيل من الله - تعالى - على عباده يحملهم على شكره وطاعته ، حيث وهبهم الأمان والاطمئنان في أغلب أوقات حياتهم .
وبذلك نرى أن هاتين الآيتين الكريمتين قد أمرتا المسلم بأن يحافظ على الصلاة محافظة تامة ، إذ في هذه المحافظة سعادة للإِنسان ، ودافع له على أداء الحقوق لأربابها ، وزاجر له عن اقتراف ما نها الله عنه .
( فَإِنْ خِفْتُمْ فَرِجَالاً أَوْ رُكْبَاناً فَإِذَا أَمِنتُمْ فَاذْكُرُوا اللَّهَ كَمَا عَلَّمَكُمْ مَا لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ )
فأما إذا كان الخوف الذي لا يدع مجالا لإقامة الصلاة تجاه القبلة ، فإن الصلاة تؤدي ولا تتوقف . يتجه الراكب على الدابة والراجل المشغول بالقتال ودفع الخطر حيث يقتضيه حاله ، ويومىء إيماءة خفيفة للركوع والسجود . وهذه غير صلاة الخوف التي بين كيفيتها في سورة النساء . فالمبينة في سورة النساء تتم في حالة ما إذا كان الموقف يسمح بإقامة صف من المصلين يصلي ركعة خلف الإمام بينما يقف وراءه صف يحرسه . ثم يجيء الصف الثاني فيصلي ركعة بينما الصف الأول الذي صلى أولا يحرسه . . أما إذا زاد الخوف وكانت الموقعة والمسايفة فعلا ، فتكون الصلاة المشار إليها هنا في سورة البقرة .
وهذا الأمر عجيب حقا . وهو يكشف عن مدى الأهمية البالغة التي ينظر الله بها إلى الصلاة ، ويوحي بها لقلوب المسلمين . إنها عدة في الخوف والشدة . فلا تترك في ساعة الخوف البالغ ، وهي العدة . ومن ثم يؤديها المحارب في الميدان ، والسيف في يده ، والسيف على رأسه . يؤديها فهي سلاح للمؤمن كالسيف الذي في يده . وهي جنة له كالدرع التي تقيه . يؤديها فيتصل بربه أحوج ما يكون للإتصال به ، وأقرب ما يكون إليه والمخافة من حوله . .
إن هذا الدين عجيب . إنه منهج العبادة . العبادة في شتى صورها والصلاة عنوانها ، وعن طريق العبادة يصل بالإنسان إلى أرفع درجاته . وعن طريق العبادة يثبته في الشدة ، ويهذبه في الرخاء . وعن طريق العبادة يدخله في السلم كافة ويفيض عليه السلام والاطمئنان . . ومن ثم هذه العناية بالصلاة والسيوف في الأيدي وفي الرقاب !
فإذا كان الأمن فالصلاة المعروفة التي علمها الله للمسلمين ، وذكر الله جزاء ما علمهم ما لم يكونوا يعلمون :
( فإذا أمنتم فاذكروا الله كما علمكم ما لم تكونوا تعلمون ) . .
وماذا كان البشر يعلمون لولا أن علمهم الله ؟ ولولا أن يعلمهم في كل يوم وفي كل لحظة طوال الحياة ؟ !