قوله تعالى : { واللذان يأتيانها منكم } . يعني : الرجل والمرأة ، والهاء راجعة إلى الفاحشة ، قرأ ابن كثير " اللذان " ، و " اللذين " ، و " هاتان " ، و " هذان " مشددة النون للتأكيد ، ووافقه أهل البصرة في ( فذانك ) ، والآخرون " بالتخفيف ، قال أبو عبيدة : خص أبو عمرو فذانك بالتشديد لقلة الحروف في الاسم .
قوله تعالى : { فآذوهما } . قال عطاء وقتادة : فعيروهما باللسان : أما خفت الله ؟ أما استحييت من الله حيث زنيت ؟ قال ابن عباس رضي الله عنهما : سبوهما ، واشتموهما ، قال ابن عباس : هو باللسان واليد ، يؤذى بالتعيير وضرب النعال . فإن قيل : ذكر الحبس في الآية الأولى ، وذكر في هذه الآية الإيذاء ، فكيف وجه الجمع ؟ قيل : الآية الأولى في النساء وهذه في الرجال ، وهو قول مجاهد ، وقيل : الآية الأولى في الثيب ، وهذه في البكر .
قوله تعالى : { فإن تابا } . من الفاحشة .
قوله تعالى :{ وأصلحا } . العمل فيما بعد .
قوله تعالى : { فأعرضوا عنهما } . فلا تؤذوهما .
قوله تعالى : { إن الله كان تواباً رحيماً } . وهذا كله كان قبل نزول الحدود ، فنسخت بالجد والرجم ، والجلد في القرآن . قال الله تعالى : { الزانية والزاني فاجلدوا كل واحد منهما مائة جلدة } [ النور :2 ] . والرجم في السنة .
أخبرنا أبو الحسن محمد بن محمد السرخسي ، أخبرنا أبو علي زاهر بن أحمد السرخسي ، أنا أبو إسحاق إبراهيم بن عبد الصمد الهاشمي ، أخبرنا أبو مصعب عن مالك عن ابن شهاب عن عبيد الله بن عتبة بن مسعود عن أبي هريرة وزيد بن خالد الجهني رضي الله عنهما أنهما أخبراه ، أن رجلين اختصما إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال أحدهما : اقض يا رسول الله بيننا بكتاب الله ، وقال الآخر وكان أفقههما :أجل يا رسول الله ، فاقض بيننا بكتاب الله ، وائذن لي أن أتكلم ، قال : تكلم . قال : إن ابني كان عسيفاً ، أي أجيرا ، على هذا ، فزنى بامرأته ، فأخبروني أن على ابني الرجم ، فافتديت منه بمائة شاة وبجارية لي ، ثم إني سألت أهل العلم فأخبروني أن على ابني جلد مائة ، وتغريب عام ، وإنما الرجم على امرأته . فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : أما والذي نفسي بيده لأقضين بينكما بكتاب الله ، أما غنمك وجاريتك فرد عليك ، وأما على ابنك فعليه جلد مائة وتغريب عام ، واغد يا أنيس على امرأة هذا –أي أمر أنيسا الأسلمي أن يأتي امرأة الآخر-فإن اعترفت فارجمها " . فغدا عليها فاعترفت فرجمهاأتي امرأة أ .
أخبرنا عبد الواحد بن أحمد المليحي ، أنا أحمد بن عبد الله النعيمي ، أنا محمد بن يوسف ، أنا محمد ابن إسماعيل ، أنا عبد العزيز بن عبد الله ، حدثني إبراهيم بن سعد عن صالح عن ابن شهاب عن عبيد بن عبد الله بن عتبة بن مسعود ، عن ابن عباس قال : قال عمر رضي الله عنه : إن الله تعالى بعث محمداً رسول الله صلى الله عليه وسلم بالحق ، وأنزل عليه الكتاب ، فكان مما أنزل الله تعالى آية الرجم ، فقرأناها وعقلناها ووعيناها ، رجم رسول الله صلى الله عليه وسلم . ورجمنا بعده ، وأخشى إن طال بالناس زمان أن يقول قائل : والله ما نجد آية الرجم في كتاب الله تعالى ، فيضلوا بترك فريضة أنزلها الله تعالى في كتابه .
والرجم في كتاب الله تعالى حق على من زنى إذا أحصن من الرجال والنساء إذا قامت البينة ، أو كان الحبل ، أو الاعتراف . وجملة حد الزنا أن الزاني إذا كان محصناً ، وهو الذي اجتمع فيه أربعة أوصاف : العقل ، والبلوغ ، والحرية ، والإصابة بالنكاح الصحيح ، فحده الرجم ، مسلماً كان أو ذمياً ، وهو المراد من الثيب المذكور في الحديث .
وذهب أصحاب الرأي إلى أن الإسلام من شرائط الإحصان ، ولا يرجم الذمي . وقد صح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه رجم يهوديين زنيا وكانا قد أحصنا ، وإن كان الزاني غير محصن بأن لم تجتمع فيه هذه الأوصاف نظر إن كان غير بالغ ، أو كان مجنوناً فلا حد عليه . وإن كان حراً ، عاقلاً بالغاً ، غير أنه لم يحصن بنكاح صحيح فعليه جلد مائة وتغريب عام ، وإن كان عبداً فعليه جلد خمسين ، وفي تغريبه قولان : إن قلنا يغرب فيه قولان : أصحهما نصف سنة ، كما يجلد خمسين . على نصف حد الحر .
ثم بين - سبحانه - حكما آخر فقال : { واللذان يَأْتِيَانِهَا مِنكُمْ فَآذُوهُمَا } .
أى واللذان يأتيان فاحشة الزنا من رجالكم ونسائكم فآذوهما بالشتم والتوبيخ والزجر الشديد ليندما على ما فعلا وليرتدع سواهما بهما .
وقد اختلف العلماء فى المراد بقوله { واللذان } .
فمنهم من قال المراد بهما الرجل والمرأة البكران اللذان لم يحصنا .
ومنهم من قال المراد بهما الرجلان يفعلان اللواط .
ومنهم من قال المراد بهما الرجل والمرأة لا فرق بين بكر وثيب .
والمختار عند كثير من العلماء هو الرأى الأول ، قالوا : لأن الله - تعالى - ذكر فى هاتين الآيتين حكمين :
والثاني : الإِيذاء ، ولا شك أن من حكم عليه بالأول خلاف من حكم عليه بالثاني ، والشرع يخفف فى البكر ويشدد على الثيب ، ولذلك لما نسخ هذا الحكم جعل للثيب الرجم وللبكر الجلد ، فجعلنا الحكم الشديد وهو الحبس على الثيب ، والحكم الأخف وهو الإِيذاء على البكر .
قالوا : وقد نسخ حكم هذه الآية بآية النور ، حيث جعل حكم الزانيين اللذين لم يحصنا جلد مائة .
فقد أخرجه ابن جرير عن الحسن البصرى وعكرمة قالا فى قوله - تعالى - { واللذان يَأْتِيَانِهَا مِنكُمْ فَآذُوهُمَا } الآية ، نسخ ذلك بآية الجلد وهى قوله - تعالى - فى سورة النور : { الزانية والزاني فاجلدوا كُلَّ وَاحِدٍ مِّنْهُمَا مِئَةَ جَلْدَةٍ } الآية .
ومن العلماء من قال بأن هذه الآية غير منسوخة بآية النور ، فإن العقوبة ذكرت هنا مجملة غير واضحة المقدار لأنا مجرد الإِيذاء ، وذكرت بعد ذلك مفصلة بينة المقدار فى سورة النور . أى أن ما ذكر هنا من قبيل المجمل ، وما ذكر فى سورة النور من قبيل المفصل ، وأنه لا نسخ بين الآيتين .
هذا ، ولأبى مسلم الأصفهاني رأى آخر فى تفسير هاتين الآيتين ، فهو يرى أن المراد باللاتى فى قوله { واللاتي يَأْتِينَ الفاحشة مِن نِّسَآئِكُمْ } النساء السحاقات اللاتى يستمتع بعضهن ببعض وحدهن الحبس ، والمراد بقوله { واللذان يَأْتِيَانِهَا مِنكُمْ } اللائطون من الرجال وحدهم الإِيذاء وأما حكم الزناة فسيأتى فى سورة النور .
قال الآلوسى : وقد زيف هذا القول بأنه لم يقل به أحد ، وبأن الصحابة قد اختلفوا فى حكم اللوطى ولم يتمسك أحد منهم بهذه الآية ، وعدم تمسكهم بها مع شدة احتياجهم إلى نص يدل على الحكم دليل على أن الآية ليست فى ذلك .
وأيضا جعل الحبس فى البيت عقوبة السحاق لا معنى له . لأنه مما لا يتوقف على الخروج كالزنا . فلو كان المراد السحاقات لكانت العقوبة لهن عدم اختلاط بعضهن ببعض لا الحبس والمنع من الخروج . وحيث جعل هو عقوبة دل ذلك على أن المراد باللاتى يأتين الفاحشة الزانيات . . .
والذى نراه أن هذا الحكم المذكور فى الآيتين منسوخ ، بعضه بالكتاب وبعضه بالسنة .
أما الكتاب فهو قوله - تعالى - فى سورة النور { الزانية والزاني فاجلدوا كُلَّ وَاحِدٍ مِّنْهُمَا مِئَةَ جَلْدَةٍ } الآية .
وأما السنة فحديث عباده بن الصامت الذى سبق ذكره .
وإنما قلنا ذلك لأن ظاهر الآيتين يدل على أن ما ذكر فيهما من الحبس والإِيذاء بعد نزول آية سورة النور . بل الثابت عنه أنه كان يجلد البكر من الرجال والنساء ، ويرجم المحصن منهما ، ولم يضم إلى إحدى هاتين العقوبتين حبسا أو إيذاء ، فثبت أن هذا الحكم المذكور فى الآيتين قد نسخ .
ثم بين - سبحانه - الحكم فيما إذا أقلع الزانى والزانية عن جريمتهما فقال : { فَإِن تَابَا وَأَصْلَحَا فَأَعْرِضُواْ عَنْهُمَآ إِنَّ الله كَانَ تَوَّاباً رَّحِيماً } .
أى فإن تابا فعلا من الفاحشة ، وأصلحا أعمالهما { فَأَعْرِضُواْ عَنْهُمَآ } أى فاصفحوا عنهما وكفوا عن أذاهما { إِنَّ الله كَانَ تَوَّاباً } أى مبالغا فى قبول التوبة ممن تاب توبة صادقة نصوحا { رَّحِيماً } أى واسع الرحمة بعباده الذين لا يصرون على معصية بل يتوبون إليه منها توبة صادقة .
( واللذان يأتيانها منكم فآذوهما . فإن تابا وأصلحا فأعرضوا عنهما إن الله كان توابا رحيما ) .
والأوضح أن المقصود بقوله تعالى : ( واللذان يأتيانها منكم . . . ) هما الرجلان يأتيان الفاحشة الشاذة . وهو قول مجاهد - رضي الله عنه - وقال ابن عباس وسعيد بن جبير وغيرهما : ( فآذوهما ) : هو الشتم والتعيير والضرب بالنعال !
( فإن تابا وأصلحا فأعرضوا عنهما ) . .
فالتوبة والإصلاح - كما سيأتي - تعديل أساسي في الشخصية والكينونة والوجهة والطريق والعمل والسلوك . ومن ثم تقف العقوبة ، وتكف الجماعة عن إيذاء هذين المنحرفين الشاذين . وهذا هو الاعراض عنهما في هذا الموضع : أي الكف عن الإيذاء .
( إن الله كان توابا رحيما ) . .
وهو الذي شرع العقوبة ، وهو الذي يأمر بالكف عنها عند التوبة والإصلاح . ليس للناس من الأمر شيء في الأولى ، وليس لهم من الأمر شيء في الأخيرة . إنما هم ينفذون شريعة الله وتوجيهه . وهو تواب رحيم . يقبل التوبة ويرحم التائبين .
واللمسة الثانية في هذه الإيماءة ، هي توجيه قلوب العباد للاقتباس من خلق الله والتعامل فيما بينهم بهذا الخلق . وإذا كان الله توابا رحيما ، فينبغي لهم أن يكونوا هم فيما بينهم متسامحين رحماء ؛ أمام الذنب الذي سلف ، وأعقبه التوبة والإصلاح . إنه ليس تسامحا في الجريمة ، وليس رحمة بالفاحشين . فهنا لا تسامح ولا رحمة . ولكن سماحة ورحمة بالتائبين المتطهرين المصلحين ، وقبولهم في المجتمع ، وعدم تذكيرهم وتعييرهم بما كان منهم من ذنب تابوا عنه ، وتطهروا منه ، وأصلحوا حالهم بعده ، فينبغي - حينئذ - مساعدتهم على استئناف حياة طيبة نظيفة كريمة ، ونسيان جريمتهم حتى لا تثير في نفوسهم التأذي كلما واجهوا المجتمع بها ؛ مما قد يحمل بعضهم على الانتكاس والارتكاس ، واللجاج في الخطيئة ، وخسارة أنفسهم في الدنيا والآخرة . والإفساد في الأرض ، وتلويث المجتمع ، والنقمة عليه في ذات الأوان .
وقد عدلت هذه العقوبة كذلك - فما بعد - فروى أهل السنن حديثا مرفوعا عن ابن عباس - رضي الله عنهما - قال : [ قال رسول الله [ ص ] : " من رأيتموه يعمل عمل قوم لوط فاقتلوا الفاعل والمفعول به " ] .
وتبدو في هذه الأحكام عناية المنهج الإسلامي بتطهير المجتمع المسلم من الفاحشة ؛ ولقد جاءت هذه العناية مبكرة : فالإسلام لم ينتظر حتى تكون له دولة في المدينة ، وسلطة تقوم على شريعة الله ، وتتولاها بالتنفيذ . فقد ورد النهي عن الزنا في سورة الإسراء المكية : ( ولا تقربوا الزنى إنه كان فاحشة وساء سبيلا ) كما ورد في سورة المؤمنون : ( قد أفلح المؤمنون الذين هم في صلاتهم خاشعون ) . . . ( والذين هم لفروجهم حافظون . إلا على أزواجهم أو ما ملكت إيمانهم فإنهم غير ملومين ) . . وكرر هذا القول في سورة المعارج .
ولكن الإسلام لم تكن له في مكة دولة ، ولم تكن له فيها سلطة ؛ فلم يسن العقوبات لهذه الجريمة التي نهى عنه في مكة ، إلا حين استقامت له الدولة والسلطة في المدينة ، ولم يعتبر النواهي والتوجيهات وحدها كافيةلمكافحة الجريمة ، وصيانة المجتمع من التلوث . لأن الإسلام دين واقعي ، يدرك أن النواهي والتوجيهات وحدها لا تكفي ، ويدرك أن الدين لا يقوم بدون دولة وبدون سلطة . وإن الدين هو المنهج أو النظام الذي تقوم عليه حياة الناس العملية ، وليس مجرد مشاعر وجدانية تعيش في الضمير ، بلا سلطة وبلا تشريع ، وبلا منهج محدد ، ودستور معلوم !
ومنذ أن استقرت العقيدة الإسلامية في بعض القلوب في مكة ، أخذت هذه العقيدة تكافح الجاهلية في هذه القلوب ، وتطهرها وتزكيها . فلما أن أصبحت للإسلام دولة في المدينة ، وسلطة تقوم على شريعة معلومة ، وتحقق في الأرض منهج الله في صورة محددة ، أخذ يزاول سلطته في صون المجتمع من الفاحشة عن طريق العقوبة والتأديب - إلى جانب التوجيه والموعظة - فالإسلام كما قلنا ليس مجرد اعتقاد وجداني في الضمير ، إنما هو - إلى جانب ذلك - سلطان ينفذ في واقع الحياة ذلك الاعتقاد الوجداني ، ولا يقوم أبدا على ساق واحدة .
وكذلك كان كل دين جاء من عند الله . على عكس ما رسخ خطأ في بعض الأذهان من أن هناك أديانا سماوية جاءت بغير شريعة ، وبغير نظام ، وبغير سلطان . . كلا ! فالدين منهج للحياة . منهج واقعي عملي . يدين الناس فيه لله وحده ، ويتلقون فيه من الله وحده . يتلقون التصور الاعتقادي والقيم الأخلاقية ، كما يتلقون الشرائع التي تنظم حياتهم العملية . وتقوم على هذه الشرائع سلطة تنفذها بقوة السلطان في حياة الناس ، وتؤدب الخارجين عليها وتعاقبهم ، وتحمي المجتمع من رجس الجاهلية . لتكون الدينونة لله وحده ، ويكون الدين كله لله . أي لا تكون هناك آلهة غيره - في صورة من الصور - آلهة تشرع للناس ، وتضع لهم القيم والموازين ، والشرائع والأنظمة . فالإله هو الذي يصنع هذا كله . وأيما مخلوق ادعى لنفسه الحق في شيء من هذا فقد ادعى لنفسه الألوهية على الناس . . وما من دين من عند الله يسمح لبشر أن يكون إلها ، وأن يدعي لنفسه هذه الدعوى ، ويباشرها . . ومن ثم فإنه ما من دين من عند الله يجيء اعتقادا وجدانيا صرفا ، بلا شريعة عملية ، وبلا سلطان ينفذ به هذه الشريعة !
وهكذا أخذ الإسلام في المدينة يزاول وجوده الحقيقي ؛ بتطهير المجتمع عن طريق التشريع والتنفيذ ، والعقوبة والتأديب . على نحو ما رأينا في هذه الأحكام التي تضمنتها هذه السورة ، والتي عدلت فيما بعد ، ثم استقرت على ذلك التعديل . كما أرادها الله .
ولا عجب في هذه العناية الظاهرة بتطهير المجتمع من هذه الفاحشة ؛ والتشدد الظاهر في مكافحتها بكل وسيلة . فالسمة الأولى للجاهلية - في كل زمان - كما نرى في جاهليتنا الحاضرة التي تعم وجه الأرض - هي الفوضى الجنسية ، والانطلاق البهيمي ، بلا ضابط من خلق أو قانون . واعتبار هذه الاتصالات الجنسية الفوضوية مظهرا من مظاهر " الحرية الشخصية " لا يقف في وجهها إلا متعنت ! ولا يخرج عليها إلا متزمت !
ولقد يتسامح الجاهليون في حرياتهم " الإنسانية " كلها ، ولا يتسامحون في حريتهم " البهيمية " هذه ! وقد يتنازلون عن حرياتهم تلك كلها ، ولكنهم يهبون في وجه من يريد أن ينظم لهم حريتهم البهيمية ويطهرها !
وفي المجتمعات الجاهلية تتعاون جميع الأجهزة على تحطيم الحواجز الأخلاقية ، وعلى إفساد الضوابط الفطرية في النفس الإنسانية ، وعلى تزيين الشهوات البهيمية ووضع العناوين البريئة لها ، وعلى إهاجة السعار الجنسي بشتى الوسائل ، ودفعه إلى الإفضاء العملي بلا ضابط ، وعلى توهين ضوابط الأسرة ورقابتها ، وضوابط المجتمع ورقابته ، وعلى ترذيل المشاعر الفطرية السليمة التي تشمئز من الشهوات العارية ، وعلى تمجيد هذهالشهوات وتمجيد العري العاطفي والجسدي والتعبيري !
كل هذا من سمات الجاهلية الهابطة التي جاء الإسلام ليطهر المشاعر البشرية والمجتمعات البشرية منها . وهي هي بعينها سمة كل جاهلية . . والذي يراجع إشعار امرىء القيس في جاهلية العرب يجد لها نظائر في إشعار الجاهلية الإغريقية والجاهلية الرومانية . . كما يجد لها نظائر في الآداب والفنون المعاصرة في جاهلية العرب والجاهليات الأخرى المعاصرة أيضا ! كما أن الذي يراجع تقاليد المجتمع ، وتبذل المرأة ، ومجون العشاق ، وفوضى الاختلاط في جميع الجاهليات قديمها وحديثها يجد بينها كلها شبها ورابطة ، ويجدها تنبع من تصورات واحدة ، وتتخذ لها شعارات متقاربة !
ومع أن هذا الانطلاق البهيمي ينتهي دائما بتدمير الحضارة وتدمير الأمة التي يشيع فيها - كما وقع في الحضارة الإغريقية ، والحضارة الرومانية ، والحضارة الفارسية قديما - وكما يقع اليوم في الحضارة الأوروبية وفي الحضارة الأمريكية كذلك ، وقد أخذت تتهاوى على الرغم من جميع مظاهر التقدم الساحق في الحضارة الصناعية . الأمر الذي يفزع العقلاء هناك . وإن كانوا يشعرون - كما يبدو من أقوالهم - بأنهم أعجز من الوقوف في وجه التيار المدمر !
مع أن هذه هي العاقبة ، فإن الجاهليين - في كل زمان وفي كل مكان - يندفعون إلى الهاوية ، ويقبلون أن يفقدوا حرياتهم " الإنسانية " كلها أحيانا ، ولا يقبلون أن يقف حاجز واحد في طريق حريتهم " البهيمية " . ويرضون أن يستعبدوا استعباد العبيد ، ولا يفقدوا حق الانطلاق الحيواني !
وهو ليس انطلاقا ، وليس حرية . إنما هي العبودية للميل الحيواني والانتكاس إلى عالم البهيمة ! بل هم أضل ! فالحيوان محكوم - في هذا - بقانون الفطرة ، التي تجعل للوظيفة الجنسية مواسم لا تتعداها في الحيوان ، وتجعلها مقيدة دائما بحكمة الإخصاب والإنسال . فلا تقبل الأنثى الذكر إلا في موسم الإخصاب ، ولا يهاجم الذكر الأنثى إلا وهي على استعداد ! أما الإنسان فقد تركه الله لعقله ؛ وضبط عقله بعقيدته . فمتى انطلق من العقيدة ، ضعف عقله أمام الضغط ، ولم يصبح قادرا على كبح جماح النزوة المنطلقة في كيانه . ومن ثم يستحيل ضبط هذا الاندفاع وتطهير وجه المجتمع من هذا الرجس ، إلا بعقيدة تمسك بالزمام ، وسلطان يستمد من هذه العقيدة ، وسلطة تأخذ الخارجين المتبجحين بالتأديب والعقوبة . وترد الكائن البشري بل ترفعه من درك البهيمة إلى مقام " الإنسان " الكريم على الله .
والجاهلية التي تعيش فيها البشرية ، تعيش بلا عقيدة ، كما تعيش بلا سلطة تقوم على هذه العقيدة ، ومن ثم يصرخ العقلاء في الجاهليات الغربية ولا يستجيب لهم أحد ؛ لأن أحدا لا يستجيب لكلمات طائرة في الهواء ليس وراءها سلطة تنفيذية وعقوبات تأديبية . وتصرخ الكنيسة ويصرخ رجال الدين ولا يستجيب لهم أحد ؛ لأن أحدا لا يستجيب لعقيدة ضائعة ليس وراءها سلطة تحميها ، وتنفذ توجيهاتها وشرائعها ! وتندفع البشرية إلى الهاوية بغير ضابط من الفطرة التي أودعها الله الحيوان ! وبغير ضابط من العقيدة والشريعة التي أعطاها الله الإنسان !
وتدمير هذه الحضارة هو العاقبة المؤكدة ، التي توحي بها كل تجارب البشرية السابقة . مهما بدا من متانة هذه الحضارة ، وضخامة الأسس التي تقوم عليها . " فالإنسان " - بلا شك - هو أضخم هذه الأسس . ومتى دمر الإنسان ، فلن تقوم الحضارة على المصانع وحدها ، ولا على الإنتاج !
وحين ندرك عمق هذه الحقيقة ، ندرك جانبا من عظمة الإسلام ، في تشديد عقوباته على الفاحشة لحماية " الإنسان " من التدمير ؛ كي تقوم الحياة الإنسانية على أساسها الإنساني الأصيل . كما ندرك جانبا من جريمة الأجهزة التي تدمر أسس الحياة الإنسانية بتمجيد الفاحشة وتزيينها ، وإطلاق الشهوات البهيمية من عقالها ، وتسمية ذلك أحيانا " بالفن " وأحيانا " بالحرية " وأحيانا " بالتقدمية " . . وكل وسيلة من وسائل تدمير " الإنسان " ينبغي تسميتها باسمها . . جريمة . . كما ينبغي الوقوف بالنصح والعقوبة في وجه هذه الجريمة ! . .
وهذا ما يصنعه الإسلام . والإسلام وحده ؛ بمنهجه الكامل المتكامل القويم .