55- وربك أعلم بكل من في السماوات والأرض وبأحوالهم فيختار منهم لنبوته من يشاء ، وقد اختارك لرسالته فلا يصح أن يستكثروا عليك النبوة ، وهؤلاء الأنبياء ليسوا سواء في الفضل عنده - جل شأنه - بل بعضهم أفضل من بعض ، ولقد فضل بعض النبيين على بعض بالمعجزات وكثرة التابعين ، لا بالملك ، فَفَضَّل داود أنه أوتى الزبور ، لا لأنه أوتى الملك . فلا عجب أن تنال الفضل العظيم بما أوتيت من القرآن .
قوله تعالى : { وربك أعلم بمن في السماوات والأرض } أي : ربك العالم بمن في السماوات والأرض فجعلهم مختلفين في صورهم وأخلاقهم وأحوالهم ومللهم . { ولقد فضلنا بعض النبيين على بعض } ، قيل جعل أهل السماوات والأرض مختلفين كما فضل بعض النبيين على بعض . قال قتادة في هذه الآية : اتخذ الله إبراهيم خليلاً ، وكلم موسى تكليماً ، وقال لعيسى : كن فيكون ، وآتى سليمان ملكاً لا ينبغي لأحد من بعده ، وآتى داود زبوراً كما قال : { وآتينا داود زبوراً } ، والزبور : كتاب علمه الله داود ، يشتمل على مائة وخمسين سورة ، كلها دعاء وتمجيد وثناء على الله عز وجل ، وليس فيها حرام ولا حلال ولا فرائض ولا حدود . معناه : إنكم لم تنكروا تفضيل النبيين فكيف تنكرون فضل النبي صلى الله عليه وسلم وإعطاءه القرآن ؟ وهذا خطاب مع من يقر بتفضيل الأنبياء عليهم السلام من أهل الكتاب وغيرهم .
ثم انتقل - سبحانه - من بيان كمال علمه بأحوال الناس ، إلى بيان كمال علمه بجميع من فى السموات والأرض ، فقال - تعالى - : { وَرَبُّكَ أَعْلَمُ بِمَنْ فِي السماوات والأرض } .
أى : وربك - أيها الرسول الكريم - أعلم بأحوال من فى السموات والأرض من إنس وجن وملك ، وغير ذلك ، ولا يخفى عليه شئ من ظواهرهم أو بواطنهم ، ولا يعزب عن علمه - تعالى - شئ من طاعتهم أو معصيتهم ، ولا يعلم أحد سواه من هو أهل منهم للتشرف بحمل رسالته ، وتبليغ وحيه كما قال : - تعالى - : { الله الله أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ } وقوله - سبحانه - : { وَلَقَدْ فَضَّلْنَا بَعْضَ النبيين على بَعْضٍ وَآتَيْنَا دَاوُودَ زَبُوراً } بيان لمظهر من مظاهر علمه المطلق ، وفضله العميم : وعطائه الواسع .
والزبور : هو الكتاب الذى أنزله الله - تعالى - على داود - عليه السلام .
أى : ولقد فضلنا - على علم وحكمة منا - بعض النبيين على بعض ، بأن جعلنا منهم من كلم الله ، ومنهم من اتخذناه خليلا لنا ، ومنهم من آتيناه البينات وأيدناه بروح القدس ، ومنهم من آتيناه الزبور وهو داود - عليه السلام - .
قال الإِمام ابن كثير : وقوله - تعالى - : { وَلَقَدْ فَضَّلْنَا بَعْضَ النبيين على بَعْضٍ } وقوله - تعالى - : { تِلْكَ الرسل فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ على بَعْضٍ . . . } لا ينافى ما ثبت من الصحيحين أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " لا تفضلوا بين الأنبياء " فإن المراد من ذلك هو التفضيل بمجرد التشهى والعصبية ، لا بمقتضى الدليل ، فإذا دل الدليل على شئ وجب اتباعه ، ولا خلاف أن الرسل أفضل عن بقية الأنبياء ، وأن أولى العزم منهم أفضلهم ، وهم الخمسة المذكورون نصا فى قوله - تعالى - :
{ وَإِذْ أَخَذْنَا مِنَ النَّبِيِّيْنَ مِيثَاقَهُمْ وَمِنْكَ وَمِن نُّوحٍ وَإِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ . . }
ولا خلاف فى أن محمدا صلى الله عليه وسلم أفضلهم . . .
وإنما خص كتاب داود بالذكر ، لأن اليهود زعموا أنه لا نبى بعد موسى ، ولا كتاب بعد التوراة ، فكذبهم الله - تعالى - فى ذلك ، ولأن فى هذا الإِيتاء إشارة إلى أن تفضيل داود لم يكن بسبب ما أعطاه الله من ملك ، بل بسبب ما أعطاه من كتاب فيه إشارة إلى تفضيل الرسول صلى الله عليه وسلم وأمته ، قال - تعالى - :
{ وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِن بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ }
والمراد بالعباد الصالحين : محمد صلى الله عليه وسلم وأمته .
قال صاحب الكشاف : فإن قلت : هلا عرف الزبور ، كما عرف فى قوله :
{ وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ . . . }
قلت : يجوز أن يكون الزبور وزبور ، كالعباس وعباس ، والفضل وفضل . ويجوز أن يريد : وآتينا داود بعض الزبر - وهى الكتب ، وأن يريد ما ذكر فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم من الزبور ، فسمى ذلك زبورا ، لأنه بعضها كما سمى بعض القرآن قرآنا .
ثم أمر الله - تعالى - نبيه صلى الله عليه وسلم أن يتحدى المشركين ، بأن يبين لهم : أن آلهتهم المزعومة لا تملك دفع الضر عنهم ، أو جلب الخير لهم ، بل إن هذه الآلهة لتخاف عذاب الله ، وترجو رحمته ، فقال - سبحانه - : { قُلِ ادْعُواْ الَّذِينَ زَعَمْتُم مِّن دُونِهِ فَلاَ يَمْلِكُونَ كَشْفَ الضُّرِّ عَنْكُمْ وَلاَ تَحْوِيلاً } .
القول في تأويل قوله تعالى : { وَرَبّكَ أَعْلَمُ بِمَنْ فِي السّمَاوَاتِ وَالأرْضِ وَلَقَدْ فَضّلْنَا بَعْضَ النّبِيّينَ عَلَىَ بَعْضٍ وَآتَيْنَا دَاوُودَ زَبُوراً } .
يقول تعالى ذكره لنبيه صلى الله عليه وسلم : وربك يا محمد أعلم بمن في السموات والأرض وما يصلحهم فإنه هو خالقهم ورازقهم ومدبرهم ، وهو أعلم بمن هو أهل للتوبة والرحمة ، ومن هو أهل للعذاب ، أهدى للحقّ من سبق له مني الرحمة والسعادة ، وأُضلّ من سبق له مني الشقاء والخذلان ، يقول : فلا يكبرنّ ذلك عليك ، فإن ذلك من فعلي بهم لتفضيلي بعض النبيين على بعض ، بإرسال بعضهم إلى بعض الخلق ، وبعضهم إلى الجميع ، ورفعي بعضهم على بعض درجات . كما :
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله : وَرَبّكَ أعْلَمُ بِمَنْ في السّمَوَاتِ والأرْضِ وَلَقَدْ فَضّلْنا بَعْضَ النّبِيّينَ عَلى بَعْضٍ اتخذ الله إبراهيم خليلاً ، وكلّم موسى تكليما ، وجعل الله عيسى كمثل آدم خلقه من تراب ، ثم قال له كن فيكون ، وهو عبد الله ورسوله ، من كلمة الله وروحه ، وآتى سليمان مُلكا لا ينبغي لأحد من بعده ، وآتى داود زبورا ، كنا نحدّث دعاء عُلّمه داود ، تحميد وتمجيد ، ليس فيه حلال ولا حرام ، ولا فرائض ولا حدود ، وغفر لمحمد ما تقدّم من ذنبه وما تأخّر .
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جريج وَلَقَدْ فَضّلْنا بَعْض النّبِيّينَ عَلى بَعْضٍ قال : كلم الله موسى ، وأرسل محمدا إلى الناس كافّة .
تماثل القرينتين في فاصلتيْ هذه الآية من كلمة { والأرض } وكلمة { على بعض } ، يدل دلالة واضحة على أنهما كلام مرتبط بعضه ببعض ، وأن ليس قوله : { وربك أعلم بمن في السماوات والأرض } تكملة لآية { ربكم أعلم بكم } [ الإسراء : 54 ] الآية .
وتغيير أسلوب الخطاب في قوله : { وربك أعلم } بعد قوله : { ربكم أعلم بكم } [ الإسراء : 54 ] إيماء إلى أن الغرض من هذه الجملة عائد إلى شأن من شؤون النبي التي لها مزيد اختصاص به ، تقفية على إبطال أقوال المشركين في شؤون الصفات الإلهية ، بإبطال أقوالهم في أحوال النبي . ذلك أن المشركين لم يقبلوا دعوة النبي بغرورهم أنه لم يكن من عظماء أهل بلادهم وقادتهم ، وقالوا : أبعث الله يتيم أبي طالب رسولاً ، أبعث الله بشراً رسولاً ، فأبكتهم الله بهذا الرد بقوله : { وربك أعلم بمن في السماوات والأرض } فهو العالم حيث يجعل رسالته .
وكان قوله : { وربك أعلم بمن في السماوات والأرض } كالمقدمة لقوله : { ولقد فضلنا بعض النبيئين } الآية . أعاد تذكيرهم بأن الله أعلم منهم بالمستأهل للرسالة بحسب ما أعده الله فيه من الصفات القابلة لذلك ، كما قال الله تعالى عنهم { قالوا لن نؤمن حتى نؤتى مثل ما أوتي رسل الله الله أعلم حيث يجعل رسالاته } في سورة [ الأنعام : 124 ] .
وكان الحكم في هذه المقدمة على عموم الموجودات لتكون بمنزلة الكلية التي يؤخذ منها كل حكم لجزئياتها ، لأن المقصود بالإبطال من أقوال المشركين جامع لصور كثيرة من أحوال الموجودات من البشر والملائكة وأحوالهم ؛ لأن بعض المشركين أحالوا إرسال رسول من البشر ، وبعضهم أحالوا إرسال رسول ليس من عظمائهم ، وبعضهم أحالوا إرسال من لا يأتي بمثل ما جاء به موسى عليه الصلاة والسلام . وذلك يثير أحوالاً جمة من العصور والرجال والأمم أحياءً وأمواتاً . فلا جرم كان للتعميم موقع عظيم في قوله : { بمن في السماوات والأرض } ، وهو أيضاً كالمقدمة لجملة { ولقد فضلنا بعض النبيئين على بعض } ، مشيراً إلى أن تفاضل الأنبياء ناشىء على ما أودعه الله فيهم من موجبات التفاضل . وهذا إيجاز تضمن إثباتَ النبوءة وتقررها فيما مضى ما لا قبل لهم بإنكاره ، وتعدّدَ الأنبياء مما يجعل محمداً صلى الله عليه وسلم ليس بدعا من الرسل ، وإثباتَ التفاضل بين الأفراد من البشر ، فمنهم رسول ومنهم مرسل إليهم ، وإثباتَ التفاضل بين أفراد الصنف الفاضل . وتقرر ذلك فيما مضى تقرراً لا يستطيع إنكاره إلا مكابر بالتفاضل حتى بين الأفضلين سنةً إلهية مقررة لا نكران لها . فعلم أن طعنهم في نبوءة محمد صلى الله عليه وسلم طعن مكابرة وحسد . كما قال تعالى في شأن اليهود { أم يحسدون الناس على ما آتاهم الله من فضله فقد آتينا آل إبراهيم الكتاب والحكمة وآتيناهم مُلكاً عظيماً } في سورة [ النساء : 54 ] .
وتخصيص داوود عليه السلام بالذكر عقب هذه القضية العامة وجهه صاحب « الكشاف » ومن تبعه بأن فائدة التلميح إلى أن محمداً صلى الله عليه وسلم أفضل الأنبياء وأمته أفضل الأمم لأن في الزبور أن الأرض يرثها عباد الله الصالحون . وهذا حسن . وأنا أرى أن يكون وجه هذا التخصيص الإيماء إلى أن كثيراً من الأحوال المرموقة في نظر الجاهلين وقاصري الأنظار بنظر الغضاضة هي أحوال لا تعوق أصحابها عن الصعود في مدارج الكمال التي اصطفاها الله لها ، وأن التفضيل بالنبوءة والرسالة لا ينشأ عن عظمة سابقة ؛ فإن داوود عليه السلام كان راعياً من رعاة الغنم في بني إسرائيل ، وكان ذا قوة في الرمي بالحجر ، فأمر الله شاول ملك بني إسرائيل أن يختار داوود لمحاربة جالوت الكنعاني ، فلما قَتل داوودُ جالوتَ آتاه الله النبوءة وصيره ملِكاً لإسرائيل ، فهو النبي الذي تجلى فيه اصطفاء الله تعالى لمن لم يكن ذا عظمة وسيادة .
وذكر إيتائه الزبور هو محل التعريض للمشركين بأن المسلمين سيرثون أرضهم وينتصرون عليهم لأن ذلك مكتوب في الزبور كما تقدم آنفاً . وقد أوتي داوود الزبور ولم يؤت أحد من أنبياء بني إسرائيل كتاباً بعد موسى عليه السلام .
وذكر داوود تقدم في سورة الأنعام وفي آخر سورة النساء .
وأما الزبور فذكر عند قوله تعالى : { وآتينا داوود زبورا } في آخر سورة [ النساء : 163 ] .
والزبور : اسم لمجموع أقوال داوود عليه السلام التي بعضها مما أوحاه إليه وبعضها مما ألهمه من دعوات ومناجاة وهو المعروف اليوم بكتاب المزامير من كتب العهد القديم .
تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :
{وربك أعلم بمن في السماوات والأرض ولقد فضلنا بعض النبيين على بعض}: منهم من كلم الله، ومنهم من اتخذه الله خليلا، ومنهم من سخر الله له الطير والجبال، ومنهم من أعطي ملكا عظيما، ومنهم من يحيي الموتى، ويبرئ الأكمه والأبرص، ومنهم من رفعه الله عز وجل إلى السماء، فكل واحد منهم فضل بأمر لم يعطه غيره، فهذا تفضيل بعضهم على بعض.
ثم قال سبحانه: {وءاتينا}، يعني: وأعطينا {داود زبورا}... إنما هو ثناء على الله عز وجل، وتمجيد وتحميد.
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
يقول تعالى ذكره لنبيه صلى الله عليه وسلم: وربك يا محمد أعلم بمن في السموات والأرض وما يصلحهم فإنه هو خالقهم ورازقهم ومدبرهم، وهو أعلم بمن هو أهل للتوبة والرحمة، ومن هو أهل للعذاب، أهدى للحقّ من سبق له مني الرحمة والسعادة، وأُضلّ من سبق له مني الشقاء والخذلان، يقول: فلا يكبرنّ ذلك عليك، فإن ذلك من فعلي بهم لتفضيلي بعض النبيين على بعض، بإرسال بعضهم إلى بعض الخلق، وبعضهم إلى الجميع، ورفعي بعضهم على بعض درجات... عن قتادة، قوله:"وَرَبّكَ أعْلَمُ بِمَنْ في السّمَوَاتِ والأرْضِ وَلَقَدْ فَضّلْنا بَعْضَ النّبِيّينَ عَلى بَعْضٍ"؛ اتخذ الله إبراهيم خليلاً، وكلّم موسى تكليما، وجعل الله عيسى كمثل آدم خلقه من تراب، ثم قال له كن فيكون، وهو عبد الله ورسوله، من كلمة الله وروحه، وآتى سليمان مُلكا لا ينبغي لأحد من بعده، وآتى داود زبورا... وغفر لمحمد ما تقدّم من ذنبه وما تأخّر... عن ابن جريج "وَلَقَدْ فَضّلْنا بَعْض النّبِيّينَ عَلى بَعْضٍ "قال:... وأرسل محمدا إلى الناس كافّة.
تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :
يقول: والله أعلم؛ {وربك أعلم بمن في السماوات والأرض} أي أعلم بمن يصلح للنبوة والرسالة وبمن لا يصلح، ومن هو أهل لها، أو يقول: {وربك أعلم بمن في السماوات والأرض} أي على علم بما يكون منهم، أنشأهم لا عن جهل، أو {أعلم} بهم أنفسهم، والله أعلم...
اختلف في ما ذكر من تفضيل بعضهم على بعض:
قال بعضهم: {ولقد فضلنا بعض النبيين على بعض} إنه أعطى كلا شيئا، لم يعط غيره...
وقال بعضهم: فضل بعضا على بعض في الدرجة والمنزلة والقدر عنده...
فالأول: يكون التفضيل في الآيات والحجج،
والثاني: في أنفسهم في المنزلة والقدر؛ ويحتمل ما ذكر من تفضيل بعض على بعض في الآيات والحجج، ويحتمل في كثرة الأتباع يفضل بعضهم على بعض بكثرة الأتباع...
والثالث: يفضل بعضهم على بعض في القيام بشكر ما أنعم عليه وبصبر ما ابتلاه به... التفضيل والمنزلة إنما يكون من عند الله، ومن عنده يستفاد، لا بتدبير من أنفسهم واستحقاق حين قال: {انظر كيف فضلنا بعضهم على بعض وللآخرة أكبر درجات وأكبر تفضيلا} (الإسراء: 21) لئلا يرى أحد الفضل والمنزلة لنفسه بأسباب منه، ولكن من عند الله...
التبيان في تفسير القرآن للطوسي 460 هـ :
وإنما قال ذلك ليدل على أن تفضيل الأنبياء بعضهم على بعض وقع موقع الحكمة، لأنه من عالم بباطن الأمور، وإذا ذكر ما هو معلوم فإنما يذكره ليدل به على غيره. والأنبياء وإن كانوا في أعلى مراتب الفضل، لهم طبقات بعضهم أعلى من بعض، وإن كانت المرتبة الوسطى لا تلحق العليا ولا يلحق مرتبة النبي من ليس بني أبدا...
لطائف الإشارات للقشيري 465 هـ :
فَضَّل بعضَ الأنبياءِ على بعضِ في النبوةِ والدرجة، وفي الرسالة واللطائف والخصائص. وجعل نبيَّنا -صلى الله عليه وسلم- أَفضلهم؛ فهم كالنجوم وهو بينهم بَدْرٌ، وهم كالبدور وهو بينهم شمس، وهم شموسٌ وهو شمسُ الشموس...
الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :
هو ردّ على أهل مكة في إنكارهم واستبعادهم أن يكون يتيم أبي طالب نبياً، وأن تكون العراة الجوّع أصحابه، كصهيب وبلال وخباب وغيرهم، دون أن يكون ذلك في بعض أكابرهم وصناديدهم، يعني: وربك أعلم بمن في السموات والأرض وبأحوالهم ومقاديرهم وبما يستأهل كل واحد منهم. وقوله {وَلَقَدْ فَضَّلْنَا بَعْضَ النبيين على بَعْضٍ} إشارة إلى تفضيل رسول الله صلى الله عليه وسلم وقوله {وَءاتَيْنَا دَاوُودُ زَبُوراً} دلالة على وجه تفضيله، وهو أنه خاتم الأنبياء، وأن أمته خير الأمم؛ لأنّ ذلك مكتوب في زبور داود. قال الله تعالى {وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزبور مِن بَعْدِ الذكر أَنَّ الأرض يَرِثُهَا عِبَادِي الصالحون} [الأنبياء: 105] وهم محمد وأمته.
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية 542 هـ :
وتفضيل بعض الرسل، هو إما بهذا الإخبار المجمل دون أن يسمى المفضول وعلى هذا يتجه لنا أن نقول محمد أفضل البشر، وقد نهى عليه السلام عن تعيين أحد منهم في قصة موسى ويونس، وإما أن يكون التفضيل مقسماً فيهم: أعطي هذا التكليم، وأعطي هذا الخلة، ومحمد الخَمس، وعيسى الإحياء، فكلهم مفضول على وجه فاضل على الإطلاق...
ثم قال: {وربك أعلم بمن في السموات والأرض} والمعنى أنه لما قال قبل ذلك: {ربكم أعلم بكم} قال بعده: {ربك أعلم بمن في السموات والأرض} بمعنى أن علمه غير مقصور عليكم ولا على أحوالكم بل علمه متعلق بجميع الموجودات والمعدومات ومتعلق بجميع ذوات الأرضين والسموات فيعلم حال كل واحد ويعلم ما يليق به من المصالح والمفاسد، فلهذا السبب فضل بعض النبيين على بعض وآتى موسى التوراة، وداود الزبور، وعيسى الإنجيل، فلم يبعد أيضا أن يؤتي محمدا القرآن ولم يبعد أن يفضله على جميع الخلق...
فإن قيل: ما السبب في تخصيص داود عليه الصلاة والسلام في هذا المقام بالذكر؟. قلنا: فيه وجوه:
الوجه الأول: أنه تعالى ذكر أنه فضل بعض النبيين على بعض. ثم قال: {وآتينا داوود زبورا} يعني أن داود كان ملكا عظيما، ثم إنه تعالى لم يذكر ما آتاه من الملك وذكر ما آتاه من الكتاب، تنبيها على أن التفضيل الذي ذكره قبل ذلك، المراد منه التفضيل بالعلم والدين لا بالمال.
والوجه الثاني: أن السبب في تخصيصه بالذكر أنه تعالى كتب في الزبور أن محمدا خاتم النبيين وأن أمته خير الأمم... فإن قيل: هلا عرف كما في فقوله: {ولقد كتبنا في الزبور}. قلنا: التنكير ههنا يدل على تعظيم حاله، لأن الزبور عبارة عن المزبور فكان معناه الكتاب فكان معنى التنكير أنه كامل في كونه كتابا...
والوجه الثالث: أن السبب فيه أن كفار قريش ما كانوا أهل نظر وجدل بل كانوا يرجعون إلى اليهود في استخراج الشبهات. واليهود كانوا يقولون: إنه لا نبي بعد موسى ولا كتاب بعد التوراة فنقض الله تعالى عليهم كلامهم بإنزال الزبور على داود...
تفسير القرآن العظيم لابن كثير 774 هـ :
{وَرَبُّكَ أَعْلَمُ بِمَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ} أي: بمراتبهم في الطاعة والمعصية... وهذا لا ينافي ما [ثبت] في الصحيحين عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال:"لا تفضلوا بين الأنبياء"؛ فإن المراد من ذلك هو التفضيل بمجرد التشهي والعصبية، لا بمقتضى الدليل، [فإنه إذا دل الدليل] على شيء وجب اتباعه، ولا خلاف أن الرسل أفضل من بقية الأنبياء، وأن أولي العزم منهم أفضلهم، وهم الخمسة المذكورون نصا في آيتين من القرآن في سورة الأحزاب: {وَإِذْ أَخَذْنَا مِنَ النَّبِيِّينَ مِيثَاقَهُمْ وَمِنْكَ وَمِنْ نُوحٍ وَإِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ} [الأحزاب: 7]، وفي الشورى [في قوله]: {شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ} [الشورى: 13]. ولا خلاف أن محمدًا صلى الله عليه وسلم أفضلهم، ثم بعده إبراهيم، ثم موسى على المشهور...
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
ولما أمرهم بأن ينسبوا الأعلمية بهم إليه سبحانه، أخبر بما هو أعم من ذلك فقال تعالى عاطفاً على {ربكم} إعلاماً بأن علمه ليس مقصوراً عليهم، بل هو محيط، قاصراً الخطاب على أعلم الخلق به سبحانه إشارة إلى أنه لا يعلم هذا حق علمه غيره: {وربك} أي المحسن إليك بأن جعلك أكمل الخلق {أعلم} أي من كل عالم {بمن في السماوات} أي كلها {والأرض} منهم ومن غيرهم، بأحوالهم ومقاديرهم وآجالهم وما يستأهل كل واحد منهم، لأنه هو الذي خلقهم وفاوت بينهم في أخلاقهم وهيئاتهم... {ولقد} أي فميزنا بينهم بالرذائل والفضائل تفضيلاً لبعضهم على بعض على حسب إحاطة علمنا بهم وشمول قدرتنا لهم في تأهلهم للسعادة والشقاوة ففضلنا بعض الناس على بعض، ففضلنا العلماء على غيرهم، وفضلنا النبيين منهم على غيرهم، ولقد {فضلنا} أي بما لنا من العظمة {بعض النبيّن} أي سواء كانوا رسلاً أو لا {على بعض} بعد أن جعلنا الكل فضلاء لتقوى كل منهم وإحسانه... فلا ينكر أحد من العرب أو بني إسرائيل أو غيرهم تفضيلنا لهذا النبي الكريم الذي صدرنا السورة بتفضيله على جميع الخلائق، فإنا نفعل ما نشاء، بما لنا من القدرة التامة والعلم الشامل، والحاصل أن من أعظم ثمرات العمل التفضيل بإعطاء كل واحد بل كل شيء ما يستحقه، وبذلك يستدل على تمام -حكمته في شمول علمه وكمال قدرته، فلذلك ذكر التفضيل هنا بعد ذكر العلم المطلق، وصرح بتفضيل أشرف الخلائق وطوى ذكر غيرهم، كما ذكر التفضيل في الدنيا بعد إثبات العلم المقيد بالذنوب في قوله: {من كان يريد العاجلة- إلى قوله تعالى: انظر كيف فضلنا بعضهم على بعض}... ولما كان القصد إلى بني إسرائيل في هذه السورة سابقها ولاحقها ظاهراً، والتعريض بهم في كثير منها بيناً، وكان داود عليه السلام هو المؤسس للمسجد الأقصى الذي وقع الإسراء إليه، وكان قد خص بأن ألين له الحديد الذي أمر المشركون أن يكونوه، لاستبعادهم الإعادة، وكان -مع كونه ملكاً- من أشد الناس تواضعاً، وأكثرهم بكاء، وأبعدهم من المرح في الأرض...
{داود} أي الذي هو من أتباع موسى الذي آتيناه الكتاب وجعلناه هدى لبني إسرائيل ألا يتخذوا من دوني وكيلاً...
{زبوراً} لأنهم قاطعون بأن من بين موسى وعيسى من أنبياء بني إسرائيل دون موسى في الرتبة، وكل منهم داعٍ إلى شريعته، عامل بحكم التوراة التي شرفه الله بها، غير خارج عن شيء من سنتها، فكان القياس يقتضي أن يكونوا في الفضيلة سواء، فلم يجر ذلك على مقتضى عقول الناس، بل فاوت سبحانه بينهم على حسب علمه بأحوالهم حتى في الوحي، فخص من بينهم داود عليه السلام بكتاب كله مواعظ، والمواعظ أشد شيء منافاة للمشي في الأرض مرحاً، ونهياً عنه، وأعظم شيء أمراً بالقول الذي هو أحسن من الإخلاص والمراقبة والإحسان، هذا إلى ما ذكر فيه من التسبيح من كل شيء الذي هو من أعظم مقاصد السورة كما تقدم نص الزبور به قريباً، فكان ذكر تفضيله به هنا أنسب شيء لهذا المقام، وفي ذلك أعظم إشارة وأجل تنبيه على فضل بيت المقدس الذي جعله سبباً لتفضيل الأنبياء تارة بالهجرة إليه كإبراهيم عليه السلام وتارة بقصد تطهيره من الشرك وتنويره بالتوحيد كموسى عليه السلام، وتارة بتأسيس بنيانه وتشييد أركانه كداود عليه السلام، وتارة بالإسراء إليه والإمامة بالأنبياء عليهم السلام به والعروج منه إلى سدرة المنتهى والمقام الأعلى... وأما تفضيله وتفضيل ابنه سليمان -على نبينا محمد وعليهما الصلاة والسلام- بالملك وسعة الأمر فدخل في قوله تعالى: {انظر كيف فضلنا بعضهم على بعض}... ومن أعظم المناسبات لتخصيص داود عليه السلام وزبوره بالذكر هنا ذكر البعث الذي هذا مقامه فيه صريحاً، وكذا ذكر النار مع خلو التوراة عن ذلك، أما البعث فلا ذكر له فيها أصلاً، وأما النار فلم يذكر شيء مما يدل عليها إلا الجحيم في موضع واحد، وأما الزبور فذكر فيه النار والهاوية والجحيم في غير موضع، وأما البعث فصرح به، وهو ظاهر في كونه بالروح والجسد...
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
وعلم الله الكامل يشمل من في السماوات والأرض من ملائكة ورسل وإنس وجن، وكائنات لا يعلم إلا الله ما هي؟ وما قدرها؟ وما درجتها. وبهذا العلم المطلق بحقائق الخلائق فضل الله بعض النبيين على بعض: (ولقد فضلنا بعض النبيين على بعض). وهو تفضيل يعلم الله أسبابه...
(وآتينا داود زبورا).. وهو نموذج من عطاء الله لأحد أنبيائه، ومن مظاهر التفضيل أيضا. إذ كانت الكتب أبقى من الخوارق المادية التي يراها بعض الناس في ظرف معين من الزمان...
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
تماثل القرينتين في فاصلتيْ هذه الآية من كلمة {والأرض} وكلمة {على بعض}، يدل دلالة واضحة على أنهما كلام مرتبط بعضه ببعض، وأن ليس قوله: {وربك أعلم بمن في السماوات والأرض} تكملة لآية {ربكم أعلم بكم} [الإسراء: 54] الآية... وتغيير أسلوب الخطاب في قوله: {وربك أعلم} بعد قوله: {ربكم أعلم بكم} [الإسراء: 54] إيماء إلى أن الغرض من هذه الجملة عائد إلى شأن من شؤون النبي التي لها مزيد اختصاص به، تقفية على إبطال أقوال المشركين في شؤون الصفات الإلهية، بإبطال أقوالهم في أحوال النبي. ذلك أن المشركين لم يقبلوا دعوة النبي بغرورهم أنه لم يكن من عظماء أهل بلادهم وقادتهم، وقالوا: أبعث الله يتيم أبي طالب رسولاً، أبعث الله بشراً رسولاً، فأبكتهم الله بهذا الرد بقوله: {وربك أعلم بمن في السماوات والأرض} فهو العالم حيث يجعل رسالته... وكان الحكم في هذه المقدمة على عموم الموجودات لتكون بمنزلة الكلية التي يؤخذ منها كل حكم لجزئياتها، لأن المقصود بالإبطال من أقوال المشركين جامع لصور كثيرة من أحوال الموجودات من البشر والملائكة وأحوالهم؛ لأن بعض المشركين أحالوا إرسال رسول من البشر، وبعضهم أحالوا إرسال رسول ليس من عظمائهم، وبعضهم أحالوا إرسال من لا يأتي بمثل ما جاء به موسى عليه الصلاة والسلام. وذلك يثير أحوالاً جمة من العصور والرجال والأمم أحياءً وأمواتاً. فلا جرم كان للتعميم موقع عظيم في قوله: {بمن في السماوات والأرض}، وهو أيضاً كالمقدمة لجملة {ولقد فضلنا بعض النبيئين على بعض}، مشيراً إلى أن تفاضل الأنبياء ناشئ على ما أودعه الله فيهم من موجبات التفاضل. وهذا إيجاز تضمن إثباتَ النبوءة وتقررها فيما مضى ما لا قبل لهم بإنكاره، وتعدّدَ الأنبياء مما يجعل محمداً صلى الله عليه وسلم ليس بدعا من الرسل، وإثباتَ التفاضل بين الأفراد من البشر، فمنهم رسول ومنهم مرسل إليهم، وإثباتَ التفاضل بين أفراد الصنف الفاضل... وتخصيص داوود عليه السلام بالذكر عقب هذه القضية العامة وجهه صاحب « الكشاف» ومن تبعه بأن فائدته التلميح إلى أن محمداً صلى الله عليه وسلم أفضل الأنبياء وأمته أفضل الأمم لأن في الزبور أن الأرض يرثها عباد الله الصالحون. وهذا حسن. وأنا أرى أن يكون وجه هذا التخصيص الإيماء إلى أن كثيراً من الأحوال المرموقة في نظر الجاهلين وقاصري الأنظار بنظر الغضاضة هي أحوال لا تعوق أصحابها عن الصعود في مدارج الكمال التي اصطفاها الله لها، وأن التفضيل بالنبوءة والرسالة لا ينشأ عن عظمة سابقة؛ فإن داوود عليه السلام كان راعياً من رعاة الغنم في بني إسرائيل، وكان ذا قوة في الرمي بالحجر، فأمر الله شاول ملك بني إسرائيل أن يختار داوود لمحاربة جالوت الكنعاني، فلما قَتل داوودُ جالوتَ آتاه الله النبوءة وصيره ملِكاً لإسرائيل، فهو النبي الذي تجلى فيه اصطفاء الله تعالى لمن لم يكن ذا عظمة وسيادة... وذكر إيتائه الزبور هو محل التعريض للمشركين بأن المسلمين سيرثون أرضهم وينتصرون عليهم لأن ذلك مكتوب في الزبور كما تقدم آنفاً. وقد أوتي داوود الزبور ولم يؤت أحد من أنبياء بني إسرائيل كتاباً بعد موسى عليه السلام... والزبور: اسم لمجموع أقوال داوود عليه السلام التي بعضها مما أوحاه إليه وبعضها مما ألهمه من دعوات ومناجاة وهو المعروف اليوم بكتاب المزامير من كتب العهد القديم...
التيسير في أحاديث التفسير للمكي الناصري 1415 هـ :
والمفاضلة بين الأنبياء والرسل لا تمس جوهر النبوة في حقيقتها، ولا طبيعة الرسالة في حد ذاتها، وإنما تتعلق بجوانب زائدة على ذلك، كالأزمنة التي يظهرون فيها، والأمكنة التي يبعثون بها، والأقوام الذين يبعثون إليهم، ونوع الدعوة المطالب كل منهم بتبليغها، وأسلوب الدعوة المستعمل فيها، ومبلغ النجاح الذي يصادف تلك الدعوة، وعدد الأتباع الذين يؤمنون بها ويكيفون حياتهم بموجبها...
لعلمه سبحانه بمن في السماوات والأرض يعطي عباده على قدر ما يستحقون في الأمور القهرية التي لا اختيار لهم فيها، فهم فيها سواء. أما الأمور الاختيارية فقد تركها الخالق سبحانه لاجتهاد العبد وأخذ بالأسباب، فالأسباب موجودة، والمادة موجودة، والجوارح موجودة، والعقل موجود، والطاقة موجودة. إذن: على كل إنسان أن يستخدم هذه المعطيات ليرتقي بحياته على قدر استطاعته.. {ولقد فضلنا بعض النبيين على بعض}: من الذي فضل؟ الله سبحانه وتعالى هو الذي يفضل بعض النبيين على بعض، وليس لنا نحن أن نفضل إلا من فضله الله؛ لأنه سبحانه هو الذي يملك أن يجازي على حسب الفضل، أما نحن فلا نملك أن نجازي على قدر الفضل... فالتفضيل على حسب ما يعلمه الله تعالى من أن أولى العزم من الرسل قد فضلهم عن غيرهم لما تحملوه من مشقة في دعوة أقوامهم، ولما قاموا به من حمل منهج الله والانسياح به، أو من طول مدتهم في قومهم.. الخ فهو وحده يعلم أسباب التفضيل...
الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل - لجنة تأليف بإشراف الشيرازي 2009 هـ :
هذا التعبير القرآني جواب على أحد أسئلة المشركين وَشكوكهم، حيثُ كانوا يقولون بأُسلوب استهزائي: لماذا انتخب الله للنّبوة محمّد اليتيم، ثمّ ما الذي حصل حتى أصبح هَذا اليتيم ليس نبيّاً وَحسب، وإنّما خاتم الأنبياء؟... لقد فضل الله بعض النّبيين على بعض لموازين يعلمها هو وَتختص بها حكمتُه جلَّ وَعلا... أمّا لماذا اختار تبارك وَتعالى (داود) مِن بين جميع الأنبياء، وَذكر (الزبور) مِن دون الكتب السماوية الأُخرى؟... قد يكون السبب ما يلي:
أوّلا: يختص زبور داوُد (عليه السلام) مِن بين جميع كُتب الأنبياء بأنَّ جميعهُ على شكل مُناجاة وَدعاء، وَذكرهُ هُنا يتلاءم أكثر مَعَ موقع هَذِهِ الآيات وَحديثها عن القول الحسن والكلام الجميل.
ثانياً: في زبور داوُد إخبار عن حكومة الصالحين الذين هُم ظاهراً أناس فقراء وَيتامى. وَهَذا الإِخبار يتناسب مَع دعوة الرّسول (صلى الله عليه وآله وسلم) والمؤمنين الذين يكونوا عادة في زمرةِ الفقراء، وَهو رَد على إشكال المشركين وأسئلتهم وشكوكهم.
ثالثاً: بالرّغم مِن أنَّ داوُد (عليه السلام) كان له حكم عظيم وَدولة كبيرة وَملك واسع، إِلاَّ أنَّ الله سبحانه لم يجعل هَذِهِ الأُمور سبباً لافتخاره، بل اعتبر كتاب الزّبور فخره، حتى يدرك المشركون أنَّ عظمة الإنسان، ليسَ لها علاقة بالمال وَالثروة وَوجود الحكومة والسلطة، كما أنّ اليتم والفقر ليس مدعاةً للذل أو دليلا على الحقارة. رابعاً: بعض اليهود قالوا: لا يمكن نزول كتاب سماوي آخر بعدَ موسى (عليه السلام)، والقرآن يقول لهم: إنّنا أعطينا داوُد زبوراً، فلماذا تتعجبون مِن نزول القرآن؟ (بالطبع كتاب داوُد كان كتاباً للأخلاق وَليسَ للأحكام، وَلكِنَّهُ نَزَلَ من الله سبحانه وَتعالى بعد التّوراة)...