231- وإذا طلقتم النساء فشارفن انتهاء عدتهن ، فلكم أن تراجعوهن قاصدين إقامة العدل وحسن الصحبة وعدم المضارة ، ولكم أن تتركوهن لتنقضي عدتهن ملاحظين المعاملة اللائقة عند الفراق من غير جفوة ، ولا يجوز أن يكون القصد من المراجعة مضارة المرأة وتطويل عدتها ، ومن يفعل ذلك فقد حَرَم نفسه سعادة الحياة الزوجية وثقة الناس به واستحق سخط الله عليه ، ولا تتخذوا أحكام الله في الأسرة - التي جاءت بها الآيات وجعلت زمام الأسرة بيد الوكيل - سخرية ولهواً وعبثاً ، تطلِّقون لغير سبب وترجعونها مضارة وإيذاء . واذكروا نعمة الله عليكم بتنظيم الحياة الزوجية تنظيماً عالياً ، وبما أنزل عليكم من كتاب مبين للرسالة المحمدية والعلوم النافعة والأمثال والقصص التي بها تتعظون وتهتدون ، واتخذوا بينكم وبين غضب الله وقاية واعلموا أن الله يعلم سركم وجهركم ونياتكم وأعمالكم وهو مجازيكم بما كنتم تعملون .
قوله تعالى : { وإذا طلقتم النساء فبلغن أجلهن } . الآية ، نزلت في رجل من الأنصار يدعى ثابت بن يسار ، طلق امرأته حتى إذا قرب انقضاء عدتها راجعها ثم طلقها ، يقصد بذلك مضارتها . قوله تعالى : { فبلغن أجلهن } أي أشرفن على أن تبين بانقضاء العدة ، ولم يرد حقيقة انقضاء العدة ، لأن العدة إذا انقضت لم يكن للزوج إمساكها ، فالبلوغ هاهنا بلوغ مقاربة ، وفي قوله تعالى بعد هذا { فبلغن أجلهن فلا تعضلوهن } حقيقة انقضاء العدة ، والبلوغ يتناول المعنيين ، يقال : بلغ المدينة إذا قربت منها وإذا دخلها .
قوله تعالى : { فأمسكوهن } . أي راجعوهن .
قوله تعالى : { بمعروف } . قيل المراجعة بالمعروف أن يشهد على رجعتها ، وأن يراجعها بالقول لا بالوطء .
قوله تعالى : { أو سرحوهن بمعروف } . أي اتركوهن حتى تنقضي عدتهن فيكن أملك بأنفسهن .
قوله تعالى : { ولا تمسكوهن ضراراً لتعتدوا } . أي لا تقصدوا بالرجعة المضارة بتطويل الحبس .
قوله تعالى : { ومن يفعل ذلك فقد ظلم نفسه } . أي أضر بنفسه بمخالفة أمر الله تعالى .
قوله تعالى : { ولا تتخذوا آيات الله هزواً } . قال الكلبي : يعني قوله تعالى : ( فإمساك بمعروف أو تسريح بإحسان ) وكل من خالف أمر الشرع فهو متخذ آيات الله هزواً ، وقال أبو الدرداء : هو أن الرجل كان يطلق امرأته ثم يقول : كنت لاعباً ، ويعتق ويقول : مثل ذلك ، وينكح ويقول مثل ذلك .
أخبرنا أبو عبد الله محمد بن الفضل الحرقي ، أنا أبو الحسن الطيسفوني ، أخبرنا عبد الله بن عمرو الجوهري ، أخبرنا أحمد بن علي الكشميهني ، أخبرنا على بن حجر ، أخبرنا إسماعيل بن جعفر ، عن أبي حبيب بن أردك هو عبد الرحمن بن حبيب وابن ماهك هو يوسف بن ماهك عن عطاء بن أبي رباح عن أبي ماهك عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " ثلاث جدهن جد ، وهزلهن جد : الطلاق والنكاح والرجعة " .
قوله تعالى : { واذكروا نعمة الله عليكم } . بالإيمان .
قوله تعالى : { وما أنزل عليكم من الكتاب } . يعني : القرآن .
قوله تعالى : { والحكمة } . يعني : السنة ، وقيل : مواعظ القرآن .
قوله تعالى : { يعظكم به واتقوا الله واعلموا أن الله بكل شيء عليم } .
وبعد أن بين - سبحانه - في الآية السابقة أن الزوج مخير بين الإِمساك والتسريح في مدة العدة ، عقب ذلك ببيان أن هذا التخيير من حقه حتى آخر وقت في العدة ، وذلك لتذكيره بأن الإِمساك أفضل من التسريح ، وأن عليه ألا يلجأ إلى الطلاق إلا إذا سدجت طرق الإِصلاح والمعالجة ، وأنه إذا اختار الطلاق فعليه أن يسلك فيه طريق الحق والعدل لا طريق الباطل والجور .
قال - تعالى : { وَإِذَا طَلَّقْتُمُ النسآء فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ سَرِّحُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ وَلاَ تُمْسِكُوهُنَّ ضِرَاراً لِّتَعْتَدُواْ وَمَن يَفْعَلْ ذَلِكَ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ } .
قال الراغب : الأجل : المدة المضروبة للشيء . قال - تعالى - { ولتبلغوا أَجَلاً مُّسَمًّى . . } - أي مدة معينة - والبلوغ والبلاغ الانتهاء إلى أقصى المقصد والمنتهى مكاناً كان أو زماناً أو أمراً من الأمور المقدرة ، وربما يعبر به عن المشارفة عليه وإن لم يننه . فمن الانتهاء قوله - تعالى - : { وَبَلَغَ أَرْبَعِينَ سَنَةً } وأما قوله : { فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ } فللمشارفة فإنها إذا انتهت إلى أقصى الأجل لا يصح للزوج مراجعتها وإمساكها " .
والمراد بالأجل هنا عدة المرأة . وببلوغها قرب انتهائها .
والضرار - كما يقول الرازي - هو المضارة . قال - تعالى - : { والذين اتخذوا مَسْجِداً ضِرَاراً } أي اتخذوا المسجد ضرراً ليضاروا المؤمنين ، ومعناه يرجع إلى إثارة العداوة ، وإزالة الألفة ، وإيقاع الوحشة ، وموجبات النفرة " .
والمعنى : وإذا طلقتم - أيها المؤمنون - نساءكم طلاقاً رجعياً ، { فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ } أي فشارفت عدتهن على الانتهاء ، وقاربت الانقضاء ، فعليكم أن تتدبروا مليا في أمركم ، فإن رأيتم الأصلح في بقائهن معكم فنفذوا ذلك وأمسكوهن بمعروف .
أي بما هو المعروف من شرع الله الحكيم ، وبما تقره الأخلاق الحسنة والعقول السليمة . وإن رأيتم أنه لا رغبة لكم في البقاء معهن فسرحوهن بمعروف أي فأمضوا الطلاق وتفارقوا بالطريقة التي يرضاها الحق - سبحانه - بأن تؤدوا لهن حقوقهن . ولا تذكروهن بسوء بعد انفصالكم عنهن ، فهذا شأن الأتقياء الصالحين فقد سئل بعضهم ، لم طلقت امرأتك ؟ فقال : إن العاقل لا يذكر ما بينه وبين أهله .
قال القرطبي : معنى ( بلغن ) قاربن بإجماع من العلماء ، ولأن المعنى يضطر إلى ذلك ، لأنه بعد بلوغ الأجل لا خيار له في الإِمساك ، وهو في الآية التي بعدها بمعنى الانتهاء ، لأن المعنى يقتضي ذلك ، فهو حقيقة في الثانية ، مجاز في الأولى - أي التي معنا - " .
ثم نهى - سبحانه - عن الإِمساك الذي يكون معه الضرر فقال . { وَلاَ تُمْسِكُوهُنَّ ضِرَاراً لِّتَعْتَدُواْ } أي لا تراجعوهن إرادة الضرر بهن والإيذاء لهن لتعتدوا عليهن ، والجملة الكريمة تأكيد للأمر بالإِمساك بمعروف ، وتوضيح لمعناه ، وزجر صريح عما كان يفعله يعضهم من مراجعته لامرأته قبل انتهاء عدتها لا لقصد الإِبقاء على الزوجية وإنما القصد إطاعة عدة الزوجة ، أو لقصد أن تفتدي نفسها منه بالمال : { ضِرَاراً } منصوب على الحال في تمسكوهن أو على أنه مفعول لأجله . واللام في قوله : { لِّتَعْتَدُواْ } هي لام العاقبة أي لتكون عاقبة أمركم الاعتداء وحذف متعلق " لتعتدوا " ليتناول الاعتداء عليهن وعلى أحكام الله - تعالى - .
وقوله : { وَمَن يَفْعَلْ ذَلِكَ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ } وعيد شديد لمن يقدم على ما نهى الله عنه . أي : ومن يراجع مطلقته بقصد الإِضرار بها والاعتداء عليها فقد ظلم نفسه ظلماً مؤكداً ، لأنه سيعرضها لعقاب الله وسخط الناس .
وجعل ظلمهم لنسائهم ظلماً لأنفسهم ، لأن عملهم هذا سيؤدي إلى اختللا المعاشرة الزوجية واضطرابها ، وشيوع العداوة والبغضاء بين الزوجين وبين أهلهما . ثم كرر - سبحانه - تحذير المخالفين لشريعته ، وذكرهم بألوان نعمه عليهم ليستجيبوا لأمره فقال : { وَلاَ تتخذوا آيَاتِ الله هُزُواً واذكروا نِعْمَتَ الله عَلَيْكُمْ وَمَآ أَنزَلَ عَلَيْكُمْ مِّنَ الكتاب والحكمة يَعِظُكُمْ بِهِ } .
آيات الله : أحكامه التي شرعها في شأن الطلاق وغيره .
والهزء - بضمتين - مصدر هزأ به إذا سخر ولعب وهو هنا مصدر بمعنى اسم المفعول أي : مهزوءاً بها . وقوله { هُزُواً } مفعول ثان لتتخذوا .
والمراد بالحكمة هنا . السنة النبوية المطهرة .
والموعظة والعظة : النصح والتذكير بالخير . بما يرقق القلوب ، ويحذر النفوس مما نهى الله عنه .
أي : ولا تتخذوا - أيها الناس - آيات الله التي شرعها لكم في شأن الطلاق وغيره مهزوءاً بها بأن تعرضوا عنها ، وتتهاونوا في المحافظة عليها ، والتمسك بتعاليمها ، ومن مظاهر ذلك أن بعض الناس كان يكثر من التلفظ بالطلاق متوهما أن ذلك لا يضر ، أو كان يتخذ المراجعة وسيلة لإيذاء المرأة .
قال القرطبي : وفي موطأ مالك أنه بلغه أن رجلا قال ابن عباس : " إني طلقت امرأتي مائة مرة فماذا ترى على ؟ فقال ابن عباس : طلقت منك بثلاث ، وسبع وتسعون اتخذت بها آيات الله هزوا " .
والجملة الكريمة نهى أريد به الأمر بضده ، أي جدوا في العمل بأوامر الله وآياته ، وارعوها حق رعايتها .
وقوله : { واذكروا نِعْمَتَ الله عَلَيْكُمْ } إلخ أي تذكروها في هدايتكم إلى الإِسلام ، وفي مشروعية الزوجية وفي غير ذلك مما لا يصحى من النعم وتدبروا نعم الله عليكم فقابلوها بالشكر ، واستعملوها فيما خلقت له ، وتذكروا كذلك ما أنزل الله عليكم بواسطة رسولكم محمد صلى الله عليه وسلم من الكتاب وهو القرآن الذي يهدي للتي هي أقوم ، ومن الحكمة وهي السنة النبوية المطهرة ، بما جاء فيهما من توجيهات سامية ، وآداب عالية .
و " ما " في قوله : { وَمَآ أَنزَلَ عَلَيْكُمْ } موصولة والعائد محذوف أي ما أنزله و " من " في قوله : { مِّنَ الكتاب } بيانية ، وجملة { يَعِظُكُمْ بِهِ } حال من فاعل أنزل أو من مفعوله ، والضمير في { به } يعود على الكتاب والحكمة بعد تأويلهما بالمذكور . وجعل ضميرها واحداً لأنهما في مؤداهما وغايتهما شيء واحد ، فالسنة ليست نابعة إلا من الكتاب ومنه أخذت قوتها وسلطانها .
وقوله - سبحانه - : في ختام الآية { واتقوا الله واعلموا أَنَّ الله بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ } تذكير لهم بتقوى الله وخشيته ومراقبته ، وتحذير لهم من مخالفة أمره .
أي : صونوا أنفسكم عن كل ما يغضب الله - تعالى - فيما يتعلق بأمور الزوجية وفي غيرها مما شرعه لكم ، واعلموا أنه - سبحانه - عليم بكل شيء ، عليم بما تسرونه وما تعلنونه ، وسيحاسب كل إنسان بما قدمت يداه { يَوْمَ لاَ تَمْلِكُ نَفْسٌ لِنَفْسٍ شَيْئاً والأمر يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ }
{ وَإِذَا طَلّقْتُمُ النّسَآءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنّ فَأَمْسِكُوهُنّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ سَرّحُوهُنّ بِمَعْرُوفٍ وَلاَ تُمْسِكُوهُنّ ضِرَاراً لّتَعْتَدُواْ وَمَن يَفْعَلْ ذَلِكَ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ وَلاَ تَتّخِذُوَاْ آيَاتِ اللّهِ هُزُواً وَاذْكُرُواْ نِعْمَةَ اللّهِ عَلَيْكُمْ وَمَآ أَنزَلَ عَلَيْكُمْ مّنَ الْكِتَابِ وَالْحِكْمَةِ يَعِظُكُمْ بِهِ وَاتّقُواْ اللّهَ وَاعْلَمُوَاْ أَنّ اللّهَ بِكُلّ شَيْءٍ عَلِيمٌ }
يعني تعالى ذكره بذلك : وإذا طلقتم أيها الرجال نساءكم فبلغن أجلهن ، يعني ميقاتهن الذي وقته لهن من انقضاء الأقراء الثلاثة إن كانت من أهل الأقراء وانقضاء الأشهر ، إن كانت من أهل الشهور ، فأَمْسِكُوهُنّ يقول : فراجعوهن إن أردتم رجعتهن في الطلقة التي فيها رجعة ، وذلك إما في التطليقة الواحدة أو التطليقتين كما قال تعالى ذكره : الطّلاقُ مَرّتانِ فإمْساكٌ بِمَعْرُوفٍ أوْ تَسْرِيحٌ بإحْسانٍ .
وأما قوله : بِمَعْرُوفٍ فإنه عنى بما أذن به من الرجعة من الإشهاد على الرجعة قبل انقضاء العدة دون الرجعة بالوطء والجماع ، لأن ذلك إنما يجوز للرجل بعد الرجعة ، وعلى الصحبة مع ذلك والعشرة بما أمر الله به وبينه لكم أيها الناس . أوْ سَرّحُوهُنّ بِمَعْرُوفٍ يقول : أو خلّوهن يقضين تمام عدتهنّ وينقضي بقية أجلهنّ الذي أجلته لهنّ لعددهن بمعروف ، يقول : بإيفائهن تمام حقوقهن عليكم على ما ألزمتكم لهن من مهر ومتعة ونفقة وغير ذلك من حقوقهن قبلكم . وَلا تُمْسِكُوهُنّ ضِرَارا لِتَعْتَدُوا يقول : ولا تراجعوهنّ إن راجعتموهنّ في عددهنّ مضارة لهنّ لتطوّلوا عليهنّ مدة انقضاء عددهنّ ، أو لتأخذوا منهنّ بعض ما آتيتموهنّ بطلبهنّ الخلع منكم لمضارّتكم إياهنّ بإمساككم إياهنّ ، ومراجعتكموهنّ ضرارا واعتداء .
وقوله : لِتَعْتَدُوا يقول : لتظلموهنّ بمجاوزتكم في أمرهنّ حدودي التي بينتها لكم .
وبمثل الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا جرير ، عن منصور ، عن أبي الضحى ، عن مسروق : وَلا تُمْسِكوهُن ضِرَارا قال : يطلقها حتى إذا كادت تنقضي راجعها ، ثم يطلقها ، فيدعها ، حتى إذا كادت تنقضي عدتها راجعها ، ولا يريد إمساكها ، فذلك الذي يضارّ ويتخذ آيات الله هزوا .
حدثني يعقوب بن إبراهيم ، قال : حدثنا ابن علية ، عن أبي رجاء ، قال : سئل الحسن عن قوله تعالى : وإذَا طَلّقْتُمُ النّساءَ فَبَلَغْنَ أجَلَهُنّ فأمْسِكُوهُنّ بِمَعْرُوفٍ أوْ سَرّحُوهُنّ بِمَعْرُوفٍ وَلا تُمْسِكُوهُنّ ضِرَارا لِتَعْتَدُوا قال : كان الرجل يطلق المرأة ، ثم يراجعها ، ثم يطلقها ، ثم يراجعها يضارّها فنهاهم الله عن ذلك .
حدثني محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، قال : حدثنا عيسى ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد في قوله : وإذَا طَلّقْتُمُ النّساءَ فَبَلَغْنَ أجَلَهُنّ فأمْسِكُوهُنّ بِمَعْرُوفٍ أوْ سَرّحُوهُنّ بِمَعْرُوفٍ قال نهى الله عن الضرار ضرارا أن يطلق الرجل امرأته ، ثم يراجعها عند آخر يوم يبقى من الأجل حتى يفي لها تسعة أشهر ليضارّها به .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا أبو حذيفة ، قال : حدثنا شبل ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد بنحوه ، إلا أنه قال : نهى عن الضرار ، والضرارُ في الطلاق : أن يطلق الرجل امرأته ثم يراجعها . وسائر الحديث مثل حديث محمد بن عمرو .
حدثني محمد بن سعد ، قال : حدثنا أبي ، قال : حدثنا عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس : وإذَا طَلّقْتُمُ النّساءَ فَبَلَغْنَ أجَلَهُنّ فأمْسِكُوهُنّ بِمَعْرُوفٍ أوْ سَرّحُوهُنّ بِمَعْرُوفٍ وَلا تُمْسِكُوهُنّ ضِرَارا لِتَعْتَدُوا كان الرجل يطلق امرأته ثم يراجعها قبل انقضاء عدتها ، ثم يطلقها ، يفعل ذلك يضارّها ويعضلها ، فأنزل الله هذه الآية .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا إسحاق ، قال : حدثنا ابن أبي جعفر ، عن أبيه ، عن الربيع في قوله : وإذَا طَلّقْتُمُ النّساءَ فَبَلَغْنَ أجَلَهُنّ فأمْسِكُوهُنّ بِمَعْرُوفٍ أوْ سَرّحُوهُنّ بِمَعْرُوفٍ وَلا تُمْسِكُوهُنّ ضِرَارا لِتَعْتَدُوا قال : كان الرجل يطلق امرأته تطليقة واحدة ثم يدعها ، حتى إذا ما تكاد تخلو عدتها راجعها ، ثم يطلقها ، حتى إذا ما كاد تخلو عدتها راجعها ، ولا حاجة له فيها ، إنما يريد أن يضارّها بذلك ، فنهى الله عن ذلك وتقدم فيه ، وقال : وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَه .
3حدثني المثنى ، قال : حدثنا أبو صالح ، قال : ثني الليث ، عن يونس ، عن ابن شهاب ، قال : قال الله تعالى ذكره : وإذَا طَلّقْتُمُ النّساءَ فَبَلَغْنَ أجَلَهُنّ فأمْسِكُوهُنّ بِمَعْرُوفٍ أوْ سَرّحُوهُنّ بِمَعْرُوفٍ وَلا تُمْسِكُوهُنّ ضِرَارا لِتَعْتَدُوا فإذا طلق الرجل المرأة وبلغت أجلها فليراجعها بمعروف أو ليسرحها بإحسان ، ولا يحلّ له أن يراجعها ضرارا ، وليست له فيها رغبة إلا أن يضارّها .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا إسحاق ، قال : حدثنا عبد الرزاق ، عن معمر ، عن قتادة في قوله : وَلا تُمْسِكُوهُنّ ضِرَارا لِتَعْتَدُوا قال : هو في الرجل يحلف بطلاق امرأته ، فإذا بقي من عدتها شيء راجعها يضارّها بذلك ، ويطوّل عليها فنهاهم الله عن ذلك .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا إسحاق ، قال : حدثنا إسماعيل بن أبي أويس ، عن مالك بن أنس ، عن ثور بن زيد الديلي : أن رجلاً كان يطلق امرأته ثم يراجعها ، ولا حاجة له بها ولا يريد إمساكها ، كيما يطوّل عليها بذلك العدّة ليضارّها فأنزل الله تعالى ذكره : وَلا تُمْسِكُوهُنّ ضِرَارا لِتَعْتَدُوا وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ يعظّم ذلك .
حدثت عن الحسين بن الفرج ، قال : سمعت أبا معاذ الفضل بن خالد ، قال : حدثنا عبيد بن سليمان الباهلي ، قال : سمعت الضحاك يقول في قوله : ولا تُمْسِكُوهُنّ ضِرارا : هو الرجل يطلق امرأته واحدة ، ثم يراجعها ، ثم يطلقها ، ثم يراجعها ، ثم يطلقها ليضارّها بذلك لتختلع منه .
حدثنا موسى ، قال : حدثنا عمرو ، قال : حدثنا أسباط ، عن السدي : وإذَا طَلّقْتُمُ النّساءَ فَبَلَغْنَ أجَلَهُنّ فأمْسِكُوهُنّ بِمَعْرُوفٍ أوْ سَرّحُوهُنّ بِمَعْرُوفٍ وَلا تُمْسِكُوهُنّ ضِرَارا لِتَعْتَدُوا وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ وَلا تَتّخِذُوا آياتِ اللّهِ هُزُوا قال : نزلت في رجل من الأنصار يدعى ثابت بن يسار طلق امرأته حتى إذا انقضت عدتها إلا يومين أو ثلاثة راجعها ثم طلقها ، ففعل ذلك بها ، حتى مضت لها تسعة أشهر مضارّة يضارّها ، فأنزل الله تعالى ذكره : وَلا تُمْسِكُوهُنّ ضِرَارا لِتَعْتَدُوا .
حدثني العباس بن الوليد ، قال : أخبرني أبي ، قال : سمعت عبد العزيز يسأل عن طلاق الضرار ، فقال : يطلق ثم يراجع ، ثم يطلق ، ثم يراجع ، فهذا الضرار الذي قال الله : وَلا تُمْسِكُوهُنّ ضِرَارا لِتَعْتَدُوا .
حدثنا أحمد بن إسحاق ، قال : حدثنا أبو أحمد ، قال : حدثنا فضيل بن مرزوق ، عن عطية : وَلا تُمْسِكُوهُنّ ضِرَارا لِتَعْتَدُوا قال : الرجل يطلق امرأته تطليقة ، ثم يتركها حتى تحيض ثلاث حيض ، ثم يراجعها ، ثم يطلقها تطليقة ، ثم يمسك عنها حتى تحيض ثلاث حيض ، ثم يراجعها لتعتدوا قال : لا يطاول عليهن .
وأصل التسريح من سَرْحِ القوم ، وهو ما أطلق من نعمهم للرعي ، يقال للمواشي المرسلة للرعي : هذا سَرْح القوم ، يراد به مواشيهم المرسلة للرعي ، ومنه قول الله تعالى ذكره : والأنْعامَ خَلَقَها لَكُمْ فِيها دِفْءٌ وَمَناِفعُ وَمِنْهَا تَأكُلُونَ وَلَكُمْ فِيها جمالٌ حِينَ تُرِيحُونَ وَحِينَ تَسْرَحُون يعني بقوله حين تسرحون : حين ترسلونها للرعي فقيل للمرأة إذا خلاها زوجها فأبانها منه : سَرّحها ، تمثيلاً لذلك بتسريح المسرّح ماشيته للرعي وتشبيها به .
القول في تأويل قوله تعالى : وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ .
يعني تعالى ذكره بذلك : ومن يراجع امرأته بعد طلاقه إياها في الطلاق الذي له فيه عليها الرجعة ضرارا بها ليعتدي حدّ الله في أمرها ، فقد ظلم نفسه ، يعني فأكسبها بذلك إثما ، وأوجب لها من الله عقوبة بذلك .
وقد بينا معنى الظلم فيما مضى ، وأنه وضع الشيء في غير موضعه وفعل ما ليس للفاعل فعله .
القول في تأويل قوله تعالى : وَلا تَتّخِذُوا آياتِ اللّهِ هُزُوا .
يعني تعالى ذكره : ولا تتخذوا أعلام الله وفصوله بين حلاله وحرامه وأمره ونهيه في وحيه وتنزيله استهزاءً ولعبا ، فإنه قد بين لكم في تنزيله وآي كتابه ما لكم من الرجعة على نسائكم في الطلاق الذي جعل لكم عليهن فيه الرجعة ، وما ليس لكم منها ، وما الوجه الجائز لكم منها وما الذي لا يجوز ، وما الطلاق الذي لكم عليهن فيه الرجعة وما ليس لكم ذلك فيه ، وكيف وجوه ذلك رحمة منه بكم ونعمة منه عليكم ، ليجعل بذلك لبعضكم من مكروه إن كان فيه من صاحبه مما هو فيه المخرج والمخلص بالطلاق والفراق ، وجعل ما جعل لكم عليهنّ من الرجعة سبيلاً لكم إلى الوصول إلى ما نازعه إليه ودعاه إليه هواه بعد فراقه إياهن منهن ، لتدركوا بذلك قضاء أوطاركم منهن ، إنعاما منه بذلك عليكم ، لا لتتخذوا ما بينت لكم من ذلك في آي كتابي وتنزيلي تفضلاً مني ببيانه عليكم ، وإنعاما ورحمة مني بكم لعبا وسخريا .
وبمعنى ما قلنا في ذلك قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :
حدثني عبد الله بن أحمد بن شبّوبَةَ ، قال : حدثنا أبي ، قال : حدثنا أيوب بن سليمان ، قال : حدثنا أبو بكر بن أبي أويس ، عن سليمان بن بلال ، عن محمد بن أبي عتيق وموسى بن عقبة ، عن ابن شهاب ، عن سليمان بن أرقم ، أن الحسن حدثهم : أن الناس كانوا على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم يطّلق الرجل أو يعتق ، فيقال : ما صنعت ؟ فيقول : إنما كنت لاعبا قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «مَنْ طَلّق لاعِبا أوْ أعْتَق لاعِبا فَقَدْ جاز عَلَيْهِ » قال الحسن : وفيه نزلت : وَلا تَتّخِذُوا آياتِ اللّهِ هُزُوا .
3حدثني المثنى ، قال : حدثنا إسحاق ، قال : حدثنا ابن أبي جعفر ، عن أبيه ، عن الربيع في قوله : وَلا تَتّخِذُوا آياتِ اللّهِ هُزُوا قال : كان الرجل يطلق امرأته ، فيقول : إنما طلقت لاعبا ، ويتزوّج أو يعتق أو يتصدّق فيقول : إنما فعلت لاعبا ، فنهوا عن ذلك ، فقال تعالى ذكره : وَلا تَتّخِذُوا آياتِ اللّهِ هُزُوا .
3حدثنا أبو كريب ، قال : حدثنا إسحاق بن منصور ، عن عبد السلام بن حرب ، عن يزيد بن عبد الرحمن ، عن أبي العلاء ، عن حميد بن عبد الرحمن ، عن أبي موسى : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم غضب على الأشعريين فأتاه أبو موسى ، فقال : يا رسول الله غضبت على الأشعريين فقال : «يَقُولُ أحَدُكُمْ قَدْ طَلّقْتُ قَد راجَعْتُ لَيْسَ هَذا طَلاقَ المُسْلِمِين ، طَلّقُوا المَرأةَ في قُبْلِ عِدّتِها » .
حدثنا أبو زيد ، عن ابن شبة ، قال : حدثنا أبو غسان النهدي ، قال : حدثنا عبد السلام بن حرب ، عن يزيد بن أبي خالد ، يعني الدالاني ، عن أبي العلاء الأودي ، عن حميد بن عبد الرحمن ، عن أبي موسى الأشعري ، عن النبيّ صلى الله عليه وسلم أنه قال لهم : «يَقُولُ أحَدُكُمْ لاِمْرأتِهِ : قَدْ طَلّقْتُكِ ، قَدْ راجَعْتُكِ لَيْس هَذَا بِطَلاق المُسْلِمِين ، طَلّقُوا المَرأةَ في قُبْلِ عِدّتِها » .
القول في تأويل قوله تعالى : واذْكُرُوا نِعْمَة اللّهِ عَلَيْكُمْ وَما أنْزَلَ عَلَيْكُمْ مِنَ الكِتابِ والحِكْمَةِ .
يعني تعالى ذكره بذلك : واذكروا نعمة الله عليكم بالإسلام ، الذي أنعم عليكم به ، فهداكم له ، وسائر نعمه التي خصكم بها دون غيركم من سائر خلقه ، فاشكروه على ذلك بطاعته فيما أمركم به ونهاكم عنه ، واذكروا أيضا مع ذلك ، ما أنزل عليكم من كتابه ذلك ، القرآن الذي أنزله على نبيه محمد صلى الله عليه وسلم ، واذكروا ذلك فاعلموا به ، واحفظوا حدوده فيه . والحكمة : يعني : وما أنزل عليكم من الحكمة ، وهي السنن التي علمكموها رسول الله صلى الله عليه وسلم وسنها لكم . وقد ذكرت اختلاف المختلفين في معنى الحكمة فيما مضى قبل في قوله : ويُعَلّمُهُمُ الكِتابَ وَالحَكْمَةَ فأغنى عن إعادته في هذا الموضع .
القول في تأويل قوله تعالى : يَعِظُكُمْ بِهِ وَاتّقُوا اللّهَ وَاعْلَمُوا أنّ اللّهَ بِكُلّ شَيْءٍ عَلِيمٌ .
يعني تعالى ذكره بقوله : يَعِظُكُمْ بِهِ يعظكم بالكتاب الذي أنزل عليكم . والهاء التي في قوله «به » عائدة على الكتاب . وَاتّقُوا اللّهَ يقول : وخافوا الله فيما أمركم به ، وفيما نهاكم عنه في كتابه الذي أنزله عليكم ، وفيما أنزله فبينه على لسان رسول الله صلى الله عليه وسلم لكم أن تضيعوه وتتعدوا حدوده ، فتستوجبوا ما لا قبل لكم به من أليم عقابه ، ونكال عذابه . وقوله : وَاعْلَمُوا أنّ اللّهَ بِكُلّ شَيْءٍ عَلِيمٌ يقول : واعلموا أيها الناس أن ربكم الذي حدّ لكم هذه الحدود ، وشرع لكم هذه الشرائع ، وفرَض عليكم هذه الفرائض في كتابه وفي تنزيله ، على رسوله محمد صلى الله عليه وسلم بكل ما أنتم عاملوه من خير وشرّ ، وحسن وسيىء ، وطاعة ومعصية ، عالم لا يخفى عليه من ظاهر ذلك وخفيه وسره وجهره شيء ، وهو مجازيكم بالإحسان إحسانا ، وبالسيىء سيئا ، إلا أن يعفو ويصفح فلا تتعرّضوا لعقابه ، ولا تظلموا أنفسكم .
{ وإذا طلقتم النساء فبلغن أجلهن } أي آخر عدتهن ، والأجل يطلق للمدة ولمنتهاها فيقال لعمر الإنسان وللموت الذي به ينتهي قال :
كل حي مستكمل مدة العمر وموت *** إذا انتهى أجله
والبلوغ هو الوصول إلى الشيء ، وقد يقال للدنو منه على الاتساع ، وهو المراد في الآية ليصح أو يرتب عليه . { فأمسكوهن بمعروف أو سرحوهن بمعروف } إذ لا إمساك بعد انقضاء الأجل ، والمعنى فراجعوهن من غير ضرار ، أو خلوهن حتى تنقضي عدتهن من غير تطويل ، وهو إعادة للحكم في بعض صوره للاهتمام به . { ولا تمسكوهن ضرارا } ولا تراجعوهن إرادة الإضرار بهن ، كأن المطلق يترك المعتدة حتى تشارف الأجل ثم يراجعها لتطول العدة عليها ، فنهي عنه بعد الأمر بضده مبالغة . ونصب ضرارا على العلة أو الحال بمعنى مضارين . { لتعتدوا } لتظلموهن بالتطويل أو الإلجاء إلى الافتداء ، واللام متعلقة بضرارا إذ المراد تقييده . { ومن يفعل ذلك فقد ظلم نفسه } بتعريضها للعقاب . { ولا تتخذوا آيات الله هزوا } بالإعراض عنها والتهاون في العمل بما فيها من قولهم لمن لم يجد في الأمر إنما أنت هازئ ، كأنه نهي عن الهزؤ وأراد به الأمر بضده . وقيل ؛ ( كان الرجل يتزوج ويطلق ويعتق ويقول : كنت ألعب ) فنزلت . وعنه عليه الصلاة والسلام : " ثلاث جدهن جد وهزلهن جد الطلاق والنكاح والعتاق " { واذكروا نعمة الله عليكم } التي من جملتها الهداية ، وبعثة محمد صلى الله عليه وسلم بالشكر والقيام بحقوقها . { وما أنزل عليكم من الكتاب والحكمة } القرآن والسنة أفردهما بالذكر إظهارا لشرفهما . { يعظكم به } بما أنزل عليكم . { واتقوا الله واعلموا أن الله بكل شيء عليم } تأكيد وتهديد .