المنتخب في تفسير القرآن الكريم للمجلس الأعلى للشؤون الإسلامية - المنتخب [إخفاء]  
{غَافِرِ ٱلذَّنۢبِ وَقَابِلِ ٱلتَّوۡبِ شَدِيدِ ٱلۡعِقَابِ ذِي ٱلطَّوۡلِۖ لَآ إِلَٰهَ إِلَّا هُوَۖ إِلَيۡهِ ٱلۡمَصِيرُ} (3)

2- تنزيل القرآن من الله القوى الغالب ، المحيط علمه بكل شيء ، وقابل التوبة من التائبين ، شديد العذاب ، صاحب الإنعام ، لا معبود بحق إلا هو ، إليه - وحده - المرجع والمآل .

 
أنوار التنزيل وأسرار التأويل للبيضاوي - البيضاوي [إخفاء]  
{غَافِرِ ٱلذَّنۢبِ وَقَابِلِ ٱلتَّوۡبِ شَدِيدِ ٱلۡعِقَابِ ذِي ٱلطَّوۡلِۖ لَآ إِلَٰهَ إِلَّا هُوَۖ إِلَيۡهِ ٱلۡمَصِيرُ} (3)

{ غافر الذنب وقابل التوب شديد العقاب ذي الطول } صفات أخرى لتحقيق ما فيه من الترغيب والترهيب والحث على ما هو المقصود منه ، والإضافة فيها حقيقية على أنه لم يرد بها زمان مخصوص ، وأريد ب { شديد العقاب } مشدده أو الشديد عقابه فحذف اللام للازدواج وأمن الالتباس ، أو إبدال وجعله وحده بدلا مشوش للنظم وتوسيط الواو بين الأولين لإفادة الجمع بين محو الذنوب وقبول التوبة ، أو تغاير الوصفين إذ ربما يتوهم الاتحاد ، أو تغاير موقع الفعلين لأن الغفر هو الستر فيكون لذنب باق وذلك لمن لم يتب فإن " التائب من الذنب كمن لا ذنب له " . والتوب مصدر كالتوبة . وقيل جمعا والطول الفضل بترك العقاب المستحق ، وفي توحيد صفة العذاب مغمورة بصفات الرحمة دليل رجحانها . { لا إله إلا هو } فيجب الإقبال الكلي على عبادته . { إليه المصير } فيجازي المطيع والعاصي .

 
التحرير والتنوير لابن عاشور - ابن عاشور [إخفاء]  
{غَافِرِ ٱلذَّنۢبِ وَقَابِلِ ٱلتَّوۡبِ شَدِيدِ ٱلۡعِقَابِ ذِي ٱلطَّوۡلِۖ لَآ إِلَٰهَ إِلَّا هُوَۖ إِلَيۡهِ ٱلۡمَصِيرُ} (3)

أجريت على اسم الله ستة نعوت معارفُ ، بعضُها بحرف التعريف وبعضها بالإضافة إلى معرّف بالحرف .

ووصْفُ الله بوصفي { العَزِيز العَليم } [ غافر : 2 ] هنا تعريض بأن منكري تنزيل الكتاب منه مغلوبون مقهورون ، وبأن الله يعلم ما تكنّه نفوسهم فهو محاسبهم على ذلك ، ورَمْزٌ إلى أن القرآن كلام العزيز العليم فلا يقدر غير الله على مثله ولا يعلم غير الله أن يأتي بمثله .

وهذا وجه المخالفة بين هذه الآية ونظيرتها من أول سورة الزمر التي جاء فيها وصف { العَزِيز الحكيم } [ الزمر : 1 ] على أنه يتأتى في الوصف بالعلم ما تأتَّى في بعض احتمالات وصف { الحكيم في سورة الزمر . ويتأتى في الوصفين أيضاً ما تَأَتَّى هنالك من طريقي إعجاز القرآن . وفي ذكرهما رمز إلى أن الله أعلم حيث يجعل رسالَته وأنه لا يجاري أهواء الناس فيمن يرشحونه لذلك من كبرائهم { وقالوا لولا نُزِّل هذا القرآن على رجل من القريتين عظيم } [ الزخرف : 31 ] .

وفي إِتْباع الوصفين العظيمين بأوصاف { غافر الذنب وقَابِل التَّوْب شَديد العِقاب ذِي الطَّول } ترشيح لذلك التعريضضِ كأنه يقول : إن كنتم أذنبتم بالكفر بالقرآن فإن تدارك ذنبكم في مكنتكم لأن الله مقرَّر اتصافه بقبول التوبة وبغفران الذنب فكما غفر لمن تابوا من الأمم فقبل إيمانهم يغفر لمن يتوب منكم .

وتقديم { غافر } على { قابل التوب } مع أنه مرتب عليه في الحصول للاهتمام بتعجيل الإِعلام به لمن استعدّ لتدارك أمره فوصفُ { غافر الذنب وقابل التوب } تعريض بالترغيب ، وصِفتا { شَدِيد العقاب ذِي الطَّول } تعريض بالترهيب . والتوبُ : مصدر تاب ، والتوب بالمثناة والثوب بالمثلثة والأَوْب كلها بمعنى الرجوع ، أي الرجوع إلى أمر الله وامتثاله بعد الابتعاد عنه . وإنما عطفت صفة { وقَابِل التَّوْب } بالواو على صفة { غَافِر الذنب } ولم تُفْصَل كما فُصِلت صفتا { العليمِ } [ غافر : 2 ] { غافرِ الذنب } وصفة { شديد العقاب } إشارة إلى نكتة جليلة وهي إفادة أن يجمَع للمذنب التائب بين رحمتين بين أن يقبل توبته فيجعلها له طاعة ، وبين أن يمحو عنه بها الذنوب التي تاب منها وندِم على فعلها ، فيصبحَ كأنه لم يفعلها . وهذا فضل من الله .

وقوله : { شديد العقاب } إفضاء بصريح الوعيد على التكذيب بالقرآن لأن مجيئه بعد قوله : { تنزيلُ الكِتَاب مِن الله } [ غافر : 2 ] يفيد أنه المقصود من هذا الكلام بواسطة دلالة مستتبعات التراكيب .

والمراد { بغافر } و { قابل } أنه موصوف بمدلوليهما فيما مضى إذ ليس المراد أنه سيغفر وسيقبل ، فاسم الفاعل فيهما مقطوع عن مشابهة الفعل ، وهو غير عامل عمَل الفعل ، فلذلك يكتسِبُ التعريف بالإِضافة التي تزيد تقريبه من الأسماء ، وهو المحمل الذي لا يناسب غيرُهُ هنا .

و { التوب } صفة مشبَّهة مضافة لفاعلها ، وقد وقعت نعتاً لاسم الجلالة اعتداداً بأن التعريف الداخل عَلى فاعل الصفة يقوم مقام تعريف الصفة فلم يخالَف ما هو المعروف في الكلام من اتحاد النعت والمنعوت في التعريف واكتساب الصفة المشبهة التعريفَ بالإِضافة هو قول نحاة الكوفة طرداً لباب التعريف بالإضافة ، وسيبَويه يجوز اكتساب الصفات المضافةِ التعريفَ بالإِضافة إلاّ الصفة المشبهة لأن إضافتها إنما هي لفاعلها في المعنى لأن أصل ما تضاف إليه الصفة المشبهة أنه كان فاعلاً فكانت إضافتها إليه مجرد تخفيف لفظي والخطب سهل .

والطوْل يطلق على سعة الفضل وسعة المال ، ويطلق على مطلق القدرة كما في « القاموس » ، وظاهرُه الإِطلاقُ وأقره في « تاج العروس » وجعله من معنى هذه الآية ، ووقوعُه مع { شديد العقاب } ومزاوجتها بوصفي { غافر الذنب وقابل التوب } ليشير إلى التخويف بعذاب الآخرة من وصف { شديد العِقَاب } ، وبعذاب الدنيا من وصف { ذِي الطَّوْل } كقوله : { أو نرينك الذي وعدناهم فإنا عليهم مقتدرون } [ الزخرف : 42 ] ، وقوله : { قل إن اللَّه قادر على أن ينزل آية } [ الأنعام : 37 ] . وأعقب ذلك بما يدل على الوحدانية وبأن المصير ، أي المرجع إليه تسجيلاً لبطلان الشرك وإفساداً لإِحالتهم البعث .

فجملة { لا إله إلاَّ هو } في موضع الصفة ، وأتبع ذلك بجملة { إليه المَصِير } إنذاراً بالبعث والجزاء لأنه لما أجريت صفات { غَافِر الذَّنب وقَابِل التَّوبِ شَدِيد العِقَاب } أثير في الكلام الإِطماعُ والتخويفُ فكان حقيقاً بأن يشعروا بأن المصير إما إلى ثوابه وإما إلى عقابه فليزنوا أنفسهم ليضعوها حيث يلوح من حالهم .

وتقديم المجرور في { إليه المَصِيرُ } للاهتمام وللرعاية على الفاصلة بحرفين : حرف لين ، وحرف صحيح مثل : العليم ، والبلاد ، وعقاب .

وقد اشتملت فاتحة هذه السورة على ما يشير إلى جوامع أغراضها ويناسب الخوض في تكذيب المشركين بالقرآن ويشير إلى أنهم قد اعتزوا بقوتهم ومكانتهم وأن ذلك زائل عنهم كما زال عن أمم أشد منهم ، فاستوفت هذه الفاتحة كمال ما يطلب في فواتح الأغراض مما يسمى براعة المطلع أو براعة الاستهلال .