{ ثم آتينا موسى الكتاب } عطف على { وصاكم } ، وثم للتراخي في الإخبار أو للتفاوت في الرتبة كأنه قيل ؛ ذلكم وصاكم به قديما وحديثا ثم أعظم من ذلك { إنا آتينا موسى الكتاب } . { تماما } للكرامة والنعمة . { على الذي أحسن } على كل من أحسن القيام به ، ويؤيده إن قرئ " على الذين أحسنوا " أو " على الذي أحسن تبليغه " وهو موسى عليه أفضل الصلاة والسلام ، أو " تماما على ما أحسنه " أي أجاده من العلم والتشريع أي زيادة على علمه إتماما له . وقرئ بالرفع على أن خبر مبتدأ محذوف أي " على الذي هو أحسن " أو على الوجه الذي هو حسن ما يكون عليه الكتب . { وتفصيلا لكل شيء } وبيانا مفصلا لكل ما يحتاج إليه في الدين ، وهو عطف على تمام ونصبهما يحتمل العلة والحال والمصدر . { وهدى ورحمة لعلهم } لعل بني إسرائيل . { بلقاء ربهم يؤمنون } أي بلقائه للجزاء .
{ ثم } في هذه الآية إنما مهلتها في ترتيب القول الذي أمر به محمد صلى الله عليه وسلم كأنه قال ثم مما قضيناه أنا آتينا موسى الكتاب ، ويدعو إلى ذلك أن موسى عليه السلام متقدم بالزمان على محمد صلى الله عليه وسلم وتلاوته ما حرم الله{[5159]} ، و { الكتاب } التوراة ، و { تماماً } نصب على المصدر ، وقوله { على الذي أحسن } مختلف في معناه فقالت فرقة { الذي } بمعنى الذين ، و { أحسن } فعل ماض صلة «الذين » ، وكأن الكلام وآتينا موسى الكتاب تفضلاً على المحسنين من أهل ملته وإتماماً للنعمة عندهم ، هذا تأويل مجاهد ، وفي مصحف عبد الله «تماماً على الذين أحسنوا » ، فهذا يؤيد ذلك التأويل ، وقالت فرقة { الذي } غير موصولة ، والمعنى تماماً على ما أحسن هو من عبادة ربه والاضطلاع بأمور نبوته ، يريد موسى عليه السلام ، هذا تأويل الربيع وقتادة ، وقالت فرقة : المعنى { تماماً } أي تفضلاً وإكمالاً على الذي أحسن الله فيه إلى عباده من النبوءات والنعم وغير ذلك ، ف { الذي } أيضاً في هذا التأويل غير موصولة ، وهذا تأويل ابن زيد وقرأ يحيى بن يعمر وابن إسحاق «تماماً على الذي أحسنُ » بضم النون ، فجعلها صفة تفضيل ورفعها على خبر ابتداء مضمر تقديره «على الذي هو أحسن » وضعف أبو الفتح هذه القراءة لقبح حذف المبتدأ العائد ، وقال بعض نحويي الكوفة يصح أن يكون { أحسن } صفة ل { الذي } من حيث قارب المعرفة إذ لا تدخله الألف واللام كما تقول العرب مررت بالذي خير منك ولا يجوز«بالذي عالم » ، وخطأ الزجاج هذا القول الكوفي ، و { تفصيلاً } يريد بياناً وتقسيماً و { لعلهم } ترج بالإضافة إلى البشر ، و { بلقاء ربهم } أي بالبعث الذي الإيمان به نهاية تصديق الأنبياء صلوات الله عليهم ، إذ لا تلزمه العقول بذواتها وإنما ثبت بالسمع مع تجويز العقل له .
{ ثُمّ } هنا عاطفة على جملة : { قل تعالوا } [ الأنعام : 151 ] فليست عاطفة للمفردات ، فلا يُتوهَّم أنَّها لتراخي الزّمان ، بل تنسلخ عنه حين تعطف الجمل فتدل على التّراخي في الرّتبة ، وهو مهلة مجازيّة ، وتلك دلالة ( ثُم ) إذا عطفت الجُمَل . وقد استصعب على بعض المفسّرين مسلك ( ثُمّ ) في هذه الآية لأنّ إتيان موسى عليه السّلام الكتاب ليس برتبة أهمّ من رتبة تلاوة ما حرّمه الله من المحرّمات وما فرضه من اتّباع صراط الإسلام . وتعدّدت آراء المفسّرين في محمل ( ثُمّ ) هنا إلى آراء : للفراء ، والزجاج ، والزّمخشري ، وأبي مسلم ، وغيرهم ، كلّ يروم التخلّص من هذا المضيق .
والوجه عندي : أنّ ( ثُمّ ) ما فارقت المعروف من إفادة التّراخي الرّتبي ، وأنّ تراخي رتبة إيتاء موسى عليه السّلام الكتاب عن تلاوة ما حَرّم الله في القرآن ، وما أمر به من ملازمة صراط الإسلام ، إنَّما يظهر بعد النَّظر إلى المقصود من نظم الكلام ، فإنّ المقصود من ذكر إيتاء موسى عليه السّلام الكتاب ليس لذاته بل هو التّمهيد لقوله : { وهذا كتاب أنزلناه مبارك } [ الأنعام : 92 ] ليرتّب عليه قوله : { أن تقولوا إنَّما أنْزِل الكتابُ على طائفتين من قبلنا } إلى قوله : { وهدى ورحمة } [ الأنعام : 156 ، 157 ] ، فمعنى الكلام : وفوْق ذلك فهذا كتاب أنزلناه مبارك جمع فيه ما أوتيه موسى عليه السّلام ( وهو أعظم ما أوتيه الأنبياء من قبله ) وما في القرآن : الذي هو مصدّق لما بين يديه ومهيمن عليه ؛ إن اتَّبعتموه واتَّقيتم رَحمناكم ولا معذرة لكم أن تقولوا لو أنزل لنا كتاب لكنّا أفضل اهتداءً من أهل الكتابين ، فهذا غرض أهمّ جمعاً لاتّباع جميع ما اشتمل عليه القرآن ، وأدْخل في إقناع المخاطبين بمزية أخذهم بهذا الكتاب .
ومناسبة هذا الانتقال : ما ذكر من صراط الله الذي هو الإسلام ، فإنّ المشركين لمّا كذّبوا دعوة الإسلام ذكَّرهم الله بأنَّه آتى موسى عليه السّلام الكتاب كما اشتهر بينهم حسبما بيّناه عند قوله تعالى : { وما قدروا الله حق قدره إذ قالوا ما أنزل الله على بشر من شيء قل من أنزل الكتاب الذي جاء به موسى } ( 91 ) الآية ، في هذه السّورة ، لينتقل إلى ذكر القرآن والتّحريض على اتّباعه فيكون التّذكير بكتاب موسى عليه السّلام تمهيداً لذلك الغرض .
و{ الكتاب } هو المعهود ، أي التّوراة ، و { تماما } حال من الكتاب ، والتّمام الكمال ، أي كان ذلك الكتاب كمالاً لما في بني إسرائيل من الصّلاح الذي هو بقيّة ممّا تلقّوه عن أسلافهم : من صلاح إبراهيم ، وما كان عليه إسحاق ويعقوبُ والأسباط عليهم السّلام ، فكانت التّوراة مكمّلة لصلاحهم ، ومزيلة لما اعتراهم من الفساد ، وأنّ إزالة الفساد تكملة للصّلاح . ووصف التّوراة بالتّمام مبالغة في معنى المُتِمّ .
والموصول في قوله : { على الذي أحسن } مراد به الجنس ، فلذلك استوى مفرده وجمعه .
والمراد به هنا الفريق المحسن ، أي تماماً لإحسان المحسنين من بنِي إسرائيل ، فالفعل منزّل منزلة اللاّزم ، أي الذي اتَّصف بالإحسان .
والتّفصيل : التّبيين ، وقد تقدّم عند قوله تعالى : { وكذلك نفصّل الآيات } في هذه السّورة ( 55 ) .
و{ كلّ شيء } مراد به أعظم الأشياء ، أي المهمّات المحتاج إلى بيان أحكامها في أحوال الدّين . فتكون ( كلّ ) مستعملة في معنى الكثرة كما تقدّم في قوله تعالى : { ولئن أتيت الذين أوتوا الكتاب بكل آية ما تبعوا قبلتك } في سورة البقرة ( 145 ) . أو في معنى العظيم من الأشياء كأنَّه جمع الأشياء كلّها .
أو يراد بالشّيء : الشّيء المهمّ ، فيكون من حذف الصّفة ، كقوله : { يأخذ كل سفينة غصباً } [ الكهف : 79 ] ، أي كلّ سفينة صالحة ، ومثله قوله تعالى : { ما فرطنا في الكتاب من شيء } [ الأنعام : 38 ] .
وقوله : { لعلهم بلقاء ربهم يؤمنون } رجاء أن تؤمنوا بلقاء ربّهم ، والضّمير عائد إلى معلوم من المقام وهم بنو إسرائيل ، إذ قد علم من إيتاء موسى عليه السّلام الكتاب أنّ المنتفعين به هم قومه بنو إسرائيل ، ومعنى ذلك : لعلّهم إن تحَرّوا في أعمالهم ، على ما يناسب الإيمانَ بلقاء ربّهم ، فإنّ بني إسرائيل كانوا مؤمنين بلقاء الله من قبل نزول التّوراة ، ولكنّهم طرأ عليهم من أزمنة طويلة : من أطوار مجاورة القبط ، وما لحقهم من المذلّة والتغرّب والخصاصة والاستعباد ، ما رفع منهم العلم ، وأذْوَى الأخلاق الفاضلة ، فنسوا مراقبة الله تعالى ، وأفسدوا ، حتّى كان حالهم كحال من لا يؤمن بأنَّه يلقى الله ، فأراد الله إصلاحهم ببعثة موسى عليه السّلام ، ليرجعوا إلى ما كان عليه سلفهم الصّالح من مراقبة الله تعالى وخشية لقائه ، والرّغبة في أن يلقوه وهو راض عنهم . وهذا تعريض بأهل مكة ومن إليهم من العرب ، فكذلك كان سلفهم على هدى وصلاح ، فدخل فيهم من أضلّهم ولقَّنهم الشّرك وإنكارَ البعث ، فأرسل الله إليهم محمّدا صلى الله عليه وسلم ليردّهم إلى الهدى ويؤمنوا بلقاء ربّهم .