38- وأقسم : لئن سألت - يا محمد هؤلاء المشركين - من خلق السماوات والأرض ؟ ليقولن : الله هو الذي خلقهن . قل لهم - يا محمد - : أعقلتم فرأيتم الشركاء الذين تدعونهم من دون الله ، إن شاء الله ضري هل هن مزيلات عنى ضره ، أو شاء لي رحمة هل هن مانعات عنى رحمته ؟ قل لهم - يا محمد - : الذي يكفيني في كل شيء وحده ، عليه - لا على غيره - يعتمد المتوكلون المفوضون كل شيء إليه .
{ ولئن سألتهم من خلق السموات والأرض ليقولن الله } لوضوح البرهان على تفرده بالخالقية . { قل أفرأيتم ما تدعون من دون الله إن أرادني الله بضر هل هن كاشفات ضره } أي أرأيتم بعد ما تحققتم أن خالق العالم هو الله تعالى وأن آلهتكم إن أراد الله أن يصيبني بضر هل يكشفنه . { أو أرادني برحمة } بنفع . { هل هن ممسكات رحمته } فيمسكنها عني ، وقرأ أبو عمرو " كاشفات ضره " " ممسكات رحمته " بالتنوين فيهما ونصب ضره ورحمته { قل حسبي الله } كافيا في إصابة الخير ودفع الضر إذ تقرر بهذا التقرير أنه القادر الذي لا مانع لما يريده من خير أو شر . روي أن النبي صلى الله عليه وسلم سألهم فسكتوا فنزل ذلك ، وإنما قال { كاشفات } و { ممسكات } على ما يصفونها به من الأنوثة تنبيها على كمال ضعفها . { عليه يتوكل المتوكلون } لعلمهم بأن الكل منه تعالى .
هذا ابتداء احتجاج عليهم بحجة أخرى ، وجملتها أن وقفوا على الخالق المخترع ، فإذا قالو إنه الله لم يبق لهم في الأصنام غرض إلا أن يقولوا إنها تنفع وتضر ، فلما تقعد{[9900]} من قولهم إن الله هو الخالق ، قيل لهم { أفرأيتم } هؤلاء إذا أراد الله أمراً بهم قدرتم على نقضه ؟ وحذف الجواب عن هذا ، لأنه من البين أنه لا يجيب أحد إلا بأنه لا قدرة بالأصنام على شيء من ذلك .
وقرأ : «إن أرادنيَ » بياء مفتوحة جمهور القراء والناس . وقرأ الأعمش : { أرادني الله } بحذف الياء في الوصل ، وروى خارجة «إن أراد » بغير ياء .
وقرأ جمهور القراء والأعرج وأبو جعفر والأعمش وعيسى وابن وثاب : «كاشفاتُ ضرِّه » بالإضافة . وقرأ أبو عمر وأبو بكر عن عاصم : «كاشفاتٌ ضرَّه » بالتنوين والنصب في الراء ، وهي قراءة شيبة والحسن وعيسى بخلاف عنه وعمرو بن عبيد ، وهذا هو الوجه فيما لم يقع بعد ، وكذلك الخلاف في : { ممسكات رحمته }{[9901]} .
تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :
{ولئن سألتهم} يا محمد {من خلق السماوات والأرض} قال لهم النبي صلى الله عليه وسلم: من خلقهما؟ قالوا: الله خلقهما.
{ليقولن الله} قال الله عز وجل لنبيه، عليه السلام: {قل أفرأيتم ما تدعون} يعني تعبدون.
{من دون الله} من الآلهة {إن أرادني الله} يعني أصابني الله {بضر} يعني ببلاء أو شدة.
{هل هن} يعني الآلهة {كاشفات ضره}: هل تقدر الآلهة أن تكشف ما نزل بي من الضر.
{أو أرادني برحمة} يعني بخير وعافية {هل هن} يعني الآلهة {ممسكات رحمته}: هل تقدر الآلهة أن تحبس عني هذه الرحمة، فسألهم النبي صلى الله عليه وسلم عن ذلك فسكتوا ولم يجيبوه. قال الله عز وجل للنبي صلى الله عليه وسلم: {قل حسبي الله عليه يتوكل} يعني يثق.
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
ولئن سألت يا محمد هؤلاء المشركين العادلين بالله الأوثان والأصنام:"مَنْ خلق السموات والأرض"؟ ليقولنّ: الذي خلقهنّ الله، فإذا قالوا ذلك، فقل: أفرأيتم أيها القوم هذا الذي تعبدون من دون الله من الأصنام والآلهة.
"إنْ أرَادَنِي اللّهُ بِضُرَ": بشدة في معيشتي، هل هنّ كاشفات عني ما يصيبني به ربي من الضر؟
"أوْ أرَادَنِي بِرَحْمَةٍ": إن أرادني ربي أن يصيبني سعة في معيشتي، وكثرة مالي، ورخاء وعافية في بدني، هل هن ممسكات عني ما أراد أن يصيبني به من تلك الرحمة؟ وترك الجواب لاستغناء السامع بمعرفة ذلك، ودلالة ما ظهر من الكلام عليه. والمعنى: فإنهم سيقولون لا، فقل: حسبي الله مما سواه من الأشياء كلها، إياه أعبد، وإليه أفزع في أموري دون كلّ شيء سواه، فإنه الكافي، وبيده الضرّ والنفع لا إلى الأصنام والأوثان التي لا تضر ولا تنفع.
"عَلَيْه يَتَوَكّلُ المُتَوَكّلُونَ": على الله يتوكل من هو متوكل، وبه فليثق لا بغيره...
التبيان في تفسير القرآن للطوسي 460 هـ :
"قلط لهم يا محمد "حسبي الله "أي يكفني الله.
"عليه يتوكل المتوكلون "فالتوكل رد التدبير إلى من يقدر على الإحسان فيه، فلما كان لا يقدر على الإحسان في جميع التدبير الذي يصلح الإنسان إلا الله تعالى، وجب على كل عاقل التوكل عليه بما هو حسبه منه...
اعلم أنه تعالى لما أطنب في وعيد المشركين وفي وعد الموحدين، عاد إلى إقامة الدليل على تزييف طريقة عبدة الأصنام، وبنى هذا التزييف على أصلين:
الأصل الأول: هو أن هؤلاء المشركين مقرون بوجود الإله القادر العالم الحكيم الرحيم وهو المراد بقوله: {ولئن سألتهم من خلق السموات والأرض ليقولن الله} واعلم أن من الناس من قال إن العلم بوجود الإله القادر الحكيم الرحيم متفق عليه بين جمهور الخلائق لا نزاع بينهم فيه، وفطرة العقل شاهدة بصحة هذا العلم، فإن من تأمل في عجائب أحوال السموات والأرض وفي عجائب أحوال النبات والحيوان خاصة وفي عجائب بدن الإنسان وما فيه من أنواع الحكم الغريبة والمصالح العجيبة، علم أنه لا بد من الاعتراف بالإله القادر الحكيم الرحيم. والأصل الثاني: أن هذه الأصنام لا قدرة لها على الخير والشر وهو المراد من قوله:
{قل أفرأيتم ما تدعون من دون الله إن أرادني الله بضر هل هن كاشفات ضره أو أرادني برحمة هل هن ممسكات رحمته} فثبت أنه لا بد من الإقرار بوجود الإله القادر الحكيم الرحيم، وإذا كان الأمر كذلك كانت عبادة الله كافية، وكان الاعتماد عليه كافيا وهو المراد من قوله: {قل حسبي الله عليه يتوكل المتوكلون} فإذا ثبت هذا الأصل لم يلتفت العاقل إلى تخويف المشركين، فكان المقصود من هذه الآية هو التنبيه على الجواب عما ذكره الله تعالى قبل هذه الآية وهو قوله تعالى:
{ويخوفونك بالذين من دونه} وقرئ: {كاشفات ضره} و {ممسكات رحمته} بالتنوين على الأصل وبالإضافة للتخفيف، فإن قيل كيف قوله: {كاشفات} و
{ممسكات} على التأنيث بعد قوله: {ويخوفونك بالذين من دونه}؟ قلنا المقصود التنبيه على كمال ضعفها فإن الأنوثة مظنة الضعف؛ ولأنهم كانوا يصفونها بالتأنيث ويقولون اللات والعزى ومناة...
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
إذا كان الله هو خالق السماوات والأرض. فهل يملك أحد أو شيء في هذه السماوات والأرض أن يكشف ضراً أراد الله أن يصيب به عبداً من عباده؟ أم يملك أحد أو شيء في هذه السماوات والأرض أن يحبس رحمة أراد الله أن تنال عبداً من عباده؟ والجواب القاطع: أن لا.. فإذا تقرر هذا فما الذي يخشاه داعية إلى الله؟ ما الذي يخشاه وما الذي يرجوه؟ وليس أحد بكاشف الضر عنه؟ وليس أحد بمانع الرحمة عنه؟ وما الذي يقلقه أو يخيفه أو يصده عن طريقه؟ إنه متى استقرت هذه الحقيقة في قلب مؤمن فقد انتهى الأمر بالنسبة إليه. وقد انقطع الجدل. وانقطع الخوف وانقطع الأمل. إلا في جناب الله سبحانه. فهو كاف عبده وعليه يتوكل وحده (قل: حسبي الله. عليه يتوكل المتوكلون).. ثم إنها الطمأنينة بعد هذا والثقة واليقين. الطمأنينة التي لا تخاف. والثقة التي لا تقلق. واليقين الذي لا يتزعزع. والمضي في الطريق على ثقة بنهاية الطريق...
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
{وَلَئِن سَأَلْتَهُمْ مَّنْ خَلَقَ السماوات والأرض لَيَقُولُنَّ الله} اعتراض بين جملة {أليس الله بعزيز} وجملة {قل أفرأيتم ما تدعون من دون الله}، فالواو اعتراضية، ويجوز أن يكون معطوفاً على جملة {أليس الله بكاف عبده} وهو تمهيد لما يأتي بعده من قوله: {قُل أفرءيتُم ما تدعُون من دون الله}؛ لأنه قصد به التوطئة إليه بما لا نزاع فيه؛ لأنهم يعترفون بأن الله هو المتصرف في عظائم الأمور، أي خلقَهُما وما تحويانه.
جاءت جملة {قل أفرءيتم} على أسلوب حكاية المقاولة والمجاوبة لكلامهم المحكي بجملة {ليقولن الله} ولذلك لم تعطف الثانية بالواو ولا بالفاء، والمعنى: ليقولن الله فقل أفرأيتم ما تدعون من دون الله الخ. والفاء من {أفرءيتم} لتفريع الاستفهام الإنكاري على جوابهم تفريعاً يفيد محاجّتهم على لازم اعترافهم بأن الله هو خالق السماوات والأرض كما في قوله تعالى: {قل أفغير اللَّه تأمروني أعبد أيها الجاهلون}، وهذا تفريع الإلزام على الإقرار، والنتيجة على الدليل فإنهم لما أقروا بأنه خالق السمَاوات والأرض يلزمهم أن يقرّوا بأنه المتصرف فيما تحويه السماوات والأرض. والرؤية قلبية، أي أفظننتم، وجواب الشرط دليل على المفعول الثاني لفعل الرؤية، والتقدير: أرأيتم مَا تدعون من دون الله كاشفاتٍ ضرّه. والهمزة للاستفهام وهو إنكاري إنكاراً لهذا الظن.
وجيء بحرف {هل} في جواب الشرط وهي للاستفهام الإِنكاري أيضاً تأكيداً لما أفادته همزة الاستفهام مع ما في (هل) من إفادة التّحْقيق.
وضمير {هُنَّ} عائد إلى مَا الموصولة وكذلك الضمائر المؤنثة الواردة بعده ظاهرةً ومستترة؛ إما لأن (مَا) صْدَقَ ما الموصولة هُنا أحجار غيرُ عاقلة وجمع غير العقلاء يَجري على اعتبار التأنيث؛ ولأن ذلك يُصير الكلام من قبيل الكلام الموجه بأن آلهتهم كالإِناث لا تقدر على النصر.
والكاشفات: المزيلات، فالكشف مستعار للإِزالة بتشبيه المعقول وهو الضُرّ بشيء مستتر، وتشبيهِ إزالته بكشف الشيء المستور أي إخراجه، وهي مكنية والكشف استعارة تخييلية. والإِمساك أيضاً مكنية بتشبيه الرحمة بما يُسعَف به، وتشبيه التعرض لحصولها بإمساك صاحب المتاع متاعه عن طالبيه.
وعدل عن تعدية فعل الإِرادة للضر والرحمة، إلى تعديته لضمير المتكلم ذات المضرور والمَرحوم مع أن متعلق الإِرادات المعاني دون الذوات، فكان مقتضى الظاهر أن يقال: إن أراد ضرّي أو أراد رحمتي فحق فعل الإِرادة إذا قصد تعديته إلى شيئين أن يكون المرادُ هو المفعول، وأن يكون ما معه معدىًّ إليه بحرف الجرّ، نحو أردتُ خيراً لزيد، أو أردت به خيراً، فإذا عدل عن ذلك قصد به الاهتمام بالمراد به لإِيصال المراد إليه حتى كأن ذاته هي المراد لمن يريد إيصال شيء إليه، وهذا من تعليق الأحكام بالذوات. والمرادُ أحوال الذوات مثل {حُرمت عليكم الميتة} [المائدة: 3]، أي أكلها. ونظم التركيب: إن أرادني وأنا متلبس بضرّ منه أو برحمة منه، فَقَدْ ظَلَمْ.
وإنمَا فَرض إرادة الضر وإرادة الرحمة في نفسه دون أن يقول: إن أرادكم؛ لأن الكلام موجَّه إلى ما خوفوه من ضُر أصنامهم إياه.
وقرأ الجمهور {كاشفات ضُرِّه} و {ممسكات رحمته} بإضافة الوصفين إلى الاسمين وقرأ أبو عمرو ويعقوب بتنوين الوصفين ونَصب {ضُرَّه} و {رحمتَه} وهو اختلاف في لفظِ تعلُّق الوصف بمعموله والمعنى واحد.
ولمّا ألقمهم الله بهذه الحجة الحجَرَ وقطَعهم فلا يُحيروا ببنْت شَفَة أَمَر رسوله صلى الله عليه وسلم أن يقول: {حسبي الله عليه يتوكل المتوكلون}، وإنما أعيد الأمر بالقول ولم يَنتظِمْ {حسبي الله} في جملة الأمر الأول، لأن هذا المأمور بأن يقوله ليس المقصود توجيهه إلى المشركين فإن فيما سبقه مَقنَعاً من قلة الاكتراث بأصنامهم، وإنما المقصود أن يكون هذا القول شِعَارَ النبي صلى الله عليه وسلم في جميع شؤونه، وفيه حَظ للمؤمنين معه حاصل من قوله: {عليه يتوكل المتوكلون} قال تعالى: {يا أيها النبي حسبك اللَّه ومن اتبعك من المؤمنين} [الأنفال: 64]، فإعادة فعل {قل} للتنبيه على استقلال هذا الغرض عن الغرض الذي قبله. والحسْب: الكافي، وحُذف المتعلِّق في هذه الجملة لعموم المتعلِّقَات، أي حسبيَ الله من كل شيء وفي كل حال.
والمراد بقوله اعتقادُه، ثم تذكُّرُه، ثم الإِعلانُ به، لتعليم المسلمين وإغاظة المشركين.
والتوكل: تفويضُ أمور المفوِّض إلى من يَكفيه إياه، وتقدم في قوله: {فإذا عزمت فتوكل على اللَّه إن اللَّه يحب المتوكلين} في سورة [آل عمران: 159].
وجملة {عليه يتوكل المتوكلون} يجوز أن تكون مما أُمر بأن يقوله تذكراً من النبي صلى الله عليه وسلم وتعليماً للمسلمين فتكون الجملة تذييلاً للتي قبلها؛ لأنها أعمّ منها باعتبار القائلين؛ لأن {حسبي الله} يؤول إلى معنى: توكلت على الله، أي حَسبي أنا وحسب كل متوكل، أي كل مؤمن يعرف الله حق معرفته ويعتمد على كفايته دون غيره، فتعريف {المتوكلون} للعموم العرفي، أي المتوكلون الحقيقيون إِذ لا عبرة بغيرهم. ويجوز أن تكون من كلام الله تعالى خاطبَ به رسوله صلى الله عليه وسلم ولم يأمره بأن يقوله فتكون الجملة تعليلاً للأمر بقَول: {حسبي الله}، أي اجعَلْ الله حسبك؛ لأن أهل التوكل يتوكلون عَلَى الله دون غيره وهم الرسل والصالحون وإذ قد كنتَ من رفيقهم فكن مثلَهم في ذلك على نحو قوله تعالى:
{أولئك الذين هدى اللَّه فبهداهم اقتده} [الأنعام: 90].
وتقديم المجرور على يتوكَّلُ لإِفادة الاختصاص؛ لأن أهل التوكل الحقيقيين لا يتوكلون إلا على الله تعالى، وذلك تعريض بالمشركين إذ اعتمدوا في أمورهم على أصنامهم...
أراد الحق سبحانه أنْ يُسفِّه أحلامهم في أنْ يعبدوا أصناماً، وأراد سبحانه أنْ يقيم عليهم الدليل والحجة على بطلان هذه العبادة، وأنْ يكون هذا الدليلُ إقراراً منهم لا خبراً منه سبحانه، وقلنا: إن إثبات الحكم إما أن يكون خبراً منك، أو إقراراً من المقابل. والإقرار -كما قلنا- سيد الأدلة، وأنت لا تترك للمخاطب أنْ يحكم هو إلا إذا كنت واثقاً أنه سيقول ما تريده أنت، كما تقول لمن ينكر جميلك: ألم أُحْسن إليك يوم كذا وكذا؟ لا تقولها إلا وأنت واثقٌ أنه لا يستطيع أنْ ينكر.
لذلك فالحق سبحانه يسألهم هنا عن عمدة الكون في الخَلْق أو الظرف الأعلى الذي يحوي المخلوقات كلها وهو السماوات والأرض، فالإنسان خُلِق له الكون قبل أنْ يُخلق، فطرأ على أرض فيها زرع ونبات وماء وهواء وتربة صالحة، وطرأ على سماء فيها الكواكب والنجوم والشمس والقمر.
فقال سبحانه: {وَلَئِن سَأَلْتَهُمْ مَّنْ خَلَقَ السَّمَٰوَٰتِ وَالأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ..} [الزمر: 38] لا بدّ أنْ يقولوا الله، والله وحده لأنهم أداروا فكرهم فلم يجدوا أحداً ادعى هذا الخَلْق، ولم يأتِ ببال أحد من الكافرين أو المعاندين أو المنكرين لوجود الله لم يأت على باله أنْ يدّعي هذا الادعاء.
ولو تتبعنا خَلْق الإنسان من لَدُنْ آدم عليه السلام ومَنْ جاء من ذريته نجده طرأ على هذا الكون بسمائه وأرضه، فلو سألناه: أأنت خلقت السماء والأرض؟ لا يستطيع أنْ يقول: أنا خلقتهما.
فاسألهم أنت يا محمد هذا السؤال: {مَّنْ خَلَقَ السَّمَٰوَٰتِ وَالأَرْضَ} [الزمر: 38] ولا بدّ أنْ يقولوا (الله) لأنه ما مرّت فترة على موجود ليس في وجوده أرض وسماء، حتى يُقال إنه أوجدها لما جاء، بل الجميع طارئ على هذا الكون.
ومثلهما تماماً: {وَلَئِن سَأَلْتَهُم مَّنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ} [الزخرف: 87] لأن أول مخلوق خُلِق وأوجد لا يستطيع أحد أنْ يقول له: أنا خلقتك، ولا يقدر هو أنْ يقول خلقتُ نفسي.
وقولهم في الجواب هنا (الله) يلفتنا إلى مسألة أخرى، فالله لفظ دائر على ألسنتهم ويفهمون مدلوله وإلا ما نطقوا به، ذلك لأن المعاني توجَد أولاً، ثم تُوضع لها الألفاظ التي تدلّ عليها، ومثَّلْنا لذلك (بالتليفزيون) مثلاً، فقبل أنْ يوجد ما كنّا نعرف هذا الاسم، لكن لما وُجِد وضعنا له الاسم، إذن: كلمة الله كيف دخلتْ لغة الناس؟
إذن: فلفظ الجلالة الله له مدلوله، وهو الحق سبحانه موجود قبل أنْ يُوجد هذا اللفظ. لذلك نقول لمن ينكر وجودَ الله تعالى: كلامك متناقض، فقوْلك الله غير موجود لا يستقيم، لأن الله مبتدأ محكومٌ عليه وغير موجود خبر محكوم به، فكيف تقول إنه غير موجود، والمعنى يُوجد قبل لفظه؟
وكلمة الله ما وُجدَتْ في لغة إلا لأنه سبحانه موجود، موجود قبل الاسم ونحن ما عرفنا الاسم إلا لما أخبرنا به صاحبه؛ لأن عمل العقل في الإيمان أنْ يدلَّك على أن وراء هذا الكون خالقاً أوجده، لكن ما هذه القوة؟ وماذا تريد من الخَلْق؟ هذه ليستْ مهمة العقل، فالعقل لا يصل إليها، إنما نعرفها بالبلاغ عن هذا الخالق.
تذكرون أننا مثَّلنا هذه المسألة قلنا: نحن مثلاً جالسون في منزل ثم دقَّ جرس الباب، ساعة سمعنا الجرس اتفقنا جميعاً على أن أحداً بالباب، لأن كل حدث لا بُدَّ أنّ له محدثاً، لكن مَنْ هو؟ ماذا يريد؟ لا نعرف إلا إذا أخبرنا هو بماهيته وقال: أنا فلان، وأريد كذا وكذا.
إذن: فالعقل بالنسبة للوجود الأعلى لا يدرك مُشخَّصات الوجود الأعلى، إنما فقط يؤمن بوجوده ويستدل عليه، وهو سبحانه يخبرنا باسمه وصفاته ومنهجه ومطلوباته، فالبلاغ لا بُدَّ أنْ يكون من صاحب الشأن.
ومن خيبة الفلاسفة في البحث أنهم أرادوا أنْ يُدخِلوا العقل لا في المعقول فقط، إنما في تصور المعقول، والتصور ليس مهمتهم لأنك لا تستطيع أنْ تتصوَّر شكلَ هذا المعقول، أنت تعقل الموجود فقط ثم تترك للوجود أنْ يتكلم عن نفسه...
فالحق سبحانه قال وأخبر أنه هو الذي خلق هذا الخَلْق، فهذا الوجود لا يوجد إلا إذا أوجده واجد وأنا الذي أوجدته، ولم يَقُم لهذه الدَّعْوى معارض إذن: تثبت الدعوى لصاحبها إلى أنْ يُوجدَ معارض.
لذلك سبق أنْ قلنا: إن كلمة الكفر هي نفسها دليلُ الإيمان، لأن الكفر معناه الستر، ولا يستر إلا موجود، فكأن الكفر طارئ على الإيمان، كأن الأصل في الفطرة السليمة الإيمان، ثم طرأ عليه الكفر ليستره.
وبعد أنْ قالوا (الله) وأقروا الحجة الأولى في أنه سبحانه خالق السماوات والأرض قال لهم {قُلْ أَفَرَأَيْتُم مَّا تَدْعُونَ مِن دُونِ اللَّهِ..} [الزمر: 38] يعني: أخبروني فأمَّنهم أن يقولوا هم وأنْ يخبروا عن الذين يدعونهم من دون الله أي الأصنام {إِنْ أَرَادَنِيَ اللَّهُ بِضُرٍّ هَلْ هُنَّ..} [الزمر: 38] أي: الأصنام {كَاشِفَاتُ ضُرِّهِ..} [الزمر: 38] الجواب لا يكون إلا بالنفي، لأن الأصنام أولاً لا تسمع ضراعة مَنْ يتضرع لها، ولا يدركون مطلوبه، فكيف يجيبونه في كشف الضر عنه؟
وفي المقابل: {أَوْ أَرَادَنِي بِرَحْمَةٍ هَلْ هُنَّ..} [الزمر: 38] أي: الأصنام {مُمْسِكَاتُ رَحْمَتِهِ} [الزمر: 38] الجواب أيضاً بالنفي، إذن: ثبت النفع لله بإقرارهم، وثبت البطلان لآلهتهم، لكن إنْ تلجلجوا بعد ذلك فلم يجيبوك لأن الجواب سيلزمهم الحجة فَقُلْ: {حَسْبِيَ اللَّهُ..} [الزمر: 38] أي: في إيجاد النافع في خَلْق السماوات والأرض، وحَسْبي الله في دفع الضر عني، فهو يكفيني.
وهذا معنى قوله تعالى في الآية السابقة: {أَلَيْسَ اللَّهُ بِكَافٍ عَبْدَهُ} [الزمر: 36] كافيه يعني: يعطيه النعمة نعمة الوجود أولاً، ثم نعمة امتداد هذا الوجود واستبقاء الحياة، ثم نعمة استبقاء النوع، وبعد ذلك يرفع عنه الضر إنْ أصابه ونزل به، والإنسان إذا مسَّه الضر في نفسه لا يتجه إلى إله باطل أبداً، لأنه لا يخدع نفسه ولا يكذب عليها، لذلك قال سبحانه: {ضَلَّ مَن تَدْعُونَ إِلاَّ إِيَّاهُ} [الإسراء: 67].
وقوله: {عَلَيْهِ يَتَوَكَّـلُ الْمُتَوَكِّلُونَ} [الزمر: 38] هنا أسلوب قَصْر، يقصر التوكل على الله وحده، وهذا هو التوكل الحقيقي؛ لأن المتوكل على شيء يجعل لقوته رصيداً إذا ذهبتْ هذه القوة، لذلك فالعاقل هو الذي يتوكل على مَنْ يغيثه ويُعينه وإذا احتاج إليه وجده، وقلنا: خاب مَنْ توكل على مثله لأنك تتوكل عليه، وتأمل عنده قضاء حاجاتك، وبعد أيام تقرأ نَعْيه في الجرائد، لذلك يُعلمنا ربنا سبحانه كيف نتوكل، فيقول: {وَتَوَكَّلْ عَلَى الْحَيِّ الَّذِي لاَ يَمُوتُ} [الفرقان: 58].
وفرْق بين التوكل والتواكل؛ لأنه يد الله مُدَّتْ قديماً بالأسباب للخَلْق، أسباب استبقاء الحياة بالطعام والشراب، وأسباب استبقاء النوع بالتزاوج.
الحق سبحانه حينما ضمن لنا هذه الأسباب جعل لنا دوراً فيها، فالأرض مثلاً أمامك، والشمس تشرق عليها، والهواء يهبُّ عليها، والمطر يسقيها، وعليك أنت أنْ تستغلَّ هذه الأسباب بأنْ تحرثَ الأرضَ وتبذر البذور وترعاها لتعطيك الأرض من خيراتها، ولا تنتظر أنْ تجلس في بيتك والأسباب تأتيك بالطعام تضعه على مائدتك؛ لأن ربك خلقك وخلق لك الجوارح، وجعلها تنفعل لإرادتك فيدُكَ يمكن أن تضرب بها، ويمكن أن تمسح بها على رأس يتيم، لسانك يمكن أنْ تنطق به كلمة التوحيد، ويمكن أن تنْطق به ما ينافيها.
لكن تذكَّر أن جوارحك خاضعة لمرادك في الدنيا فقط، أما في الآخرة فلا ولاية لك عليها، لأنها ستكون في ولاية خالقها، يوم يقول سبحانه: {لِّمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ} [غافر: 16] وعندها تتحرر جوارحك من ولايتك وتشهد عليك: {يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ وَأَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ} [النور: 24].
هذه الأسباب وهذه الجوارح التي خلقها الله لك ما خلقها لتعطلها أنت، فإنْ كان العمل في إمكانك وطلبته من غيرك، فهذا هو التواكل، أنْ تهمل أسباب الله وتغفل عن هذه المملكة التي جعلها الله تدين لك وتطاوعك، وتأتمر بأمرك لمجرد الإرادة، هذه عزة متَّعكَ الله بها في ذاتك، فكيف تذلّ نفسك بالتوكل على مثلك؟ وكيف ترد يد الله الممدودة إليك؟
فإنْ أخذتَ بالأسباب، وأعملتَ عقلك وجوارحك فيما أعطاه اللهُ لك فأنت متوكل، وحقيقة التوكل أنْ تعمل بالجوارح وتتوكل على الله بالقلب، وتوقَّع أنْ يصيبك الابتلاء فتعمل وتأخذ بالأسباب ولا تعطيك، كالذي يزرع الأرض وتأتي جائحة فتقضي على المحصول مثلاً.