169- فجاء من بعد الذين ذكرناهم وقسمناهم إلى القسمين ، خلف سُوءٍ ورثوا التوراة عن أسلافهم ولكنهم لم يعملوا بها ، لأنهم يأخذون متاع الدنيا عوضا عن قول الحق ، ويقولون في أنفسهم : سيغفر اللَّه لنا ما فعلناه . يرجون المغفرة . والحال أنهم إن يأتهم شيء مثل ما أخذوه يأخذوه . فهم مصرون على الذنب مع طلب المغفرة ، ثم وبخهم الله على طلبهم المغفرة مع إصرارهم على ما هم عليه ، فقال : إنا أخذنا عليهم العهد في التوراة ، وقد درسوا ما فيها ، أن يقولوا الحق ، فقالوا الباطل ، وإن نعيم الدار الآخرة للذين يتقون المعاصي خير من متاع الدنيا . أتستمرون على عصيانكم فلا تعقلون أن ذلك النعيم خير لكم ، وتؤثرون عليه متاع الدنيا ؟
ثم قال تعالى : { فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ وَرِثُوا الْكِتَابَ يَأْخُذُونَ عَرَضَ هَذَا الأدْنَى وَيَقُولُونَ سَيُغْفَرُ لَنَا وَإِنْ يَأْتِهِمْ عَرَضٌ مِثْلُهُ يَأْخُذُوهُ } يقول تعالى : فخلف من بعد ذلك الجيل الذين فيهم الصالح والطالح ، خلف آخر لا خير فيهم ، وقد ورثوا دراسة [ هذا ]{[12288]} الكتاب وهو التوراة - وقال مجاهد : هم النصارى - وقد يكون أعم من ذلك ، { يَأْخُذُونَ عَرَضَ هَذَا الأدْنَى } أي : يعتاضون عن بذل الحق ونشره بعَرَض الحياة الدنيا ، ويسرفون أنفسهم ويعدونها بالتوبة ، وكلما لاح لهم مثل الأول وقعوا فيه ؛ ولهذا قال : { وَإِنْ يَأْتِهِمْ عَرَضٌ مِثْلُهُ يَأْخُذُوهُ } كما قال سعيد بن جبير : يعملون الذنب ، ثم يستغفرون الله منه ، فإن عرض ذلك الذنب أخذوه .
وقول مجاهد في قوله : { يَأْخُذُونَ عَرَضَ هَذَا الأدْنَى } قال : لا يشرف لهم شيء من الدنيا إلا أخذوه ، حلالا كان أو حرامًا ، ويتمنون المغفرة ، ويقولون : { سَيُغْفَرُ لَنَا } وإن يجدوا عَرَضًا مثله يأخذوه .
وقال قتادة في : { فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ } أي : والله ، لخلف سوء ، ورثوا الكتاب بعد أنبيائهم ورسلهم ، ورثهم الله وعهد إليهم ، وقال الله في آية أخرى : { فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُوا الصَّلاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ } [ مريم : 59 ] ، قال { يَأْخُذُونَ عَرَضَ هَذَا الأدْنَى وَيَقُولُونَ سَيُغْفَرُ لَنَا } تمنوا على الله أماني ، وغرَّة يغترون بها ، { وَإِنْ يَأْتِهِمْ عَرَضٌ مِثْلُهُ يَأْخُذُوهُ } لا يشغلهم شيء عن شيء ، ولا ينهاهم شيء عن ذلك ، كلما هف لهم شيء من [ أمر ]{[12289]} الدنيا أكلوه ، ولا يبالون حلالا كان أو حرامًا .
وقال السُّدِّي [ في ]{[12290]} قوله : { فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ } إلى قوله : { وَدَرَسُوا مَا فِيهِ } قال : كانت بنو إسرائيل لا يستقضون قاضيا إلا ارتشى في الحكم ، وإن خيارهم اجتمعوا ، فأخذ بعضهم على بعض العهود ألا يفعلوا ولا يرتشى ، فجعل الرجل منهم إذا استقضى ارتشى ، فيقال له : ما شأنك ترتشي في الحكم ، فيقول : " سيغفر لي " ، فتطعن عليه البقية الآخرون من بني إسرائيل فيما صنع ، فإذا مات ، أو نزع ، وجعل مكانه رجل ممن كان يطعن عليه ، فيرتشي . يقول : وإن يأت الآخرين عرض الدنيا يأخذوه .
قال الله تعالى : { أَلَمْ يُؤْخَذْ عَلَيْهِمْ مِيثَاقُ الْكِتَابِ أَنْ لا يَقُولُوا عَلَى اللَّهِ إِلا الْحَقَّ وَدَرَسُوا مَا فِيهِ } يقول تعالى منكرًا عليهم في صنيعهم هذا ، مع ما أخذ عليهم من الميثاق ليبينن الحق للناس ، ولا يكتمونه كقوله : { وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلا تَكْتُمُونَهُ فَنَبَذُوهُ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ وَاشْتَرَوْا بِهِ ثَمَنًا قَلِيلا فَبِئْسَ مَا يَشْتَرُونَ } [ آل عمران : 187 ]
وقال ابن جُرَيْج : قال ابن عباس : { أَلَمْ يُؤْخَذْ عَلَيْهِمْ مِيثَاقُ الْكِتَابِ أَنْ لا يَقُولُوا عَلَى اللَّهِ إِلا الْحَقَّ } قال : فيما يوجبون على الله من غفران ذنوبهم التي لا يزالون يعودون فيها ، ولا يتوبون منها .
وقوله تعالى : { وَالدَّارُ الآخِرَةُ خَيْرٌ لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ أَفَلا تَعْقِلُونَ } يرغبهم تعالى في جزيل ثوابه ، ويحذرهم من وبيل عقابه ، أي : وثوابي وما عندي خير لمن اتقى المحارم ، وترك هوى نفسه ، وأقبل على طاعة ربه .
{ أَفَلا تَعْقِلُونَ } يقول : أفليس لهؤلاء الذين اعتاضوا بعَرَض الدنيا عما عندي عقل يردعهم عما هم فيه من السفه والتبذير ؟
جملة { فخلف } تفريع على قوله : { وقطّعناهم } [ الأعراف : 168 ] إن كان المراد تقطيعهم في بلاد أعدائهم وإخراجهم من مملكتهم ، فتكون الآية مشيرة إلى عودة بني إسرائيل إلى بلادهم في عهد الملك ( كورش ) ملك الفرس في حدود سنة 530 قبل الميلاد ، فإنه لما فتح بلاد أشور أذن لليهود الذين أسرهم ( بختنصر ) أن يرجعوا إلى بلادهم فرجعوا ، وبنوا بيت المقدس بعد خرابه على يد ( نحميا ) و ( عزرا ) كما تضمنه سفر نحميا وسفر عزرا ، وكان من جملة ما أحيوه أنهم أتوا بسفر شريعة موسى الذي كتبه عزرا وقرأوه على الشعب في ( أورشليم ) فيكون المراد بالخلْف ما أوّله ذلك الفلّ من بني إسرائيل الذين رجعوا من أسر الآشوريين . والمراد بإرث الكتاب إعادة مزاولتهم التوراة التي أخرجها إليهم ( عزرا ) المعروف عند أهل الإسلام باسم عُزَير ، ويكون أخذهم عرض الأدنى أخذَ بعض الخلف لا جميعه ، لأن صدر ذلك الخلف كانوا تائبين وفيهم أنبياء وصالحون .
وإن كان المراد من تقطيعهم في الأرض أمماً تكثيرَهم والامتنانَ عليهم ، كان قوله : { فخلف من بعدهم خلف } تفريعاً على جميع القصص المتقدمة التي هي قصص أسلافهم ، فيكون المراد بالخلْف من نشأ من ذرية أولئك اليهود بعد زوال الأمة وتفرقها ، منهم الذين كانوا عند ظهور الإسلام ، وهم اليهود الذين كانوا بالمدينة ، وإلى هذا المعنى في ( الخلْف ) نحا المفسرون .
والخلْف بسكون اللام من يأتي بعد غيره سابِقِه في مكان أو عمل أو نسل ، يُبينه المقام أو القرينة ، ولا يغلب فيمن يخلف في أمر سيء ، قاله النضر بن شُميل ، خلافاً لكثير من أهل اللغة إذ قالوا : الأكثر استعمال الخلْف بسكون اللام فيمن يخلف في الشر ، وبفتح اللام فيمن يخلف في الخير ، وقال البصريون : يجوز التحريك والإسكان في الرديء ، وأما الحسن فبالتحريك فقطْ .
وهو مصدر أريد به اسم الفاعل أي خَالِف ، والخَلْف مأخوذ من الخَلَفْ ضد القدّام لأن من يجيء بعد قوم فكأنه جاء من ورائهم ، وَلاَ حَد لآخر الخلف ، بل يكون تحديده بالقرائن ، فلا ينحصر في جيل ولا في قرن ، بل قد يكون الخلف ممتداً ، قال تعالى بعد ذكر الأنبياء { فخلف من بعدهم خلفٌ أضاعوا الصلاة واتّبعوا الشهوات } [ مريم : 59 ] فيشمل من خلفهم من ذرياتهم من العرب واليهود وغيرهم ، فإنه ذكر من أسلافهم إدريسَ وهو جد نوح .
و { ورثوا } مجازٌ في القيام مقام الغير كما تقدم في قوله تعالى : { ونودوا أن تلكم الجنة أورثتموها } في هذه السورة ( 43 ) وقوله فيها : { أو لم يهد للذين يرثون الأرض من بعد أهلها } [ الأعراف : 100 ] فهو بمعنى الحلفية ، والمعنى : فخلف من بعدهم خلف في إرث الكتاب ، وهذا يجري على كلا القولين في تخصيص الخلف ، لأنه بيان للفعل لا لاسم الخلف .
وجملة : { يأخذون عرض هذا الأدنى } حال من ضمير { ورثوا } ، والمقصود هو ذم الخلف بأنهم يأخذون عرض الأدنى ويقولون سيغفر لنا ، ومهد لذلك بأنهم ورثوا الكتاب ليدل على أنهم يفعلون ذلك عن علم لا عن جهل ، وذلك أشد مذمة ، كما قال تعالى : { وأضله الله على علمٍ } [ الجاثية : 23 ] .
ومعنى الأخذ هنا الملابسة والاستعمال فهو مجاز أي : يلابسونه ، ويجوز كونه حقيقة كما سيأتي .
والعَرَض بفتح العين وفتح الراء الأمر الذي يزول ولا يدوم . ويراد به المال ، ويراد به أيضاً ما يعرض للمرء من الشهوات والمنافع .
والأدنى الأقرب من المكان ، والمراد به هنا الدنيا ، وفي اسم الإشارة إيماء إلى تحقير هذا العرض الذي رغبوا فيه كالإشارة في قول قيس بن الخطيم :
متى يات هذَا الموت لا يُلَفِ حاجة *** لنفسيَ إلاّ قد قضيت قضاءَها
وقد قيل : أَخذ عرض الدنيا أريد به ملابسة الذنوب ، وبذلك فسر سعيد بن جبير ، ومجاهد ، وقتادة ، والطبري ، فيشمل كل ذنب ، ويكون الأخذ مستعملاً في المجاز وهو الملابسة ، فيصدق بالتناول باليد وبغير ذلك ، فهو من عموم المجاز ، وقيل عرض الدنيا هو الرّشا وبه فسّرالسّدي ، ومعظمُ المفسرين ، فيكون الأخذ مستعملاً في حقيقته وهو التناول ، وقد يترجح هذا التفسير بقوله { وإن يأتهم عَرَض } كما سيأتي .
والقول في : { ويقولون } هو الكلام اللساني ، يقولون لمن ينكر عليهم ملابسة الذنوب وتناول الشهوات ، لأن ( ما ) بعد يقولون يناسبه الكلام اللفظي ، ويجوز أن يكون الكلام النفساني ، لأنه فرع عنه ، أي قولهم في أنفسهم يعللونها به حين يجيش فيها وازع النهي ، فهو بنمزلة قوله تعالى : { ويقولون في أنفسهم لولا يعذبنا الله بما نقول } [ المجادلة : 8 ] وذلك من غرورهم في الدين .
وبناء فعل « يُغفر » على صيغة المجهول لأن الفاعل معروف ، وهو الله ، إذ لا يصدر هذا الفعل إلاّ عنه ، وللدلالة على أنهم يقولون ذلك على وجه العموم لا في خصوص الذنب الذي أنكر عليهم ، أو الذي تلبَّسُوا به حين القول ، ونائب الفاعل محذوف لعلمه من السياق ، والتقدير : سيُغفر لنا ذلك ، أو ذُنوبنا ، لأنهم يحسبون أن ذنوبهم كلها مغفورة { وقالوا لن تمسنا النار إلاّ أياماً معدودة } كما تقدم في سورة البقرة ( 80 ) ، أي يغفر لنا بدون سبب المغفرة ، وهو التوبة كما يعلم من السياق ، وهو جزمهم بذلك عقب ذكر الذنب دون ذكر كفارة أو نحوها .
وقوله { لنا } لا يصلح للنيابة عن الفاعل ، لأنه ليس في معنى المفعول ، إذ فعل المغفرة يتعدّى لمفعول واحد ، وأما المجرور بعده باللام فهو في معنى المفعول لأجله ، يقال : غفر الله لك ذنبك ، كما قال تعالى : { ألم نشرح لك صدرك } [ الشرح : 1 ] فلو بُني شُرح للمجهول لما صح أن يجعل { لك } نائِباً عن الفاعل .
وجملة : { ويقولون سيُغفر لنا } معطوفة على جملة ، { يأخذون } لأن كِلا الخبرين يوجب الذم ، واجتماعهما أشد في ذلك .
وجملة : { وَإنْ يأتهم عرض مثلُه يأخذوه } معطوفة على التي قبلها ، واستعير إتيان العرْض لبذله لهم إن كان المراد بالعرض المالَ ، وقد يُراد به خطور شهوته في نفوسهم إن كان المراد بالعرض جميع الشهوات والملاذ المحرمة ، واستعمال الإتيان في الذوات أنسب من استعماله في خطور الأعراض والأمور المعنوية ، لقرب المشابهة في الأول دون الثاني .
والمعنى : أنهم يعصون ، ويزعمون أن سيّئاتهم مغفورة ، ولا يُقلعون عن المعاصي .
وجملة : { ألم يؤخذ عليهم ميثاق الكتاب } جواب عن قولهم : { سيُغفر لنا } إبطالاً لمضمونه ، لأن قولهم : { سيغفر لنا } يتضمن أنهم يزعمون أن الله وعدهم بالمغفرة على ذلك ، والجملة معترضة في أثناء الإخبار عن الصالحين وغيرهم ، والمقصود من هذه الجملة إعلام النبي صلى الله عليه وسلم ليحجهم بها ، فهم المقصود بالكلام . كما تشهد به قراءة { أفلا تعقلون } بتاء الخطاب .
والاستفهام للتقرير المقصود منه التوبيخ ، وهذا التقرير لا يسعهم إلاّ الاعتراف به ، لأنه صريح كتابهم ، في الإصحاح الرابع من السفر الخامس « لا تزيدوا على الكلام الذي أوصيكم به ولا تنقصوا منه لكي تحفظوا وصايا الرب » ولا يجدون في الكتاب أنهم يغفر لهم ، وإنما يجدون فيه التوبة كما في الإصحاح من سفر التثنية ، وكما في سفر الملوك الأول في دعوة سليمان حين بنى الهيكل في الإصحاح الثامن ، فقولهم : { سيغفر لنا } تقوّل على الله بما لم يقله .
والميثاق : العهد ، وهو وصية موسى التي بلّغها إليهم عن الله تعالى في مواضع كثيرة ، وإضافة الميثاق إلى الكتاب على معنى ( في ) أو على معنى اللام أي الميثاق المعروف به ، والكتاب توراة موسى ، وأن لا يقولوا هو مضمون ميثاق الكتاب فهو على حذف حرف الجر قبل ( أن ) الناصبة ، والمعنى : بأن لا يقولوا ، أي بانتفاء قولهم على الله غيرَ الحق ، ويجوز كونه عطف بيان من ميثاق ، فلا يقدر حرف جر ، والتقدير : ميثاق الكتاب انتفاءُ قولهم على الله الخ .
وفعل { درسوا } عطف على { يؤخذ } ، . لأن يؤخذ في معنى المضي ، لأجل دخول لم عليه ، والتقدير : ألم يؤخذ ويدرسوا ، لأن المقصود تقريرهم بأنهم درسوا الكتاب ، لا الإخبار عنهم بذلك كقوله تعالى : { ألم نجعل الأرض مهاداً والجبالَ أوتاداً وخلقناكم أزواجاً وجعلنا نومكم سُباتاً } إلى قوله { وأنزلنا من المعصرات ماءً ثجاجاً } [ النبإ : 6 14 ] والتقدير : ونخلقكم أزواجاً ونجعل نومكم سباتاً ، إلى آخر الآية .
والمعنى : أنهم قد أخذ عليهم الميثاق بأن لا يقولوا على الله إلاّ الحق ، وهم عالمون بذلك الميثاق ، لأنهم درسوا ما في الكتاب فبمجموع الأمرين قامت عليهم الحجة .
وجملة : { والدارُ الآخرة خير للذين يتقون } حالية من ضمير { يأخذون } أي : يأخذون ذلك ويكذبون على الله ويصرون على الذنب وينبذون ميثاق الكتاب على علم في حال أن الدار الآخرة خير مما تعجّلوه ، وفي جعل الجملة في موضع الحال تعريض بأنهم يعلمون ذلك أيضاً فهم قد خيّروا عليه عرض الدنيا قصداً ، وليس ذلك عن غفلة صادفتهم فحرمتهم من خير الآخرة ، بل هم قد حَرموا أنفسهم ، وقرينة ذلك قوله : { أفلا تعقلون } المتفرع على قوله : { والدار الآخرة خير للذين يتقون } وقد نُزلوا في تخيرهم عرض الدينا بمنزلة من لا عقول لهم ، فخوطبوا ب { أفلا تعقلون } بالاستفهام الإنكاري ، وقد قريء بتاء الخطاب ، على الإلتفات من الغيبة إلى الخطاب .
ليكون أوقع في توجبه التوبيخ إليهم مواجهة ، وهي قراءةَ نافع ، وابن عامر ، وابن ذكوان ، وحفص عن عاصم ، ويعقوب ، وأبي جعفر ، وقرأ البقية بياء الغيبة ، فيكون توبيخهم تعريضياً .
وفي قوله : { والدارُ الآخرة خير للذين يتقون } كناية عن كونهم خَسروا خير الآخرة بأخذهم عرض الدنيا بتلك الكيفية ، لأن كون الدار الآخرة خيراً مما أخذوه يستلزم أن يكون ما أخذوه قد أفات عليهم خيرَ الآخرة .
وفي جعل الآخرة خير للمتقين كناية عن كون الذين أخذوا عَرض الدنيا بتلك الكيفية لم يكونوا من المتقين ، لأن الكناية عن خسرانهم خيرَ الآخرة مع إثبات كون خير الآخرة للمتقين تستلزم أن الذين أضاعوا خير الآخرة ليسوا من المتقين ، وهذه معان كثيرة جمعها قوله : { والدارُ الآخرة خير للذين يتقون أفلا تعقلون } وهذا من حَد الإعجاز العجيب .
تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :
{فخلف من بعدهم}، يعني من بعد بني إسرائيل، {خلف} السوء وهم اليهود، {ورثوا الكتاب}، يعني ورثوا التوراة عن أوائلهم وآبائهم، {يأخذون عرض هذا الأدنى}، وهي الدنيا، لأنها أدنى من الآخرة، يعني الرشوة في الحكم، {ويقولون سيغفر لنا}، فكانوا يرشون بالنهار، ويقولون: يغفر لنا بالليل، {وإن يأتهم عرض مثله}، يعني رشوة مثله ليلا، {يأخذوه}، ويقولون: يغفر لنا بالنهار، يقول الله: {ألم يؤخذ عليهم ميثاق الكتاب}، يعني بغير ما يقولون، لقد أخذ عليهم في التوراة أن لا يستحلوا محرما، و {أن لا يقولوا على الله إلا الحق} في التوراة، {ودرسوا}، يعني وقرأوا {ما فيه}، ما في التوراة، {والدار الآخرة}، يعني الجنة، {خير للذين يتقون}، استحلال المحارم، {أفلا تعقلون}...
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
يقول تعالى ذكره: فخلف من بعد هؤلاء القوم الذين وصف صفتهم خلْف يعني خلف سوء، يقول: حدث بعدهم وخلافهم، وتبدّل منهم بدل سوء، يقال منه: هو خَلَفُ صدق، وخَلْفُ سوءٍ، وأكثر ما جاء في المدح بفتح اللام وفي الذمّ بتسكينها... وأحسب أنه إذا وجه إلى الفساد مأخوذ من قولهم: خلف اللبن: إذا حمض من طول تركه في السقاء حتى يفسد، فكأنّ الرجل الفاسد مشبّه به، وقد يجوز أن يكون منه قولهم: خَلَف فم الصائم: إذا تغيرت ريحه... وقيل: إن الخلْف الذي ذكر الله في هذه الآية أنهم خلَفوا مَن قَبلهم هم النصارى... والصواب من القول في ذلك عندي أن يقال: إن الله تعالى إنما وصف أنه خلَف القوم الذي قصّ قصصهم في الآيات التي مضت خلف سُوء رديء، ولم يذكر لنا أنهم نصارى في كتابه، وقصتهم بقصص اليهود أشبه منها بقصص النصارى. وبعدُ، فإن ما قبل ذلك خبر عن بني إسرائيل وما بعده كذلك، فما بينهما بأن يكون خبرا عنهم أشبه، إذ لم يكن في الآية دليل على صرف الخبر عنهم إلى غيرهم، ولا جاء بذلك دليل يوجب صحة القول به.
فتأويل الكلام إذن: فتبدّل من بعدهم بَدَلُ سوء، ورثوا كتاب الله: تعلموه، وضيعوا العمل به فخالفوا حكمه، يُرْشَوْنَ في حكم الله، فيأخذون الرشوة فيه من عرض هذا العاجل الأدنى، يعني بالأدنى: الأقرب من الآجل الأبعد، ويقولون إذا فعلوا ذلك: إن الله سيغفر لنا ذنوبنا تمنيا على الله الأباطيل، كما قال جلّ ثناؤه فيهم:"فَوَيْلٌ للّذِينَ يَكْتُبُونَ الكِتابَ بِأيْدِيهِمْ ثّم يَقُولُونَ هَذَا مِنْ عِنْدِ اللّهِ لِيَشْتَرُوا بِهِ ثَمَنا قَلِيلاً فَوَيْلٌ لَهُمْ مِمّا كَتَبَتْ أيْدِيهِمْ وَوَيْلٌ لَهُمْ مِمّا يَكْسِبونَ". "وَإنْ يَأْتِهِمْ عَرَضٌ مِثْلُه يأخُذُوهُ "يقول: وإن شرع لهم ذنب حرام مثله من الرشوة بعد ذلك أخذوه واستحلوه، ولم يرتدعوا عنه. يخبر جلّ ثناؤه عنهم أنهم أهل إصرار على ذنوبهم، وليسوا بأهل إنابة ولا توبة.
عن سعيد بن جبير: "يَأْخُذُونَ عَرَضَ هَذَا الأدْنَى وَيَقُولُونَ سَيُغْفَرُ لَنا "قال: يعملون بالذنوب، "وَإنْ يَأْتِهِمْ عَرَضٌ مِثْلُه يأخُذُوهُ": قال: ذنب آخر يعملون به...
"ألَمْ يُؤخَذْ عَلَيْهِمْ مِيثاقُ الكِتابِ ألاّ يَقُولُوا على اللّهِ إلاّ الحَقّ وَدَرَسُوا ما فِيهِ والدّارُ الاَخِرَةُ خَيْرٌ للّذِينَ يَتّقُونَ أفَلا تَعْقِلُونَ" يقول تعالى ذكره: ألم يؤخذ على هؤلاء المرتشين في أحكامهم، القائلين: سيغفر الله لنا فعلنا هذا، إذا عوتبوا على ذلك ميثاقُ الكتاب، وهو أخذ الله العهود على بني إسرائيل بإقامة التوراة والعمل بما فيها. فقال جلّ ثناؤه لهؤلاء الذين قصّ قصتهم في هذه الآية موبخا لهم على خلافهم أمره ونقضهم عهده وميثاقه: ألم يأخذ الله عليهم ميثاق كتابه "ألاّ يَقُولُوا على اللّهِ إلاّ الحَقّ" ولا يضيفوا إليه إلا ما أنزله على رسوله موسى صلى الله عليه وسلم في التوراة، وأن لا يكذبوا عليه؟... قال ابن عباس: "ألَمْ يُؤخَذْ عَلَيْهِمْ مِيثاقُ الكِتابِ ألاّ يَقُولُوا على اللّهِ إلاّ الحَقّ" قال: فيما يوجبون على الله من غفران ذنوبهم التي لا يزالون يعودون فيها ولا يتوبون منها.
وأما قوله: "وَدَرَسُوا ما فِيهِ" فإنه معطوف على قوله: "وَرِثُوا الكِتابَ" ومعناه: فخلف من بعدهم خلف ورثوا الكتاب، ودرسوا ما فيه. ويعني بقوله: "وَدَرَسُوا ما فِيهِ" قرأوا ما فيه. يقول: ورثوا الكتاب فعلموا ما فيه ودرسوه، فضيعوه وتركوا العمل به، وخالفوا عهد الله إليهم في ذلك...
"والدّارُ الآخِرَةُ خَيْرٌ للّذِينَ يَتّقُونَ" يقول جلّ ثناؤه: وما في الدار الآخرة، وهو ما في المعاد عند الله مما أعدّ لأوليائه والعاملين بما أنزل في كتابه المحافظين على حدوده، خير للذين يتقون الله ويخافون عقابه، فيراقبونه في أمره ونهيه، ويطيعونه في ذلك كله في دنياهم.
"أفَلا تَعْقِلونَ" يقول: أفلا يعقل هؤلاء الذين يأخذون عرض هذا الأدنى على أحكامهم، ويقولون سيغفر لنا، أن ما عند الله في الدار الآخرة للمتقين العادلين بين الناس في أحكامهم، خير من هذا العرض القليل الذي يستعجلونه في الدنيا على خلاف أمر الله والقضاء بين الناس بالجوار؟
{يَأْخُذُونَ عَرَضَ هَذَا الأَدْنَى} قيل إن العَرَضَ ما يقل لَبْثُه، يقال: عَرَضَ هذا الأَمْرُ فهو عارض خلاف اللازم... قوله تعالى: {وإِنْ يَأْتِهِمْ عَرَضٌ مِثْلُهُ يَأْخُذُوهُ}...قال الحسن:"معناه أنه لا يشبعهم شيء".
جهود الإمام الغزالي في التفسير 505 هـ :
{يأخذون عرض هذا الأدنى} أي شهواتهم من الدنيا، حراما كان أو حلالا...
الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :
... {يَأْخُذُونَ عَرَضَ هذا الادنى} أي حطام هذا الشيء الأدنى، يريد الدنيا وما يتمتع به منها. وفي قوله: {هذا الأدنى} تخسيس وتحقير. والأدنى: إما من الدنوّ بمعنى القرب، لأنه عاجل قريب، وإما من دنوّ الحال وسقوطها وقلتها، والمراد: ما كانوا يأخذونه من الرشا في الأحكام على تحريف الكلم للتسهيل على العامة {وَيَقُولُونَ سَيُغْفَرُ لَنَا} لا يؤاخذنا الله بما أخذنا... {وَإِن يَأْتِهِمْ عَرَضٌ مّثْلُهُ يَأْخُذُوهُ} الواو للحال، أي يرجون المغفرة وهم مصرون عائدون إلى مثل فعلهم، غير تائبين...
... وقوله: {يأخذون عرض هذا الأدنى} قال أبو عبيدة جميع متاع الدنيا عرَض (بفتح الراء)، يقال الدنيا عرض حاضر يأكل منها البر والفاجر... والمراد بقوله: {عرض هذا الأدنى} أي حطام هذا الشيء الأدنى يريد الدنيا وما يتمتع به منها...ثم قال: {وإن يأتهم عرض مثله يأخذوه} والمراد الإخبار عن إصرارهم على الذنوب. وقال الحسن هذا إخبار عن حرصهم على الدنيا وأنهم لا يستمتعون منها. ثم بين تعالى قبح فعلهم فقال: {ألم يؤخذ عليهم ميثاق الكتاب} أي التوراة {أن لا يقولوا على الله إلا الحق} قيل المراد منعهم عن تحريف الكتاب وتغيير الشرائع لأجل أخذ الرشوة، وقيل: المراد أنهم قالوا سيغفر لنا هذا الذنب مع الإصرار، وذلك قول باطل...
ثم قال تعالى: {ودرسوا ما فيه} أي فهم ذاكرون لما أخذ عليهم لأنهم قد قرؤه ودرسوه.
ثم قال: {والدار الآخرة خير للذين يتقون} من تلك الرشوة الخبيثة المحقرة {أفلا تعقلون}.
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
ولما كان العذاب الذي وقع التأذن بسببه ممتداً إلى يوم القيامة، تسبب عنه قوله: {فخلف} أي نشأ، ولما كانوا غير مستغرقين لزمان البعد، أتى بالجار فقال: {من بعدهم خلف} أي قوم هم أسوأ حالاً منهم {ورثوا الكتاب} أي الذي هو نعمة، وهو التوراة، فكان لهم نقمة لشهادته عليهم بقبح أفعالهم، لأنه بقي في أيديهم بعد أسلافهم يقرؤونه ولا يعملون بما فيه؛ قال ابن فارس: والخلف ما جاء من بعد، أي سواء كان محركاً أو ساكناً، وقال أبو عبيد الهروي في الغريبين: ويقال:؛ خلْف سوء -أي بالسكون- وخلَف صدق...
ولما كان المظنون بمن يرث الكتاب الخير، فكان كأنه قيل: ما فعلوه من الخير فيما ورثوه؟ قال مستأنفاً: {يأخذون} أي يجددون الأخذ دائماً، وحقر ما أخذوه بالإعلام بأنه مما يعرض ولا يثبت بل هو زائل فقال: {عرض} وزاده حقارة بإشارة الحاضر فقال {هذا} وصرح بالمراد بقوله: {الأدنى} أي من الوجودين، وهو الدنيا {ويقولون} أي دائماً من غير توبة.
ولما كان النافع الغفران من غير نظر إلى معين، بنوا للمفعول قولهم: {سيغفر لنا} أي من غير شك، فأقدموا على السوء وقطعوا بوقوع ما يبعد وقوعه في المستقبل حكماً على من يحكم ولا يحكم عليه، وصرح بما أفهمه ذلك من إصرارهم معجباً منهم في جزمهم بالمغفرة مع ذلك بقوله: {وإن} أي والحال أنه إن {يأتهم عرض مثله} أي في الدناءة والخسة -والحرمة كالرشى {يأخذوه}.
ولما كان هذا عظيماً، أنكر عليهم مشدداً- للنكير بقوله مستأنفاً: {ألم يؤخذ عليهم} بناه للمفعول إشارة إلى أن العهد يجب الوفاء به على كل حال، ثم عظمه بقوله: {ميثاق الكتاب} أي الميثاق المؤكد في التوراة {أن لا يقولوا} أي قولاً من الأقوال وإن قل {على الله} أي الذي له كمال العظمة {إلا الحق} أي المعلوم ثباته، وليس من المعلوم ثباته إثبات المغفرة على القطع بغير توبة، بل ذلك خروج عن ميثاق الكتاب.
ولما كان ربما وقع في الوهم أنه أخذ على أسلافهم ولم يعلم هؤلاء به، نفى ذلك بقوله: {ودرسوا ما فيه} أي ما في ذلك الميثاق بتكرير القراءة للحفظ {والدار الآخرة} أي فعلوا ما تقدم من مجانبة التقوى والحال أن الآخرة {خير} أي مما يأخذون {للذين يتقون} أي وهم يعلمون ذلك بإخبار كتابهم، ولذلك أنكر عليهم بقوله: {أفلا يعقلون} أي حين أخذوا ما يشقيهم ويفنى بدلاً مما يسعدهم ويبقى، وعلى قراءة نافع وابن عامر وحفص بالخطاب يكون المراد الإعلام بتناهي الغضب.
تفسير المنار لرشيد رضا 1354 هـ :
... وقد سرى شيء كثير من هذا الفساد إلى المسلمين، حتى رجال الدين الذين ورثوا الكتاب الكريم، والقرآن الحكيم، ودرسوا ما فيه، غلب على أكثرهم الطمع في حطام الدنيا القليل، وعرضها الدنيء، والغرور بالنسبة إلى الإسلام والتحلي بلقبه، والتعلل بأماني المغفرة مع الإصرار على الذنب والاتكال على المكفرات والشفاعات، وهم يقرؤون ما في الكتاب من النهي عن الأماني والأوهام، ومن نوط الجزاء بالأعمال، والمغفرة بالتوبة والإصلاح، وكون الشفاعة لا تقع إلا بإذن الله لمن رضي عنه كقوله: {ولا يشفعون إلا لمن ارتضى وهم من خشيته مشفقون} [الأنبياء: 28] ولن يرضى الله عن فاسق ولا منافق {فإن ترضوا عنهم فإن الله لا يرضى عن القوم الفاسقين} [التوبة: 96] بل ما قص الله علينا مثل هذه الآيات من أخبار بني إسرائيل إلا لنعتبر بأحوالهم، ونتقي الذنوب التي أخذهم بها، ولكننا مع هذا كله اتبعنا سننهم شبرا بشبر وذراعا بذراع، إلا أننا نحمد الله أن هذا الاتباع فينا غير عام، وأنه لا يزال فينا طائفة ظاهرة على الحق يطعن فيها الجماهير الذين صار الإسلام فيهم غريبا، وقد شرحنا ذلك مرارا بل صرحت الآيات بالتحذير من اتباع أهل الكتاب في أمانيهم وفي فسقهم كقوله تعالى: {ليس بأمانيّكم ولا أمانيّ أهل الكتاب من يعمل سوءا يجز به} [النساء: 123] الخ وقوله: {ألم يأن للّذين آمنوا أن تخشع قلوبهم لذكر اللّه وما نزل من الحق ولا يكونوا كالذين أوتوا الكتاب من قبل فطال عليهم الأمد فقست قلوبهم وكثير منهم فاسقون} [الحديد: 16]...
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
وصفة هذا الخلف الذي جاء بعد ذلك السلف من قوم موسى: أنهم ورثوا الكتاب ودرسوه.. ولكنهم لم يتكيفوا به ولم تتأثر به قلوبهم ولا سلوكهم.. شأن العقيدة حين تتحول إلى ثقافة تدرس وعلم يحفظ.. وكلما رأوا عرضاً من أعراض الحياة الدنيا تهافتوا عليه، ثم تأولوا وقالوا: (سيغفر لنا).. وهكذا كلما عرض لهم من أعراض الدنيا جديد تهافتوا عليه من جديد! (والدار الآخرة خير للذين يتقون.. أفلا تعقلون؟).. ولو كان العقل هو الذي يحكم لا الهوى.. ولو كان العلم الحق لا الجهالة التي تسمى العلم هوالذي يقضي.. لكانت الدار الآخرة خيراً من عرض هذا الأدنى. ولكانت التقوى زاداً للدين والدنيا جميعاً.
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
... وإن كان المراد من تقطيعهم في الأرض أمماً تكثيرَهم والامتنانَ عليهم، كان قوله: {فخلف من بعدهم خلف} تفريعاً على جميع القصص المتقدمة التي هي قصص أسلافهم، فيكون المراد بالخلْف من نشأ من ذرية أولئك اليهود بعد زوال الأمة وتفرقها، منهم الذين كانوا عند ظهور الإسلام، وهم اليهود الذين كانوا بالمدينة، وإلى هذا المعنى في (الخلْف) نحا المفسرون.
والخلْف بسكون اللام من يأتي بعد غيره سابِقِه في مكان أو عمل أو نسل، يُبينه المقام أو القرينة، ولا يغلب فيمن يخلف في أمر سيء، قاله النضر بن شُميل، خلافاً لكثير من أهل اللغة إذ قالوا: الأكثر استعمال الخلْف بسكون اللام فيمن يخلف في الشر، وبفتح اللام فيمن يخلف في الخير، وقال البصريون: يجوز التحريك والإسكان في الرديء، وأما الحسن فبالتحريك فقطْ.
.. و {ورثوا} مجازٌ في القيام مقام الغير كما تقدم في قوله تعالى: {ونودوا أن تلكم الجنة أورثتموها} في هذه السورة (43) وقوله فيها: {أو لم يهد للذين يرثون الأرض من بعد أهلها} [الأعراف: 100] فهو بمعنى الخلفية، والمعنى: فخلف من بعدهم خلف في إرث الكتاب، وهذا يجري على كلا القولين في تخصيص الخلف، لأنه بيان للفعل لا لاسم الخلف.
وجملة: {يأخذون عرض هذا الأدنى} حال من ضمير {ورثوا} ، والمقصود هو ذم الخلف بأنهم يأخذون عرض الأدنى ويقولون سيغفر لنا، ومهد لذلك بأنهم ورثوا الكتاب ليدل على أنهم يفعلون ذلك عن علم لا عن جهل، وذلك أشد مذمة، كما قال تعالى: {وأضله الله على علمٍ} [الجاثية: 23].
ومعنى الأخذ هنا الملابسة والاستعمال فهو مجاز أي: يلابسونه، ويجوز كونه حقيقة كما سيأتي.
والعَرَض بفتح العين وفتح الراء الأمر الذي يزول ولا يدوم. ويراد به المال، ويراد به أيضاً ما يعرض للمرء من الشهوات والمنافع.
والأدنى الأقرب من المكان، والمراد به هنا الدنيا، وفي اسم الإشارة إيماء إلى تحقير هذا العرض الذي رغبوا فيه...
.. والقول في: {ويقولون} هو الكلام اللساني، يقولون لمن ينكر عليهم ملابسة الذنوب وتناول الشهوات، لأن (ما) بعد يقولون يناسبه الكلام اللفظي، ويجوز أن يكون الكلام النفساني، لأنه فرع عنه، أي قولهم في أنفسهم يعللونها به حين يجيش فيها وازع النهي، فهو بنمزلة قوله تعالى: {ويقولون في أنفسهم لولا يعذبنا الله بما نقول} [المجادلة: 8] وذلك من غرورهم في الدين.
وبناء فعل « يُغفر» على صيغة المجهول لأن الفاعل معروف، وهو الله، إذ لا يصدر هذا الفعل إلاّ عنه، وللدلالة على أنهم يقولون ذلك على وجه العموم لا في خصوص الذنب الذي أنكر عليهم، أو الذي تلبَّسُوا به حين القول، ونائب الفاعل محذوف لعلمه من السياق، والتقدير: سيُغفر لنا ذلك، أو ذُنوبنا، لأنهم يحسبون أن ذنوبهم كلها مغفورة {وقالوا لن تمسنا النار إلاّ أياماً معدودة} كما تقدم في سورة البقرة (80)، أي يغفر لنا بدون سبب المغفرة، وهو التوبة كما يعلم من السياق، وهو جزمهم بذلك عقب ذكر الذنب دون ذكر كفارة أو نحوها ...
... وجملة: {ويقولون سيُغفر لنا} معطوفة على جملة، {يأخذون} لأن كِلا الخبرين يوجب الذم، واجتماعهما أشد في ذلك.
وجملة: {وَإنْ يأتهم عرض مثلُه يأخذوه} معطوفة على التي قبلها، واستعير إتيان العرْض لبذله لهم إن كان المراد بالعرض المالَ، وقد يُراد به خطور شهوته في نفوسهم إن كان المراد بالعرض جميع الشهوات والملاذ المحرمة، واستعمال الإتيان في الذوات أنسب من استعماله في خطور الأعراض والأمور المعنوية، لقرب المشابهة في الأول دون الثاني.
والمعنى: أنهم يعصون، ويزعمون أن سيّئاتهم مغفورة، ولا يُقلعون عن المعاصي.
وجملة: {ألم يؤخذ عليهم ميثاق الكتاب} جواب عن قولهم: {سيُغفر لنا} إبطالاً لمضمونه، لأن قولهم: {سيغفر لنا} يتضمن أنهم يزعمون أن الله وعدهم بالمغفرة على ذلك، والجملة معترضة في أثناء الإخبار عن الصالحين وغيرهم، والمقصود من هذه الجملة إعلام النبي صلى الله عليه وسلم ليحجهم بها، فهم المقصود بالكلام. كما تشهد به قراءة {أفلا تعقلون} بتاء الخطاب.
والميثاق: العهد، وهو وصية موسى التي بلّغها إليهم عن الله تعالى في مواضع كثيرة، وإضافة الميثاق إلى الكتاب على معنى (في) أو على معنى اللام أي الميثاق المعروف به، والكتاب توراة موسى، وأن لا يقولوا هو مضمون ميثاق الكتاب فهو على حذف حرف الجر قبل (أن) الناصبة، والمعنى: بأن لا يقولوا، أي بانتفاء قولهم على الله غيرَ الحق، ويجوز كونه عطف بيان من ميثاق، فلا يقدر حرف جر، والتقدير: ميثاق الكتاب انتفاءُ قولهم على الله الخ.
وفعل {درسوا} عطف على {يؤخذ} ،. لأن يؤخذ في معنى المضي، لأجل دخول لم عليه، والتقدير: ألم يؤخذ ويدرسوا، لأن المقصود تقريرهم بأنهم درسوا الكتاب، لا الإخبار عنهم بذلك كقوله تعالى: {ألم نجعل الأرض مهاداً والجبالَ أوتاداً وخلقناكم أزواجاً وجعلنا نومكم سُباتاً} إلى قوله {وأنزلنا من المعصرات ماءً ثجاجاً} [النبإ: 6 14] والتقدير: ونخلقكم أزواجاً ونجعل نومكم سباتاً، إلى آخر الآية.
والمعنى: أنهم قد أخذ عليهم الميثاق بأن لا يقولوا على الله إلاّ الحق، وهم عالمون بذلك الميثاق، لأنهم درسوا ما في الكتاب فبمجموع الأمرين قامت عليهم الحجة.
وجملة: {والدارُ الآخرة خير للذين يتقون} حالية من ضمير {يأخذون} أي: يأخذون ذلك ويكذبون على الله ويصرون على الذنب وينبذون ميثاق الكتاب على علم في حال أن الدار الآخرة خير مما تعجّلوه، وفي جعل الجملة في موضع الحال تعريض بأنهم يعلمون ذلك أيضاً فهم قد خيّروا عليه عرض الدنيا قصداً، وليس ذلك عن غفلة صادفتهم فحرمتهم من خير الآخرة، بل هم قد حَرموا أنفسهم، وقرينة ذلك قوله: {أفلا تعقلون} المتفرع على قوله: {والدار الآخرة خير للذين يتقون} وقد نُزلوا في تخيرهم عرض الدينا بمنزلة من لا عقول لهم، فخوطبوا ب {أفلا تعقلون} بالاستفهام الإنكاري، وقد قرئ بتاء الخطاب، على الالتفات من الغيبة إلى الخطاب.
ليكون أوقع في توجبه التوبيخ إليهم مواجهة، وهي قراءةَ نافع، وابن عامر، وابن ذكوان، وحفص عن عاصم، ويعقوب، وأبي جعفر، وقرأ البقية بياء الغيبة، فيكون توبيخهم تعريضياً.
وفي قوله: {والدارُ الآخرة خير للذين يتقون} كناية عن كونهم خَسروا خير الآخرة بأخذهم عرض الدنيا بتلك الكيفية، لأن كون الدار الآخرة خيراً مما أخذوه يستلزم أن يكون ما أخذوه قد أفات عليهم خيرَ الآخرة.
وفي جعل الآخرة خير للمتقين كناية عن كون الذين أخذوا عَرض الدنيا بتلك الكيفية لم يكونوا من المتقين، لأن الكناية عن خسرانهم خيرَ الآخرة مع إثبات كون خير الآخرة للمتقين تستلزم أن الذين أضاعوا خير الآخرة ليسوا من المتقين، وهذه معان كثيرة جمعها قوله: {والدارُ الآخرة خير للذين يتقون أفلا تعقلون} وهذا من حَد الإعجاز العجيب.