100- قل - يا أيها النبي - للناس : لا يتساوى ما أباحه الله لكم من الطيبات ، وما حرَّمه عليكم من الخبائث ، فإن الفرق بينهما كبير عند الله ، ولو كثر الخبيث وأعجب كثيراً من الناس . فاجعلوا - يا أصحاب العقول - طاعة الله وقاية لكم من عذابه باختيار الطيبات واجتناب الخبائث ، لتكونوا من الفائزين في الدنيا والآخرة .
يقول تعالى لرسوله صلى الله عليه وسلم : { قُلْ } يا محمد : { لا يَسْتَوِي الْخَبِيثُ وَالطَّيِّبُ وَلَوْ أَعْجَبَكَ } أي : يا أيها الإنسان { كَثْرَةُ الْخَبِيثِ } يعني : أن القليل الحلال النافع خير من الكثير الحرام الضار ، كما جاء في الحديث : " ما قَلَّ وكَفَى ، خَيْرٌ مما كَثُر وألْهَى " .
وقال أبو القاسم البَغَوِيُّ في معجمه : حدثنا أحمد بن زُهَيْر ، حدثنا الحَوْطِي ، حدثنا محمد بن شعيب ، حدثنا مُعان{[10426]} بن رِفاعة ، عن أبي عبد الملك علي بن يزيد ، عن القاسم ، عن أبي أمامة أنه أخبره عن ثعلبة بن حاطب الأنصاري أنه قال : يا رسول الله ، ادع الله أن يرزقني مالا . فقال النبي صلى الله عليه وسلم : " قليل تؤدي شكره خير من كثير لا تطيقه " . {[10427]}
{ فَاتَّقُوا اللَّهَ يَا أُولِي الألْبَابِ } أي : يا ذوي العقول الصحيحة المستقيمة ، وتجنبوا الحرام ودعوه ، واقنعوا بالحلال واكتفوا به { لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ } أي : في الدنيا والآخرة .
{ قل لا يستوي الخبيث والطيب } حكم عام في نفي المساواة عند الله سبحانه وتعالى بين الرديء من الأشخاص والأعمال والأموال وجيدها ، رغب به في مصالح العمل وحلال المال . { ولو أعجبك كثرة الخبيث } فإن العبرة بالجودة والرداءة دون القلة والكثرة ، فإن المحمود القليل خير من المذموم الكثير ، والخطاب لكل معتبر ولذلك قال : { فاتقوا الله يا أولي الألباب } أي فاتقوه في تحري الخبيث وإن كثر ، وآثروا الطيب وإن قل . { لعلكم تفلحون } راجين أن تبلغوا الفلاح . روي : أنها نزلت في حجاج اليمامة لما هم المسلمون أن يوقعوا بهم فنهوا عنه ، وإن كانوا مشركين .
وقوله { هل يستوي } الآية لفظ عام في جميع الأمور يتصور في المكاسب وعدد الناس والمعارف من العلوم ونحوها ، ف { الخبيث } من هذا كله لا يفلح ولا ينجب ولا تحسن له عاقبة ، { والطيب } ولو قل نافع جميل العاقبة وينظر إلى هذه الآية قوله تعالى : { والبلد الطيب يخرج نباته بإذن ربه والذي خبث لا يخرج إلا نكداً }{[4739]} والخبث هو الفساد الباطن في الأشياء حتى يظن بها الصلاح والطيب وهي بخلاف ذلك ، وهكذا هو الخبث في الإنسان ، وقد يراد بلفظة خبيث في الإنسان فساد نسبه ، فهذا لفظ يلزم قائله على هذا القصد الحد ، وقوله تعالى { فاتقوا الله يا أولي الألباب } تنبيه على لزوم الطيب في المعتقد والعمل ، وخص { أولي الألباب } بالذكر لأنهم المتقدمون في ميز هذه الأمور والذين لا ينبغي لهم إهمالها مع ألبابهم وإدراكهم ، وكأن الإشارة بهذه { الألباب } إلى لب التجربة الذي يزيد على لب التكليف بالحنكة والفطنة المستنبطة والنظر البعيد .
لما آذن قوله : { اعلموا أنّ الله شديد العقاب وأنّ الله غفور رحيم } [ المائدة : 98 ] وقوله : { والله يعلم ما تبدون وما تكتمون } [ المائدة : 99 ] بأنّ الناس فريقان : مطيعون وعصاة ، فريق عاندوا الرسول ولم يمتثلوا ، وهم من بقي من أهل الشرك ومن عاضدهم من المنافقين ، وربما كانوا يظهرون للقبائل أنّهم جمع كثير ، وأنّ مثلهم لا يكون على خطأ ، فأزال الله الأوهام التي خامرت نفوسهم فكانت فتنة أو حجّة ضالّة يموّه بها بعض منهم على المهتدين من المسلمين . فالآية تؤذن بأن قد وجدت كثرة من أشياء فاسدة خيف أن تستهوي من كانوا بقلّة من الأشياء الصالحة ، فيحتمل أن تكون تلك الكثرة كثرة عدد في الناس إذ معلوم في متعارف العرب في الجاهلية وفي أول الإسلام الاعتزاز بالكثرة والإعجاب بها . قال الأعشى :
ولستَ بالأكثرِ منهم حصًى *** وإنّما العزّة للكاثر
وقال السموأل أو عبد الملك الحارثي :
وقد تعجّب العنبري إذ لام قومه فقال :
لكنّ قومي وإن كانوا ذوي عَدد *** ليسوا من الشرّ في شيء وإن هانا
قال السديّ : كثرة الخبيث هم المشركون ، والطيّب هم المؤمنون . وهذا المعنى يناسب لو يكون نزول هذه الآية قبل حجّة الوداع حين كان المشركون أكثر عدداً من المسلمين ؛ لكن هذه السورة كلّها نزلت في عام حجّة الوداع فيمكن أن تكون إشارة إلى كثرة نصارى العرب في الشام والعراق ومشارف الشام لأنّ المسلمين قد تطلّعوا يومئذٍ إلى تلك الأصقاع ، وقيل : أريد منها الحرام والحلال من المال ، ونقل عن الحسن .
ومعنى { لا يستوي } نفي المساواة ، وهي المماثلة والمقاربة والمشابهة . والمقصود منه إثبات المفاضلة بينهما بطريق الكناية ، والمقام هو الذي يعيّن الفاضل من المفضول ، فإنّ جعل أحدهما خبيثاً والآخر طيّباً يعيّن أنّ المراد تفضيل الطيّب . وتقدّم عند قوله تعالى : { ليسوا سواء } في سورة آل عمران ( 113 ) . ولمّا كان من المعلوم أنّ الخبيث لا يساوي الطيّب وأنّ البون بينهما بعيد ، علم السامع من هذا أنّ المقصود استنزال فهمه إلى تمييز الخبيث من الطيّب في كلّ ما يلتبس فيه أحدهما بالآخر ، وهذا فتح لبصائر الغافلين كيلا يقعوا في مهواة الالتباس ليعلموا أنّ ثمّة خبيثاً قد التفّ في لباس الحسن فتموّه على الناظرين ، ولذلك قال { ولو أعجبك كثرة الخبيث } . فكان الخبيث المقصود في الآية شيئاً تلبّس بالكثرة فراق في أعين الناظرين لكثرته ، ففتح أعينهم للتأمّل فيه ليعلموا خبثه ولا تعجبهم كثرته .
فقوله : { ولو أعجبك كثرة الخبيث } من جملة المقول المأمور به النبيءُ صلى الله عليه وسلم أي قُل لهم هذا كلّه ، فالكاف في قوله : { أعجبك } للخطاب ، والمخاطب بها غير معيَّن بل كلّ من يصلح للخطاب ، مثل { ولو ترى إذ وقفوا على النار } [ الأنعام : 27 ] ، أي ولو أعجبَ مُعْجَبا كثرةُ الخبيث .
وقد علمت وجه الإعجاب بالكثرة في أول هذه الآية .
وليس قوله : { ولو أعجبك كثرة الخبيث } بمقتض أنّ كلّ خبيث يكون كثيراً ولا أن يكون أكثر من الطيِّب من جنسه ، فإنّ طيِّب التَمر والبرّ والثمار أكثر من خبيثها ، وإنّما المراد أن لا تعجبكم من الخبيث كثرته إذا كان كثيراً فتصرفكم عن التأمّل من خبثه وتحدُوَكم إلى متابعته لكثرته ، أي ولكن انظروا إلى الأشياء بصفاتها ومعانيها لا بأشكالها ومبانيها ، أو كثرةُ الخبيث في ذلك الوقت بوفرة أهل الملل الضالّة . والإعجاب يأتي الكلام عليه عند قوله تعالى : { فلا تُعْجبْك أمْوالهم ولا أولادهم } في سورة براءة ( 55 ) .
وفي تفسير قال : « وكنت بحثت مع ابن عبد السلام وقلت له : هذه تدلّ على الترجيح بالكثرة في الشهادة لأنّهم اختلفوا إذا شهد عدلان بأمر وشهد عشرة عدول بضدّه ، فالمشهور أن لا فرق بين العشرة والعدلين ، وهما متكاملان . وفي المذهب قول آخر بالترجيح بالكثرة . فقوله : { ولو أعجبك كثرة الخبيث } يدلّ على أنّ الكثرة لها اعتبار بحيث إنّها ما أسقطت هنا إلاّ للخبث ، ولم يوافقني عليه ابن عبد السلام بوجه . ثم وجدت ابن المنير ذكره بعينه » اهـ .
والواو في قوله { ولو أعجبك } واو الحال ، و { لو } اتّصالية ، وقد تقدّم بيان معناهما عند قوله تعالى : { فلن يقبل من أحدهم ملْءُ الأرض ذهباً ولو افتدى به } في سورة آل عمران ( 91 ) .
وتفريع قوله : { فاتّقوا الله يا أولى الألباب } على ذلك مؤذن بأنّ الله يريد منّا إعمال النظر في تمييز الخبيث من الطيّب ، والبحث عن الحقائق ، وعدم الاغترار بالمظاهر الخلابة الكاذبة ، فإنّ الأمر بالتقوى يستلزم الأمر بالنظر في تمييز الأفعال حتى يُعرف ما هو تقوى دون غيره .
ونظير هذا الاستدلال استدلالِ العلماء على وجوب الاجتهاد بقوله تعالى : { فاتّقوا الله ما استطعتم } [ التغابن : 16 ] ، لأنّ ممّا يدخل تحت الاستطاعة الاجتهاد بالنسبة للمتأهّل إليه الثابت له اكتساب أداته . ولذلك قال هنا : { يا أولي الألباب } فخاطب الناس بصفة ليؤمىء إلى أنّ خلق العقول فيهم يمكِّنهم من التمييز بين الخبيث والطيّب لاتّباع الطيّب ونبذ الخبيث . ومن أهمّ ما يظهر فيه امتثال هذا الأمر النظر في دلائل صدق دعوى الرسول وأن لا يحتاج في ذلك إلى تطلّب الآيات والخوارق كحال الذين حكى الله عنهم { وقالوا لن نؤمن لك حتى تفجّر لنا من الأرض ينبوعاً } [ الإسراء : 90 ] الآية ، وأن يميّز بين حال الرسول وحال السحرة والكهّان وإن كان عددهم كثيراً .
وقوله : { لعلّكم تفلحون } تقريب لحصول الفلاح بهم إذا اتّقوا هذه التقوى التي منها تمييز الخبيث من الطيّب وعدم الاغترار بكثرة الخبيث وقلّة الطيّب في هذا .