يذكر تعالى في هذا المقام محتجا على مشركي العرب ، بأن البلد الحرام مكة إنما وضعت أول ما وضعت على عبادة الله وحده لا شريك له ، وأن إبراهيم الذي كانت عامرة بسببه ، آهلة تبرأ ممن عبد غير الله ، وأنه دعا لمكة بالأمن فقال : { رَبِّ اجْعَلْ هَذَا الْبَلَدَ آمِنًا } وقد استجاب الله له ، فقال تعالى : { أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنَا حَرَمًا آمِنًا وَيُتَخَطَّفُ النَّاسُ مِنْ حَوْلِهِمْ } [ العنكبوت : 67 ] ، وقال تعالى :
{ إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي{[15966]} بِبَكَّةَ مُبَارَكًا وَهُدًى لِلْعَالَمِينَ فِيهِ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ مَقَامُ إِبْرَاهِيمَ وَمَنْ دَخَلَهُ كَانَ آمِنًا } [ آل عمران : 96 ، 97 ] ، وقال في هذه القصة : { رَبِّ اجْعَلْ هَذَا الْبَلَدَ آمِنًا } فعرفه كأنه دعا به بعد بنائها ؛ ولهذا قال : { الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي وَهَبَ لِي عَلَى الْكِبَرِ إِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ } [ إبراهيم : 39 ] ، ومعلوم أن إسماعيل أكبر من إسحاق بثلاث عشرة سنة ، فأما حين ذهب بإسماعيل وأمه وهو رضيع إلى مكان مكة ، فإنه دعا أيضا فقال : { رَبِّ اجْعَلْ هَذَا بَلَدًا آمِنًا } [ البقرة : 126 ] ، كما ذكرناه هنالك في سورة البقرة مستقصى مطولا .
وقال : { وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الأصْنَامَ } ينبغي لكل داع أن يدعو لنفسه ولوالديه ولذريته .
ثم ذكر أنه افتتن بالأصنام خلائق من الناس وأنه برئ ممن عبدها ، ورد أمرهم{[15967]} إلى الله ، إن شاء عذبهم{[15968]} وإن شاء غفر لهم{[15969]} كما قال عيسى ، عليه السلام : { إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ } [ المائدة : 118 ] ، وليس في هذا أكثر من الرد إلى مشيئة الله تعالى ، لا تجويز{[15970]} وقوع ذلك .
القول في تأويل قوله تعالى : { وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبّ اجْعَلْ هََذَا الْبَلَدَ آمِناً وَاجْنُبْنِي وَبَنِيّ أَن نّعْبُدَ الأصْنَامَ * رَبّ إِنّهُنّ أَضْلَلْنَ كَثِيراً مّنَ النّاسِ فَمَن تَبِعَنِي فَإِنّهُ مِنّي وَمَنْ عَصَانِي فَإِنّكَ غَفُورٌ رّحِيمٌ } .
يقول تعالى ذكره : و اذكر يا محمد إذْ قالَ إبْرَاهِيمُ رَبّ اجْعَلْ هَذَا البَلَدَ آمِنا يعني الحَرم ، بلدا آمنا أهله وسكانه . وَاجْنُبْنِي وَبَنِيّ أنْ نَعْبُدَ الأصْنامَ يقال منه : جَنَبْته الشرّ فأنا أَجْنُبُه جَنْبا وجَنّبته الشرّ ، فأنا أُجَنّبُهُ تجنيبا ، وأجنبته ذلك فأنا أُجْنِبُه إجنابا . ومِن «جَنَبْتُ » قول الشاعر :
وتَنْفُضُ مَهْدَهُ شفَقَا عَلَيْهِ *** وتَجْنُبُهُ قَلائِصَنا الصّعابَا
ومعنى ذلك : أبعدْني وبنيّ من عبادة الأصنام ، والأصنام : جمع صنم ، والصنم : هو التمثال المصوّر ، كما قال رُؤبة بن العجّاج في صفة امرأة :
وَهْنانَةٌ كالزّونِ يُجْلَى صَنَمُهْ *** تَضْحَكُ عن أشْنَبَ عَذْبٍ مَلْثَمُهْ
حدثني المثنى ، قال : حدثنا أبو حُذيفة ، قال : حدثنا شبل ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد : وَإذْ قالَ إبْرَاهِيمُ رَبّ اجْعَلَ هذَا البَلَدَ آمِنا وَاجْنُبْنِي وَبَنِيّ أنْ نَعْبُدَ الأصْنامَ قالَ : فاستجاب الله لإبراهيم دعوته في ولده ، قال : فلم يعبد أحد من ولده صنما بعد دعوته . والصنم : التمثال المصوّر ، ما لم يكن صنما فهو وثَن . قال : واستجاب الله له ، وجعل هذا البلد آمنا ، ورزق أهله من الثمرات ، وجعله إماما ، وجعل من ذرّيته من يقيم الصلاةَ ، وتقبّل دعاءه ، فأراه مناسِكَة ، وتاب عليه .
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا جرير ، عن مغيرة ، قال : كان إبراهيم التيميّ يقصّ ويقول في قَصَصه : من يأمن من البلاء بعد خليل الله إبراهيم ، حين يقول : ربّ اجْنُبْنِي وَبَنِيّ أنْ نَعْبُدَ الأصْنامَ ؟
عطف على جملة { ألم تر إلى الذين بدلوا نعمة الله كفراً } [ إبراهيم : 28 ] فإنهم كما بدّلوا نعمة الله كفراً أهملوا الشكر على ما بوأهم الله من النعم بإجابة دعوة أبيهم إبراهيم عليه السلام ، وبدلوا اقتداءهم بسلفهم الصالح اقتداءً بأسلافهم من أهل الضلالة ، وبدلوا دُعاء سلفهم الصالح لهم بالإنعام عليهم كفراً بمفيض تلك النّعَم .
ويجوز أن تكون معطوفة على جملة { الله الذي خلق السموات والأرض } بأن انتقل من ذكر النعم العامة للناس التي يدخل تحت مِنتها أهل مكة بحكم العموم إلى ذكر النعم التي خص الله بها أهل مكة . وغير الأسلوب في الامتنان بها إلى أسلوب الحكاية عن إبراهيم لإدماج التنويه بإبراهيم عليه السلام والتعريض بذريته من المشركين .
( وإذا ) اسم زمان ماض منصوب على المفعولية لفعل محذوف شائع الحذف في أمثاله ، تقديره : واذكر إذ قال إبراهيم ، زيادة في التعجيب من شأن المشركين الذي مر في قوله : { ألم تر إلى الذين بدلّوا نعمة الله كفراً } ، فموقع العبرة من الحالين واحد .
و { رب } منادى محذوف منه حرف النداء . وأصله ( ربي ) ، حذفت ياء المتكلم تخفيفاً ، وهو كثير في المنادى المضاف إلى الياء .
والبلد : المكان المعين من الأرض ، ويطلق على القرية . والتعريف في { البلد } تعريف العهد لأنه معهود الحضور . و { البلد } بدل من اسم الإشارة .
وحكاية دعائه بدون بيان البلد إبهام يرد بعده البيان بقوله : { عند بيتك المحرم } [ سورة إبراهيم : 37 ] ، أو هو حَوالة على ما في علم العرب من أنه مكة . وقد مضى في سورة البقرة تفسير نظيره . والتعريف هنا للعهد ، والتنكير في آية البقرة تنكير النوعية ، فهنا دَعَا للبلد بأن يكون آمنا ، وفي آية سورة البقرة دَعَا لِمشار إليه أن يجعله الله من نوع البلاد الآمنة ، فمآل المفادين متحد .
{ واجنبني } أمر من الثلاثي المجرد ، يقال : جنبه الشيء ، إذا جعله جانباً عنه ، أي باعده عنه ، وهي لغة أهل نجد . وأهلُ الحجاز يقولون : جنبه بالتضعيف أو أجنبه بالهمز . وجاء القرآن هنا بلغة أهل نجد لأنها أخف .
وأراد ببنيه أبناء صلبه ، وهم يومئذٍ إسماعيل وإسحاق ، فهو من استعمال الجمع في التثنية ، أو أراد جميع نسله تعميماً في الخير فاستجيب له في البعض .
والأصنام : جمع صنم ، وهو صورة أو حجارة أو بناء يتخذ معبوداً ويُدعى إلهاً . وأراد إبراهيم عليه السلام مثل ودَ وسواععٍ ويغوثَ ويعوقَ ونَسْرٍ ، أصنام قوم نوح . ومثل الأصنام التي عبدها قوم إبراهيم .
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.