لباب التأويل في معاني التنزيل للخازن - الخازن  
{وَإِذۡ قَالَ إِبۡرَٰهِيمُ رَبِّ ٱجۡعَلۡ هَٰذَا ٱلۡبَلَدَ ءَامِنٗا وَٱجۡنُبۡنِي وَبَنِيَّ أَن نَّعۡبُدَ ٱلۡأَصۡنَامَ} (35)

قوله سبحانه وتعالى { وإذ قال إبراهيم رب اجعل هذا البلد آمناً } يعني ذا آمن يؤمن فيه وأراد بالبلد مكة . فإن قلت : أي فرق بين قوله اجعل هذا بلداً آمناً وبين قوله اجعل هذا البلد آمناً ؟ قلت : الفرق بينهما أنه سأل في الأول أن يجعله من جملة البلاد التي يأمن أهلها فيها ولا يخافون وسأل في الثاني أن يخرج هذا البلد من صفة كان عليها من الخوف إلى ضدها من الأمن ، كأنه قال : هو بلد مخوف فاجعله آمناً { واجنبني وبني أن نعبد الأصنام } يعني أبعدني وبنيّ أن نعبد الأصنام . فإن قلت قد توجه على هذه الآية إشكالات وهي من وجوه : الأول أن إبراهيم دعا ربه أن يجعل مكة آمنة ثم إن جماعة من الجبابرة وغيرهم ، قد أغاروا عليها وأخافوا أهلها . الوجه الثاني : أن الأنبياء عليهم وعلى نبينا أفضل الصلاة والسلام معصومون عن عبادة الأصنام ، وإذا كان كذلك فما الفائدة في قوله اجنبني عن عبادتها . الوجه الثالث : أن إبراهيم عليه السلام سأل ربه أيضاً أن يجنب بنيه عن عبادة الأصنام ، وقد وجد كثير من بنيه عبد الأصنام مثل كفار قريش ، وغيرهم ممن ينسب إلى إبراهيم عليه السلام . قلت : الجواب عن الوجوه المذكورة من وجوه : فالجواب على الوجه الأول : من وجهين أحدهما أن إبراهيم عليه السلام لما فرغ من بناء الكعبة دعا بهذا الدعاء ، والمراد منه جعل مكة آمنة من الخراب ، وهذا موجود بحمد الله ولم يقدر أحد على خراب مكة ، وأورد على هذا ما ورد في الصحيح عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم « يخرب الكعبة ذو السويقتين من الحبشة » أخرجاه في الصحيحين . وأجيب عنه بأن قوله : اجعل هذا البلد آمناً يعني إلى قرب القيامة وخراب الدنيا وقيل : هو عام مخصوص بقصة ذو السويقتين فلا تعارض بين النصين . الوجه الثاني : أن يكون المراد اجعل هذا البلد آمنين ، وهذا الوجه عليه أكثر العلماء من المفسرين وغيرهم علو هذا فقد اختص أهل مكة بزيادة الأمن في بلدهم كما أخبر الله سبحانه وتعالى بقوله : ويتخطف الناس من حولهم ، وأهل مكة آمنون من ذلك حتى إن من التجأ إلى مكة أمن على نفسه وما له من ذلك ، وحتى إن الوحوش إذا كانت خارجة من الحرم استوحشت فإذا دخلت الحرم أمنت واستأنست لعلمها أنها لا يهيجها أحد في الحرم وهذا القدر من الأمن حاصل بحمد الله بمكة وحرمها وأما الجواب عن الوجه الثاني : فمن وجوه أيضاً : الوجه الأول : أن دعاء إبراهيم عليه السلام لنفسه لزيادة العصمة التثبيت ، فهو كقوله واجعلنا مسلمين لك .

الوجه الثاني : أن إبراهيم عليه السلام ، وإن كان يعلم أن الله سبحانه وتعالى يعصمه من عبادة الأصنام إلا أنه دعا بهذا الدعاء ، هضماً للنفس وإظهاراً للعجز والحاجة والفاقة إلى فضل الله تعالى ورحمته ، وأن أحداً لا يقدر على نفع نفسه بشيء لم ينفعه الله به فلهذا السبب دعا لنفسه بهذا الدعاء وأما دعاؤه لبنيه ، وهو الوجه الثالث من الإشكالات فالجواب عنه من وجوه : الأول أن إبراهيم دعا لبنيه من صلبه ، ولم يعبد أحد منهم صنماً قط . الوجه الثاني : أنه أراد أولاده وأولاد أولاده الموجودين حالة الدعاء ولا شك أن إبراهيم عليه السلام قد أجيب فيهم . الوجه الثالث قال الواحدي : دعا لمن أذن الله أن يدعو له فكأنه قال : وبني الذين أذنت لي في الدعاء لهم لأن دعاء الأنبياء مستجاب وقد كان من بنيه من عبد الصنم فعلى هذا الوجه يكون هذا الدعاء من العام المخصوص . الوجه الرابع : أن هذا مختص بالمؤمنين من أولاده والدليل عليه أنه قال في آخر الآية : فمن تبعني فإنه مني ، وذلك يفيد أن من لم يتبعه على دينه فليس منه ، والله أعلم بمراده وأسرار كتابه .