قوله تعالى : { وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ اجعل هذا البلد آمِناً } الآية لما استدل على أنَّه لا معبود إلا الله -تعالى- وأنَّه لا يجوز عبادة غير الله -تعالى- ألبتَّة ، وحكة عن إبراهيم -عليه السلام- أنَّه طلب من الله -تعالى- أشياء :
أحدها : قوله : { رَبِّ اجعل هذا البلد آمِناً } ، وتقدَّم تحريه في البقرة " وهذا البلد آمناً " ، ومسوِّل الجعل التَّصيير .
قال الزمخشري{[19301]} : " فإن قلت : فرق بين قوله : { اجعل هذا البلد آمِناً } وبين قوله { هذا بَلَداً آمِناً } [ البقرة : 126 ] .
قلت : قد سأل في الأول أن يجعله من جملة البلاد التي يأمن أهلها ، ولا يخافون ، في الثاني أن يخرجه من صفة كان عليها من الخوف إلى ضدها من الأمن كأنه قال : هو بلد مخوف فاجعله آمناً " .
قوله " واجْنُبْنِي " ، يقال : جنَّبهُ شرًّا ، وأجْنَبهُ إيَّاه ثلاثياً ، ورباعياً ، وهي لغة نجد وجنَّبهُ إيَّاهُ مشدَّداً ، وهي لغة الحجاز وهو المنعُ ، وأصله من الجانب .
وقال الراغب{[19302]} : " قوله تعالى : { واجنبني وَبَنِيَّ } من جَنَبْتهُ عن كذا ، أي : أبْعدتهُ منه ، وقيل : من جَنَبْتُ الفرس ، [ كأنَّما ]{[19303]} سألهُ أن يقُودَهُ عن جانبِ الشِّرك بألطافِ منهُ وأسبابٍ خفيَّة " .
و " أنْ نعبد " على حذف الحرف ، أي : عن أن نَعْبُد .
وقرأ الجحدري{[19304]} وعيسى الثقفي -رحمهما الله- " وأجْنِبْنِي " بقطع الهمزة من " أجَنَبَ " .
قال بعضهم : يقال : جَنَبْتهُ الشَّيء ، وأجْنَبْتُه تَجَنُّباً ، وأجْنبتهُ إجْنَاباً ، بمعنى واحد .
فإن قيل : ههنا إشكالٌ من وجوه :
أحدهما : أن إبراهيم -صلوات الله وسلامه عليه- دعا ربَّه أن يجعل مكَّة بلداً آمناً وقد خرب جماعة الكعبة ، وأغاروا على مكَّة .
وثانيها : أن الأنبياء -عليه الصلاة والسلام- معصومون من عبادة الأصنام ، فما فائدة هذا الدعاء ؟ .
وثالثها : أنَّ كثيراً من أبنائه عبدوا الأصنام ؛ لأنَّ كفَّار قريش كانوا من أولاده وكانوا يعبدون الأصنام فأين الإجابة ؟ .
الأول : أنه نقل عن إبراهيم -عليه الصلاة والسلام- أنه لما فرغ من بناء الكعبة دعا بأن يجعل الله الكعبة ، وتلك البلدة آمنة من الخراب .
والثاني : أنَّ المراد جعل أهلها آمنين ، كقوله تعالى : { واسأل القرية } [ يوسف : 82 ] والمراد أهلها ، وعلى هذا أكثر المفسرين ، وعلى هذا التقدير ، فالمراد بالأمن ما اختصت به مكة من زيادة الأمن ، وهو أنَّ من التجأ إلى مكَّة أمن ، وكان النَّاس مع شدة عداوتهم إذا التقوا بمكَّة لا يخاف بعضهم بعضاً ، ولذلك أمن الوحش ، فإنهم يقربون إذا كانوا بمكة ويستوحشون من النَّاس إذا كانوا خارج مكَّة .
وعن الثاني قال الزجاج : معناه : ثَبِّتْنِي على اجتناب عبادتها ، كما قال : { واجعلنا مُسْلِمَيْنِ لَكَ } [ البقرة : 128 ] أي : ثبتنا على الإسلام .
ولقائل أن يقول : السؤال باقٍ ، لأنه من المعلوم أنَّ الله -تبارك وتعالى- ثبت الأنبياء على الإسلام ، واجتناب عبادة الأصنام ، فما الفائدةٌ من هذا السؤال ؟ .
قال ابن الخطيب{[19305]} : والصحيح عندي في الجواب وجهان :
الأول : أنه -صلوات الله وسلامه عليه- وإن كان يعلم أنَّ الله -تعالى- يعصمه من عبادة الأصنام ، إلاّ أنه ذكر ذلك تضعيفا للنفس وإظهاراً للحاجة والفاقة إلى فضل الله تعالى في كل المطالب .
والثاني : أنَّ الصوفية يقولون : إنَّ الشرك نوعان : شركٌ ظاهرٌ ، وهو الذي يقوله المشركون ، وشرك خفي ، وهو تعلق القلب بالأسباب الظاهرة . والتوحيد هو أن يقطع نظره عن الوسائط ، وأن لا يرى متوسطاً سوى الحق -سبحانه وتعالى- فيحتمل أن يكون قوله { واجنبني وَبَنِيَّ أَن نَّعْبُدَ الأصنام } المراد أن يعصمه عن هذا الشرط الخفي ، والله تعالى أعمل .
أحدها : قال الزمخشري{[19306]} : " قوله " وبَنِيَّ " أراد بنيه [ من صلبه ] " {[19307]} .
والفائدة في هذا الدعاء غير الفائدة التي ذكرناها في قوله : " واجْنُبْنِي وبَنِيََّ " .
وثانيها : قال بعضهم : أراد من أولاده ، وأولاد أولاده كل من كان موجوداً حال الدُّعاء ، ولا شك أنَّ دعوته مجابة فيهم .
وثالثها : قال مجاهد : لم يعبد أحد من ولد إبراهيم -عليه الصلاة والسلام- صنماً ، والصنم هو التمثال المصور ، وما ليس بصنم هو من الوثن ، وكفَّار قريش ما عبدوا التمثال ، وإنما كانوا بعبدون أحجاراً مخصوصة .
وهذا الجواب ليس بقوي ؛ لأنَّه -صلوات الله وسلامه عليه- لا يجوز أن يريد بهذا الدعاء إلا عبادة غير الله ، والحجر كالصَّنم في ذلك .
ورابعها : أنًَّ هذا الدعاء مختص بالمؤمنين من أولاده ، بدليل قوله في آخر الآية { فَمَن تَبِعَنِي فَإِنَّهُ مِنِّي } ، وذلك يفيد أنَّ من لم يتبعه على دينه فإنه ليس منه ، وقوله -تبارك وتعالى- لنوح -عليه الصلاة والسلام- : { إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ } [ هود : 46 ] .
وخامسها : لعلَّه ، وإن كان عمّ في الدعاء إلاَّ أنَّه -تعالى- أجاب دعاءه في حق البعض دون البعض ، وذلك لا يوجب تحقير الأنبياء -صلوات الله وسلامه عليهم- ونظيره قوله تعالى في حق إبراهيم -صلوات الله وسلامه عليه- { قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَاماً قَالَ وَمِن ذُرِّيَّتِي قَالَ لاَ يَنَالُ عَهْدِي الظالمين } [ البقرة : 124 ] .
قوله : { واجنبني وَبَنِيَّ أَن نَّعْبُدَ الأصنام } دليل على أن الكفر ، والإيمان من الله -تعالى- لأنًَّ إبراهيم -صلوات الله وسلامه عليه- طلب من الله -تعالى- أن يجنبه ، ويجنب أولاده من الكفر .
والمعتزلة يحملون ذلك على الإلطاف ، وهو عدول عن الظَّاهر ، وتقدم فساد هذا التأويل .
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.