اللباب في علوم الكتاب لابن عادل - ابن عادل  
{وَإِذۡ قَالَ إِبۡرَٰهِيمُ رَبِّ ٱجۡعَلۡ هَٰذَا ٱلۡبَلَدَ ءَامِنٗا وَٱجۡنُبۡنِي وَبَنِيَّ أَن نَّعۡبُدَ ٱلۡأَصۡنَامَ} (35)

قوله تعالى : { وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ اجعل هذا البلد آمِناً } الآية لما استدل على أنَّه لا معبود إلا الله -تعالى- وأنَّه لا يجوز عبادة غير الله -تعالى- ألبتَّة ، وحكة عن إبراهيم -عليه السلام- أنَّه طلب من الله -تعالى- أشياء :

أحدها : قوله : { رَبِّ اجعل هذا البلد آمِناً } ، وتقدَّم تحريه في البقرة " وهذا البلد آمناً " ، ومسوِّل الجعل التَّصيير .

قال الزمخشري{[19301]} : " فإن قلت : فرق بين قوله : { اجعل هذا البلد آمِناً } وبين قوله { هذا بَلَداً آمِناً } [ البقرة : 126 ] .

قلت : قد سأل في الأول أن يجعله من جملة البلاد التي يأمن أهلها ، ولا يخافون ، في الثاني أن يخرجه من صفة كان عليها من الخوف إلى ضدها من الأمن كأنه قال : هو بلد مخوف فاجعله آمناً " .

قوله " واجْنُبْنِي " ، يقال : جنَّبهُ شرًّا ، وأجْنَبهُ إيَّاه ثلاثياً ، ورباعياً ، وهي لغة نجد وجنَّبهُ إيَّاهُ مشدَّداً ، وهي لغة الحجاز وهو المنعُ ، وأصله من الجانب .

وقال الراغب{[19302]} : " قوله تعالى : { واجنبني وَبَنِيَّ } من جَنَبْتهُ عن كذا ، أي : أبْعدتهُ منه ، وقيل : من جَنَبْتُ الفرس ، [ كأنَّما ]{[19303]} سألهُ أن يقُودَهُ عن جانبِ الشِّرك بألطافِ منهُ وأسبابٍ خفيَّة " .

و " أنْ نعبد " على حذف الحرف ، أي : عن أن نَعْبُد .

وقرأ الجحدري{[19304]} وعيسى الثقفي -رحمهما الله- " وأجْنِبْنِي " بقطع الهمزة من " أجَنَبَ " .

قال بعضهم : يقال : جَنَبْتهُ الشَّيء ، وأجْنَبْتُه تَجَنُّباً ، وأجْنبتهُ إجْنَاباً ، بمعنى واحد .

فإن قيل : ههنا إشكالٌ من وجوه :

أحدهما : أن إبراهيم -صلوات الله وسلامه عليه- دعا ربَّه أن يجعل مكَّة بلداً آمناً وقد خرب جماعة الكعبة ، وأغاروا على مكَّة .

وثانيها : أن الأنبياء -عليه الصلاة والسلام- معصومون من عبادة الأصنام ، فما فائدة هذا الدعاء ؟ .

وثالثها : أنَّ كثيراً من أبنائه عبدوا الأصنام ؛ لأنَّ كفَّار قريش كانوا من أولاده وكانوا يعبدون الأصنام فأين الإجابة ؟ .

فالجواب عن الأوَّل من وجهين :

الأول : أنه نقل عن إبراهيم -عليه الصلاة والسلام- أنه لما فرغ من بناء الكعبة دعا بأن يجعل الله الكعبة ، وتلك البلدة آمنة من الخراب .

والثاني : أنَّ المراد جعل أهلها آمنين ، كقوله تعالى : { واسأل القرية } [ يوسف : 82 ] والمراد أهلها ، وعلى هذا أكثر المفسرين ، وعلى هذا التقدير ، فالمراد بالأمن ما اختصت به مكة من زيادة الأمن ، وهو أنَّ من التجأ إلى مكَّة أمن ، وكان النَّاس مع شدة عداوتهم إذا التقوا بمكَّة لا يخاف بعضهم بعضاً ، ولذلك أمن الوحش ، فإنهم يقربون إذا كانوا بمكة ويستوحشون من النَّاس إذا كانوا خارج مكَّة .

وعن الثاني قال الزجاج : معناه : ثَبِّتْنِي على اجتناب عبادتها ، كما قال : { واجعلنا مُسْلِمَيْنِ لَكَ } [ البقرة : 128 ] أي : ثبتنا على الإسلام .

ولقائل أن يقول : السؤال باقٍ ، لأنه من المعلوم أنَّ الله -تبارك وتعالى- ثبت الأنبياء على الإسلام ، واجتناب عبادة الأصنام ، فما الفائدةٌ من هذا السؤال ؟ .

قال ابن الخطيب{[19305]} : والصحيح عندي في الجواب وجهان :

الأول : أنه -صلوات الله وسلامه عليه- وإن كان يعلم أنَّ الله -تعالى- يعصمه من عبادة الأصنام ، إلاّ أنه ذكر ذلك تضعيفا للنفس وإظهاراً للحاجة والفاقة إلى فضل الله تعالى في كل المطالب .

والثاني : أنَّ الصوفية يقولون : إنَّ الشرك نوعان : شركٌ ظاهرٌ ، وهو الذي يقوله المشركون ، وشرك خفي ، وهو تعلق القلب بالأسباب الظاهرة . والتوحيد هو أن يقطع نظره عن الوسائط ، وأن لا يرى متوسطاً سوى الحق -سبحانه وتعالى- فيحتمل أن يكون قوله { واجنبني وَبَنِيَّ أَن نَّعْبُدَ الأصنام } المراد أن يعصمه عن هذا الشرط الخفي ، والله تعالى أعمل .

والجواب عن الثالث من وجوه :

أحدها : قال الزمخشري{[19306]} : " قوله " وبَنِيَّ " أراد بنيه [ من صلبه ] " {[19307]} .

والفائدة في هذا الدعاء غير الفائدة التي ذكرناها في قوله : " واجْنُبْنِي وبَنِيََّ " .

وثانيها : قال بعضهم : أراد من أولاده ، وأولاد أولاده كل من كان موجوداً حال الدُّعاء ، ولا شك أنَّ دعوته مجابة فيهم .

وثالثها : قال مجاهد : لم يعبد أحد من ولد إبراهيم -عليه الصلاة والسلام- صنماً ، والصنم هو التمثال المصور ، وما ليس بصنم هو من الوثن ، وكفَّار قريش ما عبدوا التمثال ، وإنما كانوا بعبدون أحجاراً مخصوصة .

وهذا الجواب ليس بقوي ؛ لأنَّه -صلوات الله وسلامه عليه- لا يجوز أن يريد بهذا الدعاء إلا عبادة غير الله ، والحجر كالصَّنم في ذلك .

ورابعها : أنًَّ هذا الدعاء مختص بالمؤمنين من أولاده ، بدليل قوله في آخر الآية { فَمَن تَبِعَنِي فَإِنَّهُ مِنِّي } ، وذلك يفيد أنَّ من لم يتبعه على دينه فإنه ليس منه ، وقوله -تبارك وتعالى- لنوح -عليه الصلاة والسلام- : { إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ } [ هود : 46 ] .

وخامسها : لعلَّه ، وإن كان عمّ في الدعاء إلاَّ أنَّه -تعالى- أجاب دعاءه في حق البعض دون البعض ، وذلك لا يوجب تحقير الأنبياء -صلوات الله وسلامه عليهم- ونظيره قوله تعالى في حق إبراهيم -صلوات الله وسلامه عليه- { قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَاماً قَالَ وَمِن ذُرِّيَّتِي قَالَ لاَ يَنَالُ عَهْدِي الظالمين } [ البقرة : 124 ] .

قوله : { واجنبني وَبَنِيَّ أَن نَّعْبُدَ الأصنام } دليل على أن الكفر ، والإيمان من الله -تعالى- لأنًَّ إبراهيم -صلوات الله وسلامه عليه- طلب من الله -تعالى- أن يجنبه ، ويجنب أولاده من الكفر .

والمعتزلة يحملون ذلك على الإلطاف ، وهو عدول عن الظَّاهر ، وتقدم فساد هذا التأويل .


[19301]:ينظر: الكشاف 2/557.
[19302]:ينظر: المفردات 100.
[19303]:في أ: كأنه .
[19304]:ينظر: المحرر الوجيز 3/341 والبحر المحيط 5/420 والدر المصون 4/273.
[19305]:ينظر: الفخر الرازي 19/105.
[19306]:ينظر: الكشاف 2/558.
[19307]:في ب: لصلبه.