فتح البيان في مقاصد القرآن للقنوجي - صديق حسن خان  
{وَإِذۡ قَالَ إِبۡرَٰهِيمُ رَبِّ ٱجۡعَلۡ هَٰذَا ٱلۡبَلَدَ ءَامِنٗا وَٱجۡنُبۡنِي وَبَنِيَّ أَن نَّعۡبُدَ ٱلۡأَصۡنَامَ} (35)

{ وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَذَا الْبَلَدَ ءاِمنًا وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَن نَّعْبُدَ الأَصْنَامَ ( 35 ) }

{ وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ } أي واذكر وقت قوله ، ولعل المراد بسياق ما قاله إبراهيم عليه السلام في هذا الموضع بيان كفر قريش بالنعم الخاصة بهم ، وهي إسكانهم مكة بعد ما بين كفرهم بالنعم العامة . وقيل إن ذكر قصة إبراهيم ههنا لمثال الكلمة الطيبة ، وقيل لقصد الدعاء إلى التوحيد وإنكار عبادة الأصنام . وهذه القصة كانت بعد ما وقع له من الإلقاء في النار ؛ وفي تلك لم يسأل ولم يدع بل اكتفى بعلم الله بحاله وفي هذه قد دعا وتضرع ؛ ومقام الدعاء أجل وأعلى من مقام تركه اكتفاء بعلم الله كما قاله العارفون . فيكون إبراهيم قد ترقى وانتقل من طور إلى طور من أطوار الكمال .

{ رَبِّ اجْعَلْ هَذَا الْبَلَدَ } أي مكة { آمِنًا } أي ذا أمن إلى قرب القيامة وخراب الدنيا ، وقدم طلب الأمن على سائر المطالب المذكورة بعده لأنه إذا انتفى الأمن لم يفرغ الإنسان لشيء آخر من أمور الدنيا والدين ، وقد تقدم تفسير مثل هذه الآية في البقرة عند قوله تعالى : { رَبِّ اجْعَلْ هَذَا ْبَلَدَا آمِنًا } والفرق بين ما هنا وما هنالك أن المطلوب ههنا مجرد الأمن للبلد ، والمطلوب هنالك البلدية والأمن .

وفي الجمل فسر الشارح البلد هنا بمكة ، وفي سورة البقرة بالمكان فيقتضي أن هذا الدعاء وقع مرتين مرة قبل بنائها ومرة بعده ، ولذلك كتب الكرخي هناك ما نصه نكر البلد هنا وعرفه في إبراهيم لأن الدعوة هنا كانت قبل جعل المكان بلدا فطلب من الله أن يجعل ويصير بلدا آمنا وثم كانت بعد جعله بلدا انتهى .

وقال الزمخشري : سأل في الأول أن يجعله من جملة البلاد التي يأمن أهلها ولا يخافون ، وفي الثاني أن يخرجه من صفة كان عليها من الخوف إلى ضدها من الأمن كأنه قال هو بلد مخوف فاجعله آمنا انتهى .

قلت والمعاني متقاربة والمراد من الدعاء جعل مكة آمنة من الخراب ، وهذا موجود بحمد الله ولم يقدر أحد على تخريبها وإن أغار جماعة من الجبابرة عليها وأخافوا أهلها ، وقيل هو عام مخصوص بقصة ذي السويقتين من الحبشة على ما في الصحيحين فلا تعارض بين النصين .

أو المراد جعل أهل هذا البلد آمنين ، وهذا الوجه عليه أكثر المفسرين وغيرهم ، وهذا الأمن حاصل بحمد الله بمكة وحرمها إلى الآن قال السيوطي : وقد أجاب الله دعاءه فجعله حرما لا يسفك فيه دم إنسان ولا يظلم فيه أحد ولا يصاد صيده ولا يختلى خلاه .

{ وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَن نَّعْبُدَ الأَصْنَامَ } يقال جنبته كذا وأجنبته أي باعدته عنه ثلاثيا ورباعيا وهي لغة نجد ، وجنبه إياه مشددا وهي لغة الحجاز وهو المنع وأصله من الجانب كأنه سأله ان يبعده عن جانب الشرك بألطاف منه وأسباب خفية والمعنى باعدني وباعد بني عن عبادة الأصنام قيل أراد بنيه من صلبه وكانوا ثمانية ، وقيل أراد من كان موجودا حال دعوته من بنيه وبني بنيه ، وقيل أراد جميع ذريته ما تناسلوا .

قيل ويؤيد ذلك ما قيل من أنه لم يعبد أحد من أولاد إبراهيم صنما ، والصنم هو التمثال الذي كانت تصنعه أهل الجاهلية من الأحجار ونحوها فيعبدونه ، والتأييد هذا يستقيم على القولين الأولين ، وأما القول الثالث فلا يستقيم فقريش من أولاد إسماعيل وقد عبدوا الأصنام بلا شك ، وقال الواحدي : المعنى وبني الذين أذنت لي في الدعاء لهم ، وقد كان من بنيه من عبد الصنم ، فيكون هذا الدعاء من العام المخصوص .

وقيل هذا مختص بالمؤمنين من أولاده بدليل قوله في آخر الآية فمن تبعني فإنه مني وذلك يفيد أن من لم يتبعه على دينه فليس منه ، وعن مجاهد قال : فاستجاب الله لإبراهيم دعوته في ولده فلم يعبد أحد من ولده صنما بعد دعوته ، واستجاب الله له وجعل هذا البلد آمنا ورزق أهله الثمرات وجعله إماما وجعل من ذريته من يقيم الصلاة و ويقبل دعاءه فأراه مناسكه وتاب عليه ، قيل هو دعاء لنفسه في مقام الخوف أو قصد به الجمع بينه وبين بنيه ليستجاب لهم ببركته والمراد طلب الثبات والدوام على ذلك .