55- وربك أعلم بكل من في السماوات والأرض وبأحوالهم فيختار منهم لنبوته من يشاء ، وقد اختارك لرسالته فلا يصح أن يستكثروا عليك النبوة ، وهؤلاء الأنبياء ليسوا سواء في الفضل عنده - جل شأنه - بل بعضهم أفضل من بعض ، ولقد فضل بعض النبيين على بعض بالمعجزات وكثرة التابعين ، لا بالملك ، فَفَضَّل داود أنه أوتى الزبور ، لا لأنه أوتى الملك . فلا عجب أن تنال الفضل العظيم بما أوتيت من القرآن .
وقوله : { وَرَبُّكَ أَعْلَمُ بِمَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ } أي : بمراتبهم في الطاعة والمعصية { وَلَقَدْ فَضَّلْنَا بَعْضَ النَّبِيِّينَ } ، كَمَا قَالَ : { تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ مِنْهُمْ مَنْ كَلَّمَ اللَّهُ وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجَاتٍ } [ البقرة : 253 ] .
وهذا لا ينافي ما [ ثبت ]{[17606]} في الصحيحين عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال : " لا تفضلوا بين الأنبياء " {[17607]} ؛ فإن المراد من ذلك هو التفضيل بمجرد التشهي والعصبية{[17608]} ، لا بمقتضى الدليل ، [ فإنه إذا دل الدليل ]{[17609]} على شيء وجب اتباعه ، ولا خلاف أن الرسل أفضل من بقية الأنبياء ، وأن أولي العزم منهم أفضلهم ، وهم الخمسة المذكورون نصا{[17610]} في آيتين من القرآن في سورة الأحزاب : { وَإِذْ أَخَذْنَا مِنَ النَّبِيِّينَ مِيثَاقَهُمْ وَمِنْكَ وَمِنْ نُوحٍ وَإِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ } [ الأحزاب : 7 ] ، وفي الشورى [ في قوله ]{[17611]} : { شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ } [ الشورى : 13 ] . ولا خلاف أن محمدًا صلى الله عليه وسلم أفضلهم ، ثم بعده إبراهيم ، ثم موسى على المشهور ، وقد بسطنا هذا بدلائله في غير هذا الموضع ، والله الموفق .
وقوله : { وَآتَيْنَا دَاوُدَ زَبُورًا } تنبيه على فضله وشرفه .
قال البخاري : حدثنا إسحاق بن نصر ، أخبرنا عبد الرزاق ، أخبرنا مَعْمر ، عن هَمَّام ، عن أبي هريرة ، رضي الله عنه ، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " خُفف على داود القرآن ، فكان يأمر بدابته لتُسْرج ، فكان يقرأ قبل أن يَفْرغ " . يعني القرآن{[17612]} .
القول في تأويل قوله تعالى : { وَرَبّكَ أَعْلَمُ بِمَنْ فِي السّمَاوَاتِ وَالأرْضِ وَلَقَدْ فَضّلْنَا بَعْضَ النّبِيّينَ عَلَىَ بَعْضٍ وَآتَيْنَا دَاوُودَ زَبُوراً } .
يقول تعالى ذكره لنبيه صلى الله عليه وسلم : وربك يا محمد أعلم بمن في السموات والأرض وما يصلحهم فإنه هو خالقهم ورازقهم ومدبرهم ، وهو أعلم بمن هو أهل للتوبة والرحمة ، ومن هو أهل للعذاب ، أهدى للحقّ من سبق له مني الرحمة والسعادة ، وأُضلّ من سبق له مني الشقاء والخذلان ، يقول : فلا يكبرنّ ذلك عليك ، فإن ذلك من فعلي بهم لتفضيلي بعض النبيين على بعض ، بإرسال بعضهم إلى بعض الخلق ، وبعضهم إلى الجميع ، ورفعي بعضهم على بعض درجات . كما :
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله : وَرَبّكَ أعْلَمُ بِمَنْ في السّمَوَاتِ والأرْضِ وَلَقَدْ فَضّلْنا بَعْضَ النّبِيّينَ عَلى بَعْضٍ اتخذ الله إبراهيم خليلاً ، وكلّم موسى تكليما ، وجعل الله عيسى كمثل آدم خلقه من تراب ، ثم قال له كن فيكون ، وهو عبد الله ورسوله ، من كلمة الله وروحه ، وآتى سليمان مُلكا لا ينبغي لأحد من بعده ، وآتى داود زبورا ، كنا نحدّث دعاء عُلّمه داود ، تحميد وتمجيد ، ليس فيه حلال ولا حرام ، ولا فرائض ولا حدود ، وغفر لمحمد ما تقدّم من ذنبه وما تأخّر .
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جريج وَلَقَدْ فَضّلْنا بَعْض النّبِيّينَ عَلى بَعْضٍ قال : كلم الله موسى ، وأرسل محمدا إلى الناس كافّة .
{ وربك أعلم بمن في السماوات والأرض } بأحوالهم فيختار منهم لنبوته وولايته من يشاء ، وهو رد لاستبعاد قريش أن يكون يتيم أبي طالب نبيا ، وان يكون العراة الجؤع أصحابه . { ولقد فضّلنا بعض النّبيين على بعض } بالفضائل النفسانية والتبري عن العلائق الجسمانية ، لا بكثرة الأموال والأتباع حتى داود عليه الصلاة والسلام فإن شرفه بما أوحى إليه من الكتاب لا بما أوتيه من الملك . قيل هو إشارة إلى تفضيل رسول الله صلى الله عليه وسلم وقوله : { وآتينا داود زبوراً } تنبيه على وجه تفضيله وهو أنه خاتم الأنبياء وأمته خير الأمم المدلول عليه بما كتب في الزبور من أن الأرض يرثها عبادي الصالحون ، وتنكيره ها هنا وتعريفه في قوله تعالى : { ولقد كتبنا في الزبور } لأنه في الأصل فعول للمفعول كالحلوب ، أو المصدر كالقبول ويؤيده قراءة حمزة بالضم وهو كالعباس أو الفضل ، أو لأن المراد وآتينا داود بعض الزبر ، أو بعضا من الزبور فيه ذكر الرسول عليه الصلاة والسلام .
تماثل القرينتين في فاصلتيْ هذه الآية من كلمة { والأرض } وكلمة { على بعض } ، يدل دلالة واضحة على أنهما كلام مرتبط بعضه ببعض ، وأن ليس قوله : { وربك أعلم بمن في السماوات والأرض } تكملة لآية { ربكم أعلم بكم } [ الإسراء : 54 ] الآية .
وتغيير أسلوب الخطاب في قوله : { وربك أعلم } بعد قوله : { ربكم أعلم بكم } [ الإسراء : 54 ] إيماء إلى أن الغرض من هذه الجملة عائد إلى شأن من شؤون النبي التي لها مزيد اختصاص به ، تقفية على إبطال أقوال المشركين في شؤون الصفات الإلهية ، بإبطال أقوالهم في أحوال النبي . ذلك أن المشركين لم يقبلوا دعوة النبي بغرورهم أنه لم يكن من عظماء أهل بلادهم وقادتهم ، وقالوا : أبعث الله يتيم أبي طالب رسولاً ، أبعث الله بشراً رسولاً ، فأبكتهم الله بهذا الرد بقوله : { وربك أعلم بمن في السماوات والأرض } فهو العالم حيث يجعل رسالته .
وكان قوله : { وربك أعلم بمن في السماوات والأرض } كالمقدمة لقوله : { ولقد فضلنا بعض النبيئين } الآية . أعاد تذكيرهم بأن الله أعلم منهم بالمستأهل للرسالة بحسب ما أعده الله فيه من الصفات القابلة لذلك ، كما قال الله تعالى عنهم { قالوا لن نؤمن حتى نؤتى مثل ما أوتي رسل الله الله أعلم حيث يجعل رسالاته } في سورة [ الأنعام : 124 ] .
وكان الحكم في هذه المقدمة على عموم الموجودات لتكون بمنزلة الكلية التي يؤخذ منها كل حكم لجزئياتها ، لأن المقصود بالإبطال من أقوال المشركين جامع لصور كثيرة من أحوال الموجودات من البشر والملائكة وأحوالهم ؛ لأن بعض المشركين أحالوا إرسال رسول من البشر ، وبعضهم أحالوا إرسال رسول ليس من عظمائهم ، وبعضهم أحالوا إرسال من لا يأتي بمثل ما جاء به موسى عليه الصلاة والسلام . وذلك يثير أحوالاً جمة من العصور والرجال والأمم أحياءً وأمواتاً . فلا جرم كان للتعميم موقع عظيم في قوله : { بمن في السماوات والأرض } ، وهو أيضاً كالمقدمة لجملة { ولقد فضلنا بعض النبيئين على بعض } ، مشيراً إلى أن تفاضل الأنبياء ناشىء على ما أودعه الله فيهم من موجبات التفاضل . وهذا إيجاز تضمن إثباتَ النبوءة وتقررها فيما مضى ما لا قبل لهم بإنكاره ، وتعدّدَ الأنبياء مما يجعل محمداً صلى الله عليه وسلم ليس بدعا من الرسل ، وإثباتَ التفاضل بين الأفراد من البشر ، فمنهم رسول ومنهم مرسل إليهم ، وإثباتَ التفاضل بين أفراد الصنف الفاضل . وتقرر ذلك فيما مضى تقرراً لا يستطيع إنكاره إلا مكابر بالتفاضل حتى بين الأفضلين سنةً إلهية مقررة لا نكران لها . فعلم أن طعنهم في نبوءة محمد صلى الله عليه وسلم طعن مكابرة وحسد . كما قال تعالى في شأن اليهود { أم يحسدون الناس على ما آتاهم الله من فضله فقد آتينا آل إبراهيم الكتاب والحكمة وآتيناهم مُلكاً عظيماً } في سورة [ النساء : 54 ] .
وتخصيص داوود عليه السلام بالذكر عقب هذه القضية العامة وجهه صاحب « الكشاف » ومن تبعه بأن فائدة التلميح إلى أن محمداً صلى الله عليه وسلم أفضل الأنبياء وأمته أفضل الأمم لأن في الزبور أن الأرض يرثها عباد الله الصالحون . وهذا حسن . وأنا أرى أن يكون وجه هذا التخصيص الإيماء إلى أن كثيراً من الأحوال المرموقة في نظر الجاهلين وقاصري الأنظار بنظر الغضاضة هي أحوال لا تعوق أصحابها عن الصعود في مدارج الكمال التي اصطفاها الله لها ، وأن التفضيل بالنبوءة والرسالة لا ينشأ عن عظمة سابقة ؛ فإن داوود عليه السلام كان راعياً من رعاة الغنم في بني إسرائيل ، وكان ذا قوة في الرمي بالحجر ، فأمر الله شاول ملك بني إسرائيل أن يختار داوود لمحاربة جالوت الكنعاني ، فلما قَتل داوودُ جالوتَ آتاه الله النبوءة وصيره ملِكاً لإسرائيل ، فهو النبي الذي تجلى فيه اصطفاء الله تعالى لمن لم يكن ذا عظمة وسيادة .
وذكر إيتائه الزبور هو محل التعريض للمشركين بأن المسلمين سيرثون أرضهم وينتصرون عليهم لأن ذلك مكتوب في الزبور كما تقدم آنفاً . وقد أوتي داوود الزبور ولم يؤت أحد من أنبياء بني إسرائيل كتاباً بعد موسى عليه السلام .
وذكر داوود تقدم في سورة الأنعام وفي آخر سورة النساء .
وأما الزبور فذكر عند قوله تعالى : { وآتينا داوود زبورا } في آخر سورة [ النساء : 163 ] .
والزبور : اسم لمجموع أقوال داوود عليه السلام التي بعضها مما أوحاه إليه وبعضها مما ألهمه من دعوات ومناجاة وهو المعروف اليوم بكتاب المزامير من كتب العهد القديم .