وقوله تعالى : { وَإِذْ فَرَقْنَا بِكُمُ الْبَحْرَ فَأَنْجَيْنَاكُمْ وَأَغْرَقْنَا آلَ فِرْعَوْنَ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ } معناه : وبعد أن أنقذناكم من آل فرعون ، وخرجتم مع موسى ، عليه السلام ، خرج{[1730]} فرعون في طلبكم ، ففرقنا بكم البحر ، كما أخبر تعالى عن ذلك مفصلا{[1731]} كما سيأتي في مواضعه{[1732]} ومن أبسطها في سورة الشعراء إن شاء الله .
{ فَأَنْجَيْنَاكُمْ } أي : خلصناكم منهم ، وحجزنا بينكم وبينهم ، وأغرقناهم وأنتم تنظرون ؛ ليكون ذلك أشفى لصدوركم ، وأبلغ في إهانة عدوكم .
قال{[1733]} عبد الرزاق : أنبأنا مَعْمر ، عن أبي إسحاق الهَمْداني ، عن عمرو بن ميمون الأودي في قوله تعالى : { وَإِذْ فَرَقْنَا بِكُمُ الْبَحْرَ } إلى قوله : { وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ } قال : لما خرج موسى ببني إسرائيل ، بلغ ذلك فرعون فقال : لا تتبعوهم حتى تصيح الديكة . قال : فوالله ما صاح ليلتئذ ديك حتى أصبحوا ؛ فدعا بشاة فَذُبحت ، ثم قال : لا أفرغ من كبدها حتى يجتمع إليَّ ستمائة ألف من القبط . فلم يفرغ من كبدها حتى اجتمع إليه ستمائة ألف من القبط ثم سار ، فلما أتى موسى البحر ، قال له رجل من أصحابه ، يقال له : يوشع بن نون : أين أمَرَ ربك ؟ قال : أمامك ، يشير إلى البحر . فأقحم يوشع فرسَه في البحر حتى بلغ الغَمْرَ ، فذهب به الغمر ، ثم رجع . فقال : أين أمَرَ ربك يا موسى ؟ فوالله ما كذبت ولا كُذبت{[1734]} . فعل ذلك ثلاث مرات ، ثم أوحى الله إلى موسى : { أَنِ اضْرِبْ بِعَصَاكَ الْبَحْرَ } فضربه { فَانْفَلَقَ فَكَانَ كُلُّ فِرْقٍ كَالطَّوْدِ الْعَظِيمِ } [ الشعراء : 63 ] ، يقول : مثل الجبل . ثم سار موسى ومن معه وأتبعهم فرعون في طريقهم ، حتى إذا تتاموا فيه أطبقه الله عليهم فلذلك قال : { وَأَغْرَقْنَا آلَ فِرْعَوْنَ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ }{[1735]} .
وكذلك قال غير واحد من السلف ، كما سيأتي بيانه في موضعه{[1736]} . وقد ورد أن هذا اليوم كان يوم عاشوراء ، كما قال الإمام أحمد :
حدثنا عفان ، حدثنا عبد الوارث ، حدثنا أيوب ، عن عبد الله بن سعيد بن جبير ، عن أبيه ، عن ابن عباس ، قال : قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة فرأى اليهود يصومون يوم عاشوراء ، فقال : " ما هذا اليوم الذي تصومون ؟ " . قالوا : هذا يوم صالح ، هذا يوم نجى الله عز وجل فيه بني إسرائيل من عدوهم{[1737]} ، فصامه موسى ، عليه السلام ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " أنا أحق بموسى منكم " . فصامه رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وأمر بصومه .
وروى هذا الحديث البخاري ، ومسلم ، والنسائي ، وابن ماجه من طرق ، عن أيوب السختياني ، به{[1738]} نحو ما تقدم .
وقال أبو يعلى الموصلي : حدثنا أبو الربيع ، حدثنا سلام - يعني ابن سليم - عن زيد العَمِّيّ عن يزيد الرقاشي عن أنس ، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " فلق الله البحر لبني إسرائيل يوم عاشوراء " {[1739]} .
وهذا ضعيف من هذا الوجه فإن زيدا العَمِّيّ فيه ضعف ، وشيخه يزيد الرقاشي أضعف منه .
{ وَإِذْ فَرَقْنَا بِكُمُ الْبَحْرَ فَأَنجَيْنَاكُمْ وَأَغْرَقْنَا آلَ فِرْعَوْنَ وَأَنْتُمْ تَنظُرُونَ }
أما تأويل قوله : وَإذْ فَرَقْنا بكُمُ فإنه عطف على : وَإذْ نَجّيْناكُمْ بمعنى : واذكروا نعمتي التي أنعمت عليكم ، واذكروا إذ نجيناكم من آل فرعون ، وإذ فرقنا بكم البحر . ومعنى قوله : فَرَقْنا بِكُمْ : فصلنا بكم البحر ، لأنهم كانوا اثني عشر سبطا ، ففرق البحر اثني عشر طريقا ، فسلك كل سبط منهم طريقا منها . فذلك فرق الله بهم جل ثناؤه البحر ، وفصله بهم بتفريقهم في طرقه الاثني عشر . كما :
حدثني موسى بن هارون ، قال : حدثنا عمرو بن حماد ، قال : حدثنا أسباط بن نصر ، عن السدي : لما أتى موسى البحر كناه أبا خالد ، وضربه فانفلق فكان كل فرق كالطود العظيم ، فدخلت بنو إسرائيل ، وكان في البحر اثنا عشر طريقا في كل طريق سبط .
وقد قال بعض نحويي البصرة : معنى قوله : وَإذْ فَرَقْنا بِكُمُ البَحْرَ فرقنا بينكم وبين الماء : يريد بذلك : فصلنا بينكم وبينه وحجزناه حيث مررتم به . وذلك خلاف ما في ظاهر التلاوة لأن الله جل ثناؤه إنما أخبر أنه فرق البحر بالقوم ، ولم يخبر أنه فرق بين القوم وبين البحر ، فيكون التأويل ما قاله قائلو هذه المقالة ، وفرقه البحر بالقوم ، إنما هو تفريقه البحر بهم على ما وصفنا من افتراق سبيله بهم على ما جاءت به الاَثار .
القول في تأويل قوله تعالى : فأنْجَيْناكُمْ وأغْرَقْنا آلَ فِرْعَوْنَ وأنْتُمْ تَنْظُرُونَ .
قال أبو جعفر : إن قال لنا قائل : وكيف أغرق الله جل ثناؤه آل فرعون ، ونَجّى بني إسرائيل ؟ قيل له : كما :
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا سلمة ، عن ابن إسحاق ، عن محمد بن كعب القرظي ، عن عبد الله بن شداد بن الهاد ، قال : لقد ذكر لي أنه خرج فرعون في طلب موسى على سبعين ألفا من دُهْم الخيل سوى ما في جنده من شُهْبِ الخيل وخرج موسى ، حتى إذا قابله البحر ولم يكن له عنه منصرف ، طلع فرعون في جنده من خلفهم ، فلما تراءى الجمعان قال أصحاب موسى إنّا لَمُدْرَكُونَ قال موسى : كَلاّ إنّ مَعِي رَبي سَيَهْدِينِ أي للنجاة ، وقد وعدني ذلك ولا خلف لوعده .
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا سلمة ، قال : حدثني ابن إسحاق ، قال : أوحى الله إلى البحر فيما ذكر إذا ضربك موسى بعصاه فانفلقْ له ، قال : فبات البحر يضرب بعضه بعضا فَرَقا من الله وانتظار أمره ، فأوحى الله جل وعزّ إلى موسى : أنْ اضْرِبْ بِعَصَاكَ البَحْرَ فضربه بها وفيها سلطان الله الذي أعطاه ، فانْفَلَقَ فَكانَ كُلّ فِرْقٍ كالطّوْدِ العَظِيمِ أي كالجبل على يبس من الأرض . يقول الله لموسى : اضْرِبْ لَهُمْ طَرِيقا في البَحْرِ يَبَسا لاَ تَخافُ دَرَكا وَلا تَخْشَى فلما استقرّ له البحر على طريق قائمة يَبَسٍ سلك فيه موسى ببني إسرائيل ، وأتبعه فرعون بجنوده .
762وحدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا سلمة ، قال : حدثني محمد بن إسحاق ، عن محمد بن كعب القرظي ، عن عبد الله بن شداد بن الهاد الليثي ، قال : حدثت أنه لما دخل بنو إسرائيل البحر ، فلم يبق منهم أحد ، أقبل فرعون وهو على حصان له من الخيل حتى وقف على شفير البحر ، وهو قائم على حاله ، فهاب الحصان أن ينفذه فعرض له جبريل على فرس أنثى وَدِيق ، فقرّبها منه فشمها الفحل ، فلما شمها قدّمها ، فتقدم معها الحصان عليه فرعون ، فلما رأى جند فرعون فرعونَ قد دخل دخلوا معه وجبريل أمامه ، وهم يتبعون فرعون وميكائيل على فرس من خلف القوم يسوقهم ، يقول : الحقوا بصاحبكم . حتى إذا فصل جبريل من البحر ليس أمامه أحد ، ووقف ميكائيل على ناحيته الأخرى وليس خلفه أحد ، طبق عليهم البحر ، ونادى فرعون حين رأى من سلطان الله عزّ وجلّ وقدرته ما رأى وعرف ذلته وخذلته نفسه : آمَنْتُ أنّهُ لاَ إلَهَ إِلاّ الّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُو إسْرَائِيلَ وأنا مِنَ المُسْلِمِينَ .
حدثنا الحسن بن يحيى ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا معمر ، عن أبي إسحاق الهمداني ، عن عمرو بن ميمون الأودي في قوله : وَإذْ فَرَقْنَا بِكُمُ البَحْرَ فَأنْجَيْنَاكُمْ وأغْرَقْنا آلَ فِرْعَوْنَ وأنْتُمْ تَنْظُرُونَ قال : لما خرج موسى ببني إسرائيل بلغ ذلك فرعون ، فقال : لا تتبعوهم حتى يصيح الديك . قال : فوالله ما صاح ليلتئذ ديك حتى أصبحوا فدعا بشاة فذبحت ، ثم قال : لا أفرغ من كبدها حتى يجتمع إليّ ستمائة ألف من القبط . فلم يفرغ من كبدها حتى اجتمع إليه ستمائة ألف من القبط . ثم سار ، فلما أتى موسى البحر ، قال له رجل من أصحابه يقال له يوشع بن نون : أين أمرك ربك يا موسى ؟ قال : أمامك يشير إلى البحر . فأقحم يوشك فرسه في البحر حتى بلغ الغمر ، فذهب به ثم رجع ، فقال : أين أمرك ربك يا موسى ؟ فوالله ما كذبت ولا كذبت ففعل ذلك ثلاث مرات ، ثم أوحى الله جل ثناؤه إلى موسى : أنِ اضْرِبْ بِعَصَاكَ البَحْر فانْفَلَقَ فَكانَ كُل فِرْقٍ كالطّوْدِ العَظِيم يقول : مثل جبل . قال : ثم سار موسى ومن معه وأتبعهم فرعون في طريقهم ، حتى إذا تتاموا فيه أطبقه الله عليهم ، فلذلك قال : وأغْرَقْنا آلَ فِرْعَوْنَ وأنْتُمْ تَنْظُرُونَ قال معمر : قال قتادة : كان مع موسى ستمائة ألف ، وأتبعه فرعون على ألف ألف ومائة ألف حصان .
وحدثني عبد الكريم بن الهيثم ، قال : حدثنا إبراهيم بن بشار الرمادي ، قال : حدثنا سفيان ، قال : حدثنا أبو سعيد ، عن عكرمة ، عن ابن عباس ، قال : أوحى الله جل وعز إلى موسى أنْ أسْرِ بعِبادِي لَيْلاً إنّكُمْ مُتّبَعُونَ قال : فسرى موسى ببني إسرائيل ليلاً ، فأتبعهم فرعون في ألف ألف حصان سوى الإناث وكان موسى في ستمائة ألف ، فلما عاينهم فرعون قال : إنّ هؤلاءِ لِشَرْذِمَةٌ قَلِيلُونَ وإنّهُمْ لَنا لَغَائِظُونَ وإنّا لَجَمِيعٌ حَذِرُونَ . فسرى موسى ببني إسرائيل حتى هجموا على البحر ، فالتفتوا فإذا هم برَهْج دوابّ فرعون فقالوا : يا موسى أُوذِينا مِنْ قَبْلِ أنْ تأتِيَنَا ومِن بعدِ ما جِئْتَنا هذا البحر أمامنا ، وهذا فرعون قد رهقنا بمن معه . قال عَسَى رَبّكُمْ أنْ يُهْلِكَ عَدُوّكُمْ وَيَسْتَخْلِفَكم فِي الأرْضِ فَيَنْظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ . قال : فأوحى الله جل ثناؤه إلى موسى أنِ اضْرِبْ بِعَصَاكَ البحر وأوحى إلى البحر : أن اسمع لموسى وأطع إذا ضربك . قال : فبات/ فثاب البحر له أفكل يعني له رعدة لا يدرى من أيّ جوانبه يضربه ، قال : فقال يوشع لموسى : بماذا أمرت ؟ قال : أمرت أن أضرب البحر . قال : فاضربه قال : فضرب موسى البحر بعصاه ، فانفلق ، فكان فيه اثنا عشر طريقا ، كل طريق كالطود العظيم ، فكان لكل سبط منهم طريق يأخذون فيه . فلما أخذوا في الطريق ، قال بعضهم لبعض : ما لنا لا نرى أصحابنا ؟ قالوا لموسى : أين أصحابنا لا نراهم ؟ قال : سيروا فإنهم على طريق مثل طريقكم . قالوا : لا نرضى حتى نراهم قال سفيان ، قال عمار الدهني : قال موسى : اللهمّ أعني على أخلاقهم السيئة . قال : فأوحى الله إليه : أن قل بعصاك هكذا وأومأ إبراهيم بيده يديرها على البحر قال موسى بعصاه على الحيطان هكذا ، فصار فيها كُوًى ينظر بعضهم إلى بعض ، قال سفيان : قال أبو سعيد ، عن عكرمة ، عن ابن عباس : فساروا حتى خرجوا من البحر ، فلما جاز آخر قوم موسى هجم فرعون على البحر هو وأصحابه ، وكان فرعون على فرس أدهم ذَنُوب حصان . فلما هجم على البحر هاب الحصان أن يقتحم في البحر ، فتمثل له جبريل على فرس أنثى وَدِيق . فلما رآها الحصان تقحّم خلفها ، وقيل لموسى : اترك البحر رَهْوا قال : طرقا على حاله قال : ودخل فرعون وقومه في البحر ، فلما دخل آخر قوم فرعون وجاز آخر قوم موسى أطبق البحر على فرعون وقومه فأغرقوا .
حدثنا موسى بن هارون ، قال : حدثنا عمرو بن حماد ، قال : حدثنا أسباط بن نصر ، عن السدي : أن الله أمر موسى أن يخرج ببني إسرائيل ، فقال : أسْرِ بِعِبَادِي لَيْلاً إنّكُمْ مُتَبّعُونَ فخرج موسى وهارون في قومهما ، وأُلقي على القبط الموت فمات كل بكر رجل . فأصبحوا يدفنونهم ، فشغلوا عن طلبهم حتى طلعت الشمس ، فذلك حين يقول الله جل ثناؤه : فأتْبَعُوهُمْ مُشْرِقِينَ فكان موسى على ساقة بني إسرائيل ، وكان هارون أمامهم يقدُمُهم . فقال المؤمن لموسى : يا نبيّ الله ، أين أمرت ؟ قال : البحر . فأراد أن يقتحم ، فمنعه موسى . وخرج موسى في ستمائة ألف وعشرين ألف مقاتل ، لا يعدّون ابنَ العشرين لصغره ولا ابن الستين لكبره ، وإنما عدوّا ما بين ذلك سوى الذرية . وتبعهم فرعون وعلى مقدمته هامان في ألف ألف وسبعمائة ألف حصان ليس فيها ما ذبانه ، يعني الأنثى وذلك حين يقول الله جل ثناؤه : فأرْسَلَ فِرْعَوْنُ فِي المَدَائِنِ حاشِرِينَ إنّ هَؤُلاَءِ لَشِرْذِمَةٌ قَلِيلُونَ يعني بني إسرائيل . فتقدم هارون ، فضرب البحر ، فأبى البحر أن ينفتح ، وقال : من هذا الجبار الذي يضربني ؟ حتى أتاه موسى ، فكناه أبا خالد وضربه فانفلق فكانَ كلّ فِرْقٍ كالطّوْدِ العَظِيم يقول : كالجبل العظيم . فدخلت بنو إسرائيل . وكان في البحر اثنا عشر طريقا ، في كل طريق سبط ، وكانت الطرق انفلقت بجدران ، فقال كل سبط : قد قتل أصحابنا : فلما رأى ذلك موسى ، دعا الله ، فجعلها لهم قناطر كهيئة الطّيقان . فنظر آخرهم إلى أولهم ، حتى خرجوا جميعا . ثم دنا فرعون وأصحابه ، فلما نظر فرعون إلى البحر منفلقا ، قال : ألا ترون البحر فرق مني قد انفتح لي حتى أدرك أعدائي فأقتلهم ؟ فذلك حين يقول الله جل ثناؤه : وأزْلَفْنا ثَمّ الاَخرِينَ يقول : قرّبنا ثم الاَخرين يعني آل فرعون . فلما قام فرعون على أفواه الطرق أبت خيله أن تقتحم ، فنزل جبريل على ماذبانه ، فشامّ الحصان ريح الماذبانه ، فاقتحم في أثرها ، حتى إذا همّ أولهم أن يخرج ودخل آخرهم ، أمر البحر أن يأخذهم ، فالتطم عليهم .
وحدثني يونس بن عبد الأعلى ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد : لما أخذ عليهم فرعون الأرض إلى البحر قال لهم فرعون : قولوا لهم يدخلون البحر إن كانوا صادقين . فلما رآهم أصحاب موسى ، قالوا : إنّا لَمُدْرَكُونَ قال كَلاّ إنّ مَعِي رَبي سَيَهْدِينِ فقال موسى للبحر : ألست تعلم أني رسول الله ؟ قال : بلى . قال : وتعلم أن هؤلاء عباد من عباد الله أمرني أن آتي بهم ؟ قال : بلى . قال : أتعلم أن هذا عدوّ الله ؟ قال : بلى . قال : فانفرقْ لي طريقا ولمن معي . قال : يا موسى ، إنما أنا عبد مملوك ليس لي أمر إلا أن يأمرني الله تعالى . فأوحى الله عزّ وجل إلى البحر : إذا ضربك موسى بعصاه فانفرق ، وأوحى إلى موسى أن يضرب البحر ، وقرأ قول الله تعالى : فاضْرِبْ لَهُمْ طَرِيقا في البَحْرِ يَبَسا لاَ تَخافُ دَرَكا وَلا تَخْشَى وقرأ قوله : وَاتْرُكِ البَحْرَ رَهْوا سَهَلاً ليس فيه تعدّ . فانفرق اثنتي عشرة فرقة ، فسلك كل سبط في طريق . قال : فقالوا لفرعون : إنهم قد دخلوا البحر . قال : ادخلوا عليهم ، قال : وجبريل في آخر بني إسرائيل يقول لهم : ليلحق آخركم أولكم . وفي أول آل فرعون ، يقول لهم : رويدا يلحق آخركم أولكم . فجعل كل سبط في البحر يقولون للسبط الذين دخلوا قبلهم : قد هلكوا . فلما دخل ذلك قلوبهم ، أوحى الله جلّ وعزّ إلى البحر ، فجعل لهم قناطر ينظر هؤلاء إلى هؤلاء ، حتى إذا خرج آخر هؤلاء ودخل آخر هؤلاء أمر الله البحر فأطبق على هؤلاء .
ويعني بقوله : وأنْتُمْ تَنْظُرُونَ أي تنظرون إلى فَرْقِ الله لكم البحر وإهلاكه آل فرعون في الموضع الذي نجاكم فيه ، وإلى عظيم سلطانه في الذي أراكم من طاعة البحر إياه من مصيره رُكاما فَلِقا كهيئة الأطواد الشامخة غير زائل عن حدّه ، انقيادا لأمر الله وإذعانا لطاعته ، وهو سائل ذائب قبل ذلك . يوقفهم بذلك جل ذكره على موضع حججه عليهم ، ويذكرهم آلاءه عند أوائلهم ، ويحذرهم في تكذيبهم نبينا محمدا صلى الله عليه وسلم أن يحلّ بهم ما حلّ بفرعون وآله في تكذيبهم موسى صلى الله عليه وسلم .
وقد زعم بعض أهل العربية أن معنى قوله : وأنْتُمْ تَنْظُرُونَ كمعنى قول القائل : «ضُربت وأهلك ينظرون ، فما أتوك ولا أعانوك » بمعنى : وهم قريب بمرأى ومسمع ، وكقول الله تعالى : ألَمْ تَرَ إلى رَبّكَ كَيْفَ مَدّ الظّلّ وليس هناك رؤية ، إنما هو علم . والذي دعاه إلى هذا التأويل أنه وجه قوله : وأنْتُمْ تَنْظُرُونَ : أي وأنتم تنظرون إلى غرق فرعون . فقال : قد كانوا في شغل من أن ينظروا مما اكتنفهم من البحر إلى فرعون وغرقه . وليس التأويل الذي تأوله تأويل الكلام ، إنما التأويل : وأنتم تنظرون إلى فرق الله البحر لكم على ما قد وصفنا آنفا ، والتطام أمواج البحر بآل فرعون في الموضع الذي صير لكم في البحر طريقا يبسا ، وذلك كان لا شك نظر عيان لا نظر علم كما ظنه قائل هذا القول الذي حكينا قوله .