المنتخب في تفسير القرآن الكريم للمجلس الأعلى للشؤون الإسلامية - المنتخب [إخفاء]  
{هُمُ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ وَصَدُّوكُمۡ عَنِ ٱلۡمَسۡجِدِ ٱلۡحَرَامِ وَٱلۡهَدۡيَ مَعۡكُوفًا أَن يَبۡلُغَ مَحِلَّهُۥۚ وَلَوۡلَا رِجَالٞ مُّؤۡمِنُونَ وَنِسَآءٞ مُّؤۡمِنَٰتٞ لَّمۡ تَعۡلَمُوهُمۡ أَن تَطَـُٔوهُمۡ فَتُصِيبَكُم مِّنۡهُم مَّعَرَّةُۢ بِغَيۡرِ عِلۡمٖۖ لِّيُدۡخِلَ ٱللَّهُ فِي رَحۡمَتِهِۦ مَن يَشَآءُۚ لَوۡ تَزَيَّلُواْ لَعَذَّبۡنَا ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ مِنۡهُمۡ عَذَابًا أَلِيمًا} (25)

25 - أهل مكة هم الذين كفروا ومنعوكم من دخول المسجد الحرام ، ومنعوا الهدى الذي سقتموه محبوسا معكم على التقرب به من بلوغ مكانه الذي ينحر فيه ، ولولا كراهة أن تُصيبوا رجالاً مؤمنين ونساء مؤمنات بين الكفار بمكة أخفوا إيمانهم فلم تعلموهم فتقتلوهم بغير علم بهم ، فيلحقكم بقتلهم عار وخزي ، ولهذا كان منع القتال في هذا اليوم حتى يحفظ الله من كانوا مستخفين بإسلامهم بين كفار مكة . لو تميز المؤمنون لعاقبنا الذين أصروا على الكفر منهم عقابا بالغ الألم ، حين جعل الذين كفروا في قلوبهم الأنفة أنفة الجاهلية ، فأنزل الله طمأنينته على رسوله وعلى المؤمنين ، وألزمهم كلمة الوقاية من الشرك والعذاب ، وكانوا أحق بها وأهلاً لها . وكان علم الله محيطا بكل شيء .

 
في ظلال القرآن لسيد قطب - سيد قطب [إخفاء]  
{هُمُ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ وَصَدُّوكُمۡ عَنِ ٱلۡمَسۡجِدِ ٱلۡحَرَامِ وَٱلۡهَدۡيَ مَعۡكُوفًا أَن يَبۡلُغَ مَحِلَّهُۥۚ وَلَوۡلَا رِجَالٞ مُّؤۡمِنُونَ وَنِسَآءٞ مُّؤۡمِنَٰتٞ لَّمۡ تَعۡلَمُوهُمۡ أَن تَطَـُٔوهُمۡ فَتُصِيبَكُم مِّنۡهُم مَّعَرَّةُۢ بِغَيۡرِ عِلۡمٖۖ لِّيُدۡخِلَ ٱللَّهُ فِي رَحۡمَتِهِۦ مَن يَشَآءُۚ لَوۡ تَزَيَّلُواْ لَعَذَّبۡنَا ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ مِنۡهُمۡ عَذَابًا أَلِيمًا} (25)

18

ثم يحدثهم عن خصومهم ، من هم في ميزان الله ? وكيف ينظر إلى أعمالهم وصدهم للمؤمنين عن بيته الحرام . وكيف ينظر إليهم هم عكس ما ينظر إلى خصومهم المعتدين :

هم الذين كفروا وصدوكم عن المسجد الحرام ، والهدي معكوفا أن يبلغ محله ، ولولا رجال مؤمنون ونساء مؤمنات لم تعلموهم ، أن تطأوهم ، فتصيبكم منهم معرة بغير علم ليدخل الله في رحمته من يشاء . لو تزيلوا لعذبنا الذين كفروا منهم عذابا أليما . إذ جعل الذين كفروا في قلوبهم الحمية حمية الجاهلية ؛ فأنزل الله سكينته على رسوله وعلى المؤمنين ، وألزمهم كلمة التقوى ، وكانوا أحق بها وأهلها ، وكان الله بكل شيء عليما . .

هم في ميزان الله واعتباره ، الكافرون حقا ، الذين يستحقون هذا الوصف الكريه : ( هم الذين كفروا ) . . يسجله عليهم كأنهم متفردون به ، عريقون في النسبة إليه ، فهم أكره شيء إلى الله الذي يكره الكفر والكافرين ! كذلك يسجل عليهم فعلهم الكريه الآخر ، وهو صدهم للمؤمنين عن المسجد الحرام ، وصد الهدي وتركه محبوسا عن الوصول إلى محل ذبحه المشروع :

( وصدوكم عن المسجد الحرام والهدي معكوفا أن يبلغ محله ) . .

وهي كبيرة في الجاهلية وفي الإسلام . كبيرة في الأديان كلها التي يعرفونها في الجزيرة من لدن أبيهم إبراهيم . كريهة في عرفهم وفي عقيدتهم وفي عقيدة المؤمنين . . فلم يكن إذن كف الله للمؤمنين عنهم بقيا عليهم لأن جرمهم صغير . كلا ! إنما كان ذلك لحكمة أخرى يتلطف الله سبحانه فيكشف عنها للمؤمنين :

( ولولا رجال مؤمنون ونساء مؤمنات لم تعلموهم ، أن تطأوهم ، فتصيبكم منهم معرة بغير علم . . )

فلقد كان هنالك بعض المستضعفين من المسلمين في مكة لم يهاجروا ، ولم يعلنوا إسلامهم تقية في وسط المشركين . ولو دارت الحرب ، وهاجم المسلمون مكة ، وهم لا يعرفون أشخاصهم ، فربما وطأوهم وداسوهم وقتلوهم . فيقال : إن المسلمين يقتلون المسلمين ! ويلزمون بدياتهم حين يتبين أنهم قتلوا خطأ وهم مسلمون . .

ثم هنالك حكمة أخرى وهي أن الله يعلم أن من بين الكافرين الذين صدوهم عن المسجد الحرام ، من قسمت له الهداية ، ومن قدر له الله الدخول في رحمته ، بما يعلمه من طبيعته وحقيقته ؛ ولو تميز هؤلاء وهؤلاء لأذن الله للمسلمين في القتال ، ولعذب الكافرين العذاب الأليم :

( ليدخل الله في رحمته من يشاء . لو تزيلوا لعذبنا الذين كفروا منهم عذابا أليما ) . .

وهكذا يكشف الله للجماعة المختارة الفريدة السعيدة عن جانب من حكمته المغيبة وراء تقديره وتدبيره .

 
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية - ابن عطية [إخفاء]  
{هُمُ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ وَصَدُّوكُمۡ عَنِ ٱلۡمَسۡجِدِ ٱلۡحَرَامِ وَٱلۡهَدۡيَ مَعۡكُوفًا أَن يَبۡلُغَ مَحِلَّهُۥۚ وَلَوۡلَا رِجَالٞ مُّؤۡمِنُونَ وَنِسَآءٞ مُّؤۡمِنَٰتٞ لَّمۡ تَعۡلَمُوهُمۡ أَن تَطَـُٔوهُمۡ فَتُصِيبَكُم مِّنۡهُم مَّعَرَّةُۢ بِغَيۡرِ عِلۡمٖۖ لِّيُدۡخِلَ ٱللَّهُ فِي رَحۡمَتِهِۦ مَن يَشَآءُۚ لَوۡ تَزَيَّلُواْ لَعَذَّبۡنَا ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ مِنۡهُمۡ عَذَابًا أَلِيمًا} (25)

يريد بقوله تعالى : { هم الذين كفروا } أهل مكة الذين تقدم ذكرهم . وقوله { وصدوكم عن المسجد الحرام } هو منعهم النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه من العمرة عام الحديبية ، وذلك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خرج من المدينة في ذي القعدة سنة ست من الهجرة يريد العمرة وتعظيم البيت ، وخرج معه بمائة بدنة ، قاله النقاش ، وقيل بسبعين ، قاله المسور بن مخرمة ومروان بن الحكم ، فلما دنا من مكة ، قال أهل مكة هذا محمد الذي قد حاربنا وقتل فينا ، يريد أن يدخل مكة مراغمة لنا ، والله لا تركناه حتى نموت دون ذلك ، فاجتمعموا لحربه ، واستنجدوا بقبائل من العرب وهم الأحابيش وبعثوا فغوروا لرسول الله صلى الله عليه وسلم المياه التي تقرب من مكة ، فجاء رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى نزل على بئر الحديبية ، وحينئذ وضع سهمه في الماء فجرى غمراً حتى كفى الجيش ، ثم إن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعث إلى مكة عثمان ، وبعث أهل مكة إليه رجالاً منهم : عروة بن مسعود ، وبديل بن ورقاء ، وتوقف رسول الله صلى الله عليه وسلم هناك أياماً حتى سفر سهيل بن عمرو ، وبه انعقد الصلح على أن ينصرف رسول الله صلى الله عليه وسلم عنهم ويعتمر من العام القادم ، فهذا كان صدهم إياه وهو مستوعب في كتب السير ، فلذلك اختصرناه .

وقرأ الجمهور : «والهدْي » بسكون الدال . . وقرأ الأعرج والحسن بن أبي الحسن : «والهدِيّ » بكسر الدال وشد الياء ، وهما لغتان ، وهو معطوف على الضمير في قوله : { وصدوكم } أي وصدوا الهدي . و : { معكوفاً } حال ، ومعناه : محبوساً ، تقول : عكفت الرجل عن حاجته إذا حبسته ، وقد قال أبو علي : إن عكف لا يعرفه متعدياً ، وحكى ابن سيده وغيره : تعديه ، وهذا العكف الذي وقع للهدي كان من قبل المشركين بصدهم ، ومن قبل المسلمين لرؤيتهم ونظرهم في أمرهم فحبسوا هديهم . و { أن } في قوله : { أن يبلغ } يحتمل أن يعمل فيها الصد ، كأنه قال : وصدوا الهدي كراهة أن أو عن أن ، ويحتمل أن يعمل فيها العكف فتكون مفعولاً من أجله ، أي الهدي المحبوس لأجل { أن يبلغ محله } ، و { محله } مكة .

وذكر الله تعالى العلة في أن صرف المسلمين ولم يمكنهم من دخول مكة في تلك الوجهة ، وهو أنه كان بمكة مؤمنون ومن رجال ونساء خفي إيمانهم ، فلو استباح المسلمون بيضتها أهلكوا أولئك المؤمنين . قال قتادة : فدفع الله عن المشركين ببركة أولئك المؤمنين ، وقد يدفع بالمؤمنين عن الكفار .

وقوله تعالى : { لم تعلموهم } صفة للمذكورين . وقوله : { أن تطؤوهم } يحتمل أن تكون { أن } بدلاً من { رجال } ، كأنه قال : ولولا قوم مؤمنون أن تطؤوهم ، أي لولا وطئكم قوماً مؤمنين ، فهو على هذا في موضع رفع ، ويحتمل أن تكون في موضع نصب بدلاً من الضمير في قوله : { لم تعلموهم } كأنه قال : لم تعلموا وطأهم أنه وطء المؤمنين ، والوطء هنا : الإهلاك بالسيف وغيره على وجه التشبيه ، ومنه قول الشاعر [ زهير ] : [ الكامل ]

ووطئتنا وطئاً على حنق . . . وطء المقيد ثابت الهرم{[10423]}

ومنه قول النبي صلى الله عليه وسلم : ( اللهم اشدد وطأتك على مضر ){[10424]} ومنه قول النبي صلى الله عليه وسلم «إن آخر وطأة الرب يوم وج بالطائف »{[10425]} لأنها كانت آخر وقعة للنبي صلى الله عليه وسلم ، فيها ذكر هذا المعنى النقاش : و «المعرة » السوء والمكروه اللاصق ، مأخوذ من العر والعرة وهي الجرب الصعب اللازم{[10426]} . واختلف الناس في تعيين هذه المعرة ، فقال ابن زيد : هي المأثم وقال ابن إسحاق : هي الدية .

قال القاضي أبو محمد : وهذان ضعيفان ، لأنه لا إثم ولا دية في قتل مؤمن مستور الإيمان من أهل الحرب .

وقال الطبري حكاه الثعلبي : هي الكفارة . وقال منذر : المعرة : أن يعيبهم الكفار ويقولوا قتلوا أهل دينهم . وقال بعض المفسرين : هي الملام والقول في ذلك ، وتألم النفس منه في باقي الزمن .

قال القاضي أبو محمد : وهذه أقوال حسان . وجواب { لولا } محذوف تقديره : لمكناكم من دخول مكة وأيدناكم عليهم .

وقرأ الأعمش : «فتنالكم منه معرة » .

واللام في قوله : { ليدخل } يحتمل أن يتعلق بمحذوف من القول ، تقديره : لولا هؤلاء لدخلتم مكة ، لكن شرفنا هؤلاء المؤمنين بأن رحمناهم ودفعنا بسببهم عن مكة { ليدخل الله } : أي ليبين للناظر أن الله تعالى يدخل من يشاء في رحمته ، أو ليقع دخولهم في رحمة الله ودفعه عنهم ، ويحتمل أن تتعلق بالإيمان المتقدم الذكر ، فكأنه قال : ولولا قوم مؤمنون آمنوا ليدخل الله من يشاء في رحمته ، وهذا مذكور ، لكنه ضعيف ، لأن قوله : { من يشاء } يضعف هذا التأويل .

ثم قال تعالى : { لو تزيلوا } أي لو ذهبوا عن مكة ، تقول : أزلت زيداً عن موضعه إزالة ، أي أذهبته ، وليس هذا الفعل من زال يزول ، وقد قيل هو منه .

وقرأ أبو حيوة وقتادة : بألف بعد الزاي ، أي «لو تزايلوا » ، أي ذهب هؤلاء عن هؤلاء وهؤلاء عن هؤلاء .

وقوله : { منهم } لبيان الجنس إذا كان الضمير في { تزيلوا } للجميع من المؤمنين والكافرين وقال النحاس : وقد قيل إن قوله : { ولولا رجال مؤمنون } الآية . يريد من في أصلاب الكافرين من سيؤمن في غابر الدهر ، وحكاه الثعلبي والنقاش عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم مرفوعاً .


[10423]:البيت في اللسان، وقد نسبه إلى زهير، وهو في الحقيقة للحارث بن وعلة الشيباني كما جاء في شرح القصائد السبع الطوال، ورواية اللسان-هرم-:(يابس الهرم)، والوطأة: الأخذة الشديدة، وفي الحديث الشريف(اللهم اشدد وطأتك على مضر)، أي خذهم أخذة شديدة، والحَنَق: شدة الاغتياظ، والنابت: الغض الطري، والهرْم(بسكون الراء): ضرب من الحمض فيه ملوحة، وهو أذله وأشده انبساطا على الأرض، واحدته: هرمة، وهي التي يقال لها: حيهلة، وفي المثل: أذل من هرمة، يقول: لقد أخذتنا أخذة شديدة قاسية، وكنت مغيظا محنقا، وكنا ضعافا أذلة كأننا البقلة الحقيرة التي تدوسها الأقدام على الأرض.
[10424]:أخرجه البخاري في الأذان والاستسقاء والجهاد والأنبياء وتفسير سورة النساء وفي الأدب، وأخرجه مسلم في المساجد، وأو داود في الصلاة، والنسائي في التطبيق، وابن ماجه في الإقامة، وأحمد في مسنده(2-239، 255، 271، 418، 470، 502، 521).ولفظه في المسند، عن أبي هريرة رضي الله عنه:(لما رفع رسول الله صلى الله عليه وسلم رأسه من الركعة الآخرة من صلاة الصبح قال: اللهم أنج الوليد بن الوليد، وسلمة بن هشام، وعياش بن أبي ربيعة، والمستضعفين بمكة، اللهم اشدد وطأتك على مُضر واجعلها عليهم سنين كسني يوسف).
[10425]:أخرجه الإمام أحمد في مسنده(4-172،6-409)، عن يعلى العامري أنه جاء حسن وحُسين رضي الله عنهما يستبقان إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فضمهما إليه وقال:(أن الولد مبخلة مجبنة، وإن آخر وطأة وطئها الرحمن عز وجل بوج)، وفي رواية عن خولة بنت حكيم أنه قال:(والله إنكم لتجبنون وتبخلون، وإنكم لمن ريحان الله عز وجل)، والمعنى: إنكم لتجملون على الجبن والبخل، يعني الأولاد،فإن الأب يجبن عن القتال ليعيش لأولاده فيربيهم، وإنه ليبخل بإنفاق ماله ليخلفه لهم، وريحان الله: رزقه وعطاؤه، ووج: مكان من الطائف، يعني أن آخر وطأة أو أخذة أخذ بها الكفار كانت بوج، وكانت غزوة الطائف هي آخر غزوات سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم، إذ لم يغز بعدها إلا غزوة تبوك، ولم يكن فيها قتال.
[10426]:ومنه قول الشاعر: قل للفوارس من غزية إنهم عند القتال معرة الأبطال.
 
الجامع التاريخي لبيان القرآن الكريم - مركز مبدع [إخفاء]  
{هُمُ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ وَصَدُّوكُمۡ عَنِ ٱلۡمَسۡجِدِ ٱلۡحَرَامِ وَٱلۡهَدۡيَ مَعۡكُوفًا أَن يَبۡلُغَ مَحِلَّهُۥۚ وَلَوۡلَا رِجَالٞ مُّؤۡمِنُونَ وَنِسَآءٞ مُّؤۡمِنَٰتٞ لَّمۡ تَعۡلَمُوهُمۡ أَن تَطَـُٔوهُمۡ فَتُصِيبَكُم مِّنۡهُم مَّعَرَّةُۢ بِغَيۡرِ عِلۡمٖۖ لِّيُدۡخِلَ ٱللَّهُ فِي رَحۡمَتِهِۦ مَن يَشَآءُۚ لَوۡ تَزَيَّلُواْ لَعَذَّبۡنَا ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ مِنۡهُمۡ عَذَابًا أَلِيمًا} (25)

تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :

ثم قال: {هم الذين كفروا} يعني كفار مكة {وصدوكم عن المسجد الحرام} أن تطوفوا به {و} صدوا {والهدى} في عمرتكم يوم الحديبية {معكوفا} يعني محبوسا، وكان النبي صلى الله عليه وسلم أهدى عام الحديبية في عمرته مائة بدنة، ويقال: ستين بدنة، فمنعوه {أن يبلغ} الهدي {محله} يعني منحره.

ثم قال: {ولولا رجال مؤمنون ونساء مؤمنات لم تعلموهم} أنهم مؤمنون {أن تطئوهم} بالقتل بغير علم تعلمونه منهم {فتصيبكم منهم معرة بغير علم} يعني فينالكم من قتلهم عنت، فيها تقديم، لأدخلكم من عامكم هذا مكة {ليدخل} لكي يدخل {الله في رحمته من يشاء} منهم عياش بن أبي ربيعة، وأبو جندل بن سهيل بن عمرو... كلهم من قريش، وعبد الله بن أسد الثقفي. يقول: {لو تزيلوا} يقول: لو اعتزل المؤمنون الذين بمكة من كفارهم {لعذبنا الذين كفروا منهم} يعني كفار مكة {عذابا أليما} يعني وجيعا، وهو القتل بالسيف...

جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :

يقول تعالى ذكره: هؤلاء المشركون من قريش هم الذين جحدوا توحيد الله، وصدّوكم أيها المؤمنون بالله عن دخول المسجد الحرام، وصدّوا" الهَدي معكوفا": يقول: محبوسا عن أن يبلغ مَحِلّه...

وعنى بقوله تعالى ذكره: "أنْ يَبْلُغَ مَحِلّهُ "أن يبلغ محلّ نحره، وذلك دخول الحرم، والموضع الذي إذا صار إليه حلّ نحره، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم ساق معه حين خرج إلى مكة في سَفرته تلك سبعين بدنة...

وأقبل نبيّ الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه معتمرين في ذي القعدة، ومعهم الهدي، حتى إذا كانوا بالحُديبية، صدّهم المشركون، فصالحهم نبيّ صلى الله عليه وسلم صلى الله عليه وسلم على أن يرجع من عامه ذلك، ثم يرجع من العام المقبل، فيكون بمكة ثلاث ليال، ولا يدخلها إلا بسلاح الراكب، ولا يخرج بأحد من أهلها، فنحروا الهدي، وحلقوا، وقصّروا، حتى إذا كان من العام المقبل، أقبل نبيّ صلى الله عليه وسلم وأصحابه حتى دخلوا مكة معتمرين في ذي القعدة، فأقام بها ثلاث ليال، وكان المشركون قد فجروا عليه حين ردّوه، فأقصه الله منهم فأدخله مكة في ذلك الشهر الذي كانوا ردّوه فيه، فأنزل الله "الشّهْرُ الْحَرَامُ بالشّهْرِ الحَرَامِ والحُرُماتُ قِصَاصٌ"...

حدثنا ابن عبد الأعلى، قال: حدثنا ابن ثور، عن معمر، عن الزهريّ، عن عروة بن الزبير، عن المسور بن مخرمة، قال: خرج النبيّ صلى الله عليه وسلم زمن الحُديبية في بضع عشرة مئة من أصحابه، حتى إذا كانوا بذي الحُلَيْفة قلّد الهدي وأشعره، وأحرم بالعمرة، وبعث بين يديه عينا له من خُزاعة يخبره عن قريش، وسار النبيّ صلى الله عليه وسلم، حتى إذا كان بغدير الأشطاط قريبا من قُعَيقعان، أتاه عينه الخزاعيّ، فقال: إني تركت كعب بن لؤيّ وعامر بن لؤيّ قد جمعوا لك الأحابيش، وجمعوا لك جموعا، وهم مقاتلوك وصادّوك عن البيت، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أشِيرُوا عَليّ، أتَرَوْنَ أنْ نَمِيلَ على ذَرَارِي هَؤُلاءِ الّذِينَ أعانُوهُمْ فَنُصِيبَهُمْ، فإنْ قَعَدُوا قَعَدُوا مَوْتُورِينَ مَحْزُونِين وإنْ لحّوا تَكنْ عُنُقا قَطَعَها اللّهُ؟ أمْ تَرَوْنَ أنّا نَؤُمّ البَيْتَ، فمَنْ صَدّنا عَنْهُ قاتَلْناهُ؟» فقام أبو بكر رضي الله عنه فقال: يا رسول الله: إنا لم نأت لقتال أحد، ولكن من حال بيننا وبين البيت قاتلناه فقال النبيّ صلى الله عليه وسلم: «فَروّحُوا إذًا» وكان أبو هريرة يقول: ما رأيت أحدا قطّ كان أكثر مُشاورة لأصحابه من النبيّ صلى الله عليه وسلم، فراحوا حتى إذا كانوا ببعض الطريق، قال النبيّ صلى الله عليه وسلم: «إنّ خالِدَ بنَ الوَلِيدِ بالغَمِيم في خَيْل لِقُرَيْشٍ طَلِيعَةً، فخُذُوا ذَاتَ اليْمِينِ»، فوالله ما شعر بهم خالد حتى إذا هو بُقْترة الجيش، فانطلق يركض نذيرا لقريش، وسار النبيّ صلى الله عليه وسلم، حتى إذا كان بالثنية التي يُهبْط عليهم منها، بركت به راحلته فقال الناس: حَلْ حَل، فقال: ما حَلْ؟ فقالوا: خَلأَتِ القَصْواء، فقال النبيّ صلى الله عليه وسلم: «ما خَلأَتْ وَما ذَاكَ لَهَا بخُلُقٍ، ولَكِنّها حَبَسَها حابِسُ الفِيلِ»، ثم قال: «والّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لا يَسألُونِي خُطّةً يُعَظّمُونَ بها حُرُماتِ اللّهِ إلاّ أعْطَيْتُهُم إيّاها»، ثم زُجِرت فوثبت فعدل عنهم حتى نزل بأقصى الحُديبية على ثمد قليل الماء، إنما يتبرّضه الناس تبرّضا، فلم يلبث الناس أن نزحوه، فشُكِي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم العطش، فنزع سهما من كنانته، ثم أمرهم أن يجعلوه فيه، فوالله ما زال يجيش لهم بالرّيّ حتى صدروا عنه، فبينما هم كذلك جاء بُدَيل بن ورقاء الخزاعي في نفر من خُزاعة، وكانوا عَيبة نصح رسول الله صلى الله عليه وسلم من أهل تهامة، فقال: إني تركت كعب بن لُؤَيّ، وعامر بن لُؤَيّ، قد نزلوا أعداد مياه الحُديبية معهم العوْذ المطافيل، وهم مقاتلوك وصادّوك عن البيت، فقال النبيّ صلى الله عليه وسلم: «إنّا لَمْ نأْتِ لِقِتال أَحَدٍ، وَلَكِنّا جِئْنا مُعْتَمِرِينَ، وإنّ قُرَيْشا قَدْ نَهَكَتْهُمُ الحَرْبُ، وأَضَرّتْ بِهمْ، فإنْ شاؤوُا مادَدْناهُمْ مُدّةً، ويُخْلُوا بَيْنِي وَبَينَ النّاسِ، فإنْ أظْهَرْ فإنْ شاؤوا أن يَدْخُلُوا فِيما دَخَلَ فِيهِ النّاسُ فَعَلُوا، وَإلاّ فَقَدْ جَمّوا وَإنْ هُمْ أَبَوْا فَوَالّذي نَفْسي بِيَدِهِ لأَقُاتِلَنّهُمْ عَلى أمْرِي هَذَا حتى تَنْفَرِدَ سالِفَتِي، أوْ لَيُنْفِذَن اللّهُ أمْرَهُ» فقال بديل: سنبلغهم ما تقول، فانطلق حتى أتى قريشا، فقال: إنا جئناكم من عند هذا الرجل، وسمعناه يقول قولاً فإن شئتم أن نعرضه عليكم فعلنا قال سفهاؤهم: لا حاجة لنا في أن تحدّثنا عنه بشيء، وقال ذوو الرأي منهم هات ما سمعته يقول: قال سمعته يقول كذا وكذا، فحدثهم بما قال النبيّ صلى الله عليه وسلم، فقام عُروة بن مسعود الثقفي، فقال: أيْ قوم، ألستم بالولد؟ قالوا: بلى أو لست بالوالد؟ قالوا: بلى قال: فهل أنتم تتهموني؟ قالوا: لا قال: ألستم تعلمون أني استنفرت أهل عكاظ، فلما بلحوا عليّ جئتكم بأهلي وَولدِي ومن أطاعني؟ قالوا: بلى قال: فإن هذا الرجل قد عرض عليكم خطة رشد فاقبلوها، ودعوني آته فقالوا: ائته، فأتاه، فجعل يكلم النبيّ صلى الله عليه وسلم، فقال النبيّ صلى الله عليه وسلم نحوا من مقالته لبُديل فقال عروة عند ذلك: أي محمد، أرأيت إن استأصلت قومك، فهل سمعت بأحد من العرب اجتاح أصله قبلك، وإن تكن الأخرى فوالله إني لأرى وجوها وأوباشا من الناس خليقا أن يفرّوا ويدعوك، فقال أبو بكر: امصصْ بظر اللات، واللاتُ: طاغية ثقيف الذي كانوا يعبدون، أنحن نفرّ وندعه؟ فقال: من هذا؟ فقالوا: أبو بكر، فقال: أما والذي نفسي بيده لولا يد كانت لك عندي لم أجزك بها لأجبتك وجعل يكلم النبيّ صلى الله عليه وسلم، فكلما كلمه أخذ بلحيته، والمغيرة بن شعبة قائم على رأس النبيّ صلى الله عليه وسلم ومعه السيف، وعليه المغفر فكلما أهوى عروة إلى لحية رسول الله صلى الله عليه وسلم، ضرب يده بنصل السيف، وقال: أخّر يدك عن لحيته، فرفع رأسه فقال: من هذا؟ قالوا: المغيرة بن شعبة، قال: أي غُدَرُ أو لست أسعى في غدرتك. وكان المُغيرة بن شعبة صحب قوما في الجاهلية، فقتلهم وأخذ أموالهم، ثم جاء فأسلم، فقال النبيّ صلى الله عليه وسلم: «أمّا الإسْلامُ فَقَدْ قَبِلْناهُ، وأمّا المَالُ فإنّه مالُ غَدْرٍ لا حاجَةَ لَنا فِيهِ». وإن عُروة جعل يرمق أصحاب النبيّ صلى الله عليه وسلم بعينه، فوالله إن تنخم النبيّ صلى الله عليه وسلم نخامة إلا وقعت في كفّ رجل منهم، فدلك بها وجهه وجلده، وإذا أمرهم ابتدروا أمره، وإذا توضأ كادوا يقتتلون على وَضوئه، وإذا تكلم خفضوا أصواتهم عنده، وما يحدّون النظر إليه تعظيما له، فرجع عروة إلى أصحابه، فقال: أي قوم، والله لقد وفدت على الملوك، ووفدت على قيصر وكسرى والنجاشيّ، والله ما رأيت مَلِكا قطّ يعظمه أصحابه ما يعظم أصحاب محمد محمدا والله إن تنخم نخامة إلا وقعت في كفّ رجل منهم فدلك بها وجهه وجلده، وإذا أمرهم ابتدروا أمره، وإذا توضأ كادوا يقتتلون على وَضوئه، وإذا تكلموا عنده خفضوا أصواتهم، وما يحدّون النظر إليه تعظيما له، وإنه قد عرض عليكم خطة رشد فاقبلوها.

فقال رجل من كنانة: دعوني آته، فقالوا: ائته فلما أشرف على النبيّ صلى الله عليه وسلم وأصحابه، قال النبيّ صلى الله عليه وسلم: «هَذَا فُلانٌ، وهو من قوم يعظمون البدن، فابعثوها له»، فبعثت له، واستقبله قوم يلبون فلما رأى ذلك قال سبحان الله، ما ينبغي لهؤلاء أن يصدوا عن البيت، فقام رجل منهم يقال له مِكْرز بن حفص، فقال: دعوني آته، فقالوا ائته، فلما أشرف على النبيّ صلى الله عليه وسلم وأصحابه، قال النبيّ صلى الله عليه وسلم: «هَذَا مِكْرِز بْنُ حَفْصٍ، وَهُوَ رَجُلٌ فاجِرٌ» فجاء فجعل يكلم النبيّ صلى الله عليه وسلم، فبينما هو يكلمه، إذ جاء سُهَيل بن عمرو، قال أيوب، قال عكرِمة: إنه لما جاء سُهَيل، قال النبيّ صلى الله عليه وسلم: «قد سهل لكم من أمركم». قال الزهري. فجاء سهيل بن عمرو، فقال: هات نكتب بيننا وبينك كتابا فدعا الكاتب فقال النبيّ صلى الله عليه وسلم: «اكْتُبْ: بِسْمِ اللّهِ الرّحْمَنِ الرّحِيمِ»، فقال: ما الرحمن؟ فوالله ما أدري ما هو، ولكن اكتب: باسمك اللهم كما كنت تكتب، فقال المسلمون: والله لا نكتبها إلا بسم الله الرحمن الرحيم، فقال النبيّ صلى الله عليه وسلم: «اكْتُبْ: باسْمِكَ اللّهُمّ» ثم قال: «اكْتُبْ: هَذَا ما قاضَى عَلَيْهِ مُحَمّدٌ رَسُولُ االلّهِ»، فقال سهيل: والله لو كنا نعلم أنك رسول الله ما صددناك عن البيت، ولا قاتلناك، ولكن اكتب: محمد بن عبد الله، فقال النبيّ صلى الله عليه وسلم: «وَاللّهِ إنّي لَرَسُولُ اللّهِ وَإنْ كَذّبْتُمُوني، ولَكِنِ اكْتُبْ مُحَمّدُ بْنُ عَبْدِ اللّهِ» قال الزهري: وذلك لقوله: «وَاللّهِ لا يَسأَلُوني خُطّةً يُعَظّمُونَ بِها حُرُماتِ اللّهِ إلاّ أعْطَيْتُهُمْ إيّاها» فقال النبيّ صلى الله عليه وسلم: «عَلى أنْ تُخَلّوا بَيْنَنا وَبَينَ البَيْتِ، فَنَطُوفُ بِهِ» قال سُهيل: والله لا تتحدّث العرب أُنا أُخِذنا ضغطة، ولكن لك من العام المقبل، فكتب فقال سهيل، وعلى أنه لا يأتيك منا رجل وإن كان على دينك إلا رددته إلينا، فقال المسلمون: سبحان الله، وكيف يُرَدّ إلى المشركين وقد جاء مسلما؟ فبينما هم كذلك، إذا جاء أبو جَنْدل بن سُهيل بن عمرو يوسُف في قيوده، قد خرج من أسفل مكة حتى رمى بنفسه بين أظهر المسلمين، فقال سهيل: هذا يا محمد أوّل من أقاضيك عليه أن تردّه إلينا، فقال النبيّ صلى الله عليه وسلم: «فَأَجِرْهُ لي»، فقال: ما أنا بمجيره لك، قال: «بلى فافعل»، قال: ما أنا بفاعل قال صاحبه مِكْرزٍ وسهيل إلى جنبه: قد أجرناه لك فقال أبو جندل أي معاشر المسلمين، أأُردّ إلى المشركين وقد جئتُ مسلما؟ ألا ترون ما قد لقيت؟ كان قد عُذّب عذابا شديدا في الله.

قال عمر بن الخطاب: والله ما شككت منذ أسلمت إلا يومئذٍ، فأتيت النبيّ صلى الله عليه وسلم، فقلت: ألسنا على الحقّ وعدوّنا على الباطل؟ قال: «بلى»، قلت: فلِم نعطَى الدنية في ديننا إذن؟ قال: «إنّي رَسُولُ اللّهِ، وَلَسْتُ أَعْصِيهِ وَهُوَ ناصِري»، قلت: ألست تحدّثنا أنا سنأتي البيت، فنطوف به؟ قال: «بَلى»، قال: «فأخبرتك أنك تأتيه العام»؟ قلت: لا قال: «فإنّكَ آتِيهِ وَمُتَطَوّفٌ به» قال: ثم أتيت أبا بكر، فقلت: أليس هذا نبيّ الله حقا؟ قال: بلى، قلت: ألسنا على الحقّ وعدوّنا على الباطل؟ قال: بلى، قلت: فلم نعطَى الدنية في ديننا إذا؟ قال أيها الرجل إنه رسول الله، وليس يعصِي ربه، فاستمسك بغرزه حتى تموت، فوالله إنه لعلى الحقّ قلت: أو ليس كان يحدثنا أنا سنأتي البيت ونطوف به؟ قال: بلى، أفأخبرك أنك تأتيه العام؟ قال: لا، قال: فإنك آتيه ومتطوّف به. قال الزُهري: قال عمر: فعملت لذلك أعمالاً فلما فرغ من قصته، قال النبيّ صلى الله عليه وسلم لأصحابه: «قُومُوا فانْحَرُوا ثُمّ احْلِقُوا»، قال: فوالله ما قام منا رجل حتى قال ذلك ثلاث مرّات فلما لم يقم منهم أحد، قام فدخل على أمّ سلمة، فذكر لها ما لقي من الناس، فقالت أمّ سلمة: يا رسول الله أتحبّ ذلك؟ اخرج، ثم لا تكلم أحدا منهم كلمة حتى تنحرُ بُدْنَك، وتدعو حالقك فيحلقك، فقام فخرج فلم يكلم أحدا منهم كلمة، حتى نحر بدنه، ودعا حالقه فحلقه فلما رأوا ذلك قاموا فنحروا، وجعل بعضهم يحلق بعضا، حتى كاد بعضهم يقتل بعضا غما... ثم رجع النبيّ صلى الله عليه وسلم إلى المدينة، فجاءه أبو بصير، رجل من قريش، وهو مسلم، فأرسل في طلبه رجلان، فقالا: العهد الذي جعلت لنا، فدفعه إلى الرجلين، فخرجا به، حتى إذا بلغا ذا الحليفة، فنزلوا يأكلون من تمر لهم، فقال أبو بصير لأحد الرجلين: والله إني لأرى سيفك هذا يا فلان جيدا، فاستله الاَخر فقال: والله إنه لجيد، لقد جربت به وجربت فقال أبو بصير: أرني أنظر إليه فأمكنه منه، فضربه به حتى برد وفرّ الاَخر حتى أتى المدينة، فدخل المسجد يعدو، فقال النبيّ صلى الله عليه وسلم: «رأى هَذَا ذُعْرا»، فقال: والله قتل صاحبي، وإني والله لمقتول، فجاء أبو بصير فقال: قد والله أوفى الله ذمتك ورددتني إليهم، ثم أغاثني الله منهم، فقال النبيّ صلى الله عليه وسلم: «وَيْلُ امّهِ مِسْعَرُ حَرْب لَوْ كانَ لَهُ أحَدٌ» فلما سمع عرف أنه سيردّه إليهم قال: فخرج حتى أتى سيف البحر، وتفلّت أبو جندل بن سهيل بن عمرو، فلحق بأبي بصير، فجعل لا يخرج من قريش رجل قد أسلم إلا لحق بأبي بصير، حتى اجتمعت منهم عصابة، فوالله ما يسمعون بعير خرجت لقريش إلى الشأم إلا اعترضوا لهم فقتلوهم، وأخذوا أموالهم، فأرسلت قريش إلى النبيّ صلى الله عليه وسلم يناشدونه الله والرحم لما أرسل إليهم، فمن أتاه فهو آمن فأنزل الله "وَهُوَ الّذِي كَفّ أيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ وأيْدِيَكُمْ عَنْهُمْ" حتى بلغ "حميَةَ الجَاهِليّةِ" وكانت حميتهم أنهم لم يقرّوا أنه نبيّ، ولم يقرّوا ببسم الله الرحمن الرحيم، وحالوا بينهم وبين البيت...

وقوله: "وَلَوْلا رِجالٌ مُؤْمِنُونَ وَنِساءٌ مُؤْمِناتَ لَمْ تَعْلَمُوهُمْ أنْ تَطُئُوهُمْ فَتُصِيبَكُم مِنْهُمْ مَعَرّةٌ بغَيرِ عِلْمٍ" يقول تعالى ذكره: ولولا رجال من أهل الإيمان ونساء منهم أيها المؤمنون بالله أن تطئوهم بخيلكم ورجلكم لم تعلموهم بمكة، وقد حبسهم المشركون بها عنكم، فلا يستطيعون من أجل ذلك الخروج إليكم فتقتلوهم...

واختلف أهل التأويل في المعرة التي عناها الله في هذا الموضع؛

فقال بعضهم: عنى بها الإثم...

وقال آخرون: عنى بها غرم الدية...

والمعرّة: هي المفعلة من العرّ، وهو الجرب. وإنما المعنى: فتصيبكم من قبلهم معرّة تعرّون بها، يلزمكم من أجلها كفّارة قتل الخطأ، وذلك عتق رقبة مؤمنة، من أطاق ذلك، ومن لم يطق فصيام شهرين.

وإنما اخترت هذا القول دون القول الذي قاله ابن إسحاق، لأن الله إنما أوجب على قاتل المؤمن في دار الحرب إذا لم يكن هاجر منها، ولم يكن قاتله علم إيمانه الكفارة دون الدية، فقال: "وإنْ كانَ مِنْ قَوْم عَدُوَ لَكُمْ وهُوَ مُؤْمِنٌ، فَتَحْرِيرُ رقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ" لم يوجب على قاتله خطأ ديته، فلذلك قلنا: عنى بالمعرّة في هذا الموضع الكفارة، وأن من قوله: "أنْ تَطَئُوهُمْ" في موضع رفع ردّا على الرجال، لأن معنى الكلام: ولولا أن تطؤوا رجالاً مؤمنين ونساء مؤمنات لم تعلموهم، فتصيبكم منهم معرّة بغير علم لأذن الله لكم أيها المؤمنون في دخول مكة، ولكنه حال بينكم وبين ذلك "لِيُدْخِلَ اللّهُ في رَحْمَتِهِ مَنْ يَشاءُ" يقول: ليدخل في الإسلام من أهل مكة من يشاء قبل أن تدخلوها، وحذف جواب لولا استغناء بدلالة الكلام عليه.

وقوله: "لَوْ تَزَيّلوا" يقول: لو تميز الذين في مشركي مكة من الرجال المؤمنين والنساء المؤمنات الذين لم تعلموهم منهم، ففارقوهم وخرجوا من بين أظهرهم "لَعَذّبْنا الّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُم عَذَابا ألِيما" يقول: لقتلنا من بقي فيها بالسيف، أو لأهلكناهم ببعض ما يؤلمهم من عذابنا العاجل...

أحكام القرآن لابن العربي 543 هـ :

{بِغَيْرِ عِلْمٍ} تَفْضيلٌ لِلصَّحَابَةِ، وَإِخْبَارٌ عَنْ صِفَتِهِمْ الْكَرِيمَةِ من الْعِفَّةِ عَنْ الْمَعْصِيَةِ، وَالْعِصْمَةِ عَنْ التَّعَدِّي، حَتَّى إنَّهُمْ لَوْ أَصَابُوا من أُولَئِكَ أَحَدًا لَكَانَ من غَيْرِ قَصْدٍ، وَهَذَا كَمَا وُصِفَتْ النَّمْلَةُ عَنْ جُنْدِ سُلَيْمَانَ فِي قَوْلِهَا: {لَا يَحْطِمَنَّكُمْ سُلَيْمَانُ وَجُنُودُهُ وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ} حَسْبَمَا بَيَّنَّاهُ فِي سُورَةِ النَّمْلِ...

مفاتيح الغيب للرازي 606 هـ :

{هم الذين كفروا وصدوكم عن المسجد الحرام والهدي معكوفا أن يبلغ محله}. إشارة إلى أن الكف لم يكن لأمر فيهم لأنهم كفروا وصدوا وأحصروا، وكل ذلك يقتضي قتالهم، فلا يقع لأحد أن الفريقين اتفقوا، ولم يبق بينهما خلاف واصطلحوا، ولم يبق بينهما نزاع، بل الاختلاف باق والنزاع مستمر، لأنهم هم الذين كفروا وصدوكم ومنعوا فازدادوا كفرا وعداوة، وإنما ذلك للرجال المؤمنين والنساء المؤمنات... {ولولا رجال مؤمنون ونساء مؤمنات لم تعلموهم أن تطئوهم فتصيبكم منهم معرة بغير علم}. وصف الرجال والنساء، يعني لولا رجال ونساء يؤمنون غير معلومين...

مدارك التنزيل وحقائق التأويل للنسفي 710 هـ :

والوطء عبارة عن الإيقاع والإبادة...

الجواهر الحسان في تفسير القرآن للثعالبي 875 هـ :

والوَطْءُ هنا: الإهلاك بالسيف وغيره... ومنه قوله صلى الله عليه وسلم: "اللّهُمَّ اشْدُدْ وَطْأَتَكَ عَلَى مُضَرٍ"...

نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :

{هم} أي أهل مكة ومن- لافهم {الذين كفروا} أي أوغلوا في هذا الوصف بجميع بواطنهم وتمام ظواهرهم {وصدوكم} زيادة على كفرهم في عمرة الحديبية هذه {عن المسجد الحرام} أي مكة، ونفس المسجد الحرام، والكعبة، للإخلال بما أنتم فيه من شعائر الإحرام بالعمرة -{والهدي} أي وصدوا ما أهديتموه إلى مكة المشرفة لتذبحوه بها وتفرقوه على الفقراء...

{معكوفاً} أي حال كونه مجموعاً محبوساً مع رعيكم له وإصلاحه لما أهدى لأجله {أن يبلغ محله} أي الموضع الذي هو أولى المواضع لنحره، وهو الذي إذا أطلق انصرف الذهن إليه، وهو في العمرة المروة، ويجوز الذبح في الحج والعمرة في أي موضع كان من الحرم...

{ولولا رجال} أي مقيمون بين أظهر الكفار بمكة {مؤمنون} أي عريقون في الإيمان فكانوا لذلك أهلاً للوصف بالرجولية {ونساء مؤمنات} أي- كذلك حبس الكل عن الهجرة العذر لأن الكفار لكثرتهم استضعفوهم فمنعوهم الهجرة، على أن ذلك شامل لمن جبله الله على الخير وعلم منه الإيمان وإن كان في ذلك الوقت مشركاً {لم تعلموهم} أي لم يحط علمكم بهم من جميع الوجوه لتميزوهم بأعيانهم عن المشركين لأنهم ليس لهم قوة التمييز زمنهم بأنفسهم وأنتم لا تعرفون أماكنهم لتعاملوهم بما هم له أهل ولا سيما في حال الحرب والطعن والضرب، ثم أبدل من "الرجال والنساء " قوله: {أن تطؤوهم} أي تؤذوهم بالقتل أو ما يقاربه من الجراح والضرب والنهب ونحوه من الوطء الذي هو الإيقاع بالحرب...

{فتصيبكم} أي فيتسبب عن هذا الوطء أن يصيبكم {منهم} أي من جهتهم وبسببهم {معرة} أي مكروه وأذى هو كالحرب في انتشاره وأذاه، وإثم وخيانة بقتال دون إذن خاص، وبعدم الإمعان في البحث، وغرم وكفارة ودية وتأسف وتعيير ممن لا علم له...

. {بغير علم} أي بأنهم من المؤمنين. ولما دل السياق على أن جواب " لولا " محذوف تقديره: لسلطكم عليهم وما كف أيديكم عنهم، ولكنه علم ذلك، وعلم أنه سيؤمن ناس من المشركين فمن عليكم بأن رفع حرج إصابتهم بغير علم عنكم، وسبب لكم أسباب الفتح الذي كان يتوقع بسبب تسليطكم عليهم بأمر سهل، وكف أيديكم ولم يسلطكم عليه {ليدخل الله} أي الذي له جميع صفات الكمال {في رحمته} أي إكرامه وإنعامه {من يشاء} من المشركين بأن يعطفهم إلى الإسلام، ومن المؤمنين بأن يستنقذهم منهم على أرفق وجه، ولما كان ذلك، أنتج قوله تعالى: {لو تزيلوا} أي تفرقوا فزال أحد الفريقين عن الآخر زوالاً عظيماً بحيث لا يختلط صنف بغيره فيؤمن وطء المؤمنين له بغير علم {لعذبنا} أي بأيديكم بتسليطنا...

{الذين كفروا} أي أوقعوا ستر الإيمان. ولما كان هذا عاماً لجميع من اتصف بالكفر من أهل الأرض، صرح بما دل عليه السياق فقال: {منهم} أي الفريقين وهم الصادون {عذاباً أليماً} أي شديد الإيجاع بأيديكم أو من عندنا لنوصلكم إلى قصدكم من الاعتمار والظهر على الكفار...

في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :

(هم الذين كفروا).. يسجله عليهم كأنهم متفردون به، عريقون في النسبة إليه، فهم أكره شيء إلى الله الذي يكره الكفر والكافرين! كذلك يسجل عليهم فعلهم الكريه الآخر، وهو صدهم للمؤمنين عن المسجد الحرام، وصد الهدي وتركه محبوسا عن الوصول إلى محل ذبحه المشروع: (وصدوكم عن المسجد الحرام والهدي معكوفا أن يبلغ محله).. وهي كبيرة في الجاهلية وفي الإسلام. كبيرة في الأديان كلها التي يعرفونها في الجزيرة من لدن أبيهم إبراهيم. كريهة في عرفهم وفي عقيدتهم وفي عقيدة المؤمنين.. فلم يكن إذن كف الله للمؤمنين عنهم بقيا عليهم لأن جرمهم صغير. كلا! إنما كان ذلك لحكمة أخرى يتلطف الله سبحانه فيكشف عنها للمؤمنين: (ولولا رجال مؤمنون ونساء مؤمنات لم تعلموهم، أن تطؤوهم، فتصيبكم منهم معرة بغير علم..) فلقد كان هنالك بعض المستضعفين من المسلمين في مكة لم يهاجروا، ولم يعلنوا إسلامهم تقية في وسط المشركين. ولو دارت الحرب، وهاجم المسلمون مكة، وهم لا يعرفون أشخاصهم، فربما وطؤوهم وداسوهم وقتلوهم. فيقال: إن المسلمين يقتلون المسلمين! ويلزمون بدياتهم حين يتبين أنهم قتلوا خطأ وهم مسلمون.. ثم هنالك حكمة أخرى وهي أن الله يعلم أن من بين الكافرين الذين صدوهم عن المسجد الحرام، من قسمت له الهداية، ومن قدر له الله الدخول في رحمته، بما يعلمه من طبيعته وحقيقته؛ ولو تميز هؤلاء وهؤلاء لأذن الله للمسلمين في القتال، ولعذب الكافرين العذاب الأليم: (ليدخل الله في رحمته من يشاء. لو تزيلوا لعذبنا الذين كفروا منهم عذابا أليما).. وهكذا يكشف الله للجماعة المختارة الفريدة السعيدة عن جانب من حكمته المغيبة وراء تقديره وتدبيره.

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل - لجنة تأليف بإشراف الشيرازي 2009 هـ :

وهذه الآية تشير إلى طائفة (من الرجال والنساء) المسلمين الذين اعتنقوا الإسلام في مكّة ولم يهاجروا إلى المدينة لأسباب خاصة. فلو قاتل المسلمون أهل مكّة لأوقعوا أرواح هؤلاء المستضعفين في خطر ولامتدت ألسنة المشركين بالقول: إنّ جنود الإسلام لم يرحموا لا أعداءهم ومخالفيهم ولا أتباعهم ومؤالفيهم، وهذا عيب وعار كبير! وقال بعضهم أيضاً، إنّ المراد من هذا العيب لزوم الكفارة ودية قتل الخطأ، لكنّ المعنى الأوّل أكثر مناسبةً ظاهراً...