127- قد استفتى الناس النبي في شأن النساء وكنَّ ولا يزلن ضعيفات ، فبيَّن الله لنبيه أن يبين حال النساء وحال الضعفاء في الأسرة من الولدان واليتامى ، وذكر أن يتامى النساء اللاتي يُزوجن ولا يأخذن مهورهن ، والأولاد ، واليتامى ، كل هؤلاء يعاملون بالعدل والرحمة والرعاية ، وأن كل ما يفعل من خير فإن الله يعلمه وهو الذي سيجزى به .
علاج رواسب الجاهلية فيما يختص بالمرأة والأسرة هذا الدرس تكمله لما بدأت به السورة من علاج رواسب المجتمع الجاهلي ، فيما يختص بالمرأة والأسرة ؛ وفيما يختص بمعاملة الضعاف في المجتمع كاليتامى والأطفال . وتنقية المجتمع المسلم من هذه الرواسب ؛ من الجاهلية ، وإشفاق من كل ما كان فيها من تقاليد وعادات وأوضاع وأحكام . مع شدة إحساسهم بقيمة هذا التغيير الكامل الذي أنشأه الإسلام في حياتهم . أو بتعبير أدق بقيمة هذا الميلاد الجديد الذي ولدوه على يدي الإسلام .
وهنا نجد جزاء تطلعهم لله ، وجزاء حرارتهم ، وصدق عزيمتهم على الاتباع . . نجد جزاء هذا كله عناية من الله ورعاية . . بأنه سبحانه - بذاته العلية - يتولى إفتاءهم فيما يستفتون فيه :
( ويستفتونك في النساء . قل الله يفتيكم فيهن . . . ) . .
فهم كانوا يستفتون الرسول [ ص ] والله - سبحانه - يتفضل فيقول للنبي [ ص ] قل : إن الله يفتيكم فيهن وفي بقية الشؤون التي جاء ذكرها في الآية . وهي لفتة لها قيمتها التي لا تقدر ، في عطف الله سبحانه ، وتكريمه للجماعة المسلمة ؛ وهو يخاطبها بذاته ؛ ويرعاها بعينه ؛ ويفتيها فيما تستفتي ، وفيما تحتاج إليه حياتها الجديدة .
وقد تناولت الفتوى هنا تصوير الواقع المترسب في المجتمع المسلم من الجاهلية التي التقطه المنهج الرباني منها . كما تناولت التوجيه المطلوب ، لرفع حياة المجتمع المسلم وتطهيرها من الرواسب .
( قل الله يفتيكم فيهن ؛ وما يتلى عليكم في الكتاب في يتامى النساء اللاتي لا تؤتونهن ما كتب لهن ، وترغبون أن تنكحوهن . والمستضعفين من الولدان . وأن تقوموا لليتامى بالقسط . . ) .
قال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس في هذه الآية : كان الرجل في الجاهلية تكون عنده اليتيمة فيلقي عليها ثوبه . فإذا فعل ذلك فلم يقدر أحد أن يتزوجها أبدا . وإن كانت جميلة وهويها تزوجها ، وأكل مالها . وإن كانت دميمة منعها الرجال أبد حتى تموت . فإذا ماتت ورثها . فحرم الله ذلك ونهى عنه . . وقال في قوله : ( والمستضعفين من الولدان ) كانوا في الجاهلية لا يورثون الصغار ولا البنات . وذلك قوله : لا تؤتونهن ما كتب لهن . . فنهى الله عن ذلك ؛ وبين لكل ذي سهم سهمه فقال : للذكر مثل حظ الأنثيين ، صغيرا أو كبيرا . .
وقال سعيد بن جبير في قوله : ( وأن تقوموا لليتامى بالقسط ) . . كما إذا كانت ذات جمال وقال نكحتها واستأثرت بها ، كذلك وإذا لم تكن ذات مال ولا جمال فأنكحها واستأثر بها .
وعن عائشة - رضي الله عنها - : ويستفتونك في النساء . قل الله يفتيكم فيهن . - إلى قوله : ( وترغبون أن تنكحوهن ) قالت عائشة : هو الرجل تكون عنده اليتيمة ، هو وليها ووارثها ، فأشركته في ماله ، حتى في العذق ، فيرغب أن ينكحها ويكره أن يزوجها رجلا فيشركه في ماله بما شركته ، فيعضلها فنزلت الآية [ أخرجه البخاري ومسلم ] .
وقال ابن أبي حاتم : قرأت مع محمد بن عبدالله بن عبد الحكم ، أخبرنا ابن وهب ، أخبرني يونس عن ابن شهاب ، أخبرني عروة بن الزبير قالت عائشة : " ثم إن الناس استفتوا رسول الله [ ص ] بعد هذه الآية فيهن . فأنزل الله : ( ويستفتونك في النساء قل : الله يفتيكم فيهن ، وما يتلى عليكم في الكتاب ) . . . الآية . . قالت . والذي ذكر الله أنه يتلى في الكتاب : الآية الأولى التي قال الله : ( وإن خفتم ألا تقسطوا في اليتامى فانكحوا ما طاب لكم من النساء . . . ) . وبهذا الإسناد عن عائشة قالت : " وقول الله عز وجل :
( وترغبون أن تنكحوهن ) . . رغبة أحدكم عن يتيمته التي تكون في حجره حين تكون قليلة المال والجمال . فنهوا أن ينكحوا من رغبوا في مالها وجمالها من يتامى النساء - إلا بالقسط - من أجل رغبتهم هن " .
وظاهر من هذه النصوص ، ومن النص القرآني . ما كان عليه الحال في الجاهلية ؛ فيما يختص بالفتيات اليتيمات . فقد كانت اليتيمة تلقى من وليها الطمع والغبن : الطمع في مالها ، والغبن في مهرها - إن هو تزوجها - فيأكل مهرها ويأكل مالها . والغبن إن لم يتزوجها كراهية لها لأنها دميمة . ومنعها أن تتزوج حتى لا يشاركه زوجها فيما تحت يده من مالها !
كذلك كان الحال في الولدان الصغار والنساء ، إذ كانوا يحرمونهم من الميراث لأنهم لا يملكون القوة التي يدفعون بها عن ميراثهم ؛ أو أنهم غير محاربين ، فلا حق لهم في الميراث ، تحت تأثير الشعور القبلي ، الذي يجعل للمحاربين في القبيلة كل شيء . ولا شيء للضعاف !
وهذه التقاليد الشائهة البدائية ، هي التي أخذ الإسلام يبدلها ، وينشى ء مكانها تقاليد إنسانية راقية لا تعد - كما قلنا - مجرد وثبة ، أو نهضة ، في المجتمع العربي . إنما هي في حقيقتها نشأة أخرى ، وميلاد جديد ، وحقيقة أخرى لهذه الأمة غير حقيقتها الجاهلية !
والمهم الذي يجب أن نسجله : هو أن هذه النشأة الجديدة ، لم تكن تطورا مسبوقا بأية خطوات تمهيدية له ؛ أو أنه انبثق من واقع مادي تغير فجأة في حياة هذا الشعب !
فالنقلة من إقامة حقوق الإرث والملك على أساس حق المحارب إلى إقامتها على أساس الحق الإنساني ، وإعطاء الطفل واليتيمة والمرأة حقوقهم بصفتهم الإنسانية ، لا بصفتهم محاربين ! هذه النقلة لم تنشأ لأن المجتمع قد انتقل إلى أوضاع مستقرة لا قيمة فيها للمحاربين . ومن ثم قضى على الحقوق المكتسبة للمحاربين ، لأنه لم يعد في حاجة إلى تمييزهم !
كلا ! فقد كان للمحاربين في العهد الجديد قيمتهم كلها ؛ وكانت الحاجة إليهم ماسة ! ولكن كان هناك . . الإسلام . . كان هناك هذا الميلاد الجديد للإنسان . الميلاد الذي انبثق من خلال كتاب ؛ ومن خلال منهج ؛ فأقام مجتمعا جديدا وليدا . على نفس الأرض . وفي ذات الظروف . وبدون حدوث انقلاب لا في الإنتاج وأدواته ! ولا في المادة وخواصها ! وإنما مجرد انقلاب في التصور هو الذي انبثق منه الميلاد الجديد . وحقيقة أن المنهج القرآني قد كافح . وكافح طويلا . لطمس ومحو معالم الجاهلية في النفوس والأوضاع ، وتخطيط وتثبيت المعالم الإسلامية في النفوس والأوضاع . . وحقيقة كذلك أن رواسب الجاهلية ظلت تقاوم ؛ وظلت تعاود الظهور في بعض الحالات الفردية ؛ أو تحاول أن تعبر عن نفسها في صور شتى . .
ولكن المهم هنا : هو أن المنهج المتنزل من السماء ، والتصور الذي أنشأة هذا المنهج كذلك ، هو الذي كان يكافح " الواقع المادي " ويعدله ويبدله . . ولم يكن قط أن الواقع المادي أو " النقيض " الكامن فيه ؛ أو تبدل وسائل الإنتاج . . أو شيء من هذا " الهوس الماركسي " ! هو الذي اقتضى تغيير التصورات ومناهج الحياة ، وأوضاعها ، لتلائم هذا التبدل الذي تفرضه وسائل الإنتاج !
كان هناك فقط شيء جديد واحد في حياة هذا الشعب . . شيء هبط عليه من الملأ الأعلى . . فاستجابت له نفوس ، لأنه يخاطب فيها رصيد الفطرة ، الذي أودعه الله فيها . . ومن ثم وقع هذا التغيير . بل تم هذا الميلادالجديد للإنسان . الميلاد الذي تغيرت فيه ملامح الحياة كلها . . في كل جانب من جوانبها . . عن الملامح المعهودة في الجاهلية ! ! !
ومهما يكن هناك من صراع قد وقع بين الملامح الجديدة والملامح القديمة . ومهما يكن هناك من آلام للمخاض وتضحيات . . فقد تم هذا كله . لأن هناك رسالة علوية ؛ وتصورا اعتقاديا ؛ هو الذي كان له الأثر الأول والأثر الأخير في هذا الميلاد الجديد . الذي لم تقتصر موجته على المجتمع الإسلامي ؛ ولكن تعدته كذلك إلى المجتمع الإنساني كله
ومن ثم ينتهي هذا النص القرآني الذي يفتي فيه الله المؤمنين ، فيما يستفتون فيه الرسول [ ص ] في أمر النساء ، ويقص عليهم حقوق اليتيمات ، وحقوق الولدان الضعاف . . ينتهي بربط هذه الحقوق وهذه التوجيهات كلها ، بالمصدر الذي جاء من عنده هذا المنهج :
وما تفعلوا من خير فإن الله كان به عليمًا . .
فهو غير مجهول ، وهو غير ضائع . . وهو مسجل عندالله . ولن يضيع خير سجل عند الله .
وهذا هو المرجع الأخير الذي يعود إليه المؤمن بعمله ، والجهة الوحيدة التي يتعامل معها في نيته وجهده . وقوة هذا المرجع ، وسلطانه ، هي التي تجعل لهذه التوجيهات ولهذا المنهج قوته وسلطانه في النفوس ، وفي الأوضاع وفي الحياة .
إنه ليس المهم أن تقال توجيهات ؛ وأن تبتدع مناهج ؛ وأن تقام أنظمة . . إنما المهم هو السلطان الذي ترتكن إليه تلك التوجيهات والمناهج والأنظمة . السلطان الذي تستمد منه قوتها ونفاذها وفاعليتها في نفوس البشر . . وشتان بين توجيهات ومناهج ونظم يتلقاها البشر من الله ذي الجلال والسلطان ، وتوجيهات ومناهج ونظم يتلقونها من العبيد أمثالهم من البشر ! ذلك على فرض تساوي هذه وتلك في كل صفة أخرى وفي كل سمة ؛ وبلوغهما معا أوجا واحدا - وهو فرض ظاهر الاستحالة . ألا إنه ليكفي أن أشعر ممن صدرت هذه الكلمة ، لأعطيها في نفسي ما تستحقه من مكان . . ولتفعل في نفسي ما تفعله كلمة الله العلي الأعلى . أو كلمة الإنسان ابن الإنسان !
وقوله تعالى : { ويستفتونك } الآية ، نزلت بسبب سؤال قوم من الصحابة عن أمر النساء وأحكامهن في المواريث وغير ذلك ، فأمر الله نبيه أن يقول لهم { الله يفتيكم فيهن } أي يبين لكم حكم ما سألتم عنه وقوله تعالى { وما يتلى عليكم } يحتمل { ما } أن تكون في موضع خفض عطفاً على الضمير في قوله { فيهن } ، أي : «ويفتيكم فيما يتلى عليكم » ، قاله محمد بن أبي موسى ، وقال : أفتاهم الله فيما سألوا عنه وفيما لم يسألوا عنه ، ويضعف هذا التأويل ما فيه من العطف على الضمير المخفوض بغير إعادة حرف الخفض{[4303]} ، ويحتمل أن تكون { ما } في موضع رفع عطفاً على اسم الله عز وجل ، أي و «يفتيكم ما يتلى عليكم في الكتاب » ، يعني القرآن ، والإشارة بهذا إلى ما تقدم من الآيات في أمر النساء ، وهو قوله تعالى في صدر السورة { وإن خفتم ألا تقسطوا في اليتامى فانكحوا ما طاب لكم من النساء } [ النساء : 3 ] قالت عائشة : نزلت هذه الآية أولاً ، ثم سأل ناس بعدها رسول الله صلى الله عيله وسلم عن أمر النساء فنزلت : { ويستفتونك في النساء ، قل الله يفتيكم فيهن وما يتلى عليكم }{[4304]} .
وقوله تعالى { في يتامى النساء اللاتي لا تؤتونهن ما كتب لهن } معناه : النهي عما كانت العرب تفعله من ضم اليتيمة الجميلة الغنية بدون ما تستحقه من المهر ، ومن عضل{[4305]} الدميمة الفقيرة أبداً ، والدميمة الغنية حتى تموت فيرثها العاضل ، ونحو هذا مما يقصد به الولي منفعة نفسه لا نفع اليتيمة ، والذي كتب الله لهن هو توفية ما تستحقه من مهر ، وإلحاقها بأقرانها ، وقرأ أبو عبد الله المدني - «في ييامى النساء » بياءين ، قال أبو الفتح : والقول في هذه القراءة أنه أراد أيامى فقلبت الهمزة ياء ، كما قلبت في قولهم : باهلة بن يعصر ، وإنما هو ابن أعصر لأنه إنما يسمى بقوله : [ الكامل ]
أبُنَيّ إن أَبَاكَ غَيَّرَ لَوْنَه *** كَرُّ الليالي واختلافُ الأعْصُرِ{[4306]}
وكما قلبت الياء همزة في قولهم : قطع الله أده ، يريدون يده ، وأيامى : جمع أيم أصله : أيايم ، قلبت اللام موضع العين ، فجاء أيامى ، ثم أبدلت من الكسرة فتحة ومن الياء ألف .
قال القاضي أبو محمد رحمه الله : يشبه أن الداعي إلى هذا استثقال الضمة على الياء ، قال أبو الفتح : ولو قال قائل كسر أيم على أيمى على وزن سكرى وقتلى من حيث الأيومة بلية تدخل كرهاً ، ثم كسر أيمى على أيامى لكان وجهاً حسناً ، وقوله تعالى { وترغبون أن تنكحوهن } إن كانت الجارية غنية جميلة فالرغبة في نكاحها ، وإن كانت بالعكس فالرغبة عن نكاحها ، وكان عمر بن الخطاب رضي الله عنه يأخذ الناس بالدرجة الفضلى في هذا المعنى ، فكان إذا سأل الولي عن وليته فقيل : هي غنية جميلة ، قال له : أطلب لها من هو خير منك وأعود عليها بالنفع ، وإذا قيل له : هي دميمة فقيرة ، قال له : أنت أولى بها وبالستر عليها من غيرك ، وقوله تعالى { والمستضعفين من الولدان } عطف على { يتامى النساء } ، والذي ُتلي{[4307]} في { المستضعفين من الولدان } هو قوله تعالى : { يوصيكم الله في أولادكم }{[4308]} ، وذلك : أن العرب كانت لا تورث الصبية ولا الصبي الصغير ، وكان الكبير ينفرد بالمال ، وكانوا يقولون : إنما يرث المال من يحمي الحوزة ، ويرد الغنيمة ، ويقاتل عن الحريم ، ففرض الله لكل أحد حقه ، وقوله تعالى : { وأن تقوموا لليتامى بالقسط } عطف أيضاً على ما تقدم ، والذي ُتلي في هذا المعنى هو قوله تعالى : { ولا تأكلوا أموالهم إلى أموالكم }{[4309]} إلى غير ذلك مما ذكر في مال اليتيم ، والقسط العدل ، وباقي الآية وعد على فعل الخير بالجزاء الجميل ، بّيِّنٌ .