المنتخب في تفسير القرآن الكريم للمجلس الأعلى للشؤون الإسلامية - المنتخب [إخفاء]  
{يَـٰٓأَيُّهَا ٱلۡمُزَّمِّلُ} (1)

مقدمة السورة:

في هذه السورة أمر الله رسوله بقيام قدر كبير من الليل ، للصلاة وقراءة القرآن مرتلا فيها ، فقام هو وطائفة من الذين معه ، ثم خفف الله عنهم في آخرها ، وأمرهم بالصلاة والزكاة والصدقة والاستغفار .

وفي أثنائها أمره بالصبر على ما يقول المكذبون ، وتركهم لما أعده الله لهم من العذاب ، وهدد الكافرين بمثل العذاب الذي وقع على فرعون ومن معه حين عصوا رسول ربهم وخوفهم ببعض أهوال القيامة .

1 - يا أيها المتلفف بثيابه ، قُمْ الليل مصلياً إلا قليلاً ، قُمْ نصفْ الليل أو انقص من النصف قليلاً حتى تصل إلى الثلث ، أو زد على النصف حتى تصل إلى الثلثين ، واقرأ القرآن متمهلاً مبيناً للحروف والوقوف قراءة سالمة من أي نقصان .

 
في ظلال القرآن لسيد قطب - سيد قطب [إخفاء]  
{يَـٰٓأَيُّهَا ٱلۡمُزَّمِّلُ} (1)

مقدمة السورة:

سورة المزمل مكية وآياتها عشرون

يروى في سبب نزول هذه السورة أن قريشا اجتمعت في دار الندوة تدبر كيدها للنبي [ صلى الله عليه وسلم ] وللدعوة التي جاءهم بها . فبلغ ذلك رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] فاغتم له ؛ والتف بثيابه وتزمل ونام مهموما . فجاءه جبريل عليه السلام بشطر هذه السورة الأول ( يا أيها المزمل قم الليل إلا قليلا . . الخ )وتأخر شطر السورة الثاني من قوله تعالى : ( إن ربك يعلم أنك تقوم أدنى من ثلثي الليل . . . )إلى آخر السورة . تأخر عاما كاملا . حين قام رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] وطائفة من الذين معه ، حتى ورمت أقدامهم ، فنزل التخفيف في الشطر الثاني بعد اثني عشر شهرا .

وتروى رواية أخرى تتكرر بالنسبة لسورة المدثر كذلك - كما سيجيء في عرض سورة المدثر إن شاء الله .

وخلاصتها أن رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] كان يتحنث في غار حراء - قبل البعثة بثلاث سنوات - أي يتطهر ويتعبد - وكان تحنثه - عليه الصلاة والسلام - شهرا من كل سنة - هو شهر رمضان - يذهب فيه إلى غار حراء على مبعدة نحو ميلين من مكة ، ومعه أهله قريبا منه . فيقيم فيه هذا الشهر ، يطعم من جاءه من المساكين ، ويقضي وقته في العبادة والتفكير فيما حوله من مشاهد الكون ، وفيما وراءها من قدرة مبدعة . . وهو غير مطمئن لما عليه قومه من عقائد الشرك المهلهلة ، وتصوراتها الواهية ، ولكن ليس بين يديه طريق واضح ، ولا منهج محدد ، ولا طريق قاصد يطمئن إليه ويرضاه .

وكان اختياره [ صلى الله عليه وسلم ] لهذه العزلة طرفا من تدبير الله له ليعده لما ينتظره من الأمر العظيم . ففي هذه العزلة كان يخلو إلى نفسه ، ويخلص من زحمة الحياة وشواغلها الصغيرة ؛ ويفرغ لموحيات الكون ، ودلائل الإبداع ؛ وتسبح روحه مع روح الوجود ؛ وتتعانق مع هذا الجمال وهذا الكمال ؛ وتتعامل مع الحقيقة الكبرى وتمرن على التعامل معها في إدراك وفهم .

ولا بد لأي روح يراد لها أن تؤثر في واقع الحياة البشرية فتحولها وجهة أخرى . . لا بد لهذه الروح من خلوة وعزلة بعض الوقت ، وانقطاع عن شواغل الأرض ، وضجة الحياة ، وهموم الناس الصغيرة التي تشغل الحياة .

لا بد من فترة للتأمل والتدبر والتعامل مع الكون الكبير وحقائقه الطليقة . فالاستغراق في واقع الحياة يجعل النفس تألفه وتستنيم له ، فلا تحاول تغييره . أما الانخلاع منه فترة ، والانعزال عنه ، والحياة في طلاقة كاملة من أسر الواقع الصغير ، ومن الشواغل التافهة فهو الذي يؤهل الروح الكبير لرؤية ما هو أكبر ، ويدربه على الشعور بتكامل ذاته بدون حاجة إلى عرف الناس ، والاستمداد من مصدر آخر غير هذا العرف الشائع !

وهكذا دبر الله لمحمد [ صلى الله عليه وسلم ] وهو يعده لحمل الأمانة الكبرى ، وتغيير وجه الأرض ، وتعديل خط التاريخ . دبر له هذه العزلة قبل تكليفه بالرسالة بثلاث سنوات . ينطلق في هذه العزلة شهرا من الزمان ، مع روح الوجود الطليقة ، ويتدبر ما وراء الوجود من غيب مكنون ، حتى يحين موعد التعامل مع هذا الغيب عندما يأذن الله .

فلما أن أذن ، وشاء - سبحانه - أن يفيض من رحمته هذا الفيض على أهل الأرض ، جاء جبريل عليهالسلام إلى النبي [ صلى الله عليه وسلم ] وهو في غار حراء . . وكان ما قصه رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] من أمره معه فيما رواه ابن إسحاق عن وهب بن كيسان ، عن عبيد ، قال :

" فجاءني جبريل وأنا نائم بنمط من ديباج فيه كتاب فقال : اقرأ . قال قلت : ما أقرأ [ وفي الروايات : ما أنا بقارئ ] قال : فغتني به [ أي ضغطني ] حتى ظننت أنه الموت . ثم أرسلني فقال : اقرأ . قلت : ما أقرأ . قال : فغتني حتى ظننت أنه الموت . ثم أرسلني فقال : اقرأ . قلت : ما أقرأ : قال : فغتني حتى ظننت أنه الموت . ثم أرسلني فقال : اقرأ . قال قلت : ماذا أقرأ ? قال : ما أقول ذلك إلا افتداء منه أن يعود لي بمثل ما صنع بي . فقال : ( اقرأ باسم ربك الذي خلق . خلق الإنسان من علق . اقرأ وربك الأكرم . الذي علم بالقلم . علم الإنسان ما لم يعلم ) . . قال : فقرأتها . ثم انتهى فانصرف عني . وهببت من نومي فكأنما كتبت في قلبي كتابا . قال : فخرجت حتى إذا كنت في وسط من الجبل سمعت صوتا من السماء يقول : يا محمد أنت رسول الله وأنا جبريل . قال : فرفعت رأسي إلى السماء أنظر . فإذا جبريل في صورة رجل ، صاف قدميه في أفق السماء يقول : يا محمد أنت رسول الله وأنا جبريل . قال : فوقفت أنظر إليه . فما أتقدم وما أتأخر . وجعلت أحول وجهي عنه في آفاق السماء . قال : فلا أنظر في ناحية منها إلا رأيته كذلك . فما زلت واقفا ما أتقدم أمامي وما أرجع ورائي ، حتى بعثت خديجة رسلها في طلبي ، فبلغوا أعلى مكة ، ورجعوا إليها وأنا واقف في مكاني ذلك . ثم انصرف عني وانصرفت راجعا إلى أهلي ، حتى أتيت خديجة ، فجلست إلى فخذها مضيفا إليها [ أي ملتصقا بها مائلا إليها ] فقالت : يا أبا القاسم أين كنت ? فوالله لقد بعثت في طلبك حتى بلغوا مكة ورجعوا إلي . ثم حدثتها بالذي رأيت فقالت : " أبشر يا بن عم واثبت . فوالذي نفس خديجة بيده إني لأرجو أن تكون نبي هذه الأمة " " .

ثم فتر الوحي مدة عن النبي [ صلى الله عليه وسلم ] إلى أن كان بالجبل مرة أخرى فنظر فإذا جبريل ، فأدركته منه رجفة ، حتى جثى وهوى إلى الأرض ، وانطلق إلى أهله يرجف ، يقول : " زملوني . دثروني " . . ففعلوا . وظل يرتجف مما به من الروع . وإذا جبريل يناديه : ( يا أيها المزمل ) . . ( وقيل : يا أيها المدثر )والله أعلم أيتهما كانت .

وسواء صحت الرواية الأولى عن سبب نزول شطر السورة . أو صحت هذه الرواية الثانية عن سبب نزول مطلعها ، فقد علم رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] أنه لم يعد هناك نوم ! وأن هناك تكليفا ثقيلا ، وجهادا طويلا ، وأنه الصحو والكد والجهد منذ ذلك النداء الذي يلاحقه ولا يدعه ينام !

وقيل لرسول الله [ صلى الله عليه وسلم ]( قم ) . . فقام . وظل قائما بعدها أكثر من عشرين عاما ! لم يسترح . ولم يسكن . ولم يعش لنفسه ولا لأهله . قام وظل قائما على دعوة الله . يحمل على عاتقه العبء الثقيل الباهظ ولا ينوء به . عبء الأمانة الكبرى في هذه الأرض . عبء البشرية كلها ، وعبء العقيدة كلها ، وعبء الكفاح والجهاد في ميادين شتى .

حمل عبء الكفاح والجهاد في ميدان الضمير البشري الغارق في أوهام الجاهلية وتصوراتها ، المثقل بأثقال الأرض وجواذبها ، المكبل بأوهاق الشهوات وأغلالها . . حتى إذا خلص هذا الضمير في بعض صحابته مما يثقله من ركام الجاهلية والحياة الأرضية بدأ معركة أخرى في ميدان آخر . . بل معارك متلاحقة . . مع أعداء دعوة الله المتألبين عليها وعلى المؤمنين بها ، الحريصين على قتل هذه الغرسة الزكية في منبتها ، قبل أن تنمو وتمد جذورها في التربة وفروعها في الفضاء ، وتظلل مساحات أخرى . . ولم يكد يفرغ من معارك الجزيرة العربية حتى كانتالروم تعد لهذه الأمة الجديدة وتتهيأ للبطش بها على تخومها الشمالية .

وفي أثناء هذا كله لم تكن المعركة الأولى - معركة الضمير - قد انتهت . فهي معركة خالدة ، الشيطان صاحبها ؛ وهو لا يني لحظة عن مزاولة نشاطه في أعماق الضمير الإنساني . . ومحمد [ صلى الله عليه وسلم ] قائم على دعوة الله هناك . وعلى المعركة الدائبة في ميادينها المتفرقة . في شظف من العيش والدنيا مقبلة عليه . وفي جهد وكد والمؤمنون يستروحون من حوله ظلال الأمن والراحة . وفي نصب دائم لا ينقطع . . وفي صبر جميل على هذا كله . وفي قيام الليل . وفي عبادة لربه . وترتيل لقرآنه وتبتل إليه ، كما أمره أن يفعل وهو يناديه : ( يا أيها المزمل . قم الليل إلا قليلا . نصفه أو انقص منه قليلا ، أو زد عليه ورتل القرآن ترتيلا . إنا سنلقي عليك قولا ثقيلا . إن ناشئة الليل هي أشد وطأ وأقوم قيلا . إن لك في النهار سبحا طويلا . واذكر اسم ربك وتبتل إليه تبتيلا ، رب المشرق والمغرب لا إله إلا هو فاتخذه وكيلا . واصبر على ما يقولون واهجرهم هجرا جميلا ) .

وهكذا قام محمد [ صلى الله عليه وسلم ] وهكذا عاش في المعركة الدائبة المستمرة أكثر من عشرين عاما . لا يلهيه شأن عن شأن في خلال هذا الأمد . منذ أن سمع النداء العلوي الجليل وتلقى منه التكليف الرهيب . . جزاه الله عنا وعن البشرية كلها خير الجزاء . .

وشطر السورة الأول يمضي على إيقاع موسيقي واحد . ويكاد يكون على روي واحد . هو اللام المطلقة الممدودة . وهو إيقاع رخي وقور جليل ؛ يتمشى مع جلال التكليف ، وجدية الأمر ، ومع الأهوال المتتابعة التي يعرضها السياق . . هول القول الثقيل الذي أسلفنا ، وهول التهديد المروع : ( وذرني والمكذبين أولي النعمة ومهلهم قليلا ، إن لدينا أنكالا وجحيما ، وطعاما ذا غصة وعذابا أليما ) . . وهول الموقف الذي يتجلى في مشاهد الكون وفي أغوار النفوس : ( يوم ترجف الأرض والجبال وكانت الجبال كثيبا مهيلا ) . . ( فكيف تتقون إن كفرتم يوما يجعل الولدان شيبا ، السماء منفطر به ، وكان وعده مفعولا ) .

فأما الآية الأخيرة الطويلة التي تمثل شطر السورة الثاني ؛ فقد نزلت بعد عام من قيام الليل حتى ورمت أقدام الرسول [ صلى الله عليه وسلم ] وطائفة من الذين معه . والله يعده ويعدهم بهذا القيام لما يعدهم له ! فنزل التخفيف ، ومعه التطمين بأنه اختيار الله لهم وفق علمه وحكمته بأعبائهم وتكاليفهم التي قدرها في علمه عليهم . . أما هذه الآية فذات نسق خاص . فهي طويلة وموسيقاها متموجة عريضة ، وفيها هدوء واستقرار ، وقافية تناسب هذا الاستقرار : وهي الميم وقبلها مد الياء : ( غفور رحيم ) .

والسورة بشطريها تعرض صفحة من تاريخ هذه الدعوة . تبدأ بالنداء العلوي الكريم بالتكليف العظيم . وتصور الإعداد له والتهيئة بقيام الليل ، والصلاة ، وترتيل القرآن ، والذكر الخاشع المتبتل . والاتكال على الله وحده ، والصبر على الأذى ، والهجر الجميل للمكذبين ، والتخلية بينهم وبين الجبار القهار صاحب الدعوة وصاحب المعركة ! . .

وتنتهي بلمسة الرفق والرحمة والتخفيف والتيسير . والتوجيه للطاعات والقربات ، والتلويح برحمة الله ومغفرته : ( إن الله غفور رحيم ) . .

وهي تمثل بشطريها صفحة من صفحات ذلك الجهد الكريم النبيل الذي بذله ذلك الرهط المختار منالبشرية - البشرية الضالة ، ليردها إلى ربها ، ويصبر على أذاها ، ويجاهد في ضمائرها ؛ وهو متجرد من كل ما في الحياة من عرض يغري ، ولذاذة تلهي ، وراحة ينعم بها الخليون . ونوم يلتذه الفارغون !

والآن نستعرض السورة في نصها القرآني الجميل .

( يا أيها المزمل . قم الليل إلا قليلا . نصفه أو انقص منه قليلا ، أو زد عليه ورتل القرآن ترتيلا . إنا سنلقي عليك قولا ثقيلا . إن ناشئة الليل هي أشد وطأ وأقوم قيلا . إن لك في النهار سبحا طويلا ، واذكر اسم ربك وتبتل إليه تبتيلا . رب المشرق والمغرب لا إله إلا هو فاتخذه وكيلا ) . .

( يا أيها المزمل . . قم . . ) . . إنها دعوة السماء ، وصوت الكبير المتعال . . قم . . قم للأمر العظيم الذي ينتظرك ، والعبء الثقيل المهيأ لك . قم للجهد والنصب والكد والتعب . قم فقد مضى وقت النوم والراحة . . قم فتهيأ لهذا الأمر واستعد . .

وإنها لكلمة عظيمة رهيبة تنتزعه [ صلى الله عليه وسلم ] من دفء الفراش ، في البيت الهادئ والحضن الدافئ . لتدفع به في الخضم ، بين الزعازع والأنواء ، وبين الشد والجذب في ضمائر الناس وفي واقع الحياة سواء .

إن الذي يعيش لنفسه قد يعيش مستريحا ، ولكنه يعيش صغيرا ويموت صغيرا . فأما الكبير الذي يحمل هذا العبء الكبير . . فماله والنوم ? وماله والراحة ? وماله والفراش الدافئ ، والعيش الهادئ ? والمتاع المريح ? ! ولقد عرف رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] حقيقة الأمر وقدره ، فقال لخديجة - رضي الله عنها - وهي تدعوه أن يطمئن وينام : " مضى عهد النوم يا خديجة " ! أجل مضى عهد النوم وما عاد منذ اليوم إلا السهر والتعب والجهاد الطويل الشاق !

( يا أيها المزمل . قم الليل إلا قليلا . نصفه أو انقص منه قليلا . أو زد عليه ورتل القرآن ترتيلا ) . .

إنه الإعداد للمهمة الكبرى بوسائل الإعداد الإلهية المضمونة . . قيام الليل . أكثره أكثر من نصف الليل ودون ثلثيه . وأقله ثلث الليل . . قيامه للصلاة وترتيل القرآن . وهو مد الصوت به وتجويده . بلا تغن ولا تطر ولا تخلع في التنغيم .

وقد صح عن وتر رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] بالليل أنه لم يتجاوز إحدى عشرة ركعة . ولكنه كان يقضي في هذه الركعات ثلثي الليل إلا قليلا ، يرتل فيه القرآن ترتيلا .

روى الإمام أحمد في مسنده قال : حدثنا يحيى بن سعيد - هو ابن أبي عروبة - عن قتادة ، عن زرارة ابن أوفى ، عن سعيد بن هشام . . أنه أتى ابن عباس فسأله عن الوتر فقال : ألا أنبئك بأعلم أهل الأرض بوتر رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] ? قال : نعم . قال : ائت عائشة فسلها ، ثم ارجع إلي فأخبرني بردها عليك . . . ثم يقول سعيد بن هشام : قلت : يا أم المؤمنين أنبئيني عن خلق رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] قالت : ألست تقرأ القرآن ? قلت : بلى . قالت : فإن خلق رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] كان القرآن . فهممت أن أقوم ، ثم بدا لي قيام رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] قلت : يا أم المؤمنين ، أنبئيني عن قيام رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] قالت : ألست تقرأ هذه السورة : ( يا أيها المزمل )? قلت : بلى . قالت : فإن الله افترض قيام الليل في أول هذه السورة ؛ فقام رسول الله - صلى الله عليه وعلى آله وسلم - وأصحابه حولا حتى انتفخت أقدامهم . وأمسك الله ختامها في السماء اثني عشر شهرا . ثم أنزل التخفيف في آخر هذه السورة ، فصار قيام الليل تطوعا من بعد فريضة . . فهممت أن أقوم ، ثم بدا لي وتر رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] فقلت : يا أم المؤمنين أنبئيني عن وتر رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] قالت : كنا نعد له سواكه وطهوره ، فيبعثه الله كما شاء أن يبعثه من الليل ، فيتسوك ، ثم يتوضأ ، ثم يصلي ثمان ركعات لا يجلس فيهن ، إلا عند الثامنة ، فيجلس ويذكر ربه تعالى ويدعو ، ثم ينهض وما يسلم ، ثم يقوم ليصلي التاسعة ، ثم يقعد فيذكر الله وحده ، ثم يدعوه ، ثم يسلم تسليما يسمعنا . ثم يصلي ركعتين وهو جالس بعدما يسلم ، فتلك إحدى عشرة ركعة يا بني ، فلما أسن رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] وأخذ اللحم أوتر بسبع ثم صلى ركعتين وهو جالس بعدما يسلم ، فتلك تسع يا بني . وكان رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] إذا صلى صلاة أحب أن يداوم عليها . وكان إذا شغله عن قيام الليل نوم أو وجع أو مرض صلى من نهار اثنتي عشرة ركعة . ولا أعلم نبي الله [ صلى الله عليه وسلم ] قرأ القرآن كله في ليلة حتى أصبح ، ولا صام شهرا كاملا غير رمضان . . . "

وكان هذا الإعداد للقول الثقيل الذي سينزله الله عليه . .

 
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية - ابن عطية [إخفاء]  
{يَـٰٓأَيُّهَا ٱلۡمُزَّمِّلُ} (1)

مقدمة السورة:

بسم الله الرحمن الرحيم سورة المزمل وهي مكية كلها في قول المهدوي وجماعة{[1]} وقال الجمهور هي مكية إلا قوله تعالى 'إن ربك يعلم' المزمل 20 إلى آخر السورة فإن ذلك نزل بالمدينة{[2]} قوله عز وجل سورة المزمل1 - 10

قوله تعالى : { يا أيها المزمل } نداء للنبي صلى الله عليه وسلم ، واختلف الناس لمَ نودي بهذا ، فقالت عائشة والنخعي وجماعة : لأنه كان وقت نزول الآية متزملاً بكساء ، والتزمل : الالتفاف في الثياب بضم وتشمير ، ومنه قول امرئ القيس : [ الطويل ]

كأن أبانا في أفانين ودقة . . . كبير أناس في بجاد مزمل{[11386]}

أي ملفوف ، وخفض مزمل في هذا البيت هو على الجوار ، وإنما هو نعت لكبير ، فهو عليه السلام على قول هؤلاء ، إنما دعي بهيئة في لباسه . وقال قتادة ، كان تزمل في ثيابه للصلاة واستعد فنودي على معنى يا أيها المستعد للعبادة المتزمل لها ، وهذا القول مدح له صلى الله عليه وسلم . وقال عكرمة معناه : { يا أيها المزمل } للنبوءة وأعبائها ، أي المتشمر المجدّ . وقال جمهور المفسرين والزهري بما في البخاري من أنه عليه السلام لما جاءه الملك في غار حراء وحاوره بما حاوره رجع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى خديجة فقال : زملوني زملوني : فنزلت { يا أيها المدثر } [ المدثر : 1 ] ، وعلى هذا نزلت { يا أيها المزمل } . وفي مصحف ابن مسعود وأبي بن كعب «يا أيها المتزمل » . وقرأ بعض السلف «يا أيها المزَمَّل » بفتح الزاي وتخفيفها وفتح الميم وشدها ، والمعنى الذي زمله أهله أو زمل للنبوءة . وقرأ عكرمة «يا أيها المزمِّل » بكسر الميم المشددة وتخفيف الزاي أي المزمل نفسه .


[1]:- أي فيمن نزلت، أفي المؤمنين جميعا أم في مؤمني أهل الكتاب؟
[2]:- ولم يكن الله ليمتن على رسوله بإيتائه فاتحة الكتاب وهو بمكة، ثم ينزلها بالمدينة، ولا يسعنا القول بأن رسول الله صلى الله عليه وسلم أقام بمكة بضع عشرة سنة يصلي بلا فاتحة الكتاب، هذا ما لا تقبله العقول، قاله الواحدي. وقوله تعالى: (ولقد آتيناك...) هو من الآية رقم (87) من سورة الحجر.
[11386]:هذا البيت من معلقة امرىء القيس، وهو أحد أبيات وصف فيها المطر والبرق والرعد وصفا رائعا، وهذه الرواية للبيت رواية الأصمعي، وقال: هما أبانان، جبل أبيض وجبل أسود، وهما لبني عبد مناف، وأفانين: ضروب، والودق: المطر، وفي رواية غير الأصمعي (كأن ثبيرا في عرانين وبله)، وثبير: جبل بمكة، وعرانين الشيء: أوائله، والوبل المطر العظيم، والبجاد: كساء من أكسية الأعراب يصنع من وبر الإبل وصوف الغنم ويكون مخططا، ومزمل: ملتف ، يقول الشاعر: إن المطر قد ألبس الجبل فكأنه مما ألبسه كبير أناس ملتف في ثيابه، ومزمل صفة كبير، ولكنه أجراه على إعراب كلمة "يجاد" للمجاورة، كما تقول العرب: هذا جحر ضب خرب، يخفضون خربا لمجاورته للضب وهو صفة للجحر.