21- ومن شأن الناس أننا إذا أنعمنا عليهم ، من بعد شدة أصابتهم في أنفسهم أو أهليهم أو أموالهم ، لم يشكروا الله على ما أنعم به عليهم بعد صرف الضر عنهم ، بل هم يقابلون ذلك بالإمعان في التكذيب والكفر بالآيات . قل - أيها الرسول - : إن الله قادر على إهلاككم والإسراع بتعذيبكم ، لولا حكم سابق منه بإمهالكم إلى موعد اختص - وحده - بعلمه . إن رسلنا من الملائكة الموكلين بكم يكتبون ما تمكرون ، وسيحاسبكم ويجازيكم .
وحين ينتهي السياق من عرض ما يقول المستخلفون وما يفعلون ، يعود إلى الحديث عن بعض طبائع البشر ، حين يذوقون الرحمة بعد الضر . كما تحدث من قبل عنهم حين يصيبهم الضر ثم ينجون منه . ويضرب لهم مثلا مما يقع في الحياة يصدق ذلك ، فيقدمه في صورة مشهد قوي من مشاهد القرآن التصويرية :
( وإذا أذقنا الناس رحمة من بعد ضراء مستهم ، إذا لهم مكر في آياتنا . قل : الله أسرع مكراً ، إن رسلنا يكتبون ما تمكرون . هو الذي يسيركم في البر والبحر ، حتى إذا كنتم في الفلك ، وجرين بهم بريح طيبة وفرحوا بها جاءتها ريح عاصف ، وجاءهم الموج من كل مكان ، وظنوا أنهم أحيط بهم ، دعوا الله مخلصين له الدين : لئن أنجيتنا من هذه لنكونن من الشاكرين . فلما أنجاهم إذا هم يبغون في الأرض بغير الحق . يا أيها الناس إنما بغيكم على أنفسكم متاع الحياة الدنيا ، ثم إلينا مرجعكم فننبئكم بما كنتم تعملون ) . .
عجيب هذا المخلوق الإنساني لا يذكر الله إلا في ساعة العسرة ، ولا يثوب إلى فطرته وينزع عنها ما غشاها من شوائب وانحرافات إلا في ساعة الكربة . فإذا أمن فإما النسيان وإما الطغيان . . ذلك إلا من اهتدى فبقيت فطرته سليمة حية مستجيبة في كل آن ، مجلوة دائما بجلاء الإيمان
( وإذا أذقنا الناس رحمة من بعد ضراء مستهم ، إذا لهم مكر في آياتنا ) . .
كذلك صنع قوم فرعون مع موسى . فكلما أخذوا بعذاب استغاثوا به ووعدوا بالعدول عما هم فيه . فإذا ذاقوا الرحمة مكروا في آيات الله وأولوها على غير وجهها ، وقالوا : إنما رفع عنا الرجز بسبب كذا وكذا . . وكذلك صنعت قريش وقد أجدبت وخافت الهلاك ، فجاءت محمدا تناشده الرحم أن يدعو الله فدعاه فاستجاب له بالسقيا ، ثم مكرت قريش بآية الله وظلت فيما هي فيه ! وهي ظاهرة مطردة في الإنسان ما لم يعصمه الإيمان .
( قل : الله أسرع مكرا . إن رسلنا يكتبون ما تمكرون ) . .
فالله أقدر على التدبير وإبطال ما يمكرون . ومكرهم مكشوف لديه ومعروف ، والمكر المكشوف إبطاله مضمون :
( إن رسلنا يكتبون ما تمكرون ) . .
فلا شيء منه يخفى ، ولا شيء منه ينسى . أما من هم هؤلاء الرسل وكيف يكتبون ، فذلك غيب من الغيب الذي لا نعرف عنه شيئا إلا من مثل هذا النص ، فعلينا أن ندركه دون ما تأويل ولا إضافة لدلالة اللفظ الصريح .
{ وإذا أذقنا الناس رحمة } صحة وسعة . { من بعد ضرّاء مسّتهم } كقحط ومرض . { إذا لهم مكر في آياتنا } بالطعن فيها والاحتيال في دفعها . قيل قحط أهل مكة سبع سنين حتى كادوا يهلكون ثم رحمهم الله بالحيا فطفقوا يقدحون في آيات الله ويكيدون رسوله . { قل الله أسرع مكرا } منكم قد دبر عقابكم قبل أن تدبروا كيدهم ، وإنما دل على سرعتهم المفضل عليها كلمة المفاجأة الواقعة جوابا لإذا الشرطية والمكر إخفاء الكيد ، وهو من الله تعالى أما الاستدراج أو الجزاء على المكر . { إن رسلنا يكتبون ما تمكرون } تحقيق للانتقام وتنبيه على أن ما دبروا في إخفائه لم يخف على الحفظة فضلا أن يخفى على الله تعالى ، وعن يعقوب يمكرون بالياء ليوافق ما قبله .
وقوله { وإذا أذقنا الناس } الآية ، المراد ب { الناس } في هذه الآية الكفار وهي بعد تتناول من العاصين من لا يؤدي شكر الله تعالى عند زوال المكروه عنه ولا يرتدع بذلك عن معاصيه ، وذلك في الناس كثير ، و «الرحمة » هنا بعد الضراء ، كالمطر بعد القحط والأمن بعد الخوف والصحة بعد المرض ونحو هذا مما لا ينحصر ، و «المكر » الاستهزاء والطعن عليها من الكفار واطراح الشكر والخوف من العصاة ، ووصف مكر الله بالسرعة وإن كان الاستدراج بمهلهم لأنه متيقن به واقع لا محالة ، وكل آت قريب ، قال أبو حاتم : قرأ الناس «أن رسُلنا » بضم السين ، وخفف السين الحسن وابن أبي إسحاق وأبو عمرو ، وقال أبو علي { اسرع } من سرع ولا يكون من أسرع يسرع ، قال ولو كان من أسرع لكان شاذاً .
قال القاضي أبو محمد : وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم في نار جهنم «لهي أسود من القار »{[6053]} وما حفظ للنبي صلى الله عليه وسلم فليس بشاذ{[6054]} . وقرأ الحسن والأعرج ونافع وقتادة ومجاهد «تمكرون » بتاء على المخاطبة وهي قراءة أهل مكة وشبل وأبي عمرو وعيسى وطلحة وعاصم والأعمش والجحدري وأيوب بن المتوكل [ وقرأ الحسن ، وقتادة ، ومجاهد ]{[6055]} ، ورويت أيضر عن نافع والأعرج ، قال أبو حاتم : قال أيوب بن المتوكل : في مصحف أبيّ «يا أيها الناس إن الله أسرع مكراً وإن رسله لديكم يكتبون ما تمكرون »{[6056]} .
لما حكى تمرد المشركين بيّن هنا أنهم في ذلك لاهون ببطرهم وازدهائهم بالنعمة والدَّعة فأنساهم ما هم فيه من النعمة أن يتوقعوا حدوث ضده فتفننوا في التكذيب بوعيد الله أفانين الاستهزاء ، كما قال تعالى : { وذرني والمكذبين أولي النّعمة ومهِّلهم قليلاً } [ المزمل : 11 ] .
وجاء الكلام على طريقة الحكاية عن حالهم ، والمُلقَى إليه الكلام هو النبي صلى الله عليه وسلم والمُؤمنون . وفيه تعريض بتذكير الكفار بحال حلول المصائب بهم لعلهم يتذكرون ، فيعدوا عدة الخوف من حلول النقمة التي أنذرهم بها في قوله { فانتظروا } [ يونس : 20 ] كما في الحديث : « تَعَرَّف إلى الله في الرخاء يَعْرِفْك في الشدة » فالمراد ب { الناس } الناس المعهودون المتحدث عنهم بقرينة السياق على الوجهين المتقدمين في قوله تعالى : { وإذا مَس الإنسان الضر دعانا لجنبه } [ يونس : 12 ] .
وقد قيل : إن الآية تشير إلى ما أصاب قريشاً من القحط سبعَ سنين بدعاء النبي صلى الله عليه وسلم ثم كَشف الله عنهم القحط وأنزل عليهم المطر ، فلما حيوا طفقوا يطعنون في آيات الله ويعادون رسول الله صلى الله عليه وسلم ويكيدون له . والقحط الذي أصاب قريشاً هو المذكور في سورة الدخان . وقد أنذروا فيها بالبطشة الكبرى . وقال ابن عباس : هي بطشة يوم بدر . فتكون هذه الآية قد نزلت بعد انقراض السبع السنين التي هي كسني يوسف وبعد أن حيُوا ، فتكون قد نزلت بعد سنة عشر من البعثة أو سنة إحدى عشرة .
والإذاقة : مستعملة في مطلق الإدراك استعارةً أو مجازاً ، كما تقدم في قوله : { ليذوق وبال أمره } في سورة [ العقود : 95 ] .
والرحمة : هنا مطلقة على أثر الرحمة ، وهو النعمة والنفع ، كقوله : { وينشر رحمته } [ الشورى : 28 ] .
والضراء : الضر . والمس : مستعمل في الإصابة . والمعنى إذا نالت الناس نعمة بعد الضر ، كالمطر بعد القحط ، والأمن بعد الخوف ، والصحة بعد المرض .
و ( إذا ) في قوله : { إذا لهم مكرٌ } للمفاجأة ، وهي رابطة لجواب ( إذا ) الشرطية لوقوعه جملة اسمية وهي لا تصلح للاتصال بإذا الشرطية التي تلازمها الأفعال إن وقعت ظرفاً ثم إن وقعت شرطاً فلا تصلح لأن تكون جواباً لها ، فلذلك أدخل على جملة الجواب حرف ( إذا ) الفجائية ، لأن حرف المفاجأة يدل على البِدار والإسراع بمضمون الجملة ، فيُفيد مُفاد فاء التعقيب التي يؤتى بها الربط جواب الشرط بشرطه ، فإذا جاء حرف المفاجأة أغنى عنها .
والمكرُ : حقيقته إخفاء الإضرار وإبرَازه في صورة المسألة ، وقد تقدم عند قوله تعالى : { ومكروا ومكر الله } في سورة [ آل عمران : 54 ] .
و ( في ) من قوله : في آياتنا } للظرفية المجازية المرادُ منها الملابسة ، أي مكرهم المصاحب لآياتنا . ومعنى مكرهم في الآيات أنهم يمكرون مكراً يتعلق بها ، وذلك أنهم يوهمون أن آيات القرآن غير دالة على صدق الرسول ويزعمون أنه لو أنزلت عليه آية أخرى لآمنوا بها وهم كاذبون في ذلك وإنما هم يكذبونه عناداً ومكابرة وحفاظاً على دينهم في الشرك .
ولما كان الكلام متضمناً التعريض بإنذارهم ، أمر الرسول أن يعظهم بأن الله أسرع مكراً ، أي منكم ، فجعل مكر الله بهم أسرع من مكرهم بآيات الله .
ودل اسم التفضيل على أن مكر الكافرين سريع أيضاً ، وذلك لما دل عليه حرف المفاجأة من المبادرة وهي إسراع . والمعنى أن الله أعجل مكراً بكم منكم بمكرمكم بآيات الله .
وأسرعُ : مأخوذ من أسرع المزيدِ على غير قياس ، أو من سَرع المجرد بناء على وجوده في الكلام فيما حكاه الفارسي .
وأطلق على تأجيل الله عذابهم اسم المكر على وجه الاستعارة التمثيلية لأن هيئة ذلك التأجيل في خفائه عنهم كهيئة فعل الماكر ، وحسنته المشاكلة كما تقدم في آية آل عمران .
وجملة : { إنّ رسلنا يكتبون ما تمكرون } استئناف خطاب للمشركين مباشرة تهديداً من الله ، فلذلك فصلت على التي قبلها لاختلاف المخاطب . وتأكيد الجملة لكون المخاطبين يعتقدون خلاف ذلك ، إذ كانوا يحسبون أنهم يمكرون بالنبي صلى الله عليه وسلم وأن مكرهم يتمشى عليه ولا يشعر به فأعلمهم الله بأن الملائكة الموكلين بإحصاء الأعمال يكتبون ذلك . والمقصود من هذا أن ذلك محصي معدود عليهم لا يهمل ، وهو إنذار بالعذاب عليه ، وهذا يستلزم علم الله تعالى بذلك .
وعبر بالمضارع في { يكتبون } و { يمكرون } للدلالة على التكرر ، أي تتكرر كتابتهم كلما يتكرر مكرهم ، فليس في قوله : { ما تمكرون } التفات من الغيبة إلى الخطاب لاختلاف معادي الضميرين .
وقرأه الجمهور { ما تمكرون } بتاء الخطاب . وقرأه روح عن يعقوب { ما يمكرون } بياء الغائب ، والضمير ل { الناس } في قوله : { وإذا أذقنا الناس رحمة } . وعلى هذه القراءة فالكلام موجه للنبيء صلى الله عليه وسلم .